-
ع
+

ما الدليل على جواز التقليد لدى الإتجاه السني

 

يحيى محمد 

يمكن القول طبقاً للنصوص الكثيرة الآمرة بالرجوع إلى الكتاب والسنة وذم الرأي والظن، إن الأصل في التقليد، من حيث أنه إتباع آراء الرجال على سبيل الظن، هو عدم الجواز، وذلك ما لم تكن هناك ضرورة وإضطرار؛ للقصور والعجز عن الوصول إلى معرفة الأحكام لدى الذين لم يدركوا عصر النص ولم يتمكنوا من الإجتهاد.

فالتقليد كالإجتهاد كلاهما لا يصحان لولا الإضطرار والضرورة التي فرضها غياب قرائن العلم نتيجة الإبتعاد عن عصر النص وبُعد الزمان وظهور الوقائع الجديدة. والفارق بينهما هو أن التقليد متوقف على الإجتهاد، فلولا هذا الأخير ما كان الأول، والعكس ليس  صحيحاً، اذ أن الأخير ليس متوقفاً على الأول. يضاف إلى أن الإجتهاد متقدم على التقليد، اذ لو كان الفرد متمكناً منه لما جاز عليه أن يتبع قول غيره. فعقلاً إن من غير المنطقي أن يأخذ الفرد برأي غيره وهو يراه خطأً. بينما يُفترض في المقلّد أن لا يكون له رأي خاص من الناحية العلمية، وبالتالي فليس له وظيفة سوى إتباع من هو أهل للإختصاص.

وأقرب ما جاء من النقل على تحريمه ما رواه الترمذي وابن عبد البر عن عدي بن حاتم عن النبي (ص) وهو يكشف عن معنى قوله تعالى: ((إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله))، حيث قال (ص): «إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً إستحلوه وإذا حرموا عليهم شيئاً حرّموه»([1]). وهو المعنى المروي في المصادر الشيعية، كما عن الإمام الصادق (ع)([2]).

لكن الذي يبرر جواز التقليد هو كون أكثر الناس ليس بوسعهم ممارسة الإجتهاد والإختصاص في ميدان الفقه، اذ تحتاج العملية إلى نوع من التفرغ لا يحصل إلا بتقليص النشاط في سائر نواحي الحياة وميادينها. وبالتالي فمن المحال على الناس أن يكونوا كلهم مجتهدين، والا اصبحت الحياة معطلة وعسيرة لا تطاق، لأنها تحتاج إلى ما يشغلها من الممارسات الحياتية الأُخرى كما هو واضح.

ومن المبالغ به ما صوّره دعاة نفي التقليد من أن عملية معرفة الأحكام سهلة يسيرة يمكن أن يزاولها أيّ فرد مسلم. اذ ذُكر أن أُصول الأحكام عبارة عن خمسمائة حديث تقريباً، وتفاصيلها تبلغ حوالي أربعة آلاف حديث، وأن المسلم ليس بمكلف أن يعرف إلا ما يخصه من الأحكام ولا يجب عليه معرفة ما لا تدعوه الحاجة، وبالتالي فليس هناك من تضييع لمصالح الخلق وتعطيل معاشهم([3]). ومثل ذلك ما ذهب إليه الإخباريون في الإتجاه الشيعي من وجوب التعويل على ما هو مدوّن في الكتب الشيعية المعتبرة وعلى رأسها الكتب الأربعة للمحمدين الثلاثة، وهي كتاب (الكافي في الأُصول والفروع) للشيخ الكليني (المتوفى سنة 328هـ)، وكتاب (من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق (المتوفى سنة 381هـ)، وكتابا (التهذيب والإستبصار) للشيخ أبي جعفر الطوسي (المتوفى سنة 460هـ).

والواقع أن وجود التعارض في الأخبار والملابسات التي تكتنفها مع مشاكل السند والمتن؛ كل ذلك يجعل من الصعب على المسلم العادي أن يبلغ مرتبة الإجتهاد والإختصاص، وإن كان بإمكانه أن يزاول طريقة أُخرى لا تمت إلى التقليد بصلة، وهي طريقة النظر.

لقد قدّم علماء الإتجاه السني عدة أدلة على جواز التقليد، وذلك من الكتاب والسيرة  والإجماع والعقل. فمن الكتاب إستدلوا بقوله تعالى: ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))([4])، اذ أُعتبرت الآية عامة في السؤال لكل ما لا يُعلم، أو من حيث أن فائدة السؤال هو إتباع أهل الذكر أو العلماء، وهو المعبّر عنه بالتقليد([5])، مع أن الآية ليست بصدد التقليد ولا الأُمور الفرعية، انما بصدد إثبات النبوة كما يُنبئ عن ذلك صدر الآية: ((وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))([6]). بل حتى لو سلمنا أنها واردة في عموم السؤال فلا دلالة لها على الأخذ بآراء الرجال، إذ كل ما يظهر منها هو طلب العلم بالإستعلام عن حكم الله لا الظن الذي يفضي إليه الرأي والإجتهاد.

ومن الإجماع والسيرة إستدلوا بكون العامة من الناس في زمن الصحابة والتابعين لا يتوقفون عن إستفتاء الفقهاء وإتباعهم في الأحكام الشرعية، وقد كان العلماء يبادرون إلى الإجابة دون نكير، مما يعني أن الإجماع قائم على جواز إتباع العامي للمجتهد مطلقاً([7]).

ويبدو أن هناك لبساً بين التقليد والإتباع، فلا شك أن الإتباع لا خلاف عليه، من حيث أنه أخذ بالرواية او مضمونها الكاشف عن الشرع، وقد يدّعى في شأنه الإجماع. أما التقليد فالأمر يختلف، اذ هو عبارة عن إتباع الرأي الكاشف عن مراد الشرع بالظن، وهذا ما لا دليل على حصول الإجماع في جواز العمل به. اذ كل ما هو معلوم أن الأُمة وقت الصحابة والتابعين كانت تتبع العلماء لمعرفة شؤون دينها؛ فإما أن يكون عملها هذا هو نفس ما يُطلق عليه الإتباع من حيث إنه كاشف عن مضمون الشرع بالعلم والإطمئنان، أو هو عبارة عما يُطلق عليه التقليد من حيث إنه إتباع للرأي المظنون. ومن الناس مَن يتبع العلماء المجتهدين وهو يتصور أن إستنباطاتهم لا تعبر إلا عن العلم واليقين بمراد الشرع، كما يحصل اليوم لدى اغلب العوام من الناس، فما بالك في الزمن القريب عن عصر النص؟!

لهذا فالمتصور أن الناس في ذلك الزمان على أشكال؛ فبعضهم يقتفي أثر الإتباع في أخذ الرواية والحديث، وبعض آخر يكتفي بمضمون الحكم الشرعي من حيث هو حكم الشرع، وبعض ثالث يبادر إلى السؤال عن المصدر ودليل القول بالفتوى، وبعض رابع يتبع العالم المجتهد إعتقاداً بكونه مدركاً للحكم الشرعي على نحو العلم  والقطع. لكن من المستبعد أن نجد في ذلك الوقت أحداً يتبع المجتهد وهو يعتقد أنه يعمل بالرأي الذي يفضي إلى الظن، إلا إذا افترضنا أنه لم يجد من يفتي في مسألته سواه. لهذا فبالرغم من أن زمن إبن حنبل متأخر عن تلك الفترة فانه مع ذلك كان يرجح الأخذ بضعيف الحديث على الأخذ بالرأي. فقد سأله ابنه عبد الله فيما لو لم يجد الرجل إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه وأصحاب رأي، فتنزل به النازلة ماذا يفعل؟ أجابه ابن حنبل: يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث أقوى من الرأي([8]).

على ذلك فما يؤاخذ عليه القائلون بدليل الإجماع في سيرة الصحابة والتابعين هو أنهم لم يميزوا بين الإتباع والتقليد، وكأنهم جعلوا كل ما عنوانه إتباعاً بحسب الإصطلاح يفيد التقليد الذي إتخذوه عنواناً عاماً يشمل المفهومين المتمايزين معاً؛ حتى طبقوه - أحياناً - على إتباع قول النبي.

كذلك إستدل العلماء بدليل الإنسداد العقلي، حيث أن من ليس له أهلية الإجتهاد إما أن لا يكون متعبداً بشيء من الفروع والجزئيات التي عليها مدار الإختلاف، أو أنه متعبد بها، لكن الفرض الأول لا يصح بلا خلاف، وأن من صفته التعبد لا يصح مطالبته بالنظر في أدلة الحكم والإجتهاد؛ باعتبار أن هذا يشغله عن المعاش وبالتالي تتعطل الصنائع والحرف ويتحقق بذلك الحرج والضرر المنفي في قوله تعالى: ((وما جعل عليكم في الدين من حرج))([9])، وبهذا يثبت جواز التقليد([10]).

والواقع أن هذا الدليل يصح من حيث الإضطرار، لكنه لا يصح على إطلاق، طالما هناك طريقة وسطى بين الإجتهاد والتقليد نطلق عليها (النظر). وقد وجدنا بعض الفقهاء المتأخرين من أشار إلى وجود فئة يمكن أن تتوسط بين طبقتي المجتهدين والمقلّدين، كما هو الحال مع الإمام الشوكاني في كتابه (إرشادالفحول)([11])، وإن كانت إشارته عابرة وقاصرة.

 



[1] جامع بيان العلم وفضله، باب فساد التقليد ونفيه والفرق بين التقليد والاتباع. وحجة الله البالغة، ج1، ص155. ورسالة القول المفيد، ص32. وقواعد التحديث، شبكة المشكاة الالكترونية.

[2] الكليني: الأُصول من الكافي، ج1، ص53.

[3] أعلام الموقعين، ج2 ، ص257  .

[4] النحل/ 43.

[5] الإحكام للآمدي، ج4، ص451 . والموافقات، ج4، ص293 .

[6] يُنظر بهذا الصدد: رسالة القول المفيد، ص1.

[7] الإحكام للآمدي، ج4، ص451 .

[8] أعلام الموقعين، ج1، ص76ـ77. والإعتصام، ج3، ص301ـ302.

[9] الحج/ 78.

[10] الإحكام للآمدي، ج4، ص451. والمستصفى، ج2 ، ص389.

[11] إرشاد الفحول، ص268.

comments powered by Disqus