-
ع
+

ما الدليل على وجوب تقليد الحي؟


يحيى محمد 

لقد استدل المانعون من تقليد الميت بعدد من الأدلة، منها ما نُقل عن جماعة من الشيعة من دعوى الإجماع، وقد صرح به ظاهراً عدد من الفقهاء؛ كالنجفي صاحب (جواهرالكلام) والبجنوردي صاحب (منتهى الأُصول) والأصفهاني صاحب (الفصول الغروية) وغيرهم([1]).

ونُقد هذا الاجماع لأنه على تقدير تحققه فإنه ليس إجماعاً تعبدياً قابلاً لإستكشاف قول المعصوم، لإحتمال أن يستند ذلك إلى أصالة الإشتغال أو الإحتياط، أو إلى الإعتماد على بعض الأدلة الإجتهادية، أو غير ذلك مما لا يعد من الإجماع  التعبدي([2]). بل إن هذه المسألة معنونة لدى المتأخرين فكيف يُدّعى عليها الإجماع؟!

وسبق لأحد معاصري الشيخ الأصفهاني أن ذهب إلى نقض الإجماع المدعى بكون المسألة المطروحة حادثة دون أن تكون متداولة لدى المتقدمين من أصحاب الأئمة. وقد رد عليه الأصفهاني بقوله: «كثير من المسائل الأُصولية مشتركة الحاجة بيننا وبين الموجودين في زمن الأئمة كحجية الكتاب وخبر الواحد والإستصحاب وأصل البراءة وغير ذلك، فاستبعاده إنعقاد الإجماع على المسائل الأُصولية بقول مطلق مقطوع الفساد، لأن الحاجة إلى العمل بالأحكام تمس إلى البحث عن الطرق المقررة إليها لتعذر معرفتها بطريق القطع غالباً، وهذا أمر مشترك بيننا وبين أكثر أهل تلك الأعصار، لاسيما عند إشتداد أمر التقية وتعذر الوصول الى الإمام كما كان يتفق في حقهم غالباً»([3]).

والواقع هو أن أصل التقليد لم يكن متداولاً في عصر الأئمة، بل الذي جرى في زمانهم هو الإتباع، والفارق بينهما واضح. أما المسائل الأُصولية فبعضها قد يتفق العمل بها على الجملة لدى جميع الأعصار باعتبارها عقلية أو جبلّية أو أنها مما لا غنى عنها في الكشف عن الأحكام بالإطمئنان مع العلم بعدم ممانعة الشارع لذلك، مثلما يلاحظ في حجية الظواهر وأخبار الآحاد حين تكون باعثة على الإطمئنان، وهي ذاتها يمكن إستنتاجها من نصوص الأئمة في شتى المجالات، وكذلك سيرة المتشرعة آنذاك. أما بخصوص مسألة تقليد الميت فالأمر مختلف، إذ القول بعدم جواز تقليده لا يبتني على العقل أو الفطرة أو المرتكز العقلائي حتى يظن أنه مما أمضاه الشارع، ولا أنه يخدش في أصالة الطريق والكشف عن الأحكام. لذلك نقول كيف يمكن أن نستكشف الإجماع على مثل هذا القول؟!

كما استدل المانعون على المنع من جواز تقليد الميت بآية الإنذار في قوله تعالى: ((ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم))، إذ الآية ظاهرة في إرادة إنذار المنذر الحي، إذ لا معنى لإنذار الميت. وكذا آية السؤال في قوله تعالى: ((فاسألوا أهل الذكر))، اذ الميت لا يطلق عليه أنه داخل في أهل الذكر بالفعل([4]).

ومن الواضح أن الآيتين لا تدلان على التقليد من أصله. يضاف إلى أنهما وإن كانا بصدد إرادة الحي، خاصة آية الإنذار، لكن لا يفاد منهما النهي عن الرجوع إلى الميت، كما لا يفاد منهما العكس.

كذلك استدل المانعون ببعض الأخبار، والتي منها قول الإمام: «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم»، حيث أن الميت غير متصف بشيء مما ذُكر في الحديث، إذ إن لفظة (كان) ظاهرة في الإتصاف بالأوصاف المذكورة بالفعل لا الإتصاف بها في الأزمنة السابقة([5]). لكن هذه الرواية ضعيفة السند. وهي فضلاً عن ذلك ظاهرة الدلالة على الأمر بالرجوع إلى الفقهاء الأحياء، لكنها ليست بصدد النهي عن الرجوع إلى الأموات منهم؛ لا ظاهراً ولا دلالة.

أما المجوزون لتقليد الميت فقد إستدلوا بعدة أدلة، منها: دعوى إطلاق أدلة الآيات والأخبار في حجية فتوى الفقيه من غير تقييد بحال الحياة، كما في آية الإنذار والسؤال وأخبار الرجوع إلى رواة الحديث.

وقد نوقش هذا الدليل بمنع الإطلاق من حيث أن الآيتين الآنفتي الذكر لهما دلالة ظاهرة على الحي، وكذا يمكن القول بما جاء في الأخبار([6]).

كما استدلوا بدليل السيرة العقلائية، حيث أن البناء العقلائي في مختلف العلوم والمهن يجعل الناس يرجعون إلى المختصين من دون فرق بين حي وميت، وربما يرجعون إلى الأعلم الميت ويفضلونه على غيره ولو كان حياً.

وقد أُعترض على هذا الدليل بأن السيرة العقلائية إنما تصدق في هذا المقام - فقط - حينما لا يعلم العامي الخلاف بين العلماء بمن فيهم الأموات، أما مع العلم بذلك فإنها لا تصدق، وبالتالي فالسيرة غير شاملة للمتعارضين([7]).

لكن يُرد على هذا الإعتراض بكون السيرة العقلائية تشهد بشمولها المتعارضين، أو العلم بالخلاف، فلو أن الناس علموا بالخلاف بين آراء الأطباء، الأحياء منهم والأموات، لما منعهم ذلك من إتباع البعض بغض النظر عن كونه حياً أو ميتاً، خاصة حين يُظن أنه أعلم؛ فإنه يرجح على غيره حتى لو كان الأول ميتاً والآخر حياً. ومع ذلك فالسيرة العقلائية لا تخلو من إشكال، وخلاصته هو أن التعويل عليها يعني العمل بالقياس، من حيث التعدي مما هو في القضايا الدنيوية إلى ما هو في القضايا الدينية، مع أن بينهما فارقاً لا يصح الإغفال عنه.

وقد يقال في الدليل على جواز تقليد الميت هو أنه لما كان الأصل هو جواز الأخذ بقول المجتهد الجامع للشرائط، فمع موته يظل هذا الأصل سارياً؛ ما لم يعلم بالدليل عكسه، وليس ذلك من قبيل الإستصحاب بالشك ببقاء الحكم وعدمه مع طروء حالة الموت حتى يقال إنه لا يصح باعتباره من الإستصحابات الحكمية، إذ الموت هنا ليس من العوامل والقضايا المشككة في بقاء الحجية.

كما قد يقال أن طروء الموت ليس له تأثير على تحقق الأقربية لواقع الحكم الإلهي، فمن هذه الناحية ليس هناك فرق بين الميت والحي، وحيث أن غرض الشارع هو معرفة الأحكام الشرعية ومن ثم تطبيقها، ولم يكن للموت دخالة تمنع ذلك؛ لذا فإن إتباع الميت هو كإتباع الحي، خاصة حينما يكون الميت هو الأعلم. أرأيت لو أن بعض فتاوى أصحاب الأئمة الموثوقين وصلتنا، ولنفرض أنهم مجتهدون كما يدعيه الكثير من أصحاب الإتجاه الشيعي، فهل يُعقل تحريم إتباعهم على العامي بحجة أنهم موتى، ويُلزم بإتباع المجتهد الحي؟!

أخيراً لقد استدل المرحوم السبزواري على جواز تقليد الميت، إذ إعتبر أن «مقتضى الأُصول الموضوعية من أصالة حجية الرأي في حد نفسه، وصحة الإعتذار به، وأصالة بقاء الوظيفة الظاهرية التي إستفادها من الأدلة، وأصالة بقاء حكمة الإعتبار من غلبة الإصابة أو تسهيل الأمر على الأنام؛ صحة تقليد الميت إبتداءاً. مضافاً إلى الإطلاقات والعمومات.. وتقتضيه السيرة (العقلائية) في الجملة أيضاً»([8]).

 

 



[1] جواهر الكلام، ج40، ص320 . ومنتهى الأُصول، ج2، ص639  . والفصول الغروية، ص419 .

[2] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص104 .

[3] الفصول الغروية، ص419.

[4] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص105. والفصول الغروية، ص419  .

[5] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص105 .

[6] الاجتهاد والتقليد للخوئي، ص99ـ100  .

[7] المصدر السابق، ص101.

[8] تهذيب الأُصول، ج2، ص120.

comments powered by Disqus