-
ع
+

القيم النسبية للمثقف في قبال الفقيه

يحيى محمد

الملاحظ أن الرؤى التي يولدها الفقيه عبر آليته الإجتهادية هي رؤى ذات قيم مطلقة. فلما كان التوليد قائماً على البيان الماهوي، وأن هذا البيان يتصف بالثبات والإطلاق في علاقته بالحوادث والقضايا الخارجية؛ لذا فإن ما ينتج عن هذه الممارسة الماهوية لا بد من أن لا يتأثر - مبدئياً - بأي تجديد يمكن أن يحدث في الواقع الخارجي. مما يعني أن القيم التي تحدد طبيعة تلك الرؤى هي قيم مطلقة.

وليس الأمر كذلك مع المثقف أو المفكر الديني. فحيث أنه يعتمد في توليده على الواقع، وأن لهذا الأخير مظاهر متغايرة ومتجددة على الدوام، لذا كان من الطبيعي أن يتعامل مع القضايا الخارجية تعاملاً مرناً، وبالتالي فإن الرؤى التي يولدها لا تتعدى القيم النسبية القابلة للتعديل والتغيير والتحوير. وهو ما يصدق على نماذج المثقفين والمفكرين كافة. صحيح أن للمثقف أو المفكر خصوصية انتقائية يمارس من خلالها الإسقاطات التعميمية، ومن ثم يلتزم بمواقف معرفية ذات قيم مطلقة شمولية. وصحيح كذلك أن ما يؤاخذ عليه اليوم هو حمله لمظاهر اللاتاريخية واللاعقلانية نتيجة ركونه إلى المطلقات وتمسكه بالنماذج الجاهزة.. كل ذلك صحيح، لكن الملاحظ - مع هذا - أنه كثيراً ما يتأثر بحالات الصدام مع حقائق الواقع وتجدداته، الأمر الذي يضطره إلى إعادة النظر فيما يطرحه من مواقف ومقالات، بل وما يلجأ إليه من مذاهب وإتجاهات. وهذه العملية تكاد تكون ظاهرة متكررة تشهد تقلبات جذرية في مواقع المثقفين. والكثير من هؤلاء ينتهي إلى أن يستظل بظل المثقف الديني بعد الطواف بالتجارب المعرفية العلمانية. وأخص بالذكر هنا اليساريين منهم. وبالتالي فإن ما يتعلمه المثقف من ذلك هو التسليم بكون ما يطرحه من رؤى إنما هي رؤى نسبية وليست ذات قيم مطلقة شمولية. سيما وأن المثقفين يحملون تيارات متضادة لا تجمعها أصول مشتركة، وأن المولد المعرفي وإن كان متفقاً عليه بينهم فيما يخص الخبرة البشرية إلا أن الانتقائية التي مارسوها جعلت بعضهم يقف على الضد من الآخر. وهو وإن كان له من الدلالة على الخصوصية الإطلاقية للموقف المعرفي للمثقف، لكن من السهل أن يستلهم منه المثقف الوعي بحقيقة ما يرتكن إليه من نسبية معرفية. الأمر الذي يختلف فيه الحال مع الفقيه، فالأصول التي يعتمدها هي أصول متفق عليها من حيث الأساس، والتوليد المعرفي الذي يمارسه ليس فيه صفة الانتقائية بالمعنى المشار إليه عادة، وإنما له خصوصية بيانية ماهوية. وبالتالي كان من الصعب عليه أن يغير نهجه واتجاهه رغم التجارب الطويلة التي خاضها عبر القرون. فالمسار التاريخي للفقيه هو مسار يكاد يكون ثابتاً لم يمسّه شيء من التغيير الجذري، وأن النهج التوليدي القائم على البيان الماهوي لا يدع مجالاً للتغيير والتحويل. وعليه فإن ما ينتجه الفقيه من رؤى تميل إلى أن تتصف بأنها رؤى ذات قيم مطلقة وشمولية.

وكمقارنة بين الثبات المعرفي لدى الفقيه وما يقابله من التغير لدى المفكر؛ نلاحظ أن ما يتمسك به الأول من نهج بياني ماهوي يجعله يواجه - على الدوام - أزمة حادة من الصدام مع كل من الواقع والمقاصد، بإعتبار أن الرؤى التي يولدها هي رؤى ذات قيم مطلقة. في حين لا تلزم هذه النتيجة مقارنة بما لدى المفكر الديني. فمن الناحية التكوينية لما كانت رؤى المفكر الديني قائمة على التجربة البشرية؛ فإن صدامها مع الواقع أو المقاصد أو غيرهما ليس كفيلاً بأن يجعله يعيش أزمة حقيقية كتلك التي لدى الفقيه، فلا مانع لديه من أن يبدل الرؤى برؤى أخرى مغايرة، بتبرير مستمد من الواقع ذاته، حيث يعي أن الأخير يكشف عن مظاهر متغايرة ومتجددة ينتج عنها مضامين معرفية لا يمتنع من أن تتصف بحالات من التغير والتبديل، وبالتالي فهو يعلم أن ما يحمله من مواقف معرفية إنما يكتنفها الطابع النسبي نظراً لتجددات الواقع وتغيراته. الأمر الذي نلمسه في شواهد كثيرة من المواقف المعرفية. ومن ذلك أن تبنيات المفكر الديني في القضايا العامة شهدت العديد من التحولات، مثل تحوله من الدفاع عن الأممية الإسلامية إلى الخصوصية والوطنية الإسلامية، ومن الإعتماد على المستبد العادل إلى الإحتكام إلى الشورى والديمقراطية. وفي جميع الأحوال أن هذه المتبنيات لا تتعدى الوسائل التي يمكن توظيفها لاغراض مقصدية، وبالتالي جاز استبدال بعضها بالبعض الآخر تبعاً لاتساق الواقع مع المقاصد.

comments powered by Disqus