-
ع
+

كيف أُغلق باب الإجتهاد لدى السنة؟

يحيى محمد

إختلف الباحثون في تحديد السبب الذي جعل الفقه ينقلب من كونه مادة للإجتهاد إلى شكل من أشكال التقليد. وهو المعروف بسد باب الإجتهاد كما حدث منذ القرن الرابع الهجري. إذ حُصرت المذاهب الفقهية بالاربعة المعروفة مع عدد قليل غيرها، ونقل القاضي عياض (المتوفى سنة 544هـ) ان الناس اجمعوا على جواز تقليد المذاهب الاربعة والسفيانية والاوزاعية والداودية دون غيرهم. لكن الى زمانه لم يبق من المذاهب المذكورة غير المذاهب الاربعة ومذهب داود)[1](. واستمر العمل بهذه المذاهب حتى نهاية القرن الثامن الهجري، فكما صرح ابن فرحون (المتوفى سنة 799هـ) بقوله: صار الناس اليوم في أقطار الأرض على خمسة مذاهب: مالكية وحنبلية وشافعية وحنفية وداودية، وهؤلاء الاخيرون هم المعروفون بالظاهرية)[2](. ثم بعد ذلك آل الامر الى بقاء المذاهب الاربعة دون غيرها.

ونُقل ان المجتهد المطلق - سواء المستقل أو المنتسب - قد فُقد منذ عهد قريب من عصر الشافعي. ونقل ابن الصلاح عن بعض الأصوليين أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل)[3](. ونصّ على انعدامه بعد عصر الائمة الفخر الرازي ثم الرافعي والنووي؛ معولين على ان الناس «كالمجمعين اليوم على انه لا مجتهد». وقبلهم أشار الغزالي في (الإحياء) الى أن حكم كل أهل العصر عدم بلوغ رتبة الاجتهاد، وانما يفتي الفقيه فيما يُسأل عنه نقلاً عن مذهب إمامه. وعلل سبب ذلك بأن الاجتهاد متوقف على تأسيس قواعد اصولية وحديثية وغيرهما يستنبط منها المجتهد استنباطاته وتفريعاته، وهذا التأسيس هو الذي أعجز الناس عن بلوغ مرتبة الاجتهاد المطلق)[4](. ونقل إبن عابدين الحنفي عن بعض رسائل إبن نجيم قوله: «إن القياس بعد الأربعمائة منقطع»)[5].(

فهذا هو موقف جمهور الفقهاء، وهو أن شروط الاجتهاد المطلق لم تتحقق في شخص من علماء القرن الرابع فما بعده، وان من ادعى منهم لا تسلم له دعواه، ضرورة ان بلوغها لا يثبت بمجرد الدعوى)[6](. حتى قيل ان الطبري صاحب التفسير والتاريخ ادعى لنفسه بلوغ رتبة الاجتهاد المطلق؛ الا ان فقهاء عصره لم يتقبلوا دعواه، فما بالك بغيره ممن هو في العصور البعيدة)[7](. وقد ذكر السيوطي في تعريفه للطبري (المتوفى سنة 310هـ) بأنه أحد الأئمة، اذ جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره. وله كتاب (أحكام شرائع الإسلام) وهو مذهبه الذي اختاره واحتج له، وكان أولاً شافعياً ثم انفرد بمذهب مستقل وأقاويل واختيارات، وله أتباع ومقلدون، وله في الأصول والفروع كتب كثيرة. ويقال إن المكتفي أراد أن يوقف وقفاً تجتمع أقاويل العلماء على صحته ويسلم من الخلاف، فأجمع علماء عصره بأن الطبري هو الوحيد القادر على مثل هذه المهمة، وبالفعل انه أملى كتاباً بهذا الشأن، فأُخرجت له جائزة سنية لكنه أبى أن يقبلها)[8].(

وعليه قام الفقهاء بمنع أهل العصور التالية من الاستنباط من الايات والاحاديث، واوجبوا عليهم الأخذ بأقوال الائمة واتباعهم في كل ما يقولون من الأحكام الفقهية وتفسير الايات القرآنية والاحاديث النبوية، معتبرين انه بدون ذلك يلزم الضلال والالحاد في الدين، لأن كثيراً من الايات والاحاديث يعارضها مثلها من النصوص، ولا اطلاع لغير المجتهدين على ذلك الا بالنقل عنهم، وبعضها منسوخ وبعضها مخصوص ومجمل ومتشابه وغير ذلك. فهذا هو معنى قول الأكثرين بجواز خلو الزمان حتى عن مجتهد المذهب)[9].(

وقد لاقى هذا المنع رواجاً كبيراً في المذهبين الحنفي والشافعي وأقل منهما في المذهب المالكي)[10](. لكن الأقلين رفضوه، كالحنابلة الذين أوجبوا ان لا يخلو عصر من العصور عن المجتهد ليتمكن من استنباط الأحكام، وإن سلّموا بخلو الزمان عن المجتهد المستقل، فبنظرهم ان المجتهد يتبع الدليل، وهم ينتسبون الى ابن حنبل لميلهم لعموم أقواله كما أفاد ذلك ابن الجوزي)[11].(

وقد نصّ السيوطي وغيره على تعذر إمكان إحداث المجتهد المستقل بعد القرون الثلاثة، فذكر بأن «هذا القسم قد فُقد من دهر، بل لو أراده الانسان اليوم لامتنع عليه ولم يجز له، نصّ عليه غير واحد». وقال ابن برهان من الشافعية بأن «اصول المذاهب وقواعد الأدلة منقولة عن السلف فلا يجوز ان يحدث في الأعصار خلافها». وقال ابن المنير من المالكية بأن «أتباع الائمة الان الذين حازوا شروط الاجتهاد مجتهدون ملتزمون ان لا يحدثوا مذهباً، أما كونهم مجتهدين فلأن الاوصاف قائمة بهم، وأما كونهم ملتزمين ان لا يحدثوا مذهباً، فلأن إحداث مذهب زائد بحيث يكون لفروعه اصول وقواعد مباينة لسائر قواعد المتقدمين متعذر الوجود لاستيعاب المتقدمين سائر الاساليب»)[12].(

واوضح السيوطي في رده على جمهور الفقهاء بأن المجتهد المطلق أعم من المجتهد المستقل، واذا كان المستقل قد تعذر وجوده بعد عصر الائمة فان المجتهد المنتسب او غير المستقل باقي أبد الدهر، مستدلاً على ذلك بقول النبي (ص): «يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الامة امر دينها»، مانعاً الاستدلال بأن المراد بمن يجدد أمر الدين هو من يقرر الشرائع والاحكام لا المجتهد المطلق)[13].(

وقريب من الموقف العام لجمهور الفقهاء ذهب إبن خلدون الى ان سبب اغلاق باب الاجتهاد يعود إلى كثرة ما تشعب من الإصطلاحات والمعارف في العلوم مع تباعد الزمن، إذ صار من الصعب الوصول إلى مرتبة الإجتهاد، لذا خشي أن يمتد من هو غير أهل لذلك ممن لا يوثق برأيه ولا دينه، الأمر الذي حدا بالفقهاء الى اظهار عجزهم عن الوصول إلى تلك المرتبة وأوصوا الناس بتقليد أئمة المذاهب)[14](. ومثله ما ذهب اليه حديثاً الشيخ علي الطنطاوي، حيث اعتبر الفقهاء هم الذين أمروا باتباع أحد المذاهب المعروفة وذلك «لما رأوا غلبة العجز على الناس، ولئلا يصير الأمر فوضى، فيدعي كل واحد انه صار ابا حنيفة او الشافعي كما هو الان»)[15].(

لكن الشاه ولي الله دهلوي عزا السبب في ذلك إلى ما ظهر من كثرة الجدل والخلاف بين الفقهاء مع إزدياد جور القضاة، مما جعل إنقطاع ذلك لا يكون إلا بإتباع تصريح رجل من المتقدمين في المسائل المختلف حولها، أو في حالة القضاء كان الناس لا يأمنون إلا بوجود شيء قد قيل من قبل. الأمر الذي جعلهم يطمئنون بالتقليد الذي دبّ في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون)[16].(

ويميل الشيخ محمد جواد مغنية إلى أن السبب الوحيد لسد باب الإجتهاد هو تخوف بعض حكام ذلك الزمان من حرية الرأي والقول على نفسه وعرشه، فاحتال وتذرّع «كي ينكّل بكل حر يأبى التعاون مع دولته على الفسق والفجور»)[17].(

وعلى خلاف هذا الرأي هناك من يقول بأن الفقهاء قد ضاقوا ذرعاً بما كان يطلبه منهم الأُمراء من فتاوى تحلل لهم ما يريدون، فاضطرهم الأمر إلى أن يجتمعوا ويصمموا على إغلاقه ليسدوا الباب في وجه أهواء الأُمراء)[18].(

مع هذا قد يتساءل المرء عن علة حصر المذاهب بالاربعة المعروفة دون غيرها على كثرتها؟

فبحسب تعليل المتأخرين انه يرجع الى كونها قد دُونت وانتشرت بخلاف غيرها. لهذا رأى الشيخ تقي الدين بن الصلاح - كما ينقل القرافي - ان التقليد يتعين بالائمة الاربعة دون غيرهم باعتبار ان مذاهبهم قد انتشرت وانبسطت دون غيرها، وهو ما يبرر البقاء عليها لكمالها من هذه الجهة)[19].(

بل ادعى البعض الاجماع على ذلك كما هو قول ابن الهمام)[20](. ومثل ذلك ما ذكره الراعي وهو يتساءل عن علة وجوب اتباع الائمة الاربعة دون غيرهم فقال: «سمعت شيخنا وسيدنا قاضي القضاة بغرناطه ابا القاسم محمد بن سراج أعزه الله يقول: انما ذلك لكثرة أتباعهم عرفت مذاهبهم وتحققت، وتواترت أقوالهم عند ارباب مذاههم، وانعقد الاجماع على اتباعهم والاقتداء بهم فلا يجوز لأحد اليوم ان يخرج عن المذاهب الاربعة»)[21].(

لكن من وجهة نظر تاريخية سياسية نرى ياقوت الحموي يعتقد بأن القادر العباسي المتخلف (سنة 381هـ) أمر أربعة من علماء الإسلام أن يصنف كل واحد منهم مختصراً على مذهبه، فصنف الماوردي الشافعي (الإقناع)، وصنف أبو الحسين القدوري مختصراً على مذهب أبي حنيفة، كما صنف أبو محمد عبد الوهاب بن محمد بن نصر المالكي مختصراً على مذهب مالك، إلا أنه لم يعرف من صنف على مذهب أحمد بن حنبل. ولما عُرضت هذه المصنفات على القادر قَبِلها وأمضى العمل عليها)[22].(

وعند الشيخ (أبو زهرة) أن العلة في ذلك تتشعب إلى عدة دواعي: منها ما يعود إلى التعصب المذهبي، كذلك بسبب تدوين المذاهب ووفرة الثروة الفقهية الجاهزة، حيث به أصبح تناول الأحكام سهلاً، وأيضاً بسبب ولاية القضاء، إذ كان تقليد القاضي بمذهب يرتضيه الخليفة سبباً في اكتفاء الناس به وإقبالهم عليه)[23].(

وأخيراً فإن هناك من رأى أن السبب في السد وحصر المذاهب هو لكثرة تشتت المذاهب في الفروع وإختلاف الآراء، الأمر الذي جعل الدولة تلجأ إلى تقليلها في مذاهب محصورة، وذلك من خلال دفع قيمة مالية باهضة على كل مذهب يريد لنفسه الإعتراف به رسمياً. فقد جاء في كتاب (رياض العلماء) للإصفهاني نقلاً عن كتاب (تهذيب الأنساب ونهاية الأعقاب) لبعض المؤلفين من بني أعمام الشريف المرتضى ما ملخصه: أنه إشتهر على ألسنة علماء الشيعة الرأي القائل بأنه لما رأى أهل السنة - في زمن الخلفاء - تشتت المذاهب في الفروع وإختلاف الآراء، بحيث لا يمكن ضبطها، اذ كان لكل واحد من الصحابة والتابعين ومن تبعهم مذهب برأسه في المسائل الشرعية والأحكام الدينية، لذا لجأوا إلى تقليلها وجعلها محصورة في عدد من المذاهب. كذلك انه لما اضطرب الحال لدى أهل السنة فيما بعد، لجأ رؤساؤهم وإتفقت كلماتهم وعقيدة عقلائهم على فرض مبلغ كبير من المال على أصحاب كل مذهب، والتمسوا آلاف الدراهم والدنانير من أرباب الآراء في ذلك المقال. فالحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية لوفور عدّتهم جاؤوا بما طلبوه، فقرروهم على عقائدهم. وكلفوا الشيعة المعروفة في ذلك العصر بالجعفرية لتقديم ذلك المال، ولما لم يكن لهم كثرة مال توانوا في الإعطاء ولم يمكنهم ذلك. وكان ذلك في عصر السيد المرتضى الذي كان رأسهم ورئيسهم، وقد بذل جهده في تحصيل المال وجمعه من الشيعة فلم يتيسر له، حتى أنه كلفهم بأن يأتوا بنصف ما طلبوه ويعطي النصف الآخر من خاصة ماله، فما أمكن للشيعة هذا العطاء، فلذلك لم يدخلوا مذهب الشيعة ضمن تلك المذاهب، وأجمعوا على صحة خصوص المذاهب الأربعة وبطلان غيرها)[24](. وقد نقل الخوانساري ذلك وعلّق عليه بقوله: «يؤيد هذا التفصيل ما ذكره صاحب (حدائق المقربين) بأن السيد المرتضى (ره) واطأ الخليفة - وكأنه القادر بالله - على أن يأخذ من الشيعة مائة ألف دينار ليجعل مذهبهم في عداد تلك المذاهب وترفع التقية والمؤاخذة على الإنتساب إليهم، فتقبّل الخليفة، ثم أنه بذل لذلك من عين ماله ثمانين ألفاً، وطلب من الشيعة بقية المال فلم يفوا به»)[25].(

مهما يكن فعلى الرغم من أن التقليد ساد قروناً طويلة إلى يومنا هذا بسبب إغلاق باب الإجتهاد، إلا أن هناك العديد من الفقهاء الكبار لم يستجيبوا إلى حكم ذلك الإغلاق، فدعوا إلى الإجتهاد لكل من يقدر عليه، وإن بحدود ما أُطلق عليه المنتسب، وكان منهم إبن تيمية وتلميذه إبن القيم الجوزية، وإبن حجر العسقلاني وتلميذه جلال الدين السيوطي، فضلاً عن بعض الحركات الحديثة التي سادت في العالم الإسلامي كحركة الوهابية في الحجاز والحركة السنوسية في ليبيا والمهدية في السودان، مضافاً إلى بعض المصلحين كالشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا وشيخ الأزهر المراغي وغيرهم.

 



[1] الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأرناؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، الطبعة التاسعة، 1413هـ، عن شبكة المشكاة الالكترونية، ج8، فقرة 92.

[2] الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، ج1، ضمن باب في ترجيح مذهب مالك.

[3] مقدمة الجامع الصغير، ضمن الفصل الاول.

[4] المليباري: هداية الموفقين الى الصراط المستقيم، مكتبة ايشيق، استانبول، 1399هـ ـ1979م، ص44.

[5] ابن عابدين، محمد أمين: البحر الرائق شرح كنز الدقائق، كتاب الصلاة، باب الامامة، الشبكة الاسلامية www.islamweb.net . كذلك: وافي، علي عبد الواحد: حقوق الإنسان في الإسلام، دار نهضة مصر، الطبعة الرابعة، 1387هـ ـ1967م، ص228.

[6] تهذيب الفروق، ج2، ص121.

[7] تهذيب الفروق، ج2، ص117. ومقدمة الجامع الصغير، الفصل الاول.

[8] جلال الدين السيوطي: طبقات المفسرين، دار الكتب العلمية، بيروت، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص82ـ83.

[9] تهذيب الفروق، ج2، ص122ـ123.

[10] تاريخ المذاهب الاسلامية، ص303.

[11] انتصار الفقير السالك، مقدمة المحقق، ص96 .

[12] تهذيب الفروق، ج2، ص120 .

[13] تهذيب الفروق، ج2، ص121.

[14] ابن خلدون: المقدمة، طبعة مؤسسة الأعلمي في لبنان، ص448 .

[15] الغزالي، محمد: مشكلات في طريق الحياة الاسلامية، سلسلة كتاب الأمة، مطابع الدوحة الحديثة، 1402هـ، ص145 .

[16] حجة الله البالغة، ج1، ص153.

[17] مغنية: الفقه على المذاهب الخمسة، دار الجواد ببيروت، الطبعة السابعة، 1982م، ص9ـ8.

[18] يعود هذا الرأي إلى الدكتور عبد العزيز كامل، نقله عنه الدكتور يحيى الجمل، ندوة التراث وتحديات العصر في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، الطبعة الثانية، 1987م، ص651ـ652.

[19] الحطاب: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1398هـ ـ1978م، ص30.   

[20] هداية الموفقين، ص66 .

[21] انتصار الفقير السالك، ص126.

[22] ياقوت الحموي: معجم الادباء، شبكة المشكاة الالكترونية، الجزء الخامس عشر، فقرة الماوردي البصري (لم تذكر ارقام صفحاته). ومقدمة المقرم لكتاب الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص م ـ ن.

[23] تاريخ المذاهب الاسلامية، ص302ـ303 . والفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، ج1، ص188ـ190.

[24] الإصفهاني، الميرزا عبد الله الأفندي: رياض العلماء وحياض الفضلاء، تحقيق أحمد الحسيني، مطبعة الخيام في قم، 1401هـ، ج4، ص33ـ34.

[25] الخوانساري: روضات الجنات، ج4، ص306ـ308.

comments powered by Disqus