-
ع
+

علماء السلف وشورى الإجتهاد

 

يحيى محمد 

لقد ظهر من علماء السلف من كان يدعو إلى الإجتهاد القائم على الشورى او يعمل به، وهو المنقول عن الفقهاء السبعة من التابعين، وهم: سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وسالم بن عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وخارجة بن زيد بن ثابت. اذ قال ابن المبارك بأنه اذا جاءت هؤلاء الفقهاء مسألة دخلوا فيها جميعاً فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم فينظرون فيها([1]).

كما عُرف عن أبي حنيفة انه ابرز من تميّز من الفقهاء بقوة اعتماده على الشورى في تحديد مواقفه الاجتهادية، فكان يعرض آراءه على اصحابه وتلامذته قبل تحديد موقف نهائي لها. فقد جاء في (المناقب) للموفق المكي ان أبا حنيفة وضع مذهبه الفقهي شورى بين أصحابه «لم يستبد فيه بنفسه دونهم، اجتهاداً منه في الدين ومبالغة في النصيحة لله ورسوله والمؤمنين. فكان يلقي المسائل مسألة مسألة، ويسمع ما عندهم ويقول ما عنده، ويناظرهم شهراً، أو أكثر، حتى يستقر أحد الأقوال فيها، ثم يثبتها أبو يوسف في الأصول، حتى أثبت الأصول كلها»([2]). وقد يصل حد مناظرة هذا الامام لأصحابه مدة شهر أو اكثر، حتى يستقر آخر الاقوال فيعمل ابو يوسف على تثبيته. فكان تثبيته هذا هو نتاج شورى دون ان ينفرد استاذه في صنعه مثلما هو الحال مع غيره من الأئمة. لذلك كان يقول لاصحابه: «اذا توجه لكم دليل فقولوا به»، وهو أمر يدل على سعة صدره وانه لا يريد فرض آرائه على اصحابه.

وقد كشف الشيخ محمد زاهد الكوثري عن هذه السمة التي امتاز بها مذهب أبي حنيفة عن غيره من المذاهب الفقهية الاخرى، فاعتبر ان من أجلى مميزاته هو «انه مذهب شورى، تلقته جماعة عن جماعة الى الصحابة رضي الله عنهم، بخلاف سائر المذاهب، فانها مجموعة آراء لأئمتها». وكان ابو حنيفة «ينهى اصحابه عن تدوين المسائل اذا تعجل احدهم بكتابتها قبل تمحيصها كما يجب.. ومن هذا يظهر أن أبا حنيفة لم يكن يحمل أصحابه على قبول ما يلقيه عليهم، بل كان يحملهم على إبداء ما عندهم، إلى أن يتضح عندهم الأمر، كوضح الصبح، فيقبلون ما وضح دليله، وينبذون ما سقطت حجته، وكان يقول ما معناه: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا، حتى يعلم من أين قلنا، وهذا هو سر ظهور مذهبه في الخافقين، ظهوراً لم يعهد له مثيل، وهو السبب الأصلي لبراعة المتفقهين عليه، وكثرتهم، إذ طريقته تلك هي الطريقة المثلى في التدريب على الفقه، وتنشئة الناشئين.. والحاصل: أن من خصائص هذا المذهب كون تدوين المسائل فيه على الشورى والمناظرات المديدة وتلقي الأحكام فيه من جماعة عن جماعة»([3]). وهذا ما يفسّر ما حدث من مخالفة أصحابه له في الكثير من المسائل، حتى كان لبعضهم من المخالفة معه ما يقارب الثلث في المذهب.

مع ذلك فقد امتاز مذهب ابي حنيفة بفضل ما اعتمده من طابع الشورى بالدقة وقوة الاتقان. لهذا حينما قال رجل ان ابا حنيفة يخطىء، أجابه وكيع: كيف يخطئ ومعه مثل ابي يوسف وزفر في قياسهما، ومثل يحيى بن  ابي زائدة، وحفص بن غياث، وحبان ومندل في حفظهم للحديث، والقاسم بن معن في معرفته بالفقه والعربية، وداود الطائي وفضيل بن عياض في زهدهما وورعهما. من كان هؤلاء جلساؤه لم يكد يخطىء، لأنه إن أخطأ ردوه الى الحق([4]).

هذا عن أبي حنيفة في ممارساته العملية طبقاً لشورى الاجتهاد. أما عن غيره ممن أشار الى أهمية الشورى؛ نجد في الطليعة سفيان بن عيينة في قوله المميز: «إجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم لا أن يقول هو برأيه»([5]). كما جاء عن ابي حصين الاسدي قوله: ان احدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر. ونحو ذلك عن الحسن والشعبي([6]).

وقال ابو الأصبغ عيسى بن سهل: «كثيراً ما سمعت شيخنا أبا عبد الله بن عتّاب (رض) يقول: الفُتيا صنعة، وقد قاله قبله ابو صالح ايوب بن سليمان بن صالح، قال: الفتيا دربة، وحضور الشورى في مجالس الحكام منفعة وتجربة. وقد ابتليت بالفُتيا فما دريت ما اقول في اول مجلس شاورني فيه سليمان بن اسود، وانا احفظ (المدونة) و(المستخرجة) الحفظ المتقن.. والتجربة اصل في كل فن ومعنى مفتقر اليه».

وفي القيروان كانت النصيحة مذاكرة العلماء للتدرب على الفتيا. فقد سُئل ابو الحسن القابسي القيرواني عمن يحفظ (المدونة) هل يسوغ له الفتيا؟ فأجاب: إن ذاكر الشيوخ فيها وتفقه جاز، وإن لم يذاكر فيها فلا يفعل([7]).

وعن مجالس شورى الإجتهاد التي أُقيمت في الماضي فلعل أول من بدأ ذلك هو الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، حيث دعى عشرة من فقهاء المدينة وجعلهم مستشارين لديه، وقال لهم: «إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه ونكون فيه أعواناً على الحق، ما أُريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم»([8]). كذلك ما فعله بعض ملوك بني أُمية في الأندلس، حيث تكونت بعض الجمعيات من العلماء لأجل الإستشارة في التشريع، وكثيراً ما يُذكر في تراجم بعض العلماء أنه كان مشاوراً، كما كثيراً ما كان يؤخذ برأي مخالف لمذهب مالك السائد في تلك البلاد، وكان يصل عدد أعضاء المجلس في بعض الأوقات إلى ستة عشر عضواً([9]).

 



[1] سير أعلام النبلاء، ج4، ص461. والمزي، يوسف بن الزكي : تهذيب الكمال، تحقيق بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1400هـ ـ 1980م، عن مكتبة الايمان الالكترونية، ج10 ، ص150ـ151. وقرارات مجلس المجمع الفقهي الاسلامي، نشر رابطة العالم الاسلامي، مكة المكرمة، 1405هـ ـ1985م، ص159.

[2] الكوثري، محمد زاهد: فقه أهل العراق وحديثهم، عن: شبكة الرازي razi.net www.al-، فقرة: أمثله لا يصدق في نسبه ؟! (لم تذكر ارقام صفحاته). كذلك: ابو حنيفة، ص191.

[3] فقه أهل العراق وحديثهم، فقرة (طريقة أبي حنيفة في التفقيه).

[4] البغدادي: تاريخ بغداد، دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولى، 1417هـ ـ1997م، عن مكتبة يعسوب الالكترونية، ج14، ص250. وعبد اللطيف، محمد محروس: مشايخ بلخ من الحنفية، الدار العربية للطباعة، بغداد، ج1، ص196ـ197.

[5] أعلام الموقعين، ج1، ص73.

[6] صفة الفتوى، ص7.

[7] فتاوى الامام الشاطبي، حققها وقدم لها محمد ابو الاجفان، مطبعة الكواكب، تونس، الطبعة الثانية، 1406هـ ـ1985م، ص76ـ77.

[8] سير أعلام النبلاء، ج5. والبري، زكريا: الإجتهاد في الشريعة الإسلامية، ضمن كتاب الإجتهاد في الشريعة الإسلامية وبحوث أُخرى، (القسم الرابع)، ص256.

[9] خلاف، عبد الوهاب: مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، دار القلم في الكويت، الطبعة الثانية، 1970م، حاشية ص167. كذلك: الإجتهاد في الشريعة الإسلامية للبري، ص256.

comments powered by Disqus