-
ع
+

طبقات المجتهدين والإختلاف حولها

يحيى محمد 

لقد تناول المتأخرون من الفقهاء السنة البحث في طبقات المجتهدين إعتماداً على تحديد أنواع الإجتهاد ومراتبه، وإختلفوا في ذلك. فقد ذكر  الشيخ عبد الحي اللكنوي الحنفي أن للأحناف من أتباع أبي حنيفة خمس طبقات، كما لخّص ما جاء عن إبن كمال باشا الرومي (المتوفى سنة ٩٤٠هـ)، وذلك على شاكلة ما فعله إبن عابدين الحنفي، اذ كان الرومي يقسم الفقهاء إلى سبع طبقات، وهي بحسب تلخيص اللكنوي كالتالي:

  1ـ طبقة المجتهدين في الشرع، وهم الذين يستقلون في إجتهادهم في الشرع مطلقاً، حيث يستنبطون الأحكام من الكتاب والسنة دون إتباع لأحد، سواء في الأُصول التي يتوقف عليها أمر الإجتهاد أم في الفروع. وقد عدّ إبن عابدين من هؤلاء: الأئمة الأربعة والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم.

 2ـ طبقة المجتهدين في المذهب، وهم القادرون على إستنباط الأحكام طبقاً للإعتماد على القواعد والأُصول المقررة لدى المجتهد المستقل في الطبقة الأُولى، وإن خالفوه في الجزئيات والفروع. لذلك سُميت هذه الطبقة بطبقة المنتسبين تمييزاً لها عن طبقة المستقلين الأُولى. وقد عدّ إبن عابدين من بين رجالات هذه الطبقة كلاً من أصحاب وتلامذة أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد بن حسن وزفر وغيرهم. كما عدّ البعض رجالاً آخرين ينتسبون إلى هذه الطبقة، ففي المذهب المالكي هناك إبن قاسم  وأشهب، وفي المذهب الشافعي هناك الزعفراني والسيوطي والمزني والبويطي، وفي المذهب الحنبلي هناك صالح بن أحمد بن حنبل وأبو بكر الخلال. فجميع هؤلاء عُدّوا تابعين ومنتسبين لأئمة المذاهب في القواعد والأُصول العامة التي يحتاجها الفقيه في عملية الإستنباط.

 3ـ طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن المجتهد المستقل أو أتباعه من المجتهدين المنتسبين. فهم تابعون لغيرهم في كل من الأُصول والفروع. لذلك إنهم يستنبطون أحكاماً غير منصوص فيها، ولا يجتهدون في الأحكام التي نصّ عليها المجتهد المستقل أو المنتسب إلا ضمن إعتبارات معينة لا تدل على المخالفة. وقد حَسِبَ البعض عمل هؤلاء مؤلفاً من عنصرين؛ أحدهما عبارة عن إستخلاص القواعد العامة التي يلتزمها غيره من السابقين بإعتبارها الأصل الذي كانوا يستندون إليه في عملية الإستنباط. أما الآخر فهو إستنباط الأحكام غير المنصوص فيها إعتماداً على القواعد والأُصول التي أقامها المجتهد المستقل. وفي هذه الطبقة أُعتبر من الحنفية كل من الحصاف والطحاوي وأبي الحسن الكرخي والسرخسي والبزدوي، ومن المالكية كل من الأبهري وإبن أبي زيد وإبن أبي زمين، ومن الشافعية كل من المرزي وإبن حامد والإسفراييني وأبي اسحاق الشيرازي، ومن الحنابلة الخرقي.

 4 ـ طبقة أصحاب التخريج من المقلدين، كالرازي وأضرابه، فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلاً، لكنهم لإحاطتهم بالأصول وضبطهم للمأخذ يقدرون على تفصيل قول مجمل ذي وجهين وحكم محتمل لأمرين منقول عن صاحب المذهب أو عن واحد من أصحابه المجتهدين برأيهم ونظرهم في الأصول والمقايسة على أمثاله ونظائره من الفروع . ويرى البعض ان هؤلاء يعملون على الترجيح بين الآراء والأقوال المروية لهم ممن سبقهم من أهل الطبقات الآنفة الذكر، فلهم أن يرجحوا بعض الأدلة على بعض لقوة الدليل أو لملاءمته لظروف العصر. ويطلق عليهم أيضاً بمجتهدي الفتوى، حيث انهم يقومون بتقرير الأدلة فيصورون ويحررون ويقررون ويمهدون ويزيفون ويرجحون، لكن ليس بوسعهم الاستنباط ومعرفة الاصول. وقد عدّ بعض المعاصرين من بين رجال هذه الطبقة من الحنفية كل من أبي بكر الرازي والقدوري والكاساني والمرعيناني، ومن المالكية المازري والقاضي عياض والقرافي وابن رشد وابن العربي، ومن الشافعية كل من الرافعي والنووي وابن حجر وإبن أبي عمرون، ومن الحنابلة كل من إبن قدامة المقدسي وأبي يعلى وأبي الخطاب والقاضي علاء الدين.

 5 ـ طبقة أصحاب الترجيح من المقلدين، كأبي الحسين القدوري وصاحب (الهداية) وأمثالهما. وصفتهم انهم يفضلون بعض الروايات على بعض آخر، ويوازنون بين الأقوال بقولهم: هذا أولى، وهذا أصح رواية، وهذا أوضح، وهذا أوفق للقياس، وهذا أرفق للناس.

 6 ـ طبقة المقلدين الذين يكونون على علم بما رجّحه السابقون من الأقوال والمرويات، وإن كان ليس بوسعهم الترجيح. لهذا فهم قادرون فقط على التمييز بين الأقوى والقوي والضعيف وظاهر الرواية وظاهر المذهب والرواية النادرة. ومن هذه الطبقة أصحاب المتون المعتبرة كالنسفي صاحب (الكنز)، وعبد الله بن مودود الموصلي صاحب (المختار) وشرحه (الإختيار)، ومثلهما صاحب (الوقاية) وصاحب (المجمع).

 7 ـ طبقة المقلدين الذين ليس بوسعهم أيّ عمل مما يقوم به أصحاب الطبقات الأُخرى، فهم ليسوا أكثر من نقلة؛ لا يفرقون بين الغث والسمين ولا يميزون الشمال عن اليمين بل يجمعون ما يجدون كحاطب الليل([1]) .

ومما يُذكر، إنه بعد عملية الإجتهاد المطلق لدى الأئمة، ظهرت مرحلة تشعب الآراء الفقهية داخل كل مذهب بسبب إتساع دائرته من جهة، وإختلاف آراء المخرجين فيه لأحكام الحوادث من جهة أُخرى، مضافاً إلى إختلاف الروايات في كثير من الموضوعات عن إمام المذهب نفسه، إذ قد يكون له في الموضوع الواحد عدة آراء منقولة مختلفة. وهذا ما أدى إلى استمرار حركة الترجيح والتصحيح لبعض الآراء والروايات، والتضعيف للبعض الآخر([2]).

وبخصوص تحديد الطبقات يلاحظ أن بعضها يتداخل مع البعض الآخر. فالطبقة الخامسة لا تتميز بوضوح عن الطبقة الرابعة، كما هي ملاحظة الشيخ أبي زهرة. لكن ذكر الشيخ مدكور بأن إبن عابدين أشار إلى أن ايضاح تقسيم هذه الطبقات جاء على يد إبن كمال باشا وقام هو بتلخيصها. وليس في هذا التلخيص المنقول عن إبن عابدين ذلك التداخل. إذ ورد أن الطبقة الرابعة هي طبقة أصحاب التخريج من المقلدين، حيث كل ما بوسعهم هو أنهم لإحاطتهم بالأُصول وضبطهم للمآخذ يقدرون على تفصيل قول مجمل ذي وجهين وحكم مبهم محتمل لأمرين منقول عن صاحب المذهب أو أحد من أصحابه. أما أصحاب الطبقة الخامسة فهم المرجحون من المقلدين، فهم يفضلون بعض الروايات على بعض، ويقولون: هذا أولى، وهذا أصح رواية، وهذا أرفق للناس([3]).

من جهة أُخرى، ورد إختلاف حول مواضع الفقهاء في تلك الطبقات السبع. فقد سبق لإبن عابدين وغيره أن عدّ أئمة المذاهب الأربعة ضمن طبقة المستقلين الأُولى، بينما إعتبر الشاه ولي الله دهلوي أن أبا حنيفة ليس من تلك الطبقة بإعتباره ممن تلقى دراسته على فقه إبراهيم النخعي وكان شديد الموافقة معه لا يجاوزه إلا في مواضع يسيرة، بل حتى في هذه المواضع لا يخرج عما ذهب إليه فقهاء الكوفة([4]). في حين نقد ذلك أبو زهرة معتبراً أن أبا حنيفة إمام مستقل، فهو يوافق إبراهيم أحياناً ويخالفه أحياناً أُخرى، وما وافقه إنما كان على بيّنة ودليل لا مجرد تقليد وإتّباع([5]). كذلك عدّ إبن عابدين أصحاب أبي حنيفة وتلامذته ينتمون إلى طبقة المنتسبين الثانية، بينما هم على رأي أبي زهرة ينتمون إلى طبقة المستقلين الأُولى؛ بحجة أنهم كانوا مستقلين في تفكيرهم الفقهي حتى مع موافقتهم لأساتذتهم في الكثير من الآراء، مادام أنهم يبنون ما يأخذونه عن إقتناع وإستدلال وتصديق للدليل([6]). وكذا نُقل ان كلاً من الحنفية والشافعية اختلفوا في جعل شخصيات من أمثال أبي يوسف ومحمد بن الحسن والمزني وابن السريج؛ إن كانوا من المستقلين ام المنتسبين([7]).

وربما كان سبب الإختلاف والتردد في تعيين شخصيات الطبقة الأُولى والثانية؛ يعود إلى الملابسة الخاصة بتحديد صفات الطبقتين. فإذا كانت صفة الطبقة الأُولى هي وضع الأُصول العامة وإبتكار الدليل عليها؛ فإن من يستند إلى هذا الدليل، ولو عن إقتناع لا إتباع وتقليد، لا يكون بمستوى مَنْ صفته الإبتكار، لذا يصح ان يوضع ضمن الطبقة الثانية لا الاولى. أما لو تم الاتفاق على أن من يستند إلى الدليل بالاقتناع والبينة، هو كمَن قام بابتكار الدليل، بنحو ما من التسامح، فسيستحق - في هذه الحالة - أن يُدرج ضمن الطبقة الأُولى، رغم أنه أقل رتبة من ذلك المتصف بالابتكار.

وعليه فربما كان الخلاف السابق بين الشيخ أبي زهرة والشاه دهلوي مستنداً إلى ما ذكرنا، إذ عرفنا أن أبا زهرة رأى أن من بين المنتمين الى طبقة المجتهدين المستقلين؛ كل فقيه مقتنع بما أورده غيره من الدليل في الأُصول وكان مجتهداً في الفروع. في حين ذهب الشاه دهلوي الى تحديد طبيعة كلٍّ من المجتهديْن المستقل والمنتسب بشكل مختلف، اذ استظهر من كلام الفقهاء السابقين عليه أن المجتهد المستقل يمتاز على غيره بثلاث خصال، إحداها التصرف في الأُصول المنبني عليها إجتهاداته، والثانية تتبع الآيات والأحاديث والآثار لمعرفة الأحكام الشرعية، أما الثالثة فهي الكلام في المسائل التي لم يسبق أن أجاب عليها السابقون أخذاً من تلك الأدلة. أما المنتسب فإنه يأخذ من أُصول شيخه ويستعين بكثير من كلامه في تتبع الأدلة والتنبيه على مآخذها، لكنه مستيقن بالأحكام من جهة أدلتها وقادر على إستنباط المسائل منها([8]).

وهو بذلك لا يعتبر من يستند الى الغير في إيراد الأدلة والإستعانة بالأُصول كثيراً ـ ولو عن بصيرة وبينة من الإقتناع ـ منتمياً إلى زمرة الطبقة الأُولى.

كما هناك إختلاف حول تصنيف بعض آخر من الفقهاء، كالذي جرى مع الحسن بن زياد، حيث وضعه البعض في طبقة المنتسبين الثانية([9])، بينما ادرجه بعض آخر ضمن الطبقة الثالثة([10]).

كذلك هناك من إختلف وداخل في تصنيف جملة من الفقهاء؛ بوضعهم تارة في الطبقة الثالثة، وأُخرى في الرابعة بحجة التقارب بينهما، باعتبار أن الترجيح بين الآراء على مقتضى الأُصول كما هو وظيفة الطبقة الرابعة لا يقل وزناً عن إستنباط أحكام الفروع التي لا نص فيها من قبل المجتهدين المستقلين أو المنتسبين([11]). وعليه تجد البعض يضع أمثال قاضيخان وإبن رشد والغزالي في الطبقة الرابعة، بينما يدرجهم البعض الآخر ضمن الطبقة الثالثة([12]). ومثل ذلك الاختلاف حول وضع أبي الحسين القدوري، فالبعض يراه ضمن الطبقة الخامسة، في حين يراه بعض اخر ضمن الطبقة الرابعة، كالذي فعله الشيخ اللنكوي.

يضاف إلى ذلك فإن البعض يرى أن من يتسم بصفة الإجتهاد حقاً هم أصحاب الطبقة الأُولى والثانية فقط، أما غيرهم فهم مقلدون باعتبارهم يعتمدون على أقوال أئمتهم، ويطلق عليهم لفظة (مجتهدون) تسامحاً([13]).

بينما يرى بعض آخر أن الإجتهاد على صنفين؛ أحدهما مطلق ويشمل المستقل والمنتسب، والآخر مقيد، وفي الاول يفترق المنتسب عن المستقل بكونه لم يبتكر لنفسه قواعد اصولية، بل سلك طريقة المجتهد المستقل، وهو ليس مقلداً له؛ لا في المذهب ولا في دليله، وانما انتسب اليه لِما رأى فيه انه أسدّ الطرق، حتى قال البعض بأننا اتبعنا الشافعي دون غيره؛ لأنا وجدنا قوله أرجح الاقوال وأعدلها، لا أنا قلدناه([14]). أما المجتهد المقيد فيعبّر عنه بالمجتهد في المذهب. فهو من جهة مقلد لإمامه فيما ظهر له من المنصوص، أما فيما لم ينص عليه فإنه يجتهد فيه نظراً لما يعرفه من قواعد إمامه، لذلك فهو مجتهد على مذهب هذا الإمام([15]).

أخيراً يمكن اعتبار التصنيف الآنف الذكر نافعاً على الصعيد المنهجي وإن لم يفد إفادة واقعية تامة. إذ قد يكون الفقيه في جوانب مستقلاً في إجتهاده على نحو الإبتكار، بينما يكون في جوانب أُخرى تابعاً على نحو الإقتناع بالدليل الذي يقدمه الغير. وربما يحمل أكثر من ذلك فيكون في بعض النواحي مرجحاً للآراء المروية، وفي أخرى مستنبطاً فيما لم ينص عليه، وهكذا... وهذا ما يفسر الاختلاف الذي رأيناه حول تحديد عدد طبقات الفقهاء والمجتهدين، اذ ليس لهذه الطبقات وجود تام ومتمايز في الواقع، انما يمكن حملها على الصعيد المنهجي باتساق كما هو واضح.

 



[1] انظر: عبد الحي اللكنوي: مقدمة الجامع الصغير، الفصل الاول، شبكة المشكاة الالكترونية (لم تذكر ارقام صفحاته). كما انظر المصادر التالية: أبو زهرة: أُصول الفقه، دار الفكر العربي في القاهرة، ص313ـ317. كذلك: أبو زهرة: أبو حنيفة، حياته وعصره، آراؤه وفقهه، دار الفكر العربي، 1977م، ص444 وما بعدها. الزحيلي، وهبه: الإجتهاد في الشريعة الإسلامية، ضمن كتاب الاجتهاد في الشريعة الإسلامية وبحوث أُخرى (القسم الثاني)، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في المملكة السعودية، ص192ـ193. مدكور، محمد سلام: مناهج الإجتهاد في الإسلام، نشر جامعة الكويت، 1977م، ص421.

[2] الزرقاء، مصطفى: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، دار الفكر، الطبعة السابعة، ج1، ص195.

[3] مناهج الإجتهاد في الإسلام، ص420.

[4] حجة الله البالغة، ج1، ص146.

[5] أبو زهرة: أُصول الفقه، ص310.

[6] أبو حنيفة، ص444ـ445. وتاريخ المذاهب الاسلامية، ص331.

[7] صفة الفتوى، ص17ـ18.

[8] دهلوي: رسالة عقد الجيد في أحكام الإجتهاد والتقليد، طبعة حجرية (لم يذكر عنها  شيء)، ص3.

[9] مناهج الإجتهاد في الإسلام، ص420.

[10] الإجتهاد في الشريعة الإسلامية للزحيلي، ص193 .

[11] أبو حنيفة، ص447.

[12] انظر إختلاف تصنيف هؤلاء في كل من: أبو حنيفة، ص644. ومناهج الإجتهاد في الإسلام، ص420. والإجتهاد في الشريعة الإسلامية للزحيلي، ص193.

[13] الإجتهاد في الشريعة الإسلامية للزحيلي، ص193.

[14] تهذيب الفروق، ج2، ص120ـ121.

[15] رسالة عقد الجيد في أحكام الإجتهاد والتقليد، ص3.

comments powered by Disqus