-
ع
+

هل يمكن للمقلد أن يستدل على صحة تقليده؟


يحيى محمد 

يرى العلماء أن أهم شرط معرفي لا بد من تحقيقه في التقليد هو ان يكون المقلد مجتهداً في قضية تقليده، فبدون إجتهاده يصبح تقليده قائماً على التقليد ومن ثم التسلسل أو الدور، وهو باطل، الأمر الذي يتعين عليه الإجتهاد([1]). لكن كيف يمكن أن يكون المقلّد مجتهداً وهو لا يسعه الإجتهاد؟ هذا ما حاول العلماء الجواب عنه بصورة لا تخرج المقلّد عن صحة تقليده ولا تدخله في زمرة المجتهدين.

فقد ذكر البعض أن هناك ركيزتين سهلتين يستند إليهما المقلّد في تقليده، وهما لم يأتيا عن طريق التقليد حتى يقال أن تقليده باطل. الأُولى ما هو مرتكز في الذهن أو البناء العقلائي من رجوع الجاهل إلى العالم أو المختص، كما يلاحظ في مختلف الصنايع والحرف. أما الثانية فهي دليل الإنسداد، وتقريبه هو أن كل مكلف يعلم بثبوت أحكام إلزامية في حقه، كما يعلم أنه غير مفوض في أفعاله بحيث له أن يفعل ما يشاء، وبالتالي فإن عقله يستقل بلزوم الخروج عن عهدة التكاليف الواقعية المنجزة بعلمه، وليس أمامه إلا الإجتهاد أو التقليد أو الإحتياط، لكن العامي ليس بوسعه الإجتهاد، كذلك فإن الإحتياط غير ميسور له لعدم تمكنه من تشخيص موارده، لذلك يتعين عليه التقليد للحصرالآنف الذكر([2]).

لكن لو تجاوزنا ما نعتقده من أنه لا يوجد حصر في الحصر المذكور.. وتساءلنا: ماذا يكون الحال لو إلتفت المقلّد وشك في صحة تقليده للمجتهدين، بأن سمع بعض الطوائف الإسلامية تحرم التقليد وتدعي أن طريقتهم توصل إلى العلم، سيما وأن طريقة أهل الإجتهاد والتقليد تقوم على مرتكز يفضي إلى الظن.. فهل يا ترى يصح تقليده لهؤلاء أم لأُولئك؟ أم أنه يجتهد إجتهاداً يخرجه عن دائرة البناء العقلائي - حيث لا علاقة له بذلك في مثل هذه الحال - ويدخله في دائرة أهل الإجتهاد ولو بالمعنى الذي يعم كلا الإتجاهين المجوز والمحرم للتقليد؟ لكن حيث فرضناه مقلّداً لا يسعه الإجتهاد كما هو حال أغلب الناس، فإن مصيره على هذا الفرض يصبح قلقاً لا يجد من يحكم له بصحة إتباع أيٍّ من الفريقين، خاصة إذا ما كان ملتفتاً إلى قوة الإختلاف الدائر بينهما. في حين كان بإمكانه أن يسلك طريقاً أُخرى ليست من الإجتهاد المصطلح عليه ولا من التقليد، وهي إتباع النظر في الأدلة والأخذ بالراجح منها حسب الإقتناع.

كما أن من الشروط التي وضعت على عاتق المقلّد هو أن لا يكون تقليده إلا للمجتهد المتصف بشروط الأعلمية والحياة والرجولة، مما يعني أن تقليده لا يصح ما لم يكن المقلّد عارفاً بصحة هذه الشروط، الأمر الذي يقتضي إجتهاده، رغم أنها توضع كفتاوى ضمن الرسائل العملية للتقليد تسامحاً.

وكما ذكر النراقي أنه كما يجب على العامي الإجتهاد في مسألة تقليده فإنه يجب عليه أيضاً الإجتهاد في تعيين الفقيه الذي يقلّده من بين أصناف الفقهاء من الأُصولي والإخباري والحي والميت والأعلم وغيره والمتجزئ والمطلق([3]). وكذا ذكر العلامة الحلي بأنه يجب على المقلد الاجتهاد في معرفة الأعلم والأورع، ولو وجد من هو أعلم وآخر أورع فالأقوى الأخذ بقول الأعلم([4]).

فبخصوص تقليد الأعلم ذكر الكثير من المتأخرين أن هذا التقليد يأتي فيما لو علم المقلّد أن هناك خلافاً بين العالم والأعلم، لهذا فإن عليه الركون إلى الأعلم طبقاً للإجتهاد المنبني على المرتكز العقلائي من رجوع الجاهل إلى الأعلم في المسائل الهامة وقبح الإعتماد على المفضول فيها كأمر إحترازي، وذلك إستناداً إلى القاعدة العقلية القائلة بأن دفع الضرر المحتمل واجب.

لكن ماذا لو علم العامي أن الأئمة أوصوا الناس بالرجوع إلى العلماء دون تفريق بين العالم والأعلم، وبالتالي شك في وجوب تقليد الأعلم، فهل يجب عليه أيضاً أن يقلّد الأعلم؟ فهنا أن الأمر لا يعود إلى سيرة الناس أو البناء العقلائي ليبني على ما هو مرتكز في ذهنه، هذا إن كان ملتفتاً إلى مثل هذا الإرتكاز، حيث الملاحظ أن الكثير من الناس لا يلتفتون في الأعلمية الفقهية إلى المرتكز العقلائي بخلاف الرجوع إلى مطلق الخبير أو المختص، حيث الرجوع إليه يكون تلقائياً لا يحتاج إلى إجتهاد وتفكير.

وفي مسألتنا تلك قد يقال بأن من الواجب على العامي رغم تشكيكه هو إتباع الأعلم، أو أنه يقوم بعملية إجتهاد تجعله لا يختلف في بحث المسألة عن المجتهدين، لكنا فرضناه عامياً مقلّداً. فهل أنه لو لم يتبع الأعلم بحجة عدم البيان ووجود المشكك في الأمر، أو مال إلى إتباع الأورع لا الأعلم؛ فهل يعد عمله هذا باطلاً ومنافياً للتقليد ام لا؟

نحن نعتقد أن عمل العامي لو كان قائماً على الإطمئنان في إتباع الخبير فإنه يصح بغض النظر عما إذا كان فاضلاً أو مفضولاً، وذلك لكون الإطمئنان حجة في حد ذاته طالما ليس بوسعه النظر ولا الإجتهاد. أما لو إلتفت للمرتكز العقلائي ولم يطمئن بصحة تقليد المفضول مع عدم وجود المشكك المعارض فالواجب عليه في هذه الحالة إتباع الأعلم. في حين لو طرأت عليه المشككات المتعارضة وذلك فيما لو تردد بين إتباع الأعلم والأورع، أو شكّ في أصل وجوب تقليد الأعلم ولم يقتنع بالبناء العقلائي؛ ففي هذه الحالة يصح له تقليد مطلق الخبير مادام لا يسعه الإجتهاد ولا النظر بأكثر من ذلك. إذ لا يصح أن  يقال بأن عليه الإحتياط، لأن التمسك بهذا الأخير يحتاج إلى بذل النظر والإجتهاد ليعلم إن كان الإحتياط يجب في حقه أم لا؟ فإن كان بوسعه النظر وجب عليه ذلك، وإلا فإنه غير مكلف بالإحتياط مادام أنه يفقد القدرة على التحقيق، أو لأنه مقتنع بأن الشارع لا يكلفه بما هو غير بيّن ابتداءاً.

أما بخصوص وجوب تقليد المجتهد الحي كما ذهب إليه علماء الإمامية؛ فالملاحظ أن السيرة العقلائية والمرتكز في الأذهان لا يسعفانه، إذ لا يرى العقلاء لزوم إتباع الأحياء من المختصين، بل لا يرى الإنسان ضيراً فيما لو إتبع ميتاً ورجحه على الحي. وعليه فإن مسألة تقليد الحي من منظار المقلّد إما أن تكون تقليدية، وبالتالي الوقوع في الدور أو التسلسل، أو أنها إجتهادية صرفة. لكن من الواضح أن الإجتهاد فيها ليس يسيراً كما هو الحال مع أصل التقليد، إذ لا بد أن تكون له دراية ومعرفة بأصل التشريع المتعلق بذلك، وهو ما يقتضي الإجتهاد، وليس هناك ما يمكن التعويل فيه على العقل ولا السيرة العقلائية. ويصدق كل ما قلناه - هنا - على المشكل المتعلق بشرط الذكورة في المرجعية، حيث أنها هي الأُخرى لا تستند إلى العقل ولا البناء العقلائي، وبالتالي لا يصح إلزام المقلّد أن يقلّد فيها، مما يعني أن عليه الإجتهاد مع إنّا فرضناه عامياً!

 على أن مثل هذه القضية مع حالات إلتفات المقلّد إلى ما يشككه في أصل تقليده مع شروط التقليد الأُخرى التي ذكرناها؛ كلها تقف حائلاً أمام المشروعية التي طرحها الفقهاء في حق العوام. وقد سبق لبعض المعاصرين للشيخ الأصفهاني أن صرح بإنسداد طريق العلم على العامي بالكلية لعدم علمه بجواز التقليد، ولا بمن يجوز تقليده؛ من الأُصولي والإخباري والمطلق والمتجزئ والحي والميت ومن جدد النظر في الواقعة أو إكتفى بإستصحاب الإجتهاد السابق. وعليه يتعين - برأيه - على العامي التعويل على الظن. وإعترف الأصفهاني أن العامي يمكن أن تسبق إلى ذهنه الشبهة فتقدح في وضوح مقدمات وشروط التقليد، وهو يرى أنه مع عدم إمكان إحراز العلم واليقين فإن المتعين عليه هو العمل بالظن([5]).

 هكذا لم يجد الفقهاء سبيلاً سهلاً على العوام في تصحيح تقليدهم سوى المرتكزات العقلية والذهنية للبناء العقلائي، وبهذا سوف يضطر العوام إلى  ممارسة التقليد عن تقليد في كل ما خرج عن تلك المرتكزات؛ طالما أنها تعد الحد الذي يتوقف عنده العامي مادام ليس بوسعه الإجتهاد. بل إن المقلّد قد يشكك حتى في سلامة الإعتماد على المرتكز العقلائي، الأمر الذي تبطل به مقدمات التقليد وشروطه.

وكما يقول الفيروز آبادي: «إن العامي الجاهل إن كان رجوعه إلى العالم هو بمقتضى طبعه الأصلي وجبليته وفطرته من دون إلتفات إلى شيء فهو. وإلا إن تفطن أن مجرد بناء العقلاء مما لا يكاد يكفي مدركاً ما لم ينضم إليه الإمضاء من الشرع لم يجز له الرجوع إلى العالم عقلاً ما لم يحرز بنفسه إمضاء الشارع له، أو يعرف دلالة سائر الأدلة الدالة عليه»([6]).

يضاف الى ان العلماء يشترطون في التقليد شروطاً اخرى غير ما ذكرنا، ابرزها عدالة المقلَّد، مع انه ليس بوسع العامي معرفتها على التحقيق، وبالتالي فان مآله تقليد من يشترط عليه معرفتها، وهو تقليد باطل لما يتضمنه من دور. وكما ذكر المحقق الاردبيلي بأنه من الصعب تحقيق الشرط المذكور على العامي «سيما بالنسبة الى النساء والاطفال في اوائل البلوغ، فانهم كيف يعرفون المجتهد، وعدالته، وعدالة المقلَّد والوسائط؟! مع انهم لا يعرفون العدالة، ومعرفتهم اياها واخذهم عنهم فرع العلم بعدالتهم، ومعرفة العدالة لا تحصل غالباً الا بمعرفة المحرمات والواجبات، وهم الان ما حصّلوا شيئاً، وليس بمعلوم لهم العمل بالشياع بأن فلاناً عدل مع عدم معرفتهم حقيقة العدالة، بل ولا بالعدلين، بل ولا بالمعاشرة، وتحقيقهم ذلك كله بالدليل لا تخفى صعوبته»([7]).

 من هنا يمكن القول إن الشروط المذكورة بحق المقلّد في صحة التقليد هي في حد ذاتها شروط متعالية فاقدة لشرطها؛ مادام من الواجب على العامي أن لا يقلّد فيها، وإلا أصبح تقليده مبتنياً على تقليد آخر، وهكذا يتسلسل الأمر. وبذلك يصبح طريق العامي على خلاف طريق العالم الذي يُفترض الرجوع إليه. حيث يمكن للعامي أن يصل إلى نتيجة لا يجد فيها دليلاً على أصل تقليده، أو على وجوب أخذ إعتبار شروط التقليد كالأعلمية والحياة والرجولة؛ فتنتفي بذلك فائدة ذكر مثل هذه الشروط. لذلك ليس هناك من مسوغ في مثل هذه الحالة سوى الإستناد إلى طريقة النظر لإنتشال العامي من عاميته وإخراجه من تقليديته بوجه ما من الإجتهاد..

 

 



[1] أنظر مثلاً: منتهى الأُصول، ج2، ص635 . ومستمسك العروة الوثقى، ج1، ص40ـ41 .

[2] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص83ـ84.

[3] النراقي: عوائد الأيام، طبعة حجرية (لم يذكر عنها شيء)، ص191ـ192.

[4] مبادئ الوصول، ص497.

[5] الفصول الغروية، ص422.

[6] عناية الأُصول، ج6، ص218ـ219 . 

[7] الوحيد البهبهاني، محمد باقر: الفوائد الحائرية، نشر مجمع الفكر الاسلامي، قم، 1415هـ، الفائدة 62، ص362ـ562.

comments powered by Disqus