-
ع
+

المصدر المعرفي بين المثقف والفقيه

يحيى محمد

معلوم أن المصدر الأساس الذي يستمد منه الفقيه معارفه التخصصية هو النص، سواء كان كتاباً أو سنة، وسواء اعتمد على ذلك مباشرة أو غير مباشرة. ويمكن تمثيل العلاقة بين الفقيه والنص بعلاقة الجسد بالروح، فلولا الروح ما كان للجسد من حياة، وكذا لولا النص ما كان للفقيه من وجود. هكذا فالصورة المتخيلة عن الفقيه في الأذهان تتحدد بقدر ما له من علاقة بالنص. فهو المعني بفهم النص وهضم دلالته وإمتثالها، إلى حد يمكن قطع صلته بسائر المصادر المعرفية الأخرى التي قد يكون لها شيء من الأثر على فكره؛ لكن من دون إمكان قطع صلته بالنص، وبالتالي فالنص هو المعطى الرئيس والأساس للعقل الفقيه. فمصادر التشريع لدى الفقيه أول ما تبدأ عادة بالقرآن الكريم ثم السنة الشريفة وبعدهما الإجماع ككاشف عن النص أو مستدل عليه به، ثم قول الصحابي وسلوكه ككاشف آخر، وبعد ذلك تأتي سائر مبادئ الإجتهاد الأخرى التي حرص الفقهاء على أن يجعلوها مستمدة من النص مباشرة وغير مباشرة.

أما المفكر والمثقف الديني فأول ما يلاحظ أنه لم يتقيد بمصدر مرسوم ومعلن كما هو الحال لدى الفقيه. فهو لا يمتلك – في الغالب – منهجاً محدداً ولا تنظيراً يعتمده في تبيان مصادره المعرفية، وذلك لحداثة نشأته. فالمثقف الذي نتحدث عنه إنما بلحاظ ذلك الذي انتجته تطورات المجتمع الحديث وظروفه، وعلى نحو التخصيص والتضييق ذلك الذي يحمل جملة من المعارف الإسلامية، لكن من غير إخلال بالكليات العامة.

مع هذا لما كان المثقف وليد المجتمع الحديث بكل ما يحمله من ظروف وملابسات، وحيث أن هذا المجتمع متأثر بعمق تطورات الواقع وتغيراته؛ لذا فإن من الطبيعي أن تكون مرجعيته ومصدر تشكيل هوية عقله الثقافي تتمثل بالواقع. فليس هناك مصدر يستعين به عقل المثقف أبلغ من الواقع والخبرة العقلية المتصلة به، كما يتجلى في ميوله المعرفية إتجاه مختلف علوم الواقع، وعلى رأسها العلوم الإنسانية، كالنفسية والإجتماعية والتاريخية والسياسية والإقتصادية والفلسفية والجغرافية والطبيعية. وبالتالي فلا يمكن فصل المثقف عن الواقع مثلما لا يمكن فصل الفقيه عن النص، فكل منهما مدين بوجوده للمصدر الذي يستند إليه ويعتمد عليه.

فرغم أن المثقف ليس له في الغالب منهج محدد يتحرك ضمن إطاره، أو أنه لا يعي طبيعة المنهج الذي يسير على هداه؛ إلا أنه مع هذا ملزم بالإنشداد والإنفتاح على ‹‹الواقع››؛ يستجوبه ويستمد منه ما يثيره من قضايا، لا سيما تلك التي ترتبط بهمومه وطموحه وتطلعاته. وبالتالي فإن للواقع أهمية خاصة بالنسبة للمثقف، وذلك بإعتبارين: أحدهما من حيث كونه مصدراً معرفياً ينفتح عليه بالإطلاع ليشكل منه مادة معرفية يعمل على صياغتها بملكة التحليل. والآخر بما يتصف به من خاصية إفراز مختلف ضروب التأزم، مما يحتاج إلى عقل متفتح قادر على استيعابه وبلورة موقف معرفي إزائه؛ سعياً نحو تغييره إلى المستوى الذي يرتفع فيه ذلك التأزم. هكذا فإن الصورة الشاخصة عن المثقف الحديث، سواء كان ينزع نزعة إسلامية أو غيرها، هي صورة مفعمة بروح الواقع قبل أي إعتبار آخر. فليس فقط أن مصادره المعرفية تمتد جذورها من حيث الأساس إلى الواقع، بل كذلك أن عملية تصنيع الموقف المعرفي منها لا تجد غرضاً تستهدفه غير هذا الواقع. فمنه المبتدأ واليه المنتهى.

وعليه يتبين أن أساس القطيعة بين المثقف أو المفكر والفقيه إنما يعود إلى الإختلاف الحاصل بينهما على صعيد المصدر المعرفي، فما يتولد عن النص هو غير ما يتولد عن الواقع، وإنّ مدّ الجسور بينهما يستدعي تأسيس أحدهما على الآخر، وهو ما يعمل عليه كل من المفكر الديني والفقيه، ولكن بطريقة مغايرة. فبينما يقوم الأخير بتأسيس فهم الواقع على النص؛ يخالفه الأول بالعمل على العكس، رغم أنهما يتفقان على أن النص والواقع كلاهما يمثلان كتابين لله تعالى؛ تدويني وتكويني.

 

 

 

comments powered by Disqus