-
ع
+

معنى الإجتهاد لدى النبي وحدوده

يحيى محمد

ذهب أغلب رجال أهل السنة إلى أن النبي كان متعبداً بالعمل بالإجتهاد، فإما أن يكون مأموراً به، أو أنه مما يجوز عليه ذلك. وفي القبال مال البعض إلى منع هذه الآلية في حقه، كما هو المنسوب إلى بعض الشافعية، وكذا ما يُنسب إلى بعض المعتزلة، كأبي علي الجبائي وإبنه أبي هاشم. بينما إتجه فريق ثالث إلى التوقف أو عدم القطع لتعارض أدلة الطرفين وعدم وضوح الترجيح بينها، فكل منها عليه إعتراضات يجعلها غير قاطعة، كما هو رأي القاضي عبد الجبار الهمداني وأبي الحسين البصري والإمام الغزالي. وإن كان الغزالي قد استبعد وقوع الإجتهاد من النبي في القضايا الدينية، واستظهر أنه كان يعمل طبقاً للوحي الصريح من غير إجتهاد([1]).

وقد قدّم المانعون لإجتهاد النبي عدة أدلة أهمها ما يلي: ([2]):

1ـ لما كان النبي (ص) قادراً على كشف اليقين بالأخذ عن الوحي؛ لذا فلا مجال للقول بإجتهاده، باعتبار أن الإجتهاد عمل بالظن، ومن القبح العمل بهذا وترك الوحي واليقين.

مع أنه قد يقال إن عمل النبي (ص) بالإجتهاد ينحصر في حالة الإضطرار من حيث عدم نزول الوحي عند ترقبه له، ولا مجال للإنتظار خشية فوات الحادثة من غير حكم. وبالتالي فليس في هذا الحال مقابلة بين الظن من جهة واليقين أو الوحي من جهة أُخرى، مادام اليقين والوحي منقطعين، خاصة إذا ما علم النبي جواز ذلك وحياً، أو أنه مأمور به ولو أدى إلى الخطأ.

2ـ لو جاز للنبي الإجتهاد لكان يجوز مخالفته بإجتهاد غيره، مع أن هذا يبطل الغرض من بعثته الى الناس، وهو واضح البطلان.

لكن أُجيب على ذلك بأن إجتهاد النبي إما أنه لا يحتمل الخطأ باعتباره مسدداً من قبل الله تعالى كما هو مذهب قوم، أو أنه يحتمل الخطأ ولكن لا يقرّ عليه، بخلاف غيره لأنه يحتمل الخطأ ويقر عليه، وبالتالي يصبح إجتهاد النبي  كالنص  أو اليقين فلا يجوز مخالفته على هذا الحال.

3ـ جاء في قوله تعالى: ((وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى))([3])، وحيث لا يقال للاجتهاد إنه صادر عن وحي أو إنه وحي، لذا لم يصدر عن النبي إجتهاد قط.

لكن يجاب على ذلك بلزوم تخصيص العموم الوارد في الآية، وإلا لكان كل ما ينطق به النبي، حتى لو كان تعبيراً عن حاجاته الشخصية، هو من الوحي. ايضاً لكان الوحي لا ينقطع عنه حتى وفاته وهو خلاف ما عُلم إنقطاعه عنه. لذلك فقد يكون المراد من الآية هو كل ما نطق به من القرآن الكريم. كما قد يجاب بأن القول بالإجتهاد ليس تعبيراً عن الهوى، فإذا ما كان مأموراً به وحياً فسيصبح النطق به صادراً عن الوحي، ولو بشكل غير مباشر.

وبهذا الجواب يمكن أن يجاب على ما أُستدل به من القرآن؛ كقوله تعالى: ((قل ما يكون لي أن أُبدّله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي...))([4])، وقوله: ((ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين))([5]). ذلك إن مثل هذه الآيات مسوقة ومحمولة على القرآن الكريم، خاصة الآية الأُولى، فبدايتها صريحة بهذا الصدد: ((وإذا تُتلى عليهم  آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا إئتِ بقرآن غير هذا أو بدّله، قل ما يكون لي أن أُبدّله من تلقاء نفسي)).

وكذا هو الحال فيما يتعلق بالآيات الأُخرى، فهي أيضاً مسوقة بشأن التأكيد على أحقية القرآن.

أما المجوزون لإجتهاد النبي (ص) فقد إختلفوا في حدود ذلك وشروطه. فمنهم من أشرط جوازه في حدود المصالح الدنيوية من الحرب والسياسة ومعرفة الوقائع الجزئية ليطبق عليها الكليات كما هو الحال في القضاء. كما منهم من جوّز الاجتهاد على النبي (ص) مطلقاً، اي بما في ذلك الاجتهاد في القضايا الدينية والعبادات، كما سيتبين لنا كالتالي..

 إجتهاد النبي في المصالح الدنيوية

يستفاد من بعض الآيات القرآنية أن النبي تعرض إلى أكثر من عتاب من قبل المولى تعالى لإتخاذه بعض المواقف الادارية والسياسية، مما يدل على اجتهاده في مثل هذه القضايا. وحيث أن العتاب لم يكن موجهاً إلى إجتهاده بالخصوص، بل إلى ما أفضى إليه من نتائج، فذلك يعني جواز إجتهاده بدلالة الإمضاء الحاصل من قبل الله تعالى. أما العتاب على النتائج فيحمل بأنه إرشادي، إذ بعضها - على الأقل - لا يدل على مخالفة النبي لأمر المولى، أما البعض الآخر فإن كان فيه ما يدل على المخالفة فهو محمول على الخطأ الذي لا يقرّ عليه؛ كالذي جاء بخصوص ما عوتب عليه - مع المؤمنين - بعدم قتل أسرى بدر، كما في قوله تعالى: ((ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم))([6]). ومثله عتاب النبي على ما أذن للأعراب بالتخلف عن غزوة تبوك، كما في قوله تعالى: ((عفا الله عنك لِمَ أذنتَ لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين))([7]).

كما كان النبي مأموراً بالشورى في قوله تعالى: ((وشاورهم في الأمر))([8]). وهي تستلزم الإجتهاد لأن نتائجها قد تخطئ الواقع في كل ما يتعلق بالمصالح الدنيوية.

ويؤيد ذلك ما ورد في الأحاديث والسيرة، وهو ان النبي كان يجتهد في قضايا تشخيص الواقع التي ينبني عليها تطبيق الأحكام وتنفيذها([9]). فهو بالتالي إما مصيب وإما مخطئ، دون أن تكون له عصمة مطلقة شاملة. ومن ذلك ما رواه الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما في مسائل القضاء كقوله (ص): «إنما أنا بشر مثلكم  وإنكم تختصمون  إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو يتركها»([10]). وجاء ذكر هذه الرواية في المصادر الشيعية ويطلق عليها صحيحة هشام بن الحكم عن الإمام الصادق عن النبي([11]).

كذلك ما رواه مسلم من أن النبي (ص) قال: إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر([12]). وفي رواية اخرى عن أنس بن مالك أن النبي (ص) مرّ بقوم يلقحون النخل، فقال (ص): لو لم تفعلوا لصلح، فخرج شيصاً، فمر بهم النبي فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم([13]).

إجتهاد النبي في الأحكام الدينية

في قبال ما سبق هناك من جوّز الإجتهاد على النبي مطلقاً، سواء ما تعلق بالمصالح الدنيوية أو ما إرتبط بالأحكام العامة من القضايا الدينية والعبادات مما لم يرد فيها نص. وقد ذكر الكمال بن الهمام في كتابه (التحرير) أن أكثر الأقوال الفقهية ترى النبي (ص) مأموراً بالإجتهاد مطلقاً؛ سواء في القضايا السياسية والحربية، او  في الأحكام الشرعية والأُمور الدينية، من غير تقييد شيء منها، معتبراً أن ذلك مذهب عامة الأُصوليين، كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وكذلك عامة أهل الحديث([14]).

وقد زعم بعض المعاصرين أن النبي (ص) جعل الإجتهاد أصلاً ثالثاً للأحكام في عصره([15]). وصرح بعض آخر بأن النبي كان أول المجتهدين وإمام المفتين([16]).

وبخصوص الأدلة التي قدمها العلماء في هذا الصدد؛ منها ما كان من الكتاب، ومنها ما كان من الأخبار والأحاديث. فمن الكتاب استدل العلماء بقوله تعالى: ((فاعتبروا يا أُولي الأبصار))([17])، اذ رأوا أنها دالة على القياس والإجتهاد، وهي عامة في حق أُولي الأبصار أو البصائر، والنبي أعظمهم بصيرة([18]). لكن ليس لهذه الآية دلالة على المقصود من الإجتهاد أو القياس كما بيّنا ذلك في دراسة مستقلة.

 كما استدلوا على ذلك بآية: ((ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم))([19]). فوجه الدلالة هو أن الله تعالى عطف أُولي الأمر على الرسول في وجوب الرد إليهم ورتب على ذلك العلم بحكم الشرع عن طريق الإستنباط الذي هو الإجتهاد، وبالتالي فكما يجوز الإستنباط أو الإجتهاد لأُولي الأمر فكذا يجوز ذلك للرسول([20]).

لكن إبن حزم اعترض على هذه الافادة من المعنى، فإعتبر الضمير في لفظة (منهم) لا يرجع إلى الرسول وأُولي الأمر، بل يرجع إلى الرادين، وبالتالي يكون المستنبطون منهم ليس هم أُولي الأمر والرسول([21])، وهو الظاهر من الآية على ما يبدو. لكن حتى مع إعتبار المستنبطين هم أُولي الأمر والرسول؛ فإن الآية لا تدل على الإجتهاد المفضي إلى الظن، بل تدل على تحصيل العلم، سواء أُعتبر ذلك إجتهاداً، أو إستخراجاً للمعنى. ومن المؤكد أن الحال في ذلك يختلف كلياً عن الحال الذي يمارسه المجتهدون في طرقهم الإجتهادية.

كما استدل العلماء على إجتهاد النبي بآية: ((وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم))([22])، اذ قالوا بأن النبي هو أولى رسوخاً في العلم من غيره. لكن عرفنا - سابقاً - أنه ليس للآية أيّ دلالة واضحة على الإجتهاد والمقاصد الفقهية، ومن المحتمل أنها وردت بخصوص العقائد.

وأيضاً استدلوا على إجتهاد النبي بآية: ((إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله))([23])، إذ قيل إن اللفظ بعمومه يتناول الحكم بالنص وبالإستنباط من النص، إذ الحكم بكل منهما حكم بما أراه الله، أو أن الحكم الذي يستنبط من المنزّل هو حكم بالمنزّل لأنه حكم بمعناه([24]).

بيد إنه إذا حملنا آلية الإستنباط على إحتمال أنها تفضي إلى الخطأ باعتبارها عملية إجتهاد؛ فإنه لا يصح أن نعتبر الحكم الذي يستنبط من المنزّل هو حكم بالمنزّل أو بمعناه، وذلك لأنه يحتمل أن يكون خطأً، وظاهر الآية بعيد عن إرادة الإجتهاد المفضي إلى الظن أو الذي يحتمل الخطأ، أو على الأقل إنه لا يدل عليه. أما لو قيل أن العموم في الآية يمكن أن يشمل الإستنباط من النص  فيما لو كان مفضياً إلى القطع واليقين؛ فلا مانع من ذلك باعتباره لا يختلف عن الحكم بالنص.

أخيراً استدلوا على إجتهاد النبي بآية سليمان في قوله تعالى: ((وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان))([25]). ووجه الإحتجاج بهذه الآية هو أن الله خصّ سليمان بفهم الحق في الواقعة؛ مما يدل على عدم فهم داود له، ومن ثم فقد كانا يجتهدان في الحكم على الواقعة بدلالة إصابة أحدهما للحق دون الآخر، فإذا ثبت هذا في حق بعض الأنبياء فما المانع من أن يصدق ذلك على نبينا (ص) ايضاً([26])؟!

وقد قيل في الجواب أن غاية ما في الآية تخصيص سليمان بالفهم، وهذا لا يدل على عدم فهم داود له إلا بالمفهوم وهو غير حجة. وحتى لو سُلم بأنه حجة فقد روي أن هذين النبيين حكما في تلك القضية حكماً واحداً، ثم نسخ الله الحكم؛ فعلم سليمان بالنص  الناسخ دون داود، لذلك أتمّت الآية قولها: ((وكلاً آتينا حكماً وعلماً))، فلو كان أحدهما مخطئاً لما أُوتي في تلك الواقعة حكماً وعلماً([27]).

كما قيل في الجواب أنهما قد حكما بحكم واحد بدلالة قوله تعالى: ((وكنا لحكمهم شاهدين))، وأن هذا الحكم لهما كان صحيحاً بدلالة قوله تعالى: ((وكلاً آتينا حكماً وعلماً))، أما الإختلاف بينهما فليس في أصل الحكم وإنما في الإجراء، من حيث أن حكم سليمان كان أوفق وأرفق، ورويت حول ذلك روايات من الشيعة والسنة تفيد أن داود حكم لصاحب الحرث برقاب الغنم، وحكم سليمان له بمنافعها في تلك السنة من ضرع وصوف ونتاج، لضمان ما أفسدته الغنم من الحرث على صاحبها، واحتُمل أن ذلك كان مساوياً لقيمة رقاب الغنم([28]).

الاستدلال بالأحاديث النبوية

أما الاستدلال بالأحاديث النبوية، فقد روى الطبراني عن إبن عباس عن النبي (ص) قوله: «إجتهدوا فكل ميسر لما خُلق له». لكن دلالة هذه الرواية مجملة لا تؤكد المعنى المتواضع عليه من مفهوم الإجتهاد، وهي فوق ذلك ليست ثابتة الصحة والإعتبار. انما جاء عن عمران بن حصين وهو صحيح بلفظ: «إعملوا فكل ميسر لما خُلق له»([29]).

كما روى البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص عن النبي (ص) قوله: «إذا حكم الحاكم فإجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فإجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد»([30]). ومثل ذلك روي أن الرسول (ص) طلب يوماً من عمرو بن العاص أن يحكم في مسألة، فقال: أجتهد وأنت حاضر يا رسول الله؟ قال: نعم إن أصبت فلك أجران، وإن أخطأت فلك أجر([31]). وقال لعقبة وعمرو بن العاص: إجتهدا فإن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن أخطأتما فلكما حسنة واحدة([32]). وإجتهد سعد بن معاذ في بني قريظة حينما رضي النبي بتحكيمه، فحكم بقتل الرجال وسبي النساء والذراري بالرأي([33]).

وبغض النظر عن سند هذه الروايات فالملاحظ أنها لا تدل على المعنى المصطلح عليه من الإجتهاد، ذلك أن موردها محدد بأُمور الحكم والقضاء، وهي أُمور تتعلق بتقدير الأحكام وتطبيقها على المصاديق، الأمر الذي قد يجعل الحاكم أو القاضي مخطئاً في حكمه لا من جهة معرفة الحكم الكلي، بل من حيث عدم تشخيص الواقع كما هو.

كذلك نقل العلماء عن النبي (ص) قوله: «لولا أن أشق على أُمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء (وفي رواية: عند كل صلاة)»([34]). مما يعني أن الأمر بالسواك متروك إلى إجتهاد النبي وتقديره، لذلك منعه خوف المشقة على الناس.

وهذا الحديث - على فرض صحته - لا يدل دلالة صريحة على إجتهاد النبي (ص) بالمعنى المتواضع عليه، فمن الجائز أن الله فوض له الأمر في ذلك مثلما فوض إليه إرث الجد أو الجدة. وقد قيل ان الله فوض الى النبي بعض ما جاء في الصلاة، فقد أوجب الله تعالى الركعتين الأُولتين، وفوّض غيرهما الى النبي (ص)، فأوجب النبي الركعتين الأخيرتين([35]). كذلك فوّض الله الى بعض أنبيائه في قوله تعالى: ((هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب))([36]).

ومن الجائز أيضاً أن يدل الحديث السابق على الأمر الإرشادي لا المولوي، اذ لا علاقة للسواك بالأحكام العبادية، بل كل ما يمكن أن يقال هو أن له علاقة بنظافة الفم والصحة.

كما استدل العلماء بقول النبي (ص) في حرم مكة: لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها، فقال العباس: إلا الأذخر، فقال النبي: إلا الأذخر. فقد نهى النبي في هذا النص عن قطع حشيش حرم مكة وشجره، وأن موافقته للعباس على استثناء نبات الأذخر - ربما كما قيل لطيب رائحته –([37])، تدل على اجتهاده في أمر النهي والاستثناء، اذ من المستبعد ان يطابق كلام العباس ما أراد النبي (ص) قوله بالوحي([38]).

وتدل هذه الحادثة - على فرض صدقها - على المصالح الدنيوية التي يجوز فيها الإجتهاد من جهة تشخيص الواقع الموافق للمصلحة وليس لها علاقة بالأحكام الكلية.

كما استدل العلماء بما روي عن عمر بن الخطاب من أنه سأل النبي فقال: إني اليوم - وهو يوم صيام - أتيت أمراً عظيماً. فقال (ص): وما ذاك؟ فقال: هششت إلى أمرأتي فقبّلتها. فقال (ص): أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان عليك جناح؟ قال: لا. قال (ص): فلِمَ إذن؟! إذ قيل إن في هذا النص دلالة على القياس، حيث قاس النبي مقدمة الجماع على مقدمة الشرب، فمثلما أن المضمضة لا تفسد الصوم، كذلك فإن القبلة لا تفسده أيضاً([39]).

لكن ليس في هذا الحديث - على فرض صحته - دلالة تقضي بارجاع حكم النبي إلى القياس. فربما شابه النبي بين الأمرين للإيضاح لا التشريع. مع ذلك، حتى لو فرضنا القصد من الحديث هو القياس، لا يحق لنا تعميم هذه الجزئية على الحالات الأُخرى إلا بقياس، وهو ما يفضي إلى الدور أو التسلسل الباطل.

ومثل ذلك ما روي عن النبي أنه قال في حديث طويل: وفي بضع أحدكم صدقة. فقال أصحابه: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال (ص): أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر([40]). ومثله ما رواه إبن عباس من أن الجارية الخثعمية سألتْ النبي وقالت: إن أبي أدركته فريضة الحج شيخاً زمِناً لا يستطيع أن يحج، إن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها: أرأيتِ لو كان على أبيك ديْن فقضيته أكان ينفعه ذلك؟ قالت: نعم. قال (ص): فدين الله أحق بالقضاء([41]).

وواضح أنه ليس في مثل هذه الرواية وما قبلها ـ على فرض صحتهما ـ دلالة تفيد الافتاء بالقياس، إذ كل ما يمكن أن يقال إن النبي شابه بين قضيتين ربما للتوضيح وتقريب المعنى لا التشريع. وحتى لو فرضنا ان النبي عمل في الحالات القليلة السابقة بالقياس؛ فذلك لا يبرر العمل بمختلف حالات القياس كما عوّل عليها الأُصوليون. فالتعميم مبني على قياس سابق أو مفترض، وهو ما يفضي إلى المصادرة على المطلوب.

وبأضعف من ذلك استدل العلماء على قياس النبي (ص) بما روي من أن رجلاً أنكر  ولداً وضعته زوجته أسود، فقال (ص): هل لك من إبل حمر فيها أورق - أسود -؟ قال: نعم. قال (ص): وهذا لعله نزعة عرق([42]).

كما استدل العلماء على إجتهاد النبي بما رواه أحمد بن حنبل في مسنده عن رجل أتى النبي (ص) فأسلم على أن لا يصلي إلا صلاتين، فقبل منه ذلك([43]).

وليس في هذه الرواية - على فرض صحتها - دلالة على الإجتهاد. فقد يكون هذا القبول صادراً عن الوحي لترغيب المشركين في الإسلام وتأليف قلوبهم. كما قد يكون النبي مفوَّضاً له الامر - وحياً - في أن يقبل أو لا يقبل. وهو أمر يختلف عن الإجتهاد المصطلح عليه. وقد قال الشيخ أحمد الأنصاري الحنفي النقشبندي في شرحه (بذل المجهود في شرح سنن أبي داود)، تعليقاً على تلك الرواية: «فظهر بهذا أنه (ص) أسقط عنه ثلاث صلوات، فكان من خصائصه أن يخص من شاء بما شاء من الأحكام، ويسقط عمن شاء ما شاء من الواجبات»([44]).

واستدل العلماء أيضاً بما روي عن النبي (ص) أنه قال في حجة الوداع: «لو إستقبلت من أمري ما إستدبرت لما سقت الهدي». فقيل أن سوق الهدي على ذلك كان بالرأي.

لكن أُجيب على ذلك بأن معنى النص هو ان النبي لو علم سابقاً ما علمه الآن من الحرج الذي وُجد في السوق لما فعل.

كما قيل في الرد بأن هذا الحديث وقع في حجة الوداع حين أمر النبي القوم بالتحلل عن إحرام الحج بالعمرة، لكن النبي نفسه لم يتحلل لمّا ساق الهدي، فتحرّج القوم عن التحلل وأرادوا أن يهتدوا بهدي الرسول (ص)، لذلك إعتبر النبي أن سوق الهدي مانع له من التحلل قبل أن يبلغ محله، ولو علم أنهم لا تطيب أنفسهم إلا بالإتباع في فعله لما ساق الهدي وتحلل. وهذا الحال لم يأتِ عن إجتهاد ورأي في الحكم الشرعي، كما هو واضح([45]).

***

هكذا لا توجد دلالة قاطعة على الإجتهاد المطلق للنبي، إذ الروايات التي إستند إليها العلماء في الأدلة المتقدمة هي من الآحاد التي لا تفيد القطع، وبعضها لا تعد من الاحاديث الصحاح كما اصطلح عليها العلماء. وهي بالاضافة الى ذلك ليس فيها الدلالة الواضحة على الإجتهاد بالمعنى المتواضع عليه. لكن من المؤكد أن النبي قد تعامل مع القضايا التي لا نص فيها من الحوادث ومجريات الواقع بالرأي والإجتهاد. فهذا ما أكده القرآن الكريم بدلالات واضحة يعززها ما نقل عنه من سيرة في العديد من الوقائع. إلا أن هذا النوع من الإجتهاد يختلف عن المفهوم الذي صاغه الفقهاء بعنوان إستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها الأصلية، أو هو القياس وما شاكله.

 

 



[1] المعتمد، ج2، ص761 وما بعدها. والإحكام للآمدي، ج4، ص398ـ407. والمستصفى، ج2، ص356ـ357.

[2] انظر حول ذلك المصادر التالية: المعتمد، ج2، ص763. والتبصرة للشيرازي، ص522ـ523.  والمستصفى، ج2، ص355 وما بعدها. والإحكام للآمدي، ج4، ص402ـ403.

[3] النجم/ 3ـ4.

[4] يونس/ 15.

[5] الحاقة/ 44ـ46.

[6] الأنفال/ 67ـ68.

[7] آل عمران/ 159.

[8] آل عمران/ 159.

[9] انظر بصدد العصمة دراستنا المعنونة: العصمة وكتاب الألفين والمنهج الإستقرائي، مجلة الموسم، العددان23ـ24 ، 1416هـ ـ1995م، ص405ـ420.

[10] صحيح البخاري، باب من أمر بإنجاز الوعد، حديث 2534. وصحيح مسلم، ج3، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، حديث 1713 . كما روى هذا الحديث ابن حنبل في مسنده وأبو داود والنسائي والترمذي عن مالك (الإحكام للآمدي، ج4، هامش ص406. وانظر ايضاً: الشافعي: الأم، مع مختصر المزني، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ، ج8، ص542. وابن فرج القرطبي:  أقضية رسول الله، مطابع قطر الوطنية، ص82).

[11] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص390.

[12] صحيح مسلم، حديث 2362.

[13] صحيح مسلم، حديث 2363.

[14] عيسى، عبد الجليل: إجتهاد الرسول، دار البيان في الكويت، 1389هـ ـ 1969م، ص57.

[15] مناهج الإجتهاد في الإسلام، هامش ص356.

[16] الإجتهاد في الشريعة الإسلامية للزحيلي، ص72.

[17] الحشر/ 2.

[18] الفصول في الأُصول، ج3، ص240، وج4، ص30. والإحكام للآمدي، ج4، ص399.

[19] النساء/ 83.

[20] الفصول في الأُصول، ج3، ص240، ج4، ص30. والإحكام للآمدي، ج4، ص289. والتفسير الكبير للرازي، ج10، ص200.  

[21] إبن حزم: الإحكام في أُصول الأحكام، حققه وراجعه لجنة من العلماء، دار الجيل ببيروت، الطبعة الثانية، 1407هـ ـ1987م، ج6، ص197ـ198.

[22] آل عمران/ 7.

[23] النساء/105.

[24] فواتح الرحموت، ج2، ص368.

[25] الأنبياء/78.

[26] الفصول في الأُصول، ج3، ص240، وج4، ص30 و329ـ330.

[27] الإحكام للآمدي، ج4، ص415.

[28] الميزان في تفسير القرآن، ج17، ص311ـ 312.

[29] الإحكام للآمدي، ج4، حاشية، ص434.

[30] صحيح البخاري، حديث 6919. وصحيح مسلم، حديث 1716. كذلك: الجصاص، أحمد بن علي الرازي: الفصول في أُصول الفقه، دراسة وتحقيق عجيل جاسم النشمي، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت، الطبعة الثانية، 1414هـ ـ1994م، ج4، ص45. والشيرازي، أبو إسحاق: التبصرة في أُصول الفقه، شرحه وحققه محمد حسن هنيتو، دار الفكر بدمشق، 1400هـ ـ1980م، ص499. والمستصفى، ج2، ص255. والإحكام للآمدي، ج4، ص416.

[31] الفصول في الأُصول، ج4، ص45. والمستصفى، ج2، ص355.

[32] المستصفى، ج2، ص355. والإحكام للآمدي، ج4، ص408.

[33] المستصفى، ج2، ص255.

[34] التبصرة للشيرازي، ص29. والإحكام للآمدي، ج4، ص435. 

[35] الجزائري، نعمة الله: الأنوار النعمانية، طبعة تبريز، إيران، ج2، ص367.

[36] ص/39.

[37] الإجتهاد في الشريعة الإسلامية للزحيلي، ص172

[38] المعتمد، ج2، ص762. والمستصفى، ج2، ص356. والإحكام للآمدي، ج4، ص400.

[39] إبن حزم: ملخص إبطال القياس والرأي والإستحسان والتقليد والتعليل، تحقيق سعيد الأفغاني، مطبعة جامعة دمشق، 1379هــ1960م، ص26. كذلك: الفصول في الأُصول، ج4، ص49. والمعتمد، ج2، ص73. والمستصفى، ج2، ص254. والإحكام للآمدي، ج3، ص228.

[40] مجموع فتاوى ابن تيمية، مكتبة النهضة الحديثة، مكة، 1404هـ، ج28 ، ص369. واعلام الموقعين، ج1، ص199 . والإجتهاد في الشريعة الإسلامية للمرعي، ص53.

[41] ملخص إبطال القياس، ص25 . والمعتمد، ج2، ص735ـ736 . والمستصفى، ج2، ص255.  والإحكام للآمدي، ج4، ص294 . وقد روي عن إبن عباس شبيه بتلك الرواية من أن إمرأة من جهينة جاءت إلى النبي (ص) فقالت إن أُمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال (ص): نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أُمك دين أكنت قاضيته؟ إقضوا الله فالله أحق بالوفاء (اعلام الموقعين، ج1، ص200 . والإجتهاد في الشريعة الإسلامية للمرعي، ص54).

[42] ملخص إبطال القياس، ص25. والفصول في الأُصول، ج4، ص49. واعلام الموقعين، ج1، ص199.

[43] مسند الإمام أحمد، عن مكتبة الايمان الالكترونية www.aleman.com، ج5، فقرة (أحاديث رجال من أصحاب النبي). كذلك: الشوكاني: نيل الاوطار، الموسوعة الشاملة الالكترونية  islamport.com، ج8، ص5. وإجتهاد الرسول، ص122.

[44] إجتهاد الرسول، ص122.

[45] فواتح الرحموت، ج2، ص368.

comments powered by Disqus