-
ع
+

هل تدل روايات الترجيح والتفريع على الإجتهاد لدى الشيعة؟

يحيى محمد

لقد إستدل الشيخ الأنصاري على حجية الإجتهاد بروايتين، إحداهما تتعلق برد المتشابه إلى المحكم، إذ جاء في كتاب (الكافي في الأصول والفروع) للكليني عن أبي حيون مولى الإمام الرضا قوله: «إن في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن  ومتشابهاً كمتشابه القرآن، فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا»([1]). كذلك جاء في (معاني الأخبار) للشيخ الصدوق عن داود بن فرقد قال إنه سمع الإمام الصادق يقول: «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا. إن الكلمة لتنصرف على وجوه، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب»([2]).

وقد إعتبر الأنصاري أن هاتين الروايتين دالتان على وجوب الترجيح بحسب قوة الدلالة، وكذلك على وجوب الجمع بين الأقوال الصادرة عن الأئمة برد المتشابه إلى المحكم. والغرض منهما عنده هو الحث على الإجتهاد وإستفراغ الوسع في معاني الروايات وعدم المبادرة إلى طرح الخبر بمجرد وجود مرجح لغيره عليه([3]).

ومع أن هناك الكثير من الأخبار التي تفرض قاعدة الترجيح والرد الى القرآن الكريم أو العمل بالتساقط أو إتباع مخالفة ما يوافق العامة أو الأخذ بالمشهور وبأصدق الحديثين أو غير ذلك من المرجحات المنصوصة.. لكن يمكن القول أن تلك الأخبار لا تعارض الحديثين، حيث يمكن العمل بالحديثين إن أمكن، وإلا فبالترجيح كما ذهب الأنصاري([4]). مع أن من الواضح أن هذا السلوك هو سلوك ينبني على الإجتهاد الظني، فكيف يكون دالاً عليه وهو يصادره؟!

وبغض النظر عن روايات الترجيح فإن هناك روايات كثيرة تؤكد على التوقف في كل ما لا ينبني على علم أو إطمئنان ويقين، منها ما روي عن الرسول (ص) قوله: «الأمور ثلاثة، أمر بيّن لك رشده فخذه، وأمر بيّن لك غيّه فاجتنبه، وأمر أُختلف فيه فردّه إلى الله عز وجل». وما روي عن الإمام الصادق في وصيته لأصحابه: «إذا إشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح الله لنا». وما جاء عن الإمام الصادق في رواية زرارة بن أعين، إذ قال: «حق الله على خلقه أن يقولوا بما يعلمون ويكفّوا عما لا يعلمون فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إليه حقه». وقول الإمام الرضا (ع) في رواية المسمعي الواردة في إختلاف الحديثين: «وما لم تجدوا في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم، وعليكم الكف والتثبت والوقوف، وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا».. وغير ذلك من الروايات التي ظاهرها وجوب التوقف([5]). وعليه إذا فرضنا أن الروايتين المبحوثتين يفضيان إلى نوع من الظن بحسب تفاوت قوة الدلالة، وهو ما يعنيه الإجتهاد، فإن ذلك سيصطدم مع ما ذكرنا من روايات التوقف والرد إلى الله تعالى. أما إذا أمكن التوفيق بين المجموعتين من الروايات فإن ذلك لا يكون إلا عن إجتهاد؛ فنكون قد صادرنا على المطلوب من جديد.

على أن الروايتين المبحوثتين لا يخلوان من إجمال، إذ أن رواية رد المتشابه إلى المحكم قد يراد منها ما يتعلق بالعقائد، وعلى فرض جريانها في الأحكام فإن ظاهرها لا يفيد الإجتهاد المصطلح عليه، وذلك باعتبار أن فحواها يفيد الأمر برد المتشابه إلى المحكم على وجه العلم لا الظن. أما الرواية الأُخرى فمن الصعب تصور ورودها في العبادات، إلا إذا كان القصد هو فهم كلمات الأئمة بشرط العلم لا الظن.

ومع هذا وذاك فالروايتان ضعيفتان، حيث الرواية الأُولى «أنتم أفقه الناس..» مرسلة([6]). أما رواية المحكم والمتشابه فقد ورد في سندها أبو حيون مولى الإمام الرضا، وهو لم يوثق عند علماء الرجال([7]).

كما من الإستدلالات الأُخرى على حجية الإجتهاد ما نُقل عن الإمام الصادق قوله: «إنما علينا أن نُلقي إليكم الأُصول وعليكم أن تفرعوا». ومثله ما نُقل عن الإمام الرضا قوله: «علينا إلقاء الأُصول وعليكم التفريع».

والروايتان مرسلتان، وكلتاهما منقولتان عن كتاب (السرائر) لإبن إدريس الحلي (المتوفى سنة 598هـ)، فالأُولى نقلها إبن إدريس عن كتاب هشام بن سالم عن الإمام الصادق، والأخرى نقلها عن كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الإمام الرضا([8]). والقولان اللذان تتضمنهما الروايتان مجملان، فالتفريع على الأُصول لا يعني بالضرورة الإجتهاد بحسب الإصطلاح، فقد يكون تفريعاً بسيطاً من قبيل التفريع المستمد من قول الإمام (ع): «الشك يُنقض باليقين ولا يُنقض اليقين بالشك». فهذا القول أصل يمكن التفريع عليه مختلف حالات التطبيق في العبادات.

الإجتهاد وإفتاء أصحاب الأئمة

كما استدل بعض العلماء على حجية الإجتهاد بما جاء عن الأئمة من أمر لأصحابهم بالإفتاء، كما في أمر الإمام (ع) لأبان بن تغلب بقوله: «إجلس في مسجد المدينة وإفتِ الناس فإني أُحب أن يُرى في شيعتي مثلك»([9]). وقوله لمعاذ بن مسلم النحوي: بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس، قلتُ: نعم وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج: إني أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، ويجيء الرجل أعرفه بمودتكم وحبكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا فأُدخِل قولكم فيما بين ذلك. فقال (ع) لي: إصنع كذا فإني كذا أصنع([10]).

فطبقاً لمثل هذه النصوص إعتبر الخوئي أن لفظة (الإفتاء) لها دلالة على الإجتهاد([11])، مع أن الظاهر منها العكس. بل من غير المتوقع أن يأمر الإمام أصحابه بالإجتهاد بما يفضي إلى الظن وهم في غنى عنه لتوفر النصوص لديهم، سيما انه توجد نصوص كثيرة منقولة عن الأئمة تنهى عن إتباع الطرق الظنية التي تفضي إليها الإجتهادات. وعليه لا يحمل الإفتاء في الأخبار المنقولة إلا بمعنى نقل الحكم، سواء كان عن طريق الرواية أو بالمضمون، وهو غير الإجتهاد المصطلح عليه عند المتأخرين.

أخيراً فهناك الكثير من الروايات التي تبدي النهي عن الإجتهاد والرأي، منها ما روي عن أبي بصير قوله: قلت لأبي جعفر (ع): ترد علينا أشياء لا نجدها في الكتاب والسنة فنقول فيها برأينا، فقال (ع): أما إنك إن أصبت لم تؤجر، وإن أخطأت كذبت على الله. وعن أبي بصير أيضاً قوله: قلت لأبي عبد الله (ع): ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنته فننظر فيها؟ فقال: لا، أما إنك إن أصبت لم تؤجر وإن أخطأت كذبت على الله. وعن الإمام علي (ع) إنه قال: من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في إلتباس، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في إرتماس. وغير ذلك من الأحاديث([12]).

 



[1] الوسائل، ج18، أبواب صفات القاضي، باب 9، حديث 22، ص82 .

[2] الصدوق، أبو جعفر القمي: معاني الأخبار، صححه وعلق عليه علي أكبر الغفاري، مؤسسة الأعلمي ببيروت، الطبعة الأُولى، 1410هـ ـ1990م، ص1. كذلك: الوسائل، ج18، أبواب صفات القاضي، باب 9، حديث 27، ص84.

[3] فرائد الأُصول، ج2، ص776 و778.

[4] المصدر السابق،  ج1، ص341ـ342 و347.

[5] انظر ذلك في باب (وجوب التوقف والإحتياط في القضاء والفتوى)، ضمن: الوسائل، ج18، أبواب صفات القاضي، باب 12، ص111. كما انظر: النوري، حسين الطبرسي: مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تحقيق وطبع مؤسسة آل البيت لإحياء التراث في بيروت، الطبعة الثالثة، 1412هـ ـ1991م، ج17، باب حكم التوقف والإحتياط في القضاء والفتوى والعمل، ص321 وما بعدها.

[6] فقد رواها الصدوق في معاني الأخبار عن أبيه وغيره عن... عن أحمد بن محمد بن خالد عن علي بن حسان الواسطي عمن ذكره عن داود بن فرقد عن الإمام الصادق. ولا شك أن جملة «عمن ذكره» تفيد الإرسال.

[7]  قال النجاشي في رجاله عن أبي حيون بأنه لا يُعرف بغير هذه الكنية، وله كتاب في الملاحم. وذكره الطوسي في رجاله فيمن لم يروِ عن الأئمة. أما السيد الخوئي فقد إعتبر أن «طريق الشيخ إليه صحيح على الأظهر»، وربما يقصد بذلك أنه لم يروِ عن الأئمة. وفي جميع الأحوال إنه لم يُذكر عن أبي حيون غير ما ذكرنا (انظر حول ذلك المصادر التالية: رجال النجاشي، ص458. والطوسي، أبو جعفر: رجال الطوسي، حققه وعلق عليه وقدم له محمد صادق آل بحر العلوم، دار الذخائر في قم، الطبعة الثانية، 1411هـ، ص519 . والخوئي، أبو القاسم: معجم رجال الحديث، منشورات مدينة العلم في قم، الطبعة الثالثة، 1403هـ ـ1983م، ج21 ، ص138.

[8] الحلي، محمد بن إدريس: السرائر، طبعة حجرية (لم يكتب عنها شيء)، ص473 . كذلك: الوسائل، ج18، أبواب صفات القاضي، باب 6، حديث 51 و52، ص41 .

[9] النجاشي، أبو العباس: رجال النجاشي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الرابعة، 1403هـ، ص10.

[10] الوسائل، ج18 ، أبواب صفات القاضي، باب 11، حديث 36، ص108.

[11] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص88 .

[12] انظر باب (عدم جواز القضاء والحكم بالرأي والإجتهاد والمقاييس ونحوها من الإستنباطات الظنية في نفس الأحكام الشرعية)؛ ضمن: الوسائل، ج18، أبواب صفات القاضي، باب 6، ص21 وما بعدها. كذلك: المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء ببيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ ـ1983م، ج2، باب 16، بعنوان (النهي عن القول بغير علم، والإفتاء بالرأي وبيان شرائطه). كما انظر: مستدرك الوسائل، ج17 ، باب عدم جواز القضاء والحكم بالرأي والإجتهاد والمقاييس، ص252  وما بعدها.

comments powered by Disqus