-
ع
+

مقدمات الإجتهاد الفقهي

يحيى محمد

يتوقف الاجتهاد لدى الاتجاه السني على عدد من العلوم، وهي كما يذكر الشهرستاني: معرفة اللغة وتفسير القرآن ومعرفة الأخبار بمتونها وأسانيدها، كذلك معرفة مواقع إجماع الصحابة والتابعين وتابعي التابعين من السلف، وأيضاً التهدي إلى مواضع  الأقيسة([1])، أو معرفة علل الأحكام  ومسالكها. ونقل الأشعري عن البعض قوله إنه لا يجوز الإجتهاد إلا لمن علم بما أنزل الله عز وجل في كتابه من الأحكام وعلم السنن وما أجمع عليه المسلمون حتى يعرف الأشياء والنظائر ويرد الفروع إلى الأُصول([2]). ولدى الزركشي أن تلك العلوم عبارة عن إشراف المجتهد على نصوص الكتاب والسنة ومعرفة السنن المتعلقة بالأحكام، ومعرفة الإجماعات والقياس وكيفية النظر، كذلك معرفة لسان العرب والناسخ والمنسوخ وحال الرواة وأُصول الفقه، وشروط أُخرى؛ مثل معرفة الدليل العقلي على ما ذكره الغزالي([3]). وأضاف الشاطبي إلى ذلك معرفة مواقع الخلاف بين الفقهاء والعلم بمقاصد الشريعة وأسرارها دفعاً للعسر والحرج([4]).

بل ذهب البعض الى ان من شروط المجتهد المطلق هو ان يعرف الوفاق والخلاف في الاحكام لكل عصر، كذلك ان يكون على علم بالعربية المتداولة بالحجاز واليمن والشام والعراق ومن حولهم من العرب([5]).

وهناك من ذكر بأن من شروط الإجتهاد هو أن يكون المجتهد على علم بالدليل في العقائد والأُصول الكلامية الرئيسة، كمعرفة الرب وصفاته والتصديق بالرسل وما إلى ذلك من القضايا، ولو على نحو الإجمال([6]). ومنهم من أضاف علم المنطق كشرط أساسي لا غنى عنه؛ كما هو رأي إبن حزم والغزالي([7]). وقد اعتبر هذا الأخير أن أعظم علوم الإجتهاد ثلاثة؛ هي الحديث واللغة وأُصول الفقه([8]). ولدى الفخر الرازي إن أهمها اطلاقاً هو أُصول الفقه([9]).

أما مقدمات الإجتهاد عند الإتجاه الشيعي فقد ذكر الشيخ زين الدين العاملي (المعروف بالشهيد الثاني) أن الإجتهاد يتحقق بمعرفة مقدمات ست: علم الكلام وأُصول الفقه والنحو والتصريف ولغة العرب وشرائط الأدلة والأُصول الأربعة التي هي: الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل([10]). واعتبر العلامة الحلي ان من شرائط الاجتهاد: العلم بشرائط الحد والبرهان فضلاً عن النحو واللغة والتصريف واحوال الرجال وما إليها([11]).

وعدّ جمعٌ من العلماء أن من شرائط الإجتهاد معرفة حدوث العالم وإفتقاره إلى الصانع ومعرفة أن له أنبياء يبعثهم لهداية الناس، وذلك على وجه الإجمال دون حاجة للتفصيل والتبحر كما هو دأب علماء الكلام. ومن العلماء من إعتبر الإجتهاد متوقفاً على بعض المباحث المتداولة في علم الكلام والفلسفة والمنطق، كمبحث الجوهر والعرض([12]).

وهناك من أضاف إلى ضمن الشروط معرفة أحوال الرواة في الجرح والتعديل، وأن على المجتهد أن يكون عارفاً أيضاً بشرائط البرهان بالمنطق، لكن دون حاجة إلى علم الكلام([13]).

كما هناك من إكتفى بثلاثة علوم على رأسها اللغة العربية، اذ من خلالها يتحدد مدار الفقيه بالظهور اللغوي والعرفي وليس المعنى الحقيقي، كذلك علم أُصول الفقه وعلم الرجال، نافياً حاجة الإجتهاد إلى علم المنطق([14]). والبعض إعتبر أُصول الفقه أهم العلوم في الإجتهاد، ثم علوم العربية وعلمي الدراية والرجال([15]).

وهناك من خفف من الشروط كما هو الحال مع المرحوم السبزواري الذي اعتبر أنه يكفي في الإجتهاد من الأُصول الإحاطة بالمسلمات والمشهورات بين العقلاء والعلماء وما هو المعتبر لدى الأذهان المستقيمة، ولا عبرة بالتدقيقات العقلية والإحتمالات البعيدة لعدم ابتناء الفقه عليها، معتبراً أن مصنفات الفقه الإستدلالي في العصور الحديثة وما قاربها تشتمل على القدر اللازم من الأُصول، أما ما زاد على ذلك فهو عنده من الفضول([16]). وهو بهذا لا يعدّ علم الاصول شرطاً في الاجتهاد.

وسبق للشيخ حسن العاملي صاحب (معالم الدين) وابن اخته السيد محمد بن علي الموسوي صاحب (مدارك الاحكام) أن ذهبا الى هذا الاتجاه، فوصف كل منهما  قراءة مباحث الاصول بأنها مضيعة للوقت([17]).

وبرأي البعض إن من بين ما يتوقف عليه الإجتهاد هو أن يكون الفقيه عالماً بجملة يُعتد بها من الأحكام علماً فعلياً ليسمى في العرف فقيهاً. وقد ردّ عليه الفيروز آبادي صاحب (عناية الأُصول) معتبراً أن العلم بتلك الأحكام هو مما يتوقف على الإجتهاد، فكيف يصح أن تكون مقدمة له([18]). فالأمر عنده يفضي إلى الدور أو التسلسل.

وفي الوقت الحاضر أصبح من الضروري على المجتهد أن يتزود بثقافة واسعة من العلوم العصرية التي لها علاقة بالفقه، خاصة العلوم الإنسانية، وذلك لكسب الحقائق وخبرة الواقع التي قد تحدد نتيجة الحكم والإجتهاد من جهة، وأيضاً لتشخيص موضوع الحكم بدقة كتحقيق للمناط من جهة أُخرى. فتحصيل مثل هذه الثقافة هو أولى بالشرط للإجتهاد من المعرفة الإستدلالية لقضايا أُصول العقيدة التي لا علاقة لها بالإجتهاد الفقهي على الصعيد العلمي والمنهجي. ولحسن الحظ أصبحت مقولة (للأزمان تأثير على تغيير الفتاوى والأحكام) التي سبق أن نادى بها الإتجاه السني؛ تأخذ طريقها في الوقت الحاضر لدى الإتجاه الشيعي، ولو على نطاق ما زال ضيقاً، كما يلاحظ فيما دعى إليه الإمام الراحل روح الله الموسوي الخميني وعدد من الفقهاء المعاصرين ربما لأول مرة في التاريخ الشيعي. وقد اعتبر بعض الفقهاء بأن الامام الخميني هو صاحب طريقة جديدة في الإجتهاد لم يسبق لها غيره من علماء المذهب، استناداً الى عمله بتلك المقولة واعتبارات المصلحة العامة للنظام الاسلامي التي رجحها على النص عند التعارض([19]).

ولا شك ان هذه المقولة واعتبارات المصلحة - المتوقع لها التوسع والإنتشار - تفرض على المجتهد أن يكون على دراية تامة بالعلوم العصرية؛ لعلاقتها بالواقع وإشكالياته.

 



[1] الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم: الملل والنحل، عرض وتحليل الدكتور حسين جمعة، دار دانية، بيروت ـ دمشق، ص86ـ87. كما انظر: الجويني، إمام الحرمين عبد الملك: البرهان في أُصول الفقه، حققه وقدم له ووضع فهارسه عبد العظيم الديب، طبع في مطابع الدوحة الحديثة، الطبعة الأُولى، 1399هـ، ج2، ص32.

[2] الأشعري، أبو الحسن: مقالات الإسلاميين وإختلاف المصلين، عُني بتصحيحه هـ. ريتر، مطبعة الدولة في إستانبول، 1929م، ص479.

[3] الزركشي، بدر الدين محمد: البحر المحيط، قام بتحريره عبد الستار أبو غدة، راجعه عبد القادر عبد الله العاني، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت، الطبعة الثانية، 1413هـ ـ1992م، ج6، ص991ـ204.

[4] الموافقات، ج4، ص160 وما بعدها.

[5] صفة الفتوى، ص16.

[6] الإحكام للآمدي، ج4، ص497. كذلك: الشوكاني، محمد بن علي: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من الأُصول، دار الفكر، ص52.

[7] إبن حزم: رسالة التقريب لحد المنطق، ضمن رسائل إبن حزم الأندلسي، تحقيق إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، الطبعة الأُولى، 1983م، ج4، ص102 و95. والمستصفى، ج2، ص351ـ352.

[8] المستصفى، ج2، ص353.

[9] الفخر الرازي: المحصول في علم الأصول، تحقيق طه جابر فياض العلواني، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1400هـ، عن شبكة المشكاة الالكترونية، ج6، ص35. ومناهج الإجتهاد في الإسلام، ص364.

[10] العاملي، زين الدين: الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، أشرف على تصحيحه والتعليق عليه محمد كلانتر، إنتشارات علمية في قم، الطبعة الثانية، 1396هـ، ج3، ص62.

[11] الحلي: مبادئ الوصول الى علم الاصول، نفس المعطيات السابقة، ص496.

[12] الأصفهاني، محمد حسين: الفصول الغروية في الأُصول الفقهية، دار إحياء العلوم الإسلامية في قم، 1404هـ، ص401. والصدر، صدر الدين: خلاصة الفصول في علم الأُصول، چاپخانه سنكي علمي في إيران، 1367هـ، ج2، ص46.

[13] معالم الدين، ص383. كذلك: مغنية، محمد جواد: فقه الإمام جعفر الصادق، إنتشارات قدس محمدي في قم، ج6، ص384ـ385.

[14] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص24  و25.

[15] منتهى الأُصول، ج2، ص618.

[16] السبزواري، عبد الأعلى الموسوي: تهذيب الأُصول، نشر الدار الإسلامية في بيروت، الطبعة الثانية، 1406هـ ـ1995م، ج2، ص111.

[17] جاء في كشكول البحراني ان الشيخ الاردبيلي كان يقرأ عنده الشيخ حسن والسيد محمد من شرح الشمسية ما يتوقف عليه الاجتهاد من مباحث الالفاظ وبعض احوال القضايا والقياسات، والظاهر انه لا يزيد على عشرة دروس، وقرآ عليه من شرح مختصر ابن الحاجب العضدي ما يتوقف ايضاً عليه الاجتهاد وهي دروس معدودة، وكانت الجماعة ـ من التلامذة ـ الذين يقرأون عند المولى الاردبيلي يهزؤون بهما على هذا النمط من القراءة، فقال لهم المولى: لا تهزءوا بهما فعن قريب يصلون الى درجة الاجتهاد، وأحتاج أنا الى أن آخذ تصديق اجتهادي منهما. فكان الحال كما قال (البحراني، يوسف: الكشكول، مؤسسة الوفاء ودار النعمان، الطبعة الثانية، 1406هـ ـ1985م، ج1، ص343). لكن جاء في (حدائق المقرّبين) كما يذكر الخوانساري ان العالمين المشار اليهما قد قدما الى العراق قاصدين المولى أحمد الأردبيلي يسألانه أن يعلمهما ما هو دخيل في الاجتهاد، فأجابهما الى ذلك، وعلّمهما أولاً شيئاً من المنطق وأشكاله الضرورية، ثم أرشدهما الى قراءة اصول الفقه، وقال: «إن أحسن ما كتب في هذا الشأن هو شرح العميدي، غير ان بعض مباحثه غير دخيل في الاجتهاد، وتحصيلها من المضيّع للعمر. فكانا يقرآنه عليه ويتركان تلك المباحث من البين» (روضات الجنات، ج2، ص291). ثم أن الخوانساري ذكر بعض تفاصيل الحادثة في محل آخر، ونقل انهما قرآ عند المولى الاردبيلي مدة قليلة قراءة توقيف من غير بحث. فقد كان جماعة من تلامذة الاردبيلي يقرأون عليه في (شرح مختصر العضدي) وقد مضى لهم مدة طويلة، وبقي فيه ما يقتضي صرف مدة طويلة اخرى حتى يتم، وهما اذا قرآ يتصفحان أوراقاً حال القراءة من غير سؤال وبحث، لذلك كان التلامذة يتبسّمون ويهزؤون بهما، فلما عرف منهم الاردبيلي ذلك؛ قال لهم: سترون عن قريب مصنفاتهما وأنتم تقرأون في شرح المختصر. فكان كما قال (نفس المصدر، ج7، ص52).

[18] عناية الأُصول، ج6، ص192.

[19] انظر: الجناتي، محمد إبراهيم: الإجتهاد في الشريعة الإسلامية وعصر الإستخدام الشامل، مجلة التوحيد، إيران، العدد 76، ص20 وما بعدها. كما انظر كتابنا: فهم الدين والواقع، طبعة مؤسسة الانتشار العربي.

comments powered by Disqus