-
ع
+

المثقف الديني وتوسعة المصادر المعرفية

يحيى محمد

لقد أعاد المفكر الديني العقل إلى إطاره الطليعي كمصدر مهم للفهم والتوليد المعرفي، إذ كان على وعي من أن حصر المعرفة بالنص لا يجدي نفعاً. وبذلك عبّر الكواكبي من أنه ‹‹أضحى المسلمون محتاجين للحكمة العقلية التي كادت تجعل الغربيين أدرى منّا حتى في مباني ديننا››[1]. وهو يؤكد بأن ميزة الدين الإسلامي كونه مبنياً على العقل المحض، وبالتالي أنه ‹‹أفضل صارف للفكر عن الوقوع في مصائد المخرفين، وانفع وازع يضبط النفس من الشطط، وأقوى مؤثر لتهذيب الأخلاق، وأكبر معين على تحمل مشاق الحياة، وأعظم منشط على الأعمال المهمة الخطرة، وأجل مثبت على المبادئ الشريفة، وفي النتيجة يكون أصح مقياس يستدل به على الأحوال النفسية في الأمم والأفراد رقياً وإنحطاطاً››[2]. ومثل ذلك إعتبر محمد عبده ‹‹العقل من أجلّ القوى، بل هو قوة القوى الإنسانية وعمادها، والكون صحيفته التي ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه، وكل ما يقرأ فيه فهو هداية إلى الله وسبيل للوصول إليه››[3]. وهو قد أعاد الإعتبار لأولئك الذين أُتهموا بالبدع ممن لجأوا إلى مرجعية العقل مثل المعتزلة.

كذلك فبنظر هؤلاء المصلحين يعتبر الواقع مصدراً رئيساً للمعرفة لا غنى عنه. فمحمد اقبال عبّر عن هذا المصدر بالتجارب والملاحظات والخبرات، بل ورأى أن هناك إتجاهاً تجريبياً عاماً للقرآن يتبدى من خلال ما يستهدفه من ضرورة التأمل للطبيعة[4]، مؤكداً بأن النظر في الكون والآفاق والأنفس، وكذا الوقوف على أخبار الأولين، هي من مصادر المعرفة الإنسانية بحسب القرآن الكريم[5]. أما مرجعية الواقع بنظر الكواكبي فإنها تشمل مختلف الميادين، بما فيها الواقع الغربي، وكذا التجارب الحضارية والحاجات الإجتماعية وجميع أصناف الثقافة المعتمدة على الموضوعات الخارجية؛ كالعلوم الإجتماعية من الحقوق والسياسة والاقتصاد والفلسفة العقلية والتاريخ القومي والجغرافي والطبيعي والسياسي والادارة الداخلية والحربية[6].

وإذا كان البعض من الرواد أبدى أنه لا يعمل بغير الكتاب والسنة، كالذي نراه لدى محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، فلأن هذه التصريحات أتت كرد على مسلك الفقهاء المقلدين الذين وضعوا النصوص المباشرة من الكتاب والسنة خلف أظهرهم. وهو ما يتبين مما ذكره رشيد رضا نقلاً عن محمد عبده بأن شيخاً من أكبر الشيوخ سناً وشهرةً في العلم قال في مجلس إدارة الأزهر على مسمع الملأ من العلماء: ‹‹من قال إنني أعمل بالكتاب والسنة فهو زنديق››، بمعنى أنه لا يجوز العمل إلا بكتب الفقهاء. فردّ عليه محمد عبده قائلاً: ‹‹من قال إنني أعمل في ديني بغير الكتاب والسنة فهو الزنديق››[7].

صحيح أن هذين العَلَمين يعملان بالكتاب والسنة كمختصين لا يختلفان من هذه الناحية عن الفقيه، إلا أنهما لم يتوقفا عند هذا الحد، بل أضافا إلى ذلك مصدراً معرفياً هاماً مستمداً من الواقع، إلى الحد الذي عملا فيه على تأويل النص لصالح الواقع، أو ترجيح مطالب الأخير على الأول، لا سيما إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار حجم ضغط الحاجات الزمنية والحضارية التي صادفتهما. ويكفي أن نعلم بأن رشيد رضا قد رجّح العلوم الكونية على الفقهية والكلامية في فهم القرآن[8]، وأنه إعتبر إدخال العلوم الطبيعية أهم أركان التفسير والعمل بهدي القرآن لامتلائه بذكر آيات الله في خلق السماوات والأرض[9]. الأمر الذي دعاه إلى الجمع بين العلمين الكوني والديني[10]. ولكل ذلك دلالة على ما للواقع من مرجعية معرفية تأسيسية لفهم النص.

إن جعل العلوم الطبيعية أهم أركان تفسير القرآن، قد عمّق من مرجعية الواقع كمصدر معرفي أساس، فإذا كان التفسير ومعه سائر العلوم الإسلامية غير مهتمة بأثر الواقع قديماً، باستثناء الفقه الذي تأثر بضغط الحاجات الزمنية واستجاب لمطالبها بالتفاعل والتغيير، فإن الحال مع الوعي النهضوي قد جعل من التفسير يستجيب للواقع لدواع عديدة، تارة بفعل الضغط الحضاري، وأخرى بفعل الاغراء، وثالثة لطلب الحقيقة. فقد اختلف مجرى التفسير مع الوعي النهضوي إختلافاً جذرياً عما كان عليه من قبل، كما واختلف جذراً عما أصاب الفقه والكلام من تطورات خاصة. فإذا ما كان الفقه قد شق الطريقة التقليدية المتذبذبة تحت تأثير الواقع وضغط الحاجة، وكان علم الكلام قد انتهى ولم يبق منه إلا موضوعات منتقاة أجري عليها جملة من الإصلاح والتحديث لتفي بحاجاة العصر.. فإن ما حدث مع التفسير يختلف تماماً، ذلك أنه لما كان يتعلق بالخطاب الإلهي مباشرة، وبما أن في هذا الخطاب من المرونة ما جعله قابلاً للتأويل والتوجيه والحرف والتعديل، وحيث أنه حدثت ضغوط وحاجات أفرزها الواقع خلال قرني الوعي النهضوي، لذا فإن هذه الضغوط والحاجات لم تفض بالتفسير إلى أن يستجيب استجابة المضطر ــ كما هو شأن علم الفقه ــ فقط، بل تبعاً لمرونة النص الديني وما تضمنه من مادة ‹‹وجودية›› فقد اغتر التفسير بالعلم المعاصر، واندفع للتحرك اتجاهه طمعاً في تعزيز هذا النص ورفعه إلى الحد الذي ينتصر فيه حتى على العلم ذاته. فهو تعبير في النهاية عما انتاب المفكرين المسلمين من شعور بالنقص أمام كشوفات الخصوم لدى الحضارة الغربية الحديثة، فحيث أنه لم يكن بالامكان انكار ما دلت عليه هذه الحضارة من نتائج علمية وكشوفات طبيعية، ولم يكن بالامكان منافستها في الميدان العلمي، لذا لم يبق أمام المفكريين الدينيين ليغطوا على ضعفهم قبال الآخر سوى اللجوء إلى أساليب تعرية الآخر وإعتبار أن ما لديه لا يزيد عما لديهم. فمن حيث التعرية إعتبروا الانجازات الغربية لم يكن لها أن تتم لولا الإمداد الحضاري الذي مهّد له المسلمون بفعل ترجمات كتبنا العلمية إلى الغرب، وبالتالي فإن ما لدى الغرب انما هو مأخوذ عنا بشكل ما من الأشكال. وينطبق هذا الحال على ما لدى الغرب من تحضر على الصعيد الإنساني، حيث الزعم بأن مختلف ما توصل إليه من إعتبارات إنسانية وأنظمة عادلة إنما هي موجودة لدينا من قبل، وما يؤخذ منهم على هذا الصعيد انما يعبّر عن استرجاع ما كان عندنا طبقاً لقاعدة (هذه بضاعتنا رُدّت الينا).

كذلك زاد المفكرون نغمة أخرى في إعتبار أن ما توصل إليه الغرب من إكتشافات انما هو موجود سلفاً في كتابنا الكريم، الأمر الذي كثر الإهتمام بما أُطلق عليه الاعجاز والتفسير العلمي للقرآن، وليس له من علة سوى ما إعتبرناه من أنه جاء كرد فعل نفسي إزاء ما لدى الآخر من قوة. وما زال الحال كذلك إلى يومنا هذا. وهو أمر يذكّرنا بما قاله العالم السويسري لوي أغاسيز: ‹‹تمر كل حقيقة علمية كبيرة عبر ثلاث مراحل: في الأولى يقول الناس إنها تتعارض مع الكتاب المقدس، وفي الثانية يقولون: لقد سبق أن أُكتشفت من قبل، وأخيراً يقولون: لقد كنّا دائماً نؤمن بها!››[11].

وعموماً فإن إعتماد المفكر الديني على الواقع كمصدر رئيس وأساس للمعرفة جعله يبعد نفسه عن الممارسة التقليدية لدى المفسر والفقيه. وهي الممارسة التي تمعن النظر في النص عبر غور معالمه اللغوية والإلتزام بصورها الحرفية، أو من حيث الإرتباط غير المباشر بالنص عبر آليات التقليد التي لجأ إليها الفقهاء المتأخرون التابعون للأئمة الأوائل. فعلى عكس ذلك لجأ المفكر إلى التعامل مع النص؛ تارة بالتأويل والتوجيه بحسب ما تفرضه المعرفة المستوحاة من الواقع، وأخرى من حيث إعتباره مجملاً يحتاج إلى التفصيل المستمد من النظر إلى هذا الواقع وإعتباراته، كالنظر في تجارب المجتمعات والتأثر بميادين العلم. وبالتالي فقد جعل المفكر من الواقع أداة لفهم النص؛ مبعداً نفسه - في ذلك - عن التدقيقات اللغوية التي يوليها كل من المفسر والفقيه جلّ إهتمامه.

هكذا جعل المفكر الديني من الواقع أداة موظفة لدورين في علاقته بالنص:

 

أ ـ دور التفصيل

وهو الدور الذي إعتبر فيه النص مجملاً لا يُحل إجماله بالطرق التقليدية من التحليل اللغوي عادة، وإنما بفعل ما يقدمه الواقع من تفصيل، مثل لحاظ ما للسنن الكونية والإجتماعية من دور في الكشف عن مداليل الكثير من النصوص؛ من قبيل قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ))[12]، وقوله: ((وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ))[13]، وكذا قوله: ((أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ))[14].. الخ. وواضح ان وظيفة الواقع هنا لم تأتِ على حساب النص كالذي يحصل في الممارسات التأويلية عادة. فمثلاً ما أشار إليه محمد عبده وهو بصدد تفسيره لآية إختلاف الناس ((كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين))[15]، إذ علّق على الآية بقوله: أنا لا أعقل كيف يمكن لأحد أن يفسر الآية وهو لا يعرف أحوال البشر، وكيف اتحدوا، وكيف تفرقوا؟ وما معنى تلك الوحدة التي كانوا عليها؟ وهل كانت نافعة أم ضارة؟ وماذا كان من آثار بعثة النبيين فيهم. لقد أجمل القرآن الكلام عن الأمم، وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السماوات والأرض، وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علماً، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالاً، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره، لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة[16].

ثم أن محمد عبده اعتبر - وهو بصدد تبيان حاجة المفسّر إلى التعرف على الواقع والكشف عن دور القرآن لهداية البشر جميعاً - أن من الواجب على المفسّر أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم، ذلك لأن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال، وبالتالي كيف يفهم المفسّر ما قبّحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة إن لم يكن عارفاً بأحوالهم وما كانوا عليه؟ ثم أنه استند إلى ما قاله عن عمر بن الخطاب كما روي عنه: ‹‹إنما تنقض عُرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية››، حيث بيّن أن المراد من ذلك أن من نشأ في الإسلام ولم يعرف حال الناس قبله فإنه سيجهل تأثير هدايته وكيف أن الله تعالى غيّر أحوال الناس وأخرجهم من الظلمات إلى النور ‹‹ومن جهل هذا يظن أن الإسلام أمر عادي، كما ترى بعض الذين يتربون في النظافة والنعيم يعدون التشديد في الأمر بالنظافة والسواك من قبيل اللغو، لأنه من ضروريات الحياة عندهم، ولو اختبروا غيرهم من طبقات الناس لعرفوا الحكمة في تلك الأوامر وتأثير تلك الآداب من أين جاء››[17].

كما حاول رشيد رضا أن يبيّن دور الواقع في تفصيل ما أجمله النص، ومنه أنه فسّر قوله تعالى: ((يريد الله ليبين لكم))[18]؛ إعتماداً على ما يجري في الواقع، وذلك وهو بصدد الآيات المتعلقة بما أُحل من النكاح وقيوده وشروطه، فجاءت تلك الآية التي علّق عليها بقوله: ‹‹هذا ما فتح الله به علينا في بيان المراد من الآية من حيث إنه لم يذكر معمول (ليبين) لنلتمسه من سنن الفطرة بمعونة ارشادنا إلى كون ديننا دين الفطرة ((فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) (الروم\30)، فقد جاءت هذه الآية بعد آية الزوجية بثمان آيات. وقال تعالى: ((وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون)) الذاريات\19ـ20››[19].

فهذا هو دور الواقع في تفصيل ما أجمله النص.

 

ب ـ دور التوجيه والتأويل

وهو الدور الذي يغلب أثره عند ربط النص بمباحث العلوم الطبيعية، وكذلك ميادين السنن الكونية والإجتماعية. وقد قام محمد عبده بتبرير إدخال العلوم الطبيعية في الفهم والتفسير من خلال تأويله لآية ((يتلو عليهم آياته))[20]؛ مفسراً إياها بأنها بيان الآيات الكونية والإستفادة منها والإعتبار بها[21]. وأن الكواكبي اعتبر المباحث العلمية الحديثة تبياناً للإعجاز القرآني، حتى أخذ يعدد الكثير من الآيات التي لم يعرف مضمونها الحقيقي إلا بفعل المكتشفات الحديثة.

كذلك قام الشيخ طنطاوي جوهري (المتوفى سنة 1940م) بتقسيم الدين إلى علمين: أحدهما علم الآفاق والأنفس، أي معرفة العوالم العلوية والسفلية، والآخر علم الشريعة. وزعم أن ديننا يأمرنا بذلك، وإلا ما الفرق بين قوله تعالى: ((قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ))[22]، وقوله: ((فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ))[23]؟ فكلاهما أمر، والأمر دال على الوجوب، فإذا كنّا قد قرأنا الأحكام الشرعية وقضينا بها؛ فلنقرأ - أيضاً - العجائب الكونية ولنعمل بها[24]. لا سيما أن القرآن - برأيه - يتضمن ما يربو على سبعمائة وخمسين آية كلها في عجائب الكون ومنافعه وغرائبه، وهي أكثر مما يتضمنه من الأحكام الشرعية، حيث إن آيات الفقه والأحكام الصريحة لا تزيد على مائة وخمسين آية[25]. وبالتالي حسِب أن علوم الطبيعة والكائنات أفضل من علوم الفقه وأحق بالرعاية؛ لكونها دالة على الله والتوحيد ولأن فيها نظام الأمم وحياتها[26]. لذلك نقد المسلمين لإهمالهم العلوم الأولى وحصروا إهتمامهم في الفقه وأصوله[27]، ورأى أنهم وإن حافظوا على الكتاب الكريم لكنهم خالفوا نهجه في الحض على النظر في الكون والتعقّل والتفكّر، وناموا على الوضوء والنجاسات والبيع والفرائض[28]. لهذا ولع هذا الشيخ بالتفسير العلمي كولع الفخر الرازي بالجدل الكلامي في تفسيره الكبير، فكلاهما لم يترك للنص حيّزاً من البحث والتداول كما هو في ذاته. وقد وصف إبن حيان الفخر الرازي في (البحر) بأنه جمع كل شيء إلا التفسير، وكذلك إتّهم البعض طنطاوي جوهري بأنه قام بإلصاق كل شيء بالدين حتى كاد يجعل القرآن كله علوماً طبيعية، مثلما كاد الفقيه يجعل من القرآن فقهاً فحسب، كالذي فعله القرطبي في (جامع أحكام القرآن)[29].

يظل أن الجمع والتوفيق بين العلمين الكوني والديني كان يشوبه الكثير من التعسف في التأويل لصالح الواقع والنظريات العلمية. فمثلاً قام محمد عبده بتحميل العديد من الآيات ما لا تحتمله من معاني التفسير العلمي مما جعله عرضة للنقد. ومن ذلك أنه فسر سورة الفيل تفسيراً قائماً على المكروبات والجراثيم، فجوّز أن تكون الطير الوارد ذكرها في السورة هي بعض الحشرات كالبعوض والذباب، كما وجوّز أن تكون الحجارة هي جراثيم بعض الأمراض. كما جوّز رشيد رضا إعتبار الجراثيم المرضية (المكروبات) نوعاً من الجن[30]. كذلك قام الكواكبي، هو الآخر، بتأويل وتوجيه عدد من الآيات طبقاً لما ساد من نظريات وحقائق علمية، كحدوث الجدري الذي أصاب أصحاب الفيل بالمكروب ((وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل))[31]، وامتلاء الكون بالأثير وأنه أصل مادة الحياة ((ثم استوى إلى السماء وهي دخان))[32]، وأن القمر منشق من الأرض ((أفلا يرون أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها))[33].. ((اقتربت الساعة وانشق القمر))[34]، وكالإخبار عن المركبات البخارية والكهربائية ((وآية لهم أنّا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون))[35]، وكذا الإخبار عن إمساك الظل أو التصوير الشمسي ((ألم ترَ إلى ربك كيف مدّ الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً))[36]، وأيضاً تطور الكائنات الحية تبعاً لنظرية داروين ((ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين))[37].. والكواكبي لا يجد في كل ذلك ما يخالف أصلاً دينياً كما هو الجاري لدى الفقهاء والمفسرين التقليديين[38].

مع هذا نشير إلى أن للمفكر الديني دوراً في التعامل المعاكس لما قدمنا؛ وذلك بجعله مقاصد النص ومبادئه العامة تتخذ إطاراً من التوجيه لمفاصل المعرفة المستمدة من الواقع. وبالتالي فإن العلاقة بين النص والواقع لدى المفكر الديني مزدوجة، فالمعرفة المستمدة من كل منهما تؤثر في الأخرى. لكن بشكل عام يمكن القول بأن المفكر الديني يحفظ للنص مقامه ليس في التكوينات الجزئية مثلما هو الحال لدى الفقيه؛ وإنما في التوجيه الكلي بإعتباره مصدراً للهداية والارشاد.


[1] أم القرى، ص302ـ303.

[2] طبائع الإستبداد، ص508.

[3] الأعمال الكاملة، ج1، ص183، عن المقدم محمد عمارة.

[4] محمد اقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلامي، ترجمة عباس محمود، الطبعة الثانية، 1968، ص21.

[5] المصدر، ص144ـ145.

[6] طبائع الإستبداد، ص530.

[7] المنار، ج4، ص283.

[8] المنار، ج1، هامش ص182.

[9] المنار، ج9، ص177.

[10] المنار، ج4، ص44.

[11] قصة الفيزياء، مصدر سابق، ص83.

[12] الرعد\11.

[13] البقرة\251.

[14] الزخرف\32.

[15] البقرة\213.

[16] المنار، ج1، ص23. كذلك: محمد عبده: مشكلات القرآن الكريم، ص17ـ18.

[17] المنار، ج1، ص23ـ24.

[18] النساء/26.

[19] المنار، ج5، ص33.

[20] آل عمران\164.

[21] المنار، ج4، ص222.

[22] يونس\101.

[23] الكوثر\2.

[24] طنطاوي جوهري: الجواهر في تفسير القرآن الكريم، مطبعة مصطفى البابي الحلبي واولاده، مصر، 1341هـ، عن مكتبة المصطفى الإلكترونية http://www.al-mostafa.com، ج1، ص7.

[25] الجواهر في تفسير القرآن الكريم، ج1، ص3 و6.

[26] المصدر السابق، ج3، ص150.

[27] نفس المصدر، ج2، ص85.

[28] نفس المصدر، ج2، ص115.

[29] نفس المصدر، ج14، ص152، وج3، ص164. وانظر أيضاً الفصل الأول من حلقة النظام الواقعي.

[30] المنار، ج3، ص96.

[31] الفيل\3ـ4.

[32] فصلت\11.

[33] الرعد\41.

[34] القمر\1.

[35] يس\41ـ42.

[36] الفرقان\45.

[37] المؤمنون\12.

[38] أم القرى، ص302ـ303. وطبائع الإستبداد، ص454ـ456.

comments powered by Disqus