-
ع
+

مصاديق لأثر الواقع على التشريع

 يحيى محمد

 

سنتعرف في هذا البحث على الدور الذي تلعبه كل من المقاصد والواقع في تغيير الرؤى والأحكام، خلافاً للنهج الماهوي المتبع لدى الطريقة التقليدية التي لم تأخذ الدلالة الواقعية في الفهم والاستنباط بعين الاعتبار، بل لم يكن يعنيها - عادة - غير التركيز على مناطات الأحكام وملاكاتها تبعاً للأشكال الحرفية الظاهرة في النص، مما جعل أفكارها تتضارب أحياناً مع مطالب الخطاب الشرعي ومقاصده. لذا كان من الواجب أن نبرز نماذج عدة لنكشف من خلالها عن أثر كل من المقاصد والواقع في تحديد الأحكام وتبيان الفارق بين هذه الطريقة وطريقة النهج السابق.

المقاصد ودلالات الحكم الشرعي  

لا يخلو أي حكم من أحكام الشريعة من أن تتحكم به بعض الدلالات المعرفية تحديداً وتغييراً. وهي على أربعة أنواع:

1ـ الدلالة الحرفية للنص.

2ـ دلالة المقاصد، سواء كانت خاصة أو عامة، وكذا إن كانت وسيلة أو غاية أو شرطية ضرورية.

3 ـ دلالة العقل أو الوجدان.

4 ـ دلالة الواقع، سواء كان الواقع عاماً، أو خاصاً بالتنزيل، أي الواقع الذي تم فيه انزال النص والأحكام الشرعية.

ورغم تعدد هذه الدلالات الكاشفة عن طبيعة الحكم الشرعي، يلاحظ ان بعضها يكشف عن البعض الاخر. أي ان بامكانها ان تلعب ادواراً مختلفة من الكشف المتبادل. ففي موارد كثيرة تسبق الدلالة الحرفية فهم الواقع في الكشف عن مداليله، كما تنبه أحياناً على الدلالة العقلية، وكذا بخصوص ما تعلن عنه بصدد المقاصد. لكن في القبال ان لدلالة الواقع دوراً هاماً في فهم طبيعة ما يريده النص أو الدلالة الحرفية؛ وكذا الكشف عن المقاصد وما يقرره العقل. ونفس الشيء بخصوص الدلالتين المتبقيتين العقلية والمقصدية ولو ضمن حدود، مثل فهمهما لمراد النص.

يضاف إلى ما سبق فإن للدلالة الواقعية ميزة أخرى اضافية، وهي أنها تكشف عما يجري لبعض الأحكام من الضعف وعدم القدرة على الصمود أمام تجددات الواقع. كما بامكانها الكشف عما يصيبها من خلل وتضارب مع المقاصد، الأمر الذي يستدعي تغييرها تبعاً لمصلحة هذه المقاصد.

أ ـ الدلالة الحرفية للحكم  

الدلالة الحرفية للحكم، سواء من حيث المنطوق أو المفهوم، هي دلالة تتكشف من حيث الظهور اللفظي والسياقي للنص، مع الأخذ بنظر الاعتبار الفحص والتفتيش في القرائن المنفصلة لسائر النصوص والتي لها دورها في تأسيس الحكم. فمن المسلّم به - لدى العلماء – أن النص من غير هذه القرائن لا يفي بالغرض، إذ لم يُنشئ الشارع الحكيم مراده من حكم النص جملة واحدة، بل سلك سبيل التفرقة في النصوص الأخرى. لذلك فمن الخطأ التعويل على حجية الظهور دون مراعاة البحث والتفتيش عن القرائن المنفصلة المبثوثة في النصوص؛ كالتخصيص والتقييد وما اليها من الدلالات الأخرى المنافية للظهور. وقد نهى الأصوليون عن الأخذ بالظهور اللفظي ما لم يتم الفحص عن تلك القرائن، وتقررت القاعدة العامة التي تقول: (ان اصالة الظهور لا تكون حجة الا بعد الفحص واليأس عن القرينة) [1].

هذه هي الدلالة التي شغلت اذهان الفقهاء والاصوليين للكشف عن الحكم الشرعي. حتى انك حين تطلع على كتب الفقه والاصول تجد بوضوح حجم الجهد والاهتمام المصروفين لأجلها. فمباحث الظهور والعام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ وغيرها كلها معنية بهذا الأمر. في الوقت الذي تجد اهمالاً كبيراً لسائر الدلالات الأخرى، اذا ما استثنينا دلالة المقصد الخاص الذي له حيزه من البحث الأصولي والفقهي ضمن عنوان القياس. بل ان بعضها غاب وعياً عن البحث الأصولي والفقهي، كالدلالة الواقعية. أما الدلالات المتعلقة بالمقاصد العامة والعقل فانها تكاد تخلو من الوظيفة والفاعلية في التأثير على الأحكام انتاجاً وتغييراً، وكأنها تبحث في الأصول لأجل التقرير لا للتحقيق والبناء.

إذاً ينبغي على علم أصول الفقه أن يكون معنياً بأخذ اعتبار جميع الدلالات السابقة للكشف عن الحكم الشرعي، وذلك لما في بعضها من تأثير على البعض الآخر، وبالتالي تحديد ذلك الحكم.

إن تكريس العلماء جلّ اهتمامهم في الدلالة الحرفية وتغليب طابع الاستغراق في النص وتشقيق الكلام؛ إنما جاء على خلفية الاعتقاد بقداسة النص بإعتباره كلام الله وما يتضمنه من الحقائق المطلقة، سيما عند اولئك الذين اعتبروا هذا الكلام من الصفات الذاتية الأزلية. بل إن القداسة والطابع الإجمالي للنص مع ضغط حاجات الواقع؛ كل ذلك قد ساهم في تكثير فهم النص وتفصيله، إلى درجة نعتبر فيها العلاقة بين العوامل الثلاثة من جهة، وبين تكثر الفهم والاستغراق فيه من جهة أخرى، علاقة طردية؛ كلما اشتد الأول ازداد الثاني. فهذا ما يفسّر لنا التخوم التي احتواها تراثنا الإسلامي في تعلقه بفهم النص دون أن يجد لذلك حداً ولا نهاية. حتى أن الإهتمام بالجوانب اللغوية والبلاغية والنحوية وتقعييدها ما كان له ذلك الشأن لولا تعلقه بتلك القداسة. وعليه جاءت هذه العلوم المساعدة متأخرة في نشأتها عن علوم النص، كالحديث والفقه والتفسير.

وهذا ما جعل مثل هذه العلوم تميل الى التعالي والتجريد. فأقربها علاقة بالواقع هو علم الفقه، ومع ذلك فإنه قد خضع لهيمنة الصور الحرفية للنص وفقاً للنهج الماهوي ومسلك ما اطلقنا عليه (حق الطاعة)، بعيداً عن التفكير في الواقع الا في الضرورة التي فرضتها حاجات الواقع وضغوطاته. وكان الأولى أن تكون الرؤية بعينين: عين للواقع وأخرى للنص، كالذي جرى خلال الدورة الأولى من الحضارة الإسلامية، وهي الدورة التي ساد فيها الجدل بين الخطاب والواقع، كما هو معلوم من ظاهرة النسخ وتدرج الأحكام.

ب ـ الدلالة المقصدية للحكم 

يتم التعرف على المقاصد، سواء الخاصة منها أو العامة، تارة بإستنباطها من ألفاظ النص صراحة فتكون راجعة للدلالة الحرفية التي سبق الحديث عنها، وأخرى بإنتزاعها عبر الدلالتين العقلية والواقعية. وما يهمنا في هذه الفقرة هو بحث المقاصد التي يستعان بتحديدها عبر الدلالتين الأخيرتين عند غياب التصريح بها من قبل النص.

فللمقاصد سواء الخاصة منها أو العامة مكانتان، احداهما تتخذ شكل المدلول الذي تدل عليه بعض الدلالات الأخرى انفراداً أو اجتماعاً، فتكون بذلك مثبتة ومحققة. وأخرى تأتي بعد مرحلة الإثبات السابقة كما تدل عليها تلك الدلالات، إذ تصبح مؤهلة للدلالة على الأحكام، انتاجاً وتغييراً، وذلك بفضل التنبيه الذي تمارسه بعض الدلالات الآنفة الذكر، سيما الواقع الذي يتضمن موضوع الحكم. إذ يتأسس الحكم وفقاً لمعرفة عناصر موضوع الحكم المؤثرة في الواقع، لكن تحديد هذه العناصر وتمييزها عن غيرها لا يتم الا من خلال النظر لطبيعة العلاقة التي تربط بينها وبين المقاصد؛ اتفاقاً أو اختلافاً. فلو أن العلاقة متفقة لكان الحكم نافذ المفعول لا مبرر لتغييره، طبقاً لثبوت عناصره المؤثرة. أما لو اختلفت العلاقة وتضاربت لكان هناك مبرر لتغيير الحكم، ولإعتبرنا ما حدث من اختلاف وتضارب ناتجاً عن تغير في عناصر الواقع المؤثرة. وعليه فمن الممكن تشخيص هذه العناصر لوضع ما يناسبها من حكم على ضوء المقاصد؛ حتى تتم حالة الوفاق والإتساق.

هكذا فللمقاصد أدوار ثلاثة؛ بعضها يكمل البعض الآخر كما يلي:

1 ـ دور الوسيط الذي يستثيره الواقع وما يطرأ عليه من تغيرات، اتساقاً أو تضارباً.

2 ـ دور المشخص للعناصر المؤثرة للواقع أو موضوع الحكم.

3 ـ دور التحكم، حيث أنها بفعل الوساطة وتحديد عناصر الموضوع يمكنها أن تتحكم في انتاج الحكم وتغييره. أي كما أنها دالة على العناصر المؤثرة للواقع كما أشرنا إلى ذلك في النقطة السابقة؛ فإنها كذلك دالة على مقتضى طبيعة الحكم الواجب امتثاله.

1 ـ الدلالة الخاصة للمقاصد

للمقاصد مكانتان، إحداهما كمدلول، والأخرى ككاشف أو دال. وما يعنينا من المقاصد الخاصة تلك التي لم تصرح بها الدلالة اللفظية للنص، إنما يمكن استكشافها بمشاركة عدد من الدلالات، كالدلالة المشتركة للنص مع الواقع أو العقل، وذلك بنوع من القطع أو الحدس أو الإطمئنان، مثل أحكام الحدود حيث تعلم بدلالة الواقع بأنها للردع لما يلاحظ من وجود الشدة في العقوبة، سيما وأن بعضها منصوص عليه بأن يقام وفق اشهاد طائفة من المؤمنين، كما في قوله تعالى: ((وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)) النور/2 .

2 ـ الدلالة العامة للمقاصد

إن المقاصد العامة هي روح الشرع وأساس الحكمة من وجوده. لذلك فمن الأهمية بمكان أن يجاز لها الاعتبار في الكشف عن الحكم الشرعي. فمن خلالها يتبين إن كان الحكم يتفق معها أو يتعارض، وبها يُحدد مجرى تغيير الأحكام، دون المقاصد الخاصة، باعتبار أن الأخيرة لا تقوم لها قائمة ما لم تتسق مع الأولى. فالحدود - مثلاً - لها مقاصدها الخاصة من الردع كما علمنا، وهي تتفق مع المقاصد العامة في حماية المجتمع وتأمين حياته وسلامته. وكذا الصلاة، حيث من مقاصدها الخاصة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، والغرض من ذلك سلامة المجتمع وصيانته من الإنحراف والتحلل.

وجدير بالذكر إن للدلالة المقصدية صوراً وبدائل أخرى غير تلك المتعلقة بثنائية إثبات الحكم ونفيه. فالحكم البياني هو أحد أطراف تحقيق الدلالة المقصدية الخاصة، لكن تغايرات الواقع تبعث على النظر في أطراف أخرى لهذه الدلالة، وبحسب الاحتكام إلى أمر المقاصد العامة والنظر إلى الواقع فإن من الممكن تقدير الصور المصداقية للدلالة المشار اليها. فمثلاً تتمثل هذه الدلالة في حالة الحدود بشدة الردع، لكن للشدة صوراً وأطرافاً متباينة يمكن تطبيقها على تغايرات الواقع المختلفة بحسب هدي المقاصد الكلية.

ج ـ الدلالة العقلية للحكم

سبق أن عرفنا في (جدلية الخطاب والواقع) أن الإدراك العقلي له زاويتان من النظر، أحدهما قبلي، أي بغض النظر عما عليه الموضوع الخارجي سواء كان نصاً أو واقعاً، والآخر بعدي يتأسس على ما يتزود به من مادة الموضوع المدرك؛ الأمر الذي تتداخل فيه الدلالتان العقلية والموضوعية، فيصبح بذلك مستنتجاً ومضيفاً. ففي العملية الاستنتاجية يقوم باستنساخ مفردات الموضوع ليؤلف منها ما يتسق والصورة المنطقية حسب مبادئ قبلية يرتكز عليها من غير أن يبدي أي إضافة إخبارية قبلية كاشفة عن الموضوع الخارجي، باستثناء الإضافة (الحسابية) التي تؤكدها الدراسات المنطقية، وذلك بتحويل درجة الإحتمال المتناهية القوة إلى اليقين طبقاً للعملية الإستقرائية، إذ يتم فيها تصفية الحسابات الخاصة للقضية المدركة ضمن ضوابط منطقية، مثل إدراكاتنا التصديقية للقضايا الحسية وما يترتب عليها من نتائج خاصة، وكذا إدراكنا للنصوص الواضحة الصريحة التي لا تحتاج إلى تأمل وحمل عقلي، ولو على نحو الإجمال. فليس للحساب الإحتمالي بلوغ اليقين بذاته ما لم يتم ذلك بالإضافة العقلية الخاصة. لكن تظل هذه الإضافة التصديقية غاية في الضآلة قياساً بما يقابلها من قوة إحتمالية، لذا فهي غير محسوبة ولا محسوسة الا عند النظر المنطقي.

هذا فيما يتعلق بظاهرة الإدراك الاستنتاجي. أما ظاهرة الإدراك الاضافي فيشير إلى أن للعقل دوراً في الإضافة الإخبارية عند مداخلته للموضوع المدرك. وتتفاوت هذه الإضافة ضعفاً وقوة، حيث تشترك مع المعطى الموضوعي لتحديد النتاج المعرفي الإخباري. مع هذا ففي جميع الأحوال يكون المعطى الموضوعي صغروياً في الدليل لا يستغني عن تحكم مبادئ عقلية شاملة وثابتة هي التي تهيمن على عملية الاستدلال والانتاج المعرفي، وهو أمر يصدق حتى مع القضايا الإستقرائية المستمدة من الموضوع الخارجي، حيث تتحكم فيها مبادئ ومصادرات الإحتمال كقضايا عقلية تفضي إلى ترجيح القضية المستقرأة إلى أكبر قيمة إحتمالية ممكنة. لكن هذا التحكم ليس له علاقة بالإضافة العقلية الإخبارية التي تحدثنا عنها. فهو لا يعدو كونه تحكماً منطقياً لا يكشف عما عليه الموضوع الخارجي. ولو انا اعتبرناه ضمن هذه الإضافة لكانت جميع قضايانا قضايا عقلية. لهذا فإن المميز للإضافة العقلية الإخبارية يتحدد بمدى علاقتها في الكشف عما عليه الموضوع بعيداً عن الضبط المنطقي الذي يستهدف الكشف عما يستنتج من المعطى الموضوعي. فهي بالتالي عبارة عن إضافة حدسية كاشفة بدرجة ما من درجات التصديق، بحيث تزيد على ما عليه المعطى المنطقي. ومن ثم فحينما نواجه قضايا تجمع بين المعطى الموضوعي والإضافة العقلية الإخبارية؛ فإن النتاج المعرفي لهذا الجمع يفضي إلى تكوين نتيجة يمكن النظر اليها بإعتبارين؛ أحدهما يفيد الدلالة العقلية، والآخر يفيد الدلالة الموضوعية؛ نصية كانت أو واقعية.

إذاً فللدلالة العقلية أهمية خاصة في الكشف عن فهم النص وتحديد الأحكام بما يتسق والمقاصد، كالذي يمارس في بعض القياسات الفقهية ذات المغزى المقصدي.

كما أن من الامثلة على هذه الدلالة ما يتعلق بحاكمية بعض العمومات على البعض الآخر، ومن ذلك اعتبار عموم حديث (لا ضرر ولا ضرار) حاكماً على سائر العمومات الأخرى للأحكام عند التعارض. وكذا بخصوص الأحكام الفقهية التي تستند إلى عدد من القواعد الأصولية مثل قاعدة الإستصحاب ومقدمة الواجب واجبة وغيرها.

لكن للقضية المعرفية – عموماً – مراتب متباينة من القيم التصديقية. وينطبق هذا الحال على تلك التي لها علاقة بفهم النص والأحكام، سواء في الدلالة العقلية أو غيرها من الدلالات.

فحول مراتب الفهم والأحكام طبقاً للدلالات الثلاث (العقلية والواقعية والنصية) قد تكون القضية المعرفية (ضرورية) لا غنى عنها في الفهم، كالذي يُدرك من الآيات التي تتحدث عن قدرة الله المطلقة، كما تشير اليه الآية الكريمة: ((إن الله على كل شيء قدير)) (البقرة/20)، إذ لا يراد منها القدرة المطلقة التي تشتمل على الممتنعات العقلية؛ كالقدرة على خلق الشريك المماثل وما اليه. وبخصوص التشريع فمثل نفي التكليف بلا بيان اللازم منه الحكم بالبراءة، وكذا نفي تكليف ما لا يطاق، والحكم بتقديم الأهم في مورد التزاحم بين الحكمين، وما إلى ذلك.

كما قد تكون القضية المعرفية (قطعية) وإن لم تصل إلى حد الضرورة؛ مثل مختلف الأحكام التكليفية التي نقطع بصحتها كالصلاة والصوم والزكاة والحج وما اليها.

وقد تكون (حدسية) بحيث لا تجد إحتمالاً معقولاً قبالها، مثل اعتبار قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) حاكمة على غيرها من الأحكام التكليفية.

وقد تكون (عادية إطمئنانية) كما عليه سيرة العقلاء في معاملاتهم وعلاقاتهم، حيث الإحتمال المقابل ضعيف لا يعتد به، مثل فهم النصوص التي تنهى عن التصوير لذوي الأرواح طبقاً للمقاصد كي لا تتخذ للعبادة، وكذا فهم النصوص الخاصة بتحديد موارد الزكاة في عدد محدد ومحدود من الأشياء طبقاً لظروف الحياة بشبه الجزيرة العربية في عصر النص. ومثل ذلك فهم الكثير من النصوص غير الصريحة وفقاً للمقاصد؛ كالحديث القائل: (لا يقضي القاضي وهو غضبان)، حيث الغرض منه للتثبت من الحكم الذي يقضي به، وحديث: (القاتل لا يرث).

وقد تكون القضية (ظنية) يقابلها إحتمال ضعيف يعتد به، كالكثير من القياسات القائمة على مجرد الشبه من وجه دون اعتماد على ملاكات الأحكام والمقاصد.

كما قد تكون الدلالة (شكية) أو (وهمية) وما دونها.

تلك هي المراتب التصديقية للفهم والأحكام. وتتميز الأربعة الأولى منها بأنها معتبرة ومقبولة، وهي القضايا الضرورية والقطعية والحدسية والعادية. أما المراتب الأخرى فهي بعيدة عن الأخذ والإعتبار.

د ـ الدلالة الواقعية للحكم

للواقع أقسام متعددة في علاقته بالنص، لكن المعتبر منها قسمان: الواقع المطلق العام والواقع الخاص بالتنزيل. وينقسم الواقع المطلق بدوره الى الواقع الوصفي والواقع الاعتباري. ويختص الأخير بقضايا القيم مثل اعتبارات المصالح والمضار، وهو ما نحن بصدده. أما الأول فيتحدد بالواقع التقريري او الإخباري، وهو يشتمل على السنن والحقائق الكونية منها أو البشرية، كالذي بيناه في كتابنا (منطق فهم النص)[2]. أما الواقع الخاص بالتنزيل فيختص بمرحلة عصر النص.

ومثلما أن الإحاطة بالواقع الخاص بالتنزيل ضرورية لا غنى عنها لفهم النص ومقصده، فكذلك أن معرفة مضامين الواقع المطلق لا غنى عنها هي الأخرى للفهم عموماً. فبدون هذه المعرفة تنقلب الكثير من موازين الفهم، ويصبح النص الإلهي برمته غير معقول ولا مقبول. فالكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لا يمكن أن تُفهم فهماً معقولاً من غير معرفة الواقع العام، كقوله تعالى: ((فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض)) الكهف/77، وقوله: ((تدمر كل شيء بأمر ربها)) الاحقاف/25، وقوله: ((وآتاكم من كل ما سألتموه)) ابراهيم/34، وكذا الآيات التي تتحدث عن أن الله هو الذي ينشئ السحاب وينزل الغيث وما اليها من النصوص الكثيرة، كالتي بحثناها في (جدلية الخطاب والواقع)[3].

على أن لهذا الواقع أهمية أخرى في مجال إدراك الأحكام وتجديد النظر فيها أو تغييرها استناداً إلى هدي المقاصد. وبغير أخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار فإنه لا مجال لإضفاء المعقولية أو العقلانية على التشريع والإجتهاد المترتب عليه. فكثيراً ما يكشف الواقع العام، وتبعاً للمقاصد، بأن الأحكام المنصوصة مقيدة بسياقها التاريخي وظروفها الخاصة في عصر التنزيل وما شاكله. لذا فلأهمية هذه الدلالة الكاشفة وعلاقتها بالمقاصد سنستعرض عدداً من النماذج والأمثلة المتنوعة للكشف عن عقلانية التشريع ومعقوليته.

 

نماذج منتخبة

1 ـ المشقة في الصوم والواقع

نصّ الشارع الإسلامي على اباحة الفطر في شهر رمضان لكل من المريض والمسافر بقوله تعالى: ((فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أُخر)) البقرة/185. والحكمة من ذلك كما يدل عليها ما جاء بعد الآية من نص وما عليه الواقع الخاص؛ إنما للتيسير ودفع المشقة. إذ ورد التعليل في النص صراحة في الآية القائلة: ((يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)) البقرة/185.

هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فهو أن الواقع الخاص يكشف بأن المرض والسفر يبعثان على المشقة في مجتمع لا يمتلك وسائل النقل المريحة كما عليه اليوم. أي ان اجتماع جنسين مختلفين في النص لا يفسرهما غير دفع المشقة بدلالة الواقع. هكذا يكون ملاك الحكم محدداً بدفع المشقة، فحيث هناك مشقة كتلك التي تكون في المرض أو السفر فإن اباحة الفطر في الشهر المبارك تصبح قائمة.

لكن السفر في أيامنا الحاضرة لم يعد يبعث على المشقة في الغالب مثلما هو الحال في السابق. فاذا كانت المشقة هي أهم عناصر موضوع الحكم الخاص باباحة الفطر تبعاً لتحديد المقصد الشرعي؛ فإن مضمون الحكم سوف يختلف اليوم عما كان عليه سابقاً، بل وسوف يتغير الفهم الخاص بما يطلق عليه المسافة الشرعية. مما يعني ان (الواقع) قد كشف عن تغير موضوع الحكم بدلالة المقصد الخاص. وقبل ذلك عرفنا أن من خلاله أمكن الكشف عن طبيعة هذا المقصد، ويؤكد ذلك ما جاء به النص من تعبير عن المقصد الآنف الذكر.

ونلفت النظر إلى أن بعض الفقهاء في عصرنا الحديث اعتبر السفر مبيحاً للفطر على الاطلاق، وعلل ذلك لاختلاف ما روي عن النبي (ص) من حدود السفر المبيح، وكون الروايات حوله من الآحاد، يضاف إلى ان النص القرآني لم يحدد مسافة السفر المبيح. فقد ذكر الشيخ المراغي يقول: (قد روى أحمد ومسلم وابو داود عن انس: ان رسول الله (ص) كان يقصر الصلاة مسيرة ثلاثة اميال. وروي عن ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه كان يقصر في الميل الواحد، واذا نظرنا إلى نص القرآن فهو مطلق، وان كل ما رواه في التخصيص اخبار آحاد، وأنهم لم يتفقوا في التخصيص؛ جاز لنا ان نقول: إن السفر مطلقاً مبيح للفطر، وهذا رأي داود وغيره من الأئمة)[4].

ونرى أن ما لجأ اليه الشيخ المراغي يواجه بعض الإشكالات، وهو أنه لم يبدِ اعتداداً للمشقة التي دلّ عليها النص كمناط أو ملاك للحكم، كما لم يربط بين المشقة المذكورة وبين الواقع؛ سواء الحالي منه أو ذلك الخاص بالتنزيل.

لكن، والحق يقال، إن نصوص الحديث التي نقلها هذا الشيخ قد تثبت ما نسميه بظاهرة (التوسعة) التي اتصف بها الشرع الإسلامي للعديد من الأحكام والفرائض الدينية، بحيث تتجاوز المنصوص فيه. وسندرس هذه الظاهرة في بحث مستقل إن شاء الله تعالى.

كما نلفت النظر - في القبال - إلى ان بعض الاتجاهات الفقهية أنكرت الدلالة المقصدية وبالغت في ممارستها الحرفية من خلال منطق الرواية. ورغم ان مضامين الأخبار التي استندت اليها كانت تختلف في مقاييس السفر (الشرعي) وتحديد الملاك، إذ بعضها دال على الأخذ بالمسافة (ثمانية فراسخ أو بريدين أو أربعة وعشرين ميلاً)، وبعض آخر دال على الأخذ بالزمان (بياض يوم أو مسيرة يوم)، وبعض ثالث دال على اعتبار الأمرين مما يتفق وطبيعة الحياة آنذاك تبعاً لسير الجمال[5]؛ الا ان مشهور الفقهاء رجحوا - وما زالوا - الملاك الخاص بمعيار المسافة واعتبروا الزمان مقدراً عليه[6] ، رغم ان هذا الأخير هو أقرب للمحافظة على المقصد من الأول. فقد كان لمقادير المسافة، وكذا الزمان، ما يبررها من تقدير مشقة السفر آنذاك. وهما متعادلان من هذه الناحية، حيث كلاهما دالان على المشقة وان أحدهما يقدر بالآخر[7]. لكن الأمر في أيامنا هذه مختلف! فلا المسافة المقررة تبعث على المشقة، ولا هي تطابق الزمان المقدر في قبالها. مما يعني ان بقاء الحكم مستنداً إلى المسافة يفضي إلى عدم المعنى تبعاً للمقصد الخاص به. بل حتى لو تجاوزنا حساب هذا المقصد بكل ما يملكه من دلالة الواقع والنص في الآية المشار اليها سلفاً، واعتبرنا ذلك الحكم أمراً تعبدياً خالصاً؛ فإنّا سنصطدم في ترجيحه على نظيره الزماني المعادل له في السابق[8]، الأمر الذي يبعث على التناقض. فلماذا إذاً الاحتكام إلى المسافة دون الزمان، ولماذا لا يكون العكس هو الصحيح، سيما وأنه أقرب إلى الحفاظ على المقصد، ولأن دلالة النص عليه أقوى بشهادة ما ذكره صاحب (جواهر الكلام)[9]؟!

وعليه لو استشكل البعض وتساءل: كيف يمكن تقدير مشقة السفر الباعثة على القصر في أيامنا الحالية؟ فسيكون الجواب هو أن من المناسب تقديرها بعدد الساعات المعتمدة لدى القدماء في أسفارهم، أو ما يقارب ذلك نسبياً.

2 ـ قضايا المرأة والواقع

ترد جملة من القضايا الشرعية الخاصة بالمرأة لها علاقة بالواقع. فلا شك أن لهذا الأخير تأثيراً على تحديد الأحكام المتعلقة بهذه القضايا، لذا سنقتصر على بحث ثلاث منها كما يلي:

أـ الشهادة

لقد نصّ القرآن الكريم على أن شهادة المرأة تعادل نصف شهادة الرجل في قضايا التداين ضمن التداولات المالية، وذلك بحسب ما جاء في قوله تعالى: ((.. فإن لم يكونا رجلين فرجل وإمرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل احداهما فتذكر احداهما الأخرى)) البقرة/282. وقد اختلف الفقهاء حول دلالة هذه الآية فيما لو كانت خاصة أو لها عموم. فالكثير منهم منع شهادة النساء في قضايا معينة كالحدود والدماء. وزاد بعضهم كل ما خرج عن التداول المالي، ومن ذلك ما ذكره صاحب (مهذب الاحكام) من ان شهادتها تُمنع في حقوق البشر التي تخرج عن النواحي المالية، كالشهادة على البلوغ والإسلام والولاء والجرح والتعديل والعفو عن القصاص والوكالة والوصاية والرجعة وعيوب النساء الظاهرة والنسب والهلال، وقد نُسب هذا الضابط إلى مشهور الإمامية[10]. وعلى خلاف ما سبق ذهب الكثير من السلف إلى الأخذ بالعموم أو الاطلاق الظاهر من الآية من غير استثناء، وكذلك من التعليل المعتمد على دلالة (الواقع)، حيث ان (مبنى الشهادة على الحفظ والضبط والصدق، وهذا المعنى موجود في النساء كما هو موجود في الرجال، وما يقدر من نقصهن مجبور بمضاعفة العدد، خصوصاً اذا كثرن وصرن معروفات بالصدق والحفظ)[11]. وكان ابن حزم من الذين يؤكدون هذا المعنى[12]؛ معتبراً ان رفض شهادة النساء في الحدود والقصاص ليس له أصل في السنة النبوية[13].

كما أن الكثير من الفقهاء ذهبوا إلى الإعتماد على الظاهر الحرفي لمنطوق الآية، فحكموا بعدم جواز قبول شهادة النساء في الأمور المالية مهما كان عددهن ما لم يكن معهن شاهد من الرجال، ومن ذلك ما قاله صاحب (الاعتبار في الناسخ والمنسوخ): (لو شهد خمسون امرأة لرجل بمال لا تقبل شهادتهن، ولو شهد به رجلان قبلت شهادتهما)[14]. فالمناط المعول عليه في المسألة هو الشاهد الذكوري وليس الكشف عن الواقع. وتبعاً لهذا المناط اعتبرالمحقق القمي بأنه (قد يحصل الظن بشاهد واحد أكثر من شاهدين ولا يعتبر ذلك، لأن الشارع جعل الشاهدين من حيث أنهما شاهدان مناطاً للحكم لا من حيث الظن الحاصل بهما)[15]. مع ان هذا التصور يفرغ قضية الشهادة من مقصدها الخاص بالكشف عن الواقع، ويحولها إلى صورة تعبدية بلا معنى. وهو أمر يناقض ذات ما عوّل عليه الشارع من تقديم الشاهدين على الواحد، مع أخذ اعتبارات التوثيق، فذلك لا يستقيم الا مع قصد الكشف عن الواقع باجراء مناسب يتفق مع اغلب حالات الابتلاء.

وفي القبال اعتمد كل من ابن تيمية وتلميذه ابن القيم على دلالة الواقع في اقرار التساوي بين شهادة النساء وشهادة الرجال لبعض المواقف. فبحسب هذا الرأي أنه اذا كان سبب النصفية في شهادة المرأة يعود إلى ضعف العقل لا الدين؛ فإن هناك من الشهادات ما لا يخشى منها الضلال والخطأ عادة، لذا يقبل تساويها مع الرجل، وهي عبارة عن الأشياء التي (تراها بعينها أو تلمسها بيدها أو تسمعها باذنها من غير توقف على عقل، كالولادة والاستهلال والارتضاع والحيض والعيوب تحت الثياب، فإن مثل هذا لا ينسى في العادة ولا تحتاج معرفته إلى كمال عقل، كمعاني الاقوال التي تسمعها من الاقرار بالدَّين وغيره)[16].

طبقاً لهذا التحليل فإنه لا مانع من ان تكون شهادة المرأة مساوية لشهادة الرجل؛ اذا ما ضمنّا في العادة عدم خطئها وضلالها حتى في القضايا المعدة عقلية ومعنوية. إذ لسنا هنا أمام قضية تعبدية، فالقصد من التشريع بدلالة النص الآنف الذكر لا يخرج عن معنى التثبت في الشهادة. وهنا يأتي دور الدلالة الواقعية لحسم القضية. فبحسب دراسة الواقع هناك إحتمالان يخصان إدراك المرأة وذاكرتها، على الأقل في ما يتعلق بما نحن فيه. فلو اقمنا سلسلة متنوعة من الاختبارات الاحصائية النفسية على كل من الرجال والنساء لغرض المقارنة بينهم والكشف عن دقة ما يعبرون عنه من شهادات لحوادث مختلفة تجري أمامهم؛ لكنا نصل في النتيجة إما إلى إثبات عدم وجود اختلاف محدد بينهما، أو الاقرار بوجود نقص طبيعي وفطري في الإدراكات الشخصية للمرأة. أما الإفتراض الثالث الخاص بوجود نقص في الرجل لا المرأة فهو مستبعد تماماً. وعلى الفرض الأول يصبح ما شهده القرآن الكريم على نقص إدراك المرأة لا يراد منه جانب الطبيعة والاطلاق كما هو ظاهر النص، بل قصد الجانب الظرفي للمرأة في ذلك الزمان، لقلة التعليم وضآلة الدور الذي كانت تمارسه في الحياة الاجتماعية العامة. والبعض يرى أن الحكم جاء استناداً إلى ما كانت تبتلى به النساء من كثرة الحمل. وكل ذلك يفضي الى ضعف الإدراك والتذكر. وبالتالي كان من الممكن تحديد فهم النص بربطه بالواقع الخاص بالتنزيل عبر دراسة الواقع العام، بما يتسق مع المقصد المنصوص فيه. وهو أمر يفضي إلى تغيير الحكم ولا بد. أما على الفرض الثاني الذي يثبت نقص إدراك المرأة بالمقارنة مع الرجل؛ فإن الحكم القرآني يكون ناظراً إلى الواقع العام لطبيعة المرأة بما هي كذلك وليس إلى الواقع الخاص بالتنزيل. وفي جميع الأحوال نعلم كم هي فائدة الدلالة الواقعية في فهم النص وتحديد الحكم؛ سواء الخاصة منها أو العامة.

يبقى أن المفسرين اختلفوا حول تعليل ما وصفت به النساء من أنهن عرضة للضلال والنسيان، فقديماً عللوا ذلك تبعاً للمزاج، وهو أن مزاج المرأة يعتريه البرد فيتبعه النسيان. وهو تعليل مرده إلى الأمر الطبيعي الفطري، لذا يقتضي ان يكون الحكم حكماً ثابتاً لا يقبل التغيير مهما تغيرت الظروف والاحوال، ويكون القرآن الكريم ناظراً إلى ما عليه الواقع العام للمرأة وليس إلى ظروفها الخاصة كما قدمنا. لكن حديثاً أبدى رشيد رضا تعليلاً آخر، وهو أن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من التداولات، لذا تكون ذاكرتها ضعيفة، خلافاً لما يحصل لها في الأمور المنزلية التي هي شغلها الرئيسي[17]. وهذا التعليل مرده إلى طبيعة ما عليه الأحوال والظروف، فلو أنها تغيرت لتغير الحكم معها، وان القرآن الكريم ناظر في الحكم إلى ما عليه ذات الظروف وليس إلى الأمر العام الذي يخص طبيعة المرأة بما هي مرأة.

ب ـ السفر

وردت عدد من الأحاديث التي تحرّم سفر المرأة بغير محرم، منها ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قوله: (لا تسافر إمرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها أو ذو محرم)[18] . كما أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس عن النبي (ص) قوله: (لا تسافر المرأة الا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل الا ومعها ذو محرم)[19]. وأخرج الإمام الترمذي في جامعه عن أبي هريرة ان النبي (ص) قال: (لا تسافر إمرأة مسيرة يوم وليلة الا مع ذي محرم)[20]. كما أخرج الترمذي عن أبي سعيد عن رسول الله (ص) قوله: (لا يحل لإمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ان تسافر سفراً يكون ثلاثة ايام فصاعداً الا ومعها ابوها أو اخوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرم منها)[21].

وقال ابن حجر العسقلاني: (قد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات. وقال النووي: ليس المراد من التحديد ظاهره، بل كل ما يسمى سفراً، فالمرأة منهية عنه الا بالمحرم، وانما وقع التحديد عن أمر واقع فلا يعمل بمفهومه. وقال ابن المنير: وقع الاختلاف في مواطن بحسب السائلين)[22].

ولا شك أنه لو نظرنا للنصوص السابقة من زاوية علاقتها بالواقع الخاص بالتنزيل؛ لرأينا أن النهي الوارد فيها مفهوم ومناسب لتلك الظروف والأحوال القائمة؛ حيث لا أمان لسفر المرأة وحدها في ظل انعدام الأمن وبدائية المواصلات. أي ان القصد من التحريم معلوم بدلالة الواقع المشار اليه. لهذا فإن مذهبي مالك والشافعي لا يأخذان باطلاق النهي الوارد في مثل تلك النصوص، حيث أجازا حج المرأة وحدها من غير محرم إن كانت في رفقة مأمونة. الأمر الذي فهما النهي المنصوص عن سفرها وحدها هو فقط عند اضطراب الأمن وخوف الفتنة[23].

مع هذا فهناك إحتمالان يمكن تمحيصهما من قبل الواقع العام لأجل الافادة منهما بالنظر في الموقف الذي يفرضه تغير الواقع الخاص. فاذا كنا نعلم ان التحريم بدلالة هذا الواقع هو لأجل منع ما قد يحدث من ارتكاب المحرمات الجنسية؛ فإن تحقيق هذا المقصد يعتمد على دراسة طبع المرأة في ظل الظروف المؤمنة اجتماعياً. فإما ان يكون هذا الطبع ضعيفاً يميل إلى ارتكاب تلك المحرمات مما لا ينفع فيه الامن الاجتماعي، ومن ثم تبقى مبررات استمرارية الحكم وثباته قائمة بلا تغير.. أو أن طبعها ليس كذلك. وعليه لا نجد تفسيراً معقولاً للنهي الا من حيث أنه نهي باعتبار انعدام ذلك الأمن المقترن بطبيعة ظروف مواصلات السفرالبدائية، كما هو الحال في المجتمعات القديمة السابقة. وبالتالي لا يصح التعويل على الاطلاق الظاهر لتلك النصوص. إنما يعتبر الحكم الوارد فيها رهين موضوعها المؤطر بالظروف الخاصة التي اشرنا اليها قبل قليل.

هكذا يتضح ان الحكم الانف الذكر لم يُعرف مقصده الا من خلال الواقع الخاص بالتنزيل، كما لا يعرف اطلاقه من نسبيته الا من حيث دراسة الواقع العام. فلو ان هذا الواقع دلنا على معرفة طبائع المرأة وميولها عبر الدراسات النفسية والاجتماعية؛ لكان من الممكن تقرير ما اذا كان يوجد مبرر لبقاء الحكم كما هو أم لا؟

ج ـ الحجاب

من المعلوم ان الغرض من حجاب المرأة هو لسد الذريعة عن حدوث الاثارة والشهوة وربما الاعتداء؛ بدلالة الواقع وعدد من النصوص[24]، وبالتالي منعاً لأذية كل من الرجل والمرأة على السواء. لكن يرد في الأمر إحتمالان يتعلقان بكيفية التحجب والكشف غير السافر للجسم. فبحسب الواقع العام إما ان يكون الطبع البشري منساقاً إلى التأثر والشهوة عند أي كشف نهى عنه الشارع المقدس، أو ان النهي المنصوص كان لازماً لاعتبارات بعض الحالات الخاصة بالواقع. فاذا دلّ الواقع المطلق على خطأ الفرضية الأولى أصبحت المسامحة في الحكم الثاني مقبولة غير خارجة عن الشرع، ويؤيدها ما ورد من مسامحة في الكشف المحتشم امام ملك اليمين أو الخدم، وكذا نفس الحال مع كشف الإماء، وايضاً كبار السن من النساء، دفعاً للعسر والتخفيف، مضافاً إلى ما جرى من حالات الاختلاط والملامسة عند تضميد جرحى الحرب وسقيهم وما إلى ذلك[25]. وربما يميل المقدس الاردبيلي (المتوفى سنة 993هـ) الى قريب من هذا المعنى، حيث ذكر بمناسبة قوله تعالى ((وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنّ ويحفظن فروجهنّ ولا يبدين زينتهنّ إلا ما ظهر منها)) ان معنى ((إلا ما ظهر منها)) أي إلا ما جرت العادة على ظهوره، والأصل فيه الظهور ‹‹فالعادة ظهور الرقبة بل الصدر والعضدين والساقين وغير ذلك››، سيما فيما يخص العسر الذي يصيب الفقيرات من النساء. وهو يعد الحكم في ذلك محل إشكال[26].

لكن مع هذا لا بد من أخذ الملاحظات التالية بنظر الاعتبار كما يلي:

1 ـ أنه حتى لو فرضنا خطأ الفرضية الأولى وبالتالي جاز الكشف غير السافر في الأحوال المناسبة؛ فإن ما يلزم هو ان يكون هذا الكشف معقولاً لا يخرج عن حدود الحشمة المتعارف عليها، وذلك كي لا يفضي إلى الصدام مع المقصد الخاص ولا يجر إلى اضرار جانبية ولو بعناوين أخرى مختلفة.

2 ـ أنه حتى مع فرض خطأ تلك الفرضية قد يلزم الابقاء على الحجاب المعهود كعمل وقائي سداً للذريعة وخشية من توظيف الأمور الشرعية في غير مجاريها الصحيحة، سيما مع كثرة الأهواء وضعف الوعي التربوي كما هو مألوف عند الناس.

3 ـ استناداً إلى الواقع يعتبر الالتزام بالحجاب في الحدود المتعارف عليه من كشف الوجه والكفين حالة كمالية تصون العلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة، وهو لا يشكل عائقاً امام تطور الحياة والحركة النسوية عادة. وعليه فمن الناحية المبدئية ان المطالبة به تظل واردة ومبررة.

3 ـ فنون الرسم والواقع

من المعلوم ان اغلب الفقهاء تعاملوا مع نصوص الحديث التي حرمت الرسم والنحت لكل ما فيه روح من الحيوان والإنسان تعاملاً حرفياً بعيداً عن الاحتكام إلى دلالة كل من القصد والواقع وتحولاته. فقد جاء في بعض النصوص قول النبي (ص): (ان أشد الناس عذاباً عند الله المصورون)[27]. وقوله: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)[28]. وقوله: (ان الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)[29]. وعن ابن عباس قال: (سمعت محمداً (ص) يقول: من صوّر صورة في الدنيا كلف يوم القيامة ان ينفخ فيها الروح وليس بنافخ)[30]. وعن ابن عباس ايضاً ان النبي (ص) قال: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تصاوير)[31]. وعن ابي زرعة قال: (دخلت مع ابي هريرة داراً بالمدينة فرأى في اعلاها مصوراً يصور فقال: سمعت رسول الله (ص) يقول: قال الله عز وجل: ومن اظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي، فليخلقوا حبة وليخلقوا ذرة)[32]. وروى الطبراني عن صفية بنت شيبة قالت: (رأيت رسول الله (ص) بلّ ثوباً وهو في الكعبة ثم جعل يضرب التصاوير التي فيها)[33].

وقد استوحى الفقهاء من هذه النصوص بأن التصوير يبعث على المضاهاة أو التشبه في الخلق، وهو مما لا يجوز. وكما قال الخطابي: (انما عظمت عقوبة المصور لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر اليها يفتن، وبعض النفوس اليها تميل)[34]. وقال ابو بكر بن العربي: (إن الذي اوجب النهي عن التصوير في شرعنا - والله اعلم - ما كانت العرب عليه من عبادة الاوثان والاصنام، فكانوا يصورون ويعبدون فقطع الله الذريعة وحمى الباب. فإن قيل: فقد قال حين ذم الصور وعملها من الصحيح قول النبي (ص): من صوّر صورة عذّبه الله حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ.. قلنا: نهى عن الصورة وذكر علة التشبيه بخلق الله، وفيها زيادة علة عبادتها من دون الله، فنبه على ان نفس عملها معصية فما ظنك بعبادتها)[35].

وحقيقة ان المضاهاة وتوظيف الصور لغرض العبادة من الأمور التي اكدها الواقع التاريخي، وكما دلّ عليه صاحب (أحكام القرآن)[36]. الأمر الذي يسهل علينا فهم مغزى التحريم الوارد حولها، حيث يتسق مع الواقع الخاص بالتنزيل، ولا يعقل ان يكون النهي عن التصوير تعبدياً لا يفهم معناه[37]. لكن لمّا دلّ تحول الواقع على زوال الغرض الآنف الذكر في أكثر البلدان والمجتمعات، ومنها المجتمعات الإسلامية، إذ أصبح التصوير لا يوظف بقصد المضاهاة والعبادة، بل لاغراض فنية وعلمية وتحقيقية، كتلك التي يستفاد منها في الطب والكشف الجنائي؛ لذا فإن بقاء الحكم المنصوص على ما هو عليه يصبح كالسالبة بانتفاء الموضوع، حسب تعبير المناطقة. ويؤيده ما جاء من اقرار الله تعالى لما كان يعمل لنبيه سليمان (ع) من التماثيل، كما هو واضح من الآية الكريمة: ((يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل)) سبأ/13، وبها احتج قوم على جواز التماثيل[38]. بل كذلك ما ورد من استثناء لُعب البنات الذي أُجيز تبعاً لبعض الأحاديث[39].

هكذا تعرفنا بدلالة النص والواقع الخاص بالتنزيل على مقصد الحكم، ومن ثم عرفنا بدلالة الواقع العام لزوم تغيير الحكم تبعاً للقصد المعلوم بالدلالة الاولى.

وجدير بالذكر أن الفقهاء المحدثين وجدوا حرجاً في التحريم المطلق للتصوير؛ لكونه لا يتفق مع قضايا المعاملات الحديثة، لذلك فرقوا بين التصوير اليدوي والتصوير الفوتوغرافي الشائع استخدامه، فحملوا أحاديث التحريم على النوع الأول، واجازوا الثاني بدعوى أنه ليس فيه من الانشاء والخلق الذي يبعث على المضاهاة مثلما هو الحال في الأول، بل هو عبارة عن حبس خيال للموضوع المصور، انساناً كان أو حيوان. مع اننا لو أخذنا مفهوم المضاهاة بهذا الشكل الساذج لكنا نعتبر كل الرسوم الخاصة بالطبيعة هي عبارة عن مضاهاة لخلق الله، ولاعتبرنا جميع الصناعات والتكوينات المستحدثة التي يتم فيها تقليد طبائع الكائنات هي من المضاهاة. وهو أمر غير معقول. كما ان بعض الفقهاء ذهب إلى التفريق بين الرسم والنحت، فأجاز الأول ونهى عن الثاني بنحو من الاحتياط، مثلما هو الحال مع الفقيه المعاصر السيد علي السيستاني[40].

لكن في قبال ما سبق نجد من المحدثين من أباح التصوير على اطلاقه، كالشيخ محمد عبده[41]، وهو نفس الحال الذي لجأت اليه الدولة الإسلامية المعاصرة في ايران.

4 ـ الحدود والواقع

بخصوص الحدود وما ورد فيها من كيفيات، يلاحظ أن مقاصدها الخاصة معلومة بدلالة كل من النص والواقع. فالنص من قبيل قوله تعالى: ((ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)) البقرة/179، الأمرالذي يدل عليه الواقع، حيث بالقصاص تزول دوافع الثأر ومسلسل سفك الدماء. وكذا فإن دلالة الواقع تشير إلى ان الغرض من الحدود هو الردع.

لكن لما كان منشأ اعتبار الحدود يتوقف على ما تحققه من أغراض تتسق مع المقاصد الكلية العامة؛ لذا فإن أي تجدد للواقع يبعد الحدود عن تحقيق أغراضها الخاصة، أو يجعل من هذه الأغراض تتزاحم مع المقاصد العامة؛ فكل ذلك يوجب تغييرها بما يتسق وهذه الأخيرة. حتى ان هناك من يرى جواز ترك الإمام للحدود في بعض الحالات والطوارئ لأجل ما هو أهم منها[42]. وليس غريباً ان تشهد السنة النبوية والخلافة الراشدة شطراً من التنويعات التجديدية لقضايا الحدود استناداً إلى تغيرات الواقع والنظر إلى المقاصد. فرغم محدودية الظروف وضيقها الا ان ذلك لم يمنعها من ان تكون حافلة بالكثير من التنويعات والتغييرات تبعاً للمصالح والحاجات.

فقد روي ان النبي اسقط بعض الحدود عن التائب طالما اعترف بذلك قبل القدرة عليه. ففي حادثة ان النبي (ص) قال للرجل الذي قال له: (يا رسول الله اصبت حداً فأقمه علي، فقال: هل صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم، قال: اذهب فإن الله قد غفر لك حدك)[43]. وفي حادثة أخرى أنه اسقط الحد عن الذي اعترف بالزنا[44].

وجاء في سيرة النبي (ص) أنه لم يؤاخذ بعض أصحابه بالعقوبة رغم كبير فعله وشائنته. ومن ذلك أنه برئ مما صنعه خالد بن الوليد ببني جذيمة من قتلهم وأخذ أموالهم دون ان يعاقبه، وقال: (اللهم اني ابرأ اليك مما صنع خالد). وبنظر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ان النبي (ص) إنما لم يعاقب خالداً على فعله وذلك لحسن بلائه ونصره للاسلام[45].

كما ذكر ابن القيم ان الله نصّ على سقوط الحد عن المحاربين بالتوبة التي وقعت قبل القدرة عليهم مع عظيم جرمهم، وذلك تنبيه على سقوط ما دون الحراب بالتوبة الصحيحة بطريق الاولى[46]. إذ جاء بخصوص حد المحارب قوله تعالى: ((الا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم))، والذين ذهبوا إلى اسقاط الحدود بالتوبة قبل القدرة على المسك بالجاني إنما حملوا هذه الآية على جميع الحدود، كحد السرقة الذي نص العديد على سقوطه بالتوبة، كما هو الحال مع عطاء وجماعة غيره، وذهب اليه بعض الشافعية وعزاه إلى الشافعي قولاً[47]. علماً بانه كثيراً ما كان حد السرقة يعطل لأسباب خاصة، كالحال عند الحروب وفي عام المجاعة[48]. وحد الشرب عليه اختلاف بين ما كان يُعمل به في عهد النبي وابي بكر وبين ما سار عليه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رض) باشارة من الإمام علي (ع) كما يقال. كما ظهر هناك عدد من الإجتهادات التي حددت احكاماً تتصف بالشدة تبعاً لمراعات الظروف السائدة آنذاك، وتحقيقاً لما يراد من مصلحة عامة، رغم ان هذا كان على خلاف ما عليه السيرة النبوية. ومن ذلك ما جاء بأن الإمام علياً قام باحراق الزنادقة الغلاة، بينما كان الأمر في عهد النبي هو قتل الكافر، لكنه وجد خطورة المسألة فشدد العقوبة لزجر الناس عن ان يفعلوا مثل ذلك[49]. وسبق للامام (ع) ايضاً ان نصح الخليفة الصديق في احراق اللوطية بدل قتلهم باعتبار ان العرب لم تكن تبالي بالقتل وهي قد ألفته بخلاف الحرق بالنار حيث لم تألفه بعد[50].

على هذا لا يصح اسقاط الحدود على الواقع بعد كثرة التحولات من غير دراسة مفصلة لأوضاعه؛ سيما تلك التي تلوح اوضاعه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنفسية، طالما أنها من أحكام الوسيلة التي تتأثر بمجريات الحياة والواقع. بل حتى مع التنفيذ والتطبيق يراعى جانب الإطلاع على المخلفات والنتائج المترتبة على تلك الأوضاع ومن ثم محاكمتها ومقايستها بالحجم الذي يمكن تحقيقه من المقاصد العامة. فمثلاً ليس من المتوقع أن يحقق حد السرقة المقاصد المرجوة في البلدان التي تكون اوضاعها الاقتصادية متردية بالفقر والحاجة. وبخلافها يمكن أن يحقق هذا الحد غرضه لدى البلدان المتقدمة في الأوضاع المشار اليها، على فرض أن سائر الأوضاع تكون ملائمة هي الأخرى.

علماً بأن بعض ما يعتبر من الحدود ليس عليه دليل شرعي إلهي، كما هو الحال مع حد شارب الخمر، كما أن بعضاً آخر مشكوك فيه؛ كحد الرجم.

فالحد الأخير غير مجمع على اعتباره لدى المذاهب الاسلامية، فقد أبطله كل من الخوارج وبعض المعتزلة، منكرين ما دار حوله من روايات، باعتبارها من الآحاد المعارضة للنص القرآني، فقد استدلوا بالقرآن على نفي اعتباره وأنه لا عقوبة في الزنا غير الجلد، فكما تقول الآية الكريمة: ((فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشة فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب)) النساء/25. ووردت الآية في الإماء وجاء فيها ذكر (أحصنّ) أي (تزوجن)، كما جاء فيها ذكر (المحصنات) أي المتزوجات. ومعنى النص هو أنه اذا تزوج الإماء فعليهن من العقاب نصف عقاب المتزوجات الحرائر عند الزنا. مما يعني أنه لا يمكن تنصيف عقوبة الرجم على فرض أنها تصدق على المتزوجات الحرائر، فالرجم شيء واحد كيف يقبل التنصيف[51] ؟! ومثل ذلك كيف يتسق الرجم مع مضاعفة العذاب في قوله تعالى: ((يا نساء النّبيّ من يأتِ منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على اللّه يسيراً)) (الأحزاب/30)؟!

أما حد شارب الخمر فقد اتفق الصحابة على ثمانين جلدة في عهد عمر بن الخطاب. وجاء في أحد الآراء أنه لم يرد هناك حد لتلك العقوبة في عهد النبي (ص)، ولما جاء عمر (رض) أراد تحديدها فاستشار الصحابة، فأشار عليه الإمام علي (ع) بثمانين جلدة مستدلاً بدليل قياسي هو أنه ‹‹اذا شرب سكر، واذا سكر هذى، واذا هذى افترى››. وقد نقل العلماء هذا الحد وقبلوه حتى ولو كان نتاج القياس، وعلى رأسهم الإمام مالك في (الموطأ) الذي نقل بأن الذي أشار عليه هو الإمام علي[52]. وعلى رأي بعض آخر أن مستند الصحابة في ذلك هو الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل[53]. إذ كان حد الشارب في عهد النبي وأبي بكر أربعين جلدة، لكن عمر شدد في العقوبة في الحد فأوصلها إلى ثمانين جلدة، بعد مشورته للناس. وذكر إبن تيمية بأن الذي دعاه إلى ذلك هو أن الناس في زمنه قد أكثروا من شربها واستخفوا بحدها، لذلك زادها عليهم مع النفي وحلق الرأس، وكل ذلك لم يكن في عهد النبي (ص)[54].

وقد ورد عن الشافعي هو أنه اعتبر ما زاده عمر لم يكن حداً وإنما تعزيراً، حيث قرر بأن أصل حد الخمر هو أربعون جلدة، وما زاده عمر على الأربعين إنما كان من باب التعزير[55]. كما نُقل بأن النبي لم يحد الشارب وإنما كان يضرب بالنعال ضرباً غير محدود، وأن ابا بكر هو الذي شاور أصحاب الرسول وسألهم: كم بلغ ضرب الرسول لشارب الخمر فقدروه بأربعين. لكن روي عن أبي سعيد الخدري أن النبي ضرب في الخمر بنعلين أربعين، فجعل عمر مكان كل نعل سوطاً[56]. وكذا طرح الغزالي إشكالاً حول ما إذا كان الصحابة رجحوا بالمصلحة تعيين الحد بالثمانين فأجاب بأن ‹‹الصحيح أنه لم يكن مقدراً، لكن ضرب الشارب في زمان رسول الله كان بالنعال وأطراف الثياب فقدّر الصحابة ذلك على سبيل التعديل والتقويم بأربعين، ورأوا المصلحة في الزيادة فزادوا، والتعزيرات مفوضة إلى رأي الأئمة، فكأنه ثبت بالإجماع أنهم أُمروا بمراعاة المصلحة وقيل لهم اعملوا بما رأيتموه أصوب.. ومع هذا فلم يريدوا الزيادة على تعزير رسول الله (ص) إلا بتقريب من منصوصات الشرع فرأوا الشرب مظنة القذف لأن من سكر هذى ومن هذى افترى، ورأوا الشرع يقيم مظنة الشيء مقام نفس الشيء كما أقام النوم مقام الحدث..››[57]. كذلك فإن الشوكاني هو الآخر عارض كون عمر قام بالزيادة على الحد، واعتبر أنه لم يكن هناك مقدار معين في عهد النبي، إذ في بعض الروايات أنه ضرب بنحو الأربعين، وهو على نحو التخمين، وبعضها لم يحدد العدد. واستدل على ذلك بأن عمر ذاته طلب المشورة من الصحابة فأشاروا عليه بآرائهم، ولو كان قد ثبت تقديره عن النبي لما جهله أكابر الصحابة[58]. ويؤيده ما ورد عن الإمام علي في استدلاله بالقياس على تحديد المقدار، ولو كان هناك حد ثابت لما صح الاستدلال.

5 ـ الجهاد والواقع

ليس الجهاد من التعبديات التي لا تفهم أغراضه ومغازيه. فالقصد منه بدلالة كل من النص والواقع الخاص بالتنزيل دفع الظلم والعدوان ونشر الدعوة الدينية بحرية. ويعترف الفقهاء بصورة عامة بمقاصد الجهاد، لكنهم يختلفون حول مضمونها في اطروحتين كما يلي:

الإطروحة الأولى: وترى أن الهدف من الجهاد هو فرض الدين على الاخرين ولو بالقوة، اعتماداً على ظواهر بعض النصوص القرآنية.

الإطروحة الثانية: وترى أن الهدف منه هو رد الظلم والعدوان.

وبحسب الإطروحة الأولى قام الفقهاء بتقسيم العالم إلى دارين؛ دار اسلام ودار حرب. وهو تقسيم يجد مبرراته في النهج الماهوي للفهم الديني كما تبناه الفقهاء. فتبعاً لهذا المنطق الثنائي تكون الحرب هي الأصل الحاكم في العلاقة بين الدولة الإسلامية والدول الأخرى، وفقاً للشروط المعتبرة؛ كتوفر القوة الكافية وعدم دفع الجزية والاخضاع لمبدأ الصغار. فقد أُعتبر كل كتابي لم يدفع الجزية بأنه محارب وإن لم يشهر السلاح أو يقوم بالعدوان. وبذا جرى التمييز بين الذمي والحربي انطلاقاً من دفع الجزية وعدمه. ونسب البعض هذا الرأي إلى اجماع علماء مذهبه[59].

إذاً طبقاً لهذه الإطروحة فإن الأصل في علاقة الإسلام بالاخر هو الحرب لا السلم، وأنه دين سيف لا دين محبة وسلام. وتأكيداً على الأصل الحربي لتلك العلاقة؛ ذهب جماعة من الفقهاء إلى ان اقل ما يفعل من الجهاد في السنة مرة واحدة، أي يجب أن يقاتل المسلمون الكفار مرة واحدة على الأقل لكل سنة، ما لم يتعذر ذلك لعذر مشروع، مثل قلة عدد المسلمين وضعف عدتهم. بل يجب القتال بأكثر من مرة في السنة إن دعت الحاجة لذلك، باعتباره فرض كفاية فيجب منه ما تدعو الحاجة اليه[60]. وادعى الشيخ الكركي من الإمامية أن على ذلك إجماع المذهب[61]. وعلى رأي العز بن عبد السلام أنه يجوز الصلح مع الكفار خلال أربعة أشهر ولا يجوز أكثر من سنة[62].

وأهم ما عولت عليه هذه الإطروحة هو إطلاقات النصوص التي توجب محاربة أهل الكفر، كما جاء في سورة التوبة من آيتي السيف والجزية الآمرتين بقتال المشركين والكافرين ما لم تُدفع الجزية. وكذا ما جاء في السنّة من أن النبي كان يحث المؤمنين على قتال الكافرين بعد ان يدعوهم إما إلى الإسلام أو دفع الجزية، وما تشير اليه رسائل النبي (ص) إلى ملوك البلدان غير الإسلامية[63]. ومثل ذلك ما اتصف به حكم الخلفاء الراشدين.

وقد استدل البعض على المعنى السابق بقوله تعالى: ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله)). فذهب العديد من المفسرين إلى أن معنى الفتنة هو الكفر والشرك[64]، وقال الإمام الجصاص في تفسيره لهذه الآية بأنها توجب فرض قتال الكفار حتى يتركوا الكفر، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع ان الفتنة هنا هي الشرك[65]. وأما الدين فهو الانقياد لله بالطاعة. والدين الشرعي هو الانقياد لله عز وجل والاستسلام له. ودين الله هو الإسلام لقوله تعالى: ((إن الدين عند الله الإسلام)). واعتبر بعض المعاصرين ان قصد الإمام الجصاص من قوله (حتى يتركوا الكفر) هو (كفرهم المتعلق بالتشريع واتباع القانون الباطل، لأن التحليل والتحريم وتشريع الأحكام هو من الله وحده لا يجوز لغيره، فمن نازع الله هذا الحق أو ادعاه لنفسه كان ذلك منه كفر في نظر الشريعة الإسلامية)[66].

لكن جاء عن بعض الصحابة ان تفسير تلك الآية مرهون بما كان عليه واقع المسلمين اول الأمر من القلة، حيث كان الرجل يُفتن في دينه ليرده الكفار إلى الكفر بعد ايمانه[67]، أو ليقتلوه أو يوثقوه، حتى كثر الإسلام ولم يعد بامكان الكفار اضطهاد المسلمين أو تعذيبهم، ومن ثم زالت الفتنة، مثلما ذهب إلى ذلك ابن عمر، وهو المتبادر من معنى الآية عند صاحب تفسير (المنار)[68]، سيما وأن في ذيل الآية وما قبلها من الآيات المباشرة ما يمنع القتال بمجرد الكفر أو الشرك، إذ قال تعالى: ((وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين، فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان الا على الظالمين)) البقرة/190ـ193.

وعلى ما نقله ابن القيم وارتضاه عن جماعة من (ان القتل إنما وجب في مقابلة الحِراب لا في مقابلة الكفر، لذلك لا يقتل النساء ولا الصبيان ولا الزَّمنى والعميان ولا الرهبان الذين لا يقاتلون، بل نقاتل من حاربنا. وهذه كانت سيرة رسول الله (ص) في أهل الأرض)[69].

أما بحسب الإطروحة الثانية فإن الأصل في العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها هو السلم، وان القتال لا يكون بسبب الكفر ذاته، وانما لدفع الظلم والعدوان. وتظل آية ((لا إكراه في الدين)) حاكمة على غيرها من النصوص. فهذا الرأي هو الذي نسبه ابن تيمية إلى جمهور الفقهاء من امثال ابي حنيفة ومالك وابن حنبل وغيرهم[70]، وعدّ الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والاعتبار تثبته، خلافاً للرأي المعارض وما يترتب عليه من آثار سيئة، وهو المنسوب إلى الشافعي وغيره[71].

ان آية ((لا إكراه في الدين)) هي من الاهمية بمكان في ما نحن بصدده من البحث. ذلك أنها تبطل قول من يرى وجوب الإكراه في الدين وقتاله ولو كان موادعاً ومسالماً. وهي على رأي رشيد رضا قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام، وركن عظيم من اركان سياسته[72].

وعلى ضوء هذه الآية وآيات الموادعة والسلم ذهب اغلب الباحثين والفقهاء حديثاً إلى اعتبار الأصل في العلاقة مع الدول غير المسلمة هو السلم لا الحرب، محتجين بأن الحرب لم تكن لغرض الاعتقاد، بل لدواعي دفاعية ووقائية لصد الشر والعدوان. ومن ذلك قول عبد الله دراز: (ومن هذه المبادئ ان الحرب الشرعية لا تقوم الا من اجل دفع العدوان ويجب ان تتوقف بمجرد انتهائه)[73]. كما اعتبر الشيخ أبو زهرة أن الحرب من إغراء الشيطان، وأن من يسير فيها إنما يسير في خطواته، اعتماداً على قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان أنه لكم عدو مبين)) البقرة/208 [74]. وذهب إلى ذلك ايضاً كل من محمد رشيد رضا كما في تفسير (المنار) وكتابه (الوحي المحمدي) والعقاد في كتابه (عبقرية محمد) ووهبة الزحيلي في (آثار الحرب في الفقه الإسلامي) ومحمد الغزالي في (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين). فقد اعتبر رشيد رضا وغيره أن العلاقة بين دار الإسلام وغيرها هي في الأصل علاقة سلم، وإن ما سماه فقهاؤنا بـ (دار الحرب) إنما ينقسم إلى حربيين إن كان اهلها معادين مقاتلين للمسلمين، والى معاهدين إن كان بين الفريقين عهد وميثاق على السلم وحرية المعاملة في التجارة وغيرها[75].

وعموماً لو أننا عولنا على الحرب في أصل العلاقة مع الدول غير الإسلامية اعتماداً على النصوص تبعاً للنهج الماهوي وبغض النظر عما تظهره من تعارضات اطلاقية؛ سنرى أنه لا بد من أن يفضي ذلك إلى الصدام مع المقاصد. فالحرب بدلالة الواقع ليست هي على الدوام علاجاً ناجعاً؛ حتى مع توفر القوة والقدرة، فقد تخلّف من آثار الضرر والدمار ما لا يحمد عقباه. أما التعارضات الإطلاقية لنصوص الخطاب - حيث يدعو بعضها إلى الحرب فيما يدعو البعض الآخر إلى السلم - فهي لا تُفسَّر تفسيراً صحيحاً الا عند الإعتراف بأنها محكومة بفعل التمايزات والتغايرات التي شهدها الواقع الخاص بالتنزيل، مع أخذ اعتبار حاكمية المقاصد من العدل وعدم العدوان[76].

وبحسب المقاصد لا ضرورة لتقييد الجهاد بالحرب، سواء كان لأجل فرض الدين كما هو مفاد الإطروحة الأولى، أو لأجل صد الظلم والعدوان كما في الإطروحة الثانية، أو لمكافحة ما يطرح من طروحات منافية لما هو ديني. فحيث أنه من الوسائل لا الغايات؛ لذا صحّ أن تختلف أساليبه وتقدر طبقاً لما عليه الأحوال والأوضاع.

فبغير هذا المعنى نعود إلى الصيغة التعبدية التي تفرغ الجهاد من مقصده وفحواه، رغم أنه يفضي إلى ازهاق الارواح، وربما يكون بلا مبرر معقول؛ مما يتنافى مع مقاصد الشرع وأهدافه. فالجهاد والمجاهدة كما قال الراغب في (مفردات غريب القرآن) هما استفراغ الوسع في مدافعة العدو، سواء بمدافعة أهواء النفس الأمارة بالسوء، أو مدافعة العدو الخارجي باليد واللسان والمال وما اليها، وقد قال تعالى: ((وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله))، وجاء عن النبي (ص) قوله: (جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم)[77]. وبالتالي فمن الخطأ حصر الجهاد في الحرب وإزهاق الأرواح والنفوس، ومن ثم اعتبار الحرب والتصفية الجسدية هي الحالة الثابتة له.

فبدلالة الواقع أن للجهاد وسائل متعددة قد ينفع بعضها في ظرف ما، ويضر في ظرف آخر، أو لا يحقق ما يرجى له من المقاصد. فله أشكال مختلفة تشمل ضروب الصراع والكفاح، كما في الحرب ومن خلال صناديق الاقتراع والكلمة والإعلام والمبادرات السياسية والاقتصادية وصيغ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما اليها. وبدراسة الواقع مع أخذ المقاصد بعين الإعتبار قد يتبين الشكل الأنفع والأنسب من بين هذه الأشكال المختلفة.

وبعبارة أخرى، إن التقيد بمبدأ المقاصد ولحاظ الواقع يجعل التعيينات المطروحة بشأن الجهاد تعيينات غير ثابتة الكيفية. فهناك وسائل مختلفة لصور الجهاد، بعضها يمكن ان يصطدم مع المقاصد دون البعض الآخر، وذلك اعتماداً على كشف الواقع، فقد لا يتسق الجهاد الحربي معها، وعلى العكس قد يكون الجهاد الحركي غير المسلح مثمراً أكثر من غيره. فبالجهاد الأخير يمكن القيام بأمرين معاً: مدافعة الطرف الآخر، والعمل على محاربة المنكر، كالمساهمة في المشاركة السياسية مع مختلف الاتجاهات العلمانية وقبول مبدأ الديمقراطية كمنهج حركي عام تتحدد فيه المنافسة بين الاتجاهات المتباينة دون الدخول في المعترك الحربي، فيشترط الإحترام المتبادل لدى جميع الأطراف حيال اية رؤية يتم انتخابها بحسب ميول الاغلبية؛ ضمن قواعد دستورية محايدة يتفق عليها الجميع. فهذا الشكل من المجاهدة يفتح المجال امام الرؤية الدينية لأداء دورها في العمل البناء لتحقيق المقاصد؛ سواء كانت ضمن السلطة السياسية الحاكمة أو خارجها، وذلك بأقل الخسائر الممكنة مقارنة بالجهاد الحربي.

إذاً فللجهاد صور متنوعة؛ لا بحسب اعتبارات الواقع وما يكشف عنه من تغايرات تقتضي تنويع الموقف والمعاملة فقط، بل كذلك لإحتمال أن يأتي اليوم الذي يكون فيه الجهاد الحربي هو آخر ما ينبغي التفكير به، خوفاً مما يفضي اليه من فناء البشر بحرب مدمرة تهلك الحرث والنسل دون أن يُعرف لها آخرة ولا نتيجة.

6 ـ الأمر بالمعروف والواقع

ورد حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدد من الأحاديث ابرزها الحديث المأثور: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك اضعف الايمان). وتبعاً للفهم التقليدي المتداول للفقهاء توجد ثلاث مراتب للنهي: بالقلب والقول والقوة. وهناك اختلاف في التسلسل الذي ينبغي اتخاذه لتحقيق الغرض، أقربها للوجدان ذلك الذي يحملها على التدرج من الأيسر فالأعسر. لكن الشيء الذي يهمنا - هنا - هو ما يتعلق باستخدام القوة للنهي عن المنكر، استناداً إلى لفظ (اليد) التي لها دلالة عرفية ظاهرة على القوة.

والسؤال الذي يحق طرحه بهذا الصدد: لو أننا مارسنا هذه القوة في الحالات التي لا يجدي فيها النهي اللساني والقلبي نفعاً، فهل يا ترى سنصل إلى المطلوب الأمثل؟

لا شك ان للقوة اثراً ايجابياً في بعض الأحيان، لكن في أحيان أخرى - لا تقل مساحة عن الأولى - ليس لها ذلك المفعول، بل قد يكون لها مردود سلبي، خاصة بالنسبة للشعوب التي ألفت الحرية، مع ان من الممكن استخدام وسائل أخرى للنهي غير القوة، لا سيما حينما يكون المنكر متفشياً وسط تيار اجتماعي عام، ففي هذه الحالة ليس من السهل على القوة ان تفعل شيئاً، إنما لا بد من دراسة نفس الواقع الاجتماعي وما يتطلبه من صور للنهي، فقد يصلح ان يكون النهي من خلال انشاء نواد اسلامية أو مكتبات أو دور ثقافية أو اتحادات رياضية أو تسديد حاجات مادية أو اقامة اعلام وفنون هادفة وما إلى ذلك من الصور التي تستهدف محاربة المنكر، بما في ذلك طرق التغيير التي تمس رواسب الافكار المنحرفة في العقل الباطن، أي تلك التي لا يتحسس بها الفرد أنها عملية غسل وتهذيب بإتجاه المعروف.

ويلاحظ أننا هنا بين تفسيرين للمسألة، أحدهما تفسير النص من خلال الواقع فحسب، والآخر تفسيره من خلال المقاصد وعلاقتها بالواقع.

فمن حيث التفسير الأول تنضوي جميع الطرق التي ذكرناها كوسائل للنهي عن المنكر، بما فيها عامل القوة، تحت عنوان عام نطلق عليه (النشاط الإنساني). فليس من التأويل بشيء لو فسرنا (اليد) بهذا العنوان، إذ ينسجم مع سياق الحديث مثلما ينسجم مفهوم القوة، الا أن العنوان الأول قد دلنا عليه الواقع بصورة لا تقبل الشك، فلا يدع مجالاً للنزاع. كما أن التدرج الوارد في الحديث الآنف الذكر من النشاط الإنساني إلى القول فالقلب؛ هو تدرج يحمل انسياقاً طبيعياً لا تكلّف فيه. في حين لو أخذنا بالعنوان الآخر (القوة)، لكان الإنسياق متكلفاً فيما لو تدرجنا من الأيسر إلى الأعسر.

أما التفسير الثاني، فهو قائم على افتراض أن الظهور في لفظ (اليد) واضح بمعنى القوة، لكن مع ذلك فإن الحصر الوارد في النص يمكن أن يوجّه طبقاً للمقاصد وما دلّ عليه الواقع الاجتماعي، وهو أن سبب اقتصار النص على الأساليب الثلاثة المذكورة كان لغلبة تأثيرها وإلفة ممارستها في المجتمع الإسلامي القديم، مقارنة بغيرها من الأساليب، كالذي يصدق مع آية ((ومن رباط الخيل))، إذ المقصود بها ما هو سائد في المجتمع آنذاك، بشهادة تغير الواقع الحضاري مع أخذ اعتبار مقاصد الشريعة، طالما ان الحكم له معنى معقول وليس من التعبديات[78].

7 ـ الزكاة والواقع

أ ـ جاء عن موارد الزكاة من المحاصيل ما رُوي عن الشعبي أنه قال: كتب رسول الله (ص) إلى أهل اليمن: (إنما الصدقة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب). وقد اعتاد الفقهاء في فتاويهم التوقف عند هذه الأصناف الأربعة من الثمار لتحديد الزكاة، واعتبروا طبقاً للنص أنه لا زكاة في غيرها من الزروع والثمار. مع أنه لا يعقل أن يكون الحكم على تلك الموارد تعبدياً وأن غيرها من المحاصيل ليس عليها زكاة. لكن رأى بعض الفقهاء مثل أبي حنيفة (أن هذه الأصناف كانت تمثل المحصولات الرئيسية في جزيرة العرب، وأن ما عداها من ثمر لم يكن مالاً له خطر). أي أنه استند إلى الواقع في فهمه للنص فاعتبر الزكاة فيما هو رائج من المحاصيل، وبالتالي حكم على الزكاة في الثمار الأخرى، بل كل ما تنبته الأرض من المأكولات من القوت والفاكهة والخضر؛ استناداً إلى قوله تعالى: ((وهو الذي انشأ جنات معروشات وغير معروشات... كلوا من ثمره اذا اثمر وآتوا حقه يوم حصاده)) الانعام/141. وعليه أوجب الزكاة في كل من (التفاح والموز وسائر الفواكه، والفول والعدس والارز وسائر الحبوب، والبرتقال واليوسفي وسائر الموالح، والبن والشاي.. الخ)[79]، وهو ما أيده ابو بكر بن العربي[80]. كما ذهب رشيد رضا حديثاً إلى ان الحكمة في الحصر بتلك الزروع هي كونها القوت الغالب في ذلك الوقت[81].

والحال نفسه ينطبق على ما ذُكر من زكاة بحق الانعام وغيرها من الاشياء. وقد التفت بعض المعاصرين من الإمامية إلى ما تتضمنه الزكاة من معنى مقصدي، كما اشار إلى ذلك الإمام الخميني في بعض خطاباته؛ نافياً ان تندرج ضمن التعبديات. كذلك احتمل البعض أن موارد الزكاة في أصناف تسعة لم تصدر بعنوان التشريع العام[82]، وإنما بعنوان الحاكمية والولاية تبعاً لما إقتضته الظروف آنذاك من رواج تلك الأصناف، كما وضع في الحسبان إحتمال ان يكون الحصر تشريعاً، الا أنه جاء مخصوصاً للظرف السائد بإعتبار أن تلك الأصناف كانت من أشهر البضائع وأهمها[83].

والحال ان التصور الحديث لهذه المسألة نشأ بسبب تحولات الواقع. بمعنى أن الواقع هو ما دلّ عليه لا النص، رغم أن البعض، نتيجة لهذه التحولات، حاول ان يرد الإعتبار لبعض النصوص ولو على نحو التقريب، مثل استشهاده بما صنعه الإمام علي من جعل الزكاة على الخيل[84]، كذلك بما رواه الشيخ الطوسي في (التهذيب) عن أبي بصير أنه سأل الإمام الصادق فقال: هل في الأرز شيء من الزكاة؟ قال الإمام: نعم. ثم قال (ع): ان المدينة لم تكن يومئذ أرض أرز فيقال فيه، ولكنه قد جعل فيه، وكيف لا يكون فيه وعامة خراج العراق منه[85]. وهناك عدد من الروايات تفيد هذا المعنى[86]، لكن في قبالها يوجد عدد آخر من الروايات تؤكد ضرورة حصر الزكاة بما نصّ عليه النبي (ص)[87]. وكجمع بين النصوص ذهب الحر العاملي بأن الأحاديث التي تفيد عدم الحصر دالة على الإستحباب ونفي الوجوب، وما ظاهره الوجوب في روايات الحبوب يحتمل الحمل على التقية[88].

ب ـ وطبقاً للمقاصد فإنه لا يمكن الوقوف عند حرفية النص حول ما ورد بشأن الزكاة في النقدين من الذهب والفضة، كالذي عليه فقه الإمامية. فالنقد في العصر الحديث تحول إلى عملات ورقية، والوقوف عند حرفية النص يمنع جريان الزكاة عليها. الأمر الذي يفضي إلى خلاف ما قصده الشارع من وضع الزكاة على المال المتداول، حيث لا يعقل أنه جعلها بخصوص الذهب والفضة بما هما كذلك، والا لكانت الزكاة لا تنحصر بالنقدين منهما، بل لشملت سائر مواردهما مما لا يعد من النقد[89]. وبذلك نفهم ان الملاك يتحدد بالمالية المتداولة أو النقد. وبغير هذا الاعتبار سنقع في تعبدية ليست مفهومة ولا معقولة، في حين أنها تجري في قضية يُفترض ان يكون لها معنى محصل بشهادة الواقع.

على ذلك صحّ ما لجأ اليه الشيخ محمد جواد مغنية في نقده للفقهاء المعاصرين من الإمامية الذين وقفوا عند حدود القالب الحرفي من النص دون اعتبار للدلالات الأخرى كما يبدو ذلك من المقاصد والواقع، فذكر يقول: (قال فقهاء هذا العصر كلهم أو جلهم: ان الأموال اذا كانت من نوع الورق، كما هي اليوم، فلا زكاة فيها وقوفاً عند حرفية النص الذي نطق بالنقدين الذهب والفضة، ونحن على خلاف معهم، ونقول بالتعميم لكل ما يصدق عليه اسم المال و(العملة)، وان النقدين في كلام أهل البيت (ع) أخذ وسيلة لا غاية، حيث كانا العملة الوحيدة في ذلك العهد، وليس هذا من باب القياس المحرم، لأن القياس مأخوذ في مفهومه وحقيقته ان تكون العلة المستنبطة مظنونة لا معلومة، لأن الظن لا يغني عن الحق شيئاً، ونحن هنا نعلم علم اليقين ان علة الزكاة في النقدين موجودة بالذات في الورق، لا مظنونة، فتكون كالعلة المنصوصة أو أقوى، لا من باب القياس المظنون المجمع على تحريم العمل به)[90].

8 ـ ربا القروض والواقع

ليس هناك قيمة يقرها وجدان العقل اعظم من العدل. فالعدل على رأس القرارات الذي يدين له العقل بالصحة والصدق. وهو على رأس الأحكام التي تبشر بها جميع الأديان السماوية، وتعترف به كل الأعراف والقوانين الوضعية. كما أنه يقع في قمة هرم المقاصد التي نادت بها الشريعة الإسلامية، واعتبرته هدفاً اعلى للرسالات الإلهية، كما في قوله تعالى: ((ولقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)).

ويكفينا من كل ذلك ما تطابق عليه العقل والشرع في ضرورة مراعاته من غير تفريط. فهو الأصل في كل العقود مثلما صرح بذلك ابن القيم في احد عناوين كتابه (اعلام الموقعين)[91]. لكن هل التفتت الطريقة التقليدية لهذا المقصد الكلي وهي تتدارس جزئيات الاحكام؟

لعل الأمر البارز في هذه الطريقة هو أنها حصرت نفسها في دائرة الاهتمام بالجزئي من الأحكام فحجبها ذلك عن رؤية الكلي. لذلك نجد الحرفية طغت على نتاجها، واصبح الدوران في فلك الجزئيات يشكل الغاية من جهودها المضنية. فكانت النتيجة من اهمال النظر في الكليات أن قدّمت لنا في كثير من الاحيان نتائج عكسية حول معالجتها للجزئيات، إذ جاءت مخالفة لمقاصد الشرع، بل ومصادمة للعقل وحكمه الوجداني. فاذا كان للواقع تأثير على الأحكام، وكان من الطبيعي ان تتبدل هذه الأحكام تبعاً لتغير الواقع؛ فإن ما يحفظ بقاء الشريعة ويصونها من التغير والانحراف إنما هو المقاصد الاساسية التي تصرف عقل المسلم باتجاه الوجهة الصحيحة، مهما كانت طبيعة التغيرات التي تصادف الأحكام الجزئية، خاصة اذا ما أيد ذلك وجدان العقل وصدّقه الواقع.

ولعلنا لسنا بحاجة إلى التذكير بأن الأخذ بالجزئي اذا كان على حساب الكلي يفضي ولا شك إلى هدم الشريعة من جذورها. وكما يقول الشاطبي: ان المجتهد (تكون مخالفته تارة في جزئي، وهو اخف، وتارة في كلي من كليات الشريعة العامة، كانت من اصول الاعتقادات أو الاعمال، فتراه آخذاً ببعض جزئياتها في هدم كلياتها)[92].

هذا هو حال مسألتنا حول إيفاء القروض، إذ شهدت صداماً حاداً بين الموقف الفقهي التقليدي الذي لجأ إلى الحرفية من غير نظر إلى الكليات، وبين مقاصد الشرع واحكام العقل. فالمنظور الفقهي لقضية القرض بالعملات النقدية يعتمد على مبدأ الوفاء بالمثل من غير اهتمام لما يفرزه الواقع من تغايرات تؤثر على طبيعة الحكم، نظراً لتدخل المقصد الكلي المغيب عن الرؤية. فما يصح من حكم في ظرف ما قد يبطل في ظرف اخر، والعكس بالعكس. لكن الذي يكشف عن صدقه وبطلانه إنما هو المقصد الشرعي ذاته، فكيف اذا ما زاد عليه حكم العقل بالوجدان؟!

من المعلوم ان القوة الشرائية للنقد في المجتمعات القديمة، ومنها مجتمع عصر الرسالة، تتصف بضآلة التغير أو الثبات النسبي قياساً بما عليه العصر الحديث، والحاضر منه على وجه الخصوص، وهو عصر التشابك والسرعة والمفاجآت. فمما ذكره المؤرخون ان الدينار كان في العصر الإسلامي الأول يساوي عشرة دراهم، لكنه صار في النصف الثاني من العهد الاموي مساوياً لاثني عشر درهماً، ثم ازداد في العصر العباسي وصار يساوي خمسة عشر أو اكثر[93]. وذكر المقريزي أنه في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي (ابو علي المنصور بن العزيز) تزايدت الدراهم وازداد سعر الدينار حتى أصبح يساوي أربعة وثلاثين درهماً[94].

مع هذا فإن ما ذُكر من تغير في العملة وقيمتها الشرائية لا يمكن مقارنته بالتضخم الحاصل في عصرنا الحالي. إذ أخذت الحركة الاقتصادية لبلدان العالم تطرأ عليها تغيرات ضخمة بين فينة واخرى، وأثّر هذا الحال على المستوى المعيشي للفرد، كما أثّر على المستوى الاقتصادي للدولة، إذ أخذ التغير يصيب القوة الشرائية للاوراق المالية أو النقد باضطراد في كثير من الاحيان، مما جعل اغلب البلدان تعاني من التدهور المستمر لهذه القوة.

وما يعنينا من هذا الأمر هو كيف يمكن التعامل مع القروض المالية، إذ ما يعطى من مال لأجل طويل الامد يسترد بقيمة تختلف في الغالب مع القيمة المعطاة، ففي مثل هذه الحالة نكون قد وقعنا بنوع من المقامرة والغرر، وغالباً ما يكون الدائن هو المصاب بالخسران. وعليه هل يصح وفاء الدين بالمثل، أي بنفس الكمية النقدية للمال ولو لم تساو شيئاً يذكر.. أو يقدر بقيمة ما يحمله من قوة شرائية عند ابتداء العقد؟

لنوجه هذا السؤال إلى طريقة الإجتهاد التقليدية لنتعرف على اجابتها ومبرراتها.

ما من شك ان هذه الطريقة تلتزم الموقف المعتاد في التعامل مع قضايا الأحكام من منطق الحرفية، ومن ذلك قضيتنا المطروحة حول القرض. فهي تعتبر التشريع الخاص به ثابتاً لا يقبل التبديل؛ لتُجنب حالها من السقوط في مستنقع الربا المنهي عنه شرعاً، حتى جاء عن النبي (ص) قوله: (كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا)[95]. لذا فإن الدائن لا يأخذ من المدين الا بقدر ما أدانه، وينطبق ذلك على العملات النقدية، رغم دوام ما تتعرض له من الخلخلة والهزات ضعفاً وقوة، ظناً من ان الزيادة الموهومة - أو النفع الموهوم - في الوفاء هي ربا.

فقد قال الإمام مالك كما في (المدونة): (كل شيء أعطيته إلى أجل فردّ اليك مثله وزيادة فهو ربا). وجاء في (المدونة) ايضاً: (قلت: ارأيت إن اتيت إلى رجل فقلت له سلفني درهم فلوس ففعل، وفلوس يومئذ مائة فلس بدرهم، ثم حالت الفلوس ورخصت حتى صارت مائتا فلس بدرهم؟ قال - أي مالك -: إنما يردّ مثل ما أخذ السعر فأشبه الحنطة ان رخصت أو غلت).

وقال الدردير في الشرح الصغير لـ (بلغة السالك): (وإن بطلت معاملة من دنانير أو دراهم أو فلوس ترتبت لشخص على غيره من قرض أو بيع، وتغير التعامل بها بزيادة أو نقص، فالواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته إن كانت موجودة في بلد المعاملة). وقال ايضاً: (وردّ المقترض مثله قدراً وصفة أو ردّ عينه اذا لم يتغير في ذاته عنده). وقال الصاوي في شرحه لقول الدردير الأخير: (فالواجب قضاء المثل، أي لو كان مائة بدرهم ثم صارت ألفاً بدرهم أو بالعكس، وكذا لو كان الريال حين العقد بتسعين ثم صارت بمائة وسبعين وبالعكس، وكذا اذا كان الحبوب بمائة وعشرين ثم صار بمائتين أو بالعكس وهكذا).

وقال الإمام الشافعي في كتاب (الأُم): (ومن سلّف فلوساً أو دراهم أو باع بها ثم ابطلها السلطان فليس له الا مثل فلوسه أو دراهمه التي اسلف أو باع بها).

وقال الشيرازي في (المهذب): (ويجب على المستقرض ردّ المثل فيما له مثل، لأن مقتضى القرض ردّ المثل).

وقال النووي في (روضة الطالبين): (ولو اقرضه نقداً فابطل السلطان المعاملة به فليس له الا النقد الذي اقرضه).

وقال ابن قدامة في (المغني): (المستقرض يردّ المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا أو كان بحاله).

وقال ابن قدامة ايضاً: (وإن كانت الدراهم يتعامل بها عدداً فاستقرض عدداً ردّ عدداً، وان استقرض وزناً ردّ وزناً). وقال ايضاً: (المستقرض يردّ المثل من المثليات سواء رخص سعره أو غلا أو كان بحاله.. وأما رخص السعر فلا يمنع ردّها سواء كان كثيراً؛ مثل إن كانت عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق، أو قليلاً لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر فاشبه الحنطة إن رخصت أو غلت).

وفي مجلة الأحكام الشرعية في الفقه الحنبلي جاء في المادة (750): (اذا كان القرض فلوساً أو دراهم مكسرة أو اوراقاً نقدية فغلت أو رخصت أو كسدت ولم تحرم المعاملة بها وجب ردّ مثلها).

وقال ابن تيمية في (مجموع الفتاوى): (لا يجب في القرض الا ردّ المثل بلا زيادة). وقال: (وليس له ان يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء، والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته).

وقال ابن حزم في (المحلى): (ولا يجوز في القرض الا رد مثل ما اقترض لا من سوى نوعه اصلاً). وهو قد اعتبر ذلك من الاجماع المقطوع به[96].

كما ذكر صاحب (الجواهر) من الإمامية أنه لو اقترض شخص دراهم ثم اسقطها السلطان وجاء بدراهم غيرها، فإن ما يلزم به المقترض إنما هو الدراهم الأولى الساقطة وليس الثانية. وهو في رأيه هذا يخالف ما ذكره الصدوق من ان الواجب على المقترض هو ما جاز التعامل به عند الناس[97]. وسبب الخلاف يعود إلى اختلاف الروايات المنقولة بهذا الصدد[98].

هذه جملة من نصوص الطريقة التقليدية نقلناها وهي تؤكد مبدأ المثل في الإقتراض، وكان الأولى الإلتزام بمبدأ التساوي في القيمة لا المثل، وفرق بين الامرين كبير.

ومن حيث الدقة؛ فإن مادة القرض تارة تكون استعمالية، وأخرى تبادلية سوقية. فاذا كان الغالب في المواد هو الاستعمال لا التبادل، أو ان المقرض اقرض مادة كان يتعامل معها معاملة استعمالية؛ فإن وفاء حق الدين يصح بارجاع المثل، سواء رخصت هذه المادة أم غلت، وذلك اعتماداً على مقدار القيمة التي تحققها المادة بالنسبة إلى مالكها، وهي قيمة تجد قدرها بما كانت عليه من وضع استعمالي وليس تبادلي. إذ الشيء المستعمل لا ينقص من قدره شيء اذا ما رُدّ مثيله، سواء رخص في السوق أم غلا.

لكن لو كانت المادة المقترضة تبادلية كما هو حال العملات، سيما الورقية منها، فإن قيمتها تتحدد بما يكشف عنه السوق باعتبارها تحمل القدرة الشرائية المفترضة، وهنا لا يصح الوفاء بالمثل، إذ لو غلت المادة فإن القيام بردّ المثل سيشكل ضرراً على المقترض، أما لو رخصت فإن الضرر سيلحق بالمقرض. في حين أن الحفاظ على رأس مال كلا الطرفين دون نقص ولا ضرر؛ يفرض علينا تعيين القيمة بما كانت عليه المادة وقت الإقتراض. فهذا هو العدل الذي تشهد له العقول والفطرة الإنسانية.

وكان يمكن ان نعذر الطريقة التقليدية في دفاعها عن مبدأ الرد بالمثل لو أنها اكتفت بالصيغ العامة دون الاشارة إلى الغلاء والرخص واسقاط العملة. لكن لمّا كانت صريحة وواعية لأمر ما يفرضه الزمان على تغير القوة الشرائية للنقد، لذا فهي غير معذورة بتجاهلها للمقصد الشرعي من المعاملة القرضية، تبعاً لما ألفته من الممارسة الحرفية للفهم والتفكير.

لا شك ان المعاملة بالمثل مبررة تماماً في مجتمع لم يشهد تحولات بارزة في القوة الشرائية للنقد[99]، وكذا القيمة التبادلية للمال، كما هو حال عصر النص. وبالتالي فهي تمثل عين العدل الذي هو الأصل في جميع العقود. لذلك نهى الشرع عن الربا لما فيه من الظلم، والله تعالى يقول: ((وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون)) البقرة/279، وهي الحكمة التي صرح بها فقهاء الإسلام من أمثال ابن تيمية وغيره[100]، أو كما ورد عن الإمامين الصادقين (الباقر والصادق ع) أن النهي عن الربا إنما ورد لئلا يذهب المعروف ويتمانع الناس[101]، حيث يزول التعاون وتنعدم الأخوة.

لكن هل ينطبق هذا الأمر على ما يحدث من تحولات لقيمة المال المتعامل به في القرض كما عليه الوضع في ايامنا هذه؟ فهل هناك زيادة وربا يتحقق فيه الظلم ويصدق معه أمثال الحديث النبوي: (كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا)؟ وذلك اذا ما غضضنا الطرف عن أن التعويل على حرفية هذا الحديث لا يتضارب مع مبدأ عدم المثلية؛ لكونه يشترط في الربا وجود المنفعة الزائدة، والحال أن المبدأ الآنف الذكر لا يفضي بالضرورة إلى هذه المنفعة، بل يصح أن يقال بأن العكس حاصل اليوم عند تطبيق مبدأ المثلية، وغالباً ما يكون النفع الزائد من نصيب المقترض على حساب المقرض.

ويلاحظ ان الأمور قد انقلبت رأساً على عقب. فاذا كان النفع والربا يحصل - غالباً - في المجتمعات القديمة، وعلى رأسها مجتمع عصر النص، لمجرد إشراط الزيادة عند استرداد القرض؛ فإن حال اليوم غير ذلك تماماً، حيث ينشأ في كثير من الاحيان نوع من الغرر والمقامرة لدى تطبيق مبدأ المثلية، مما يفضي إلى النفع (الربا) العائد إلى أحد الطرفين المتعاقدين، المقرض أو المقترض. فشتان بين اليوم والبارحة!

فالخلخلة والتغير الذي يطرأ على قيمة العملة النقدية، ومنه الهزات الفجائية العنيفة التي تفضي بها إلى الانهيار أو القفز غير المرتقب، يعمل على تحويل موضوع الحكم فيجعل العلاقة القائمة بين الدائن والمدين مما هي علاقة يفترض قيامها على العدل والانصاف إلى علاقة يسودها الظلم والإجحاف، لما فيها من غرر ومقامرة. أو هي إن صح التعبير عبارة عن نوع من الربا، سواء لصالح الدائن أو المدين. فليس كما يقال ان الربا حاصل في العدول عن تلك الصيغة باعتبار الزيادة المعطاة عند الوفاء وربما النقصان بحسب ما يقدّر من القيمة الشرائية، إذ الأمر واضح من ان الزيادة والنقيصة المقدرتين لم تؤثرا على حقيقة التعادل والتساوي فيما تحمله من القيمة النفعية التي تشكل ملاك النقد والغرض من المعاملة الاقتصادية، ومنها المعاملة القرضية. فلولا الاستنفاع ما كان للنقد قيمة، ولأصبح حاله حال العملات الساقطة غير المنتفع بها.

على هذا نعجب من الرأي الذي يذهب إلى وجوب استرداد النقد الساقط تبعاً لمبدأ المثلية اذا ما ذهبت منفعته عن الدائن عند السقوط بعد ان استوفى غرضها المدين، فيفضي ذلك إلى أشد حالات الاجحاف بحق الدائن، حيث ان استلامه للنقود الساقطة تعني استلام ما قيمته مهدورة ومنفعته زائلة، أي أنه لم يستلم في حقيقة الأمر شيئاً، وهو بخلاف ما قدمه للمقترض من قيمة نفعية، لهذا كان الاجحاف بليغاً. ولا يستبعد أن نجد وسط علماء عصرنا الحاضر من يستصحب هذا الرأي، بتقليد ما عليه الفقهاء القدماء، فيكون الأمر اعجب مما سبق، إذ أن سقوط العملة في الماضي لا يؤدي - عادة - إلى اهدار قيمتها كلياً طالما ان العملة الرئيسية كانت من الذهب والفضة، وهما معدنان لا يفقدان كامل قيمتهما، حيث ان لهما موارد الاستعمال مثلما يشكلان مادة للتبادل السوقي، لكن لا يشك بأن اسقاطهما لا بد وأن يؤثر على قيمتهما بالانتقاص، وبالتالي يعود الضرر على المقرض اذا ما تم ارجاعهما اليه. أما الحال في الوقت الحاضر فإنه يختلف من حيث ان اسقاط العملة يفضي إلى اهدار قيمتها كلياً.

والعبرة من تركيزنا على العملة الساقطة هو للكشف عن ان أصل القرض وحقيقته لا يمت إلى ذات العملة وما عسى ان تكون عليه، وانما يتعلق بمردودها النفعي المتعارف عليه. فالقرض ليس قرضاً للنقد ذاته، بل للمنفعة التي يستنفع بها تبعاً للعرف أو المرتكز العقلائي. وبذلك تكون المنفعة هي أصل العلاقة القرضية وإن لم يشترط بها في العقد، لكونها عرفية عقلائية لا تحتاج إلى مشارطة. فليست العملة في حد ذاتها ميزاناً مطلقاً لتقدير القيمة النفعية مادامت غير ثابتة ومستقرة، بل ميزان ذلك هو تقدير تلك القيمة زمن الاقتراض ومحل تعامل المقرض وتحويلها إلى ما يعادلها من نقد.

وأرى من التناقض السافر لأولئك الذين ميزوا بين الظرف الذي تتغير فيه القوة الشرائية للنقد أو المال، وبين الظرف الذي تسقط فيه العملة من قبل السلطان، فرضوا بمبدأ المثل في الظرف الأول دون الثاني، إذ تعاملوا مع هذا الأخير بردّ ما يعادل القيمة المستحقة تبعاً لسقوط القيمة من النقد كلياً. فالعجب من بعض المعاصرين ممن ذهبوا إلى مثل هذا الرأي رغم أنهم شهدوا الحالات التي تهبط فيها العملة إلى ما يقارب الصفر، فأي فرق في هذه الحالة بين العملة الساقطة وبين الظرف الذي تصل فيه العملة إلى إنهيار قيمتها لما يقارب الزوال التام؟!

افترض انك قبل التسعينات من القرن المنصرم اقترضت مبلغاً من احد الناس بقدر مائة دينار عراقي، على أن تردّه اليه في أواخر التسعينات، ثم حلّ اليوم الذي تفي فيه التزامك، وهو أن تعطيه المائة، لكن حيث أن العملة العراقية أصابها الإنهيار الشديد، ففي هذه الحالة تصبح كأنك اقترضت ما يمكن ان تنتفع به لشراء جهاز تلفاز أو معيشة أكثر من شهر أو استئجار شقة لشهرين، الا انك رددت إلى صاحب المال ما يمكن ان ينتفع به في ذلك الوقت لشراء رغيف خبز أو بيضتين فقط[102]. فأي فرق يظل بين هذه القيمة الإستردادية القريبة من اللاشيء، وبين ما لو اسقط السلطان هذه العملة فترد اليه ذات العملة الساقطة والتي لا تختلف كثيراً عن هبوطها المشار اليه.. فأي فرق جوهري ليعتبر بعض فقهاء عصرنا وجوب الرد بالمثل في الحالة الأولى الهابطة دون الثانية الساقطة بفعل السلطان؟!

فالعامل الذي يجمع ما بين العملة الساقطة والهابطة هو ان قيمتها الأصلية قد تغيرت، وهو ذات المشترك الذي ينطبق على تغير القيمة؛ كثيراً أو قليلاً، فجأة أو تدريجاً، زيادة أو نقيصة، فكلها تخضع إلى عامل مشترك لا يقبل التفكيك، وهو التغير في القيمة الشرائية أو النفعية.

وقد اخطأ الفقيه كاظم الحائري عندما اعتمد على حرفية الآية الكريمة ((وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون)) ليستنتج منها شرط توفر الاوصاف الذاتية في العملة والمثلية عند الوفاء. وكأنه بهذه الحرفية يضع للعملة قيمة ذاتية يدور عليها التعامل والتعاقد مثلما هو الحال في سائر المواد المنتفع بها، بعيداً عن المقاصد وعدم الالتفات إلى مضمون قوله تعالى في ذات الآية ((لا تظلمون ولا تُظلمون)). إذ لا يشك ان الظلم والضرر متحقق اليوم لا محالة لدى تطبيق مبدأ المثلية. والغريب ان فقيهنا المعاصر حينما تعرض لموضوع الغصب؛ استنتج منه ما هو خلاف استنتاجه في حالة القرض، مع ان المبررات التي وضعها كأدلة في موضوع الغصب هي ذاتها تنطبق على موضوع القرض بلا فرق. فهو يقول: (إن من غصب ألف دينار وبعد خمسين سنة تاب إلى الله وأراد ارجاع المبلغ بعد أن سقط الدينار سقوطاً فظيعاً خلال خمسين سنة نتيجة للتضخم المتزايد في البلاد، وجب عليه ارجاع ما يناسب هذا التضخم، ولا يكفيه ارجاع نفس المبلغ القديم، وذلك تداركاً للضرر الذي يحكم به الارتكاز العقلائي تمسكاً بقاعدة نفي الضرر)[103].

مع أن نفس هذا المقال يصدق على موضوع القرض، فيصح أن يقال بأن وفاء القرض ينبغي ان يحسب طبقاً لتساوي القيمة النفعية أو الشرائية (وذلك تداركاً للضرر الذي يحكم به الارتكاز العقلائي تمسكاً بقاعدة نفي الضرر). وكذلك كي لا يكون عنواناً للغرر كما بينّا.

وحتى لو سلمنا جدلاً بأن الآية المذكورة ليست بصدد الواقع الخاص بالتنزيل والذي لم يشهد تحولات في تغير القيم النفعية للأموال مثلما عليه الحال في الوقت الحاضر، إذ لا ريب ان المخاطب الأصلي والمباشر هو ذلك المجتمع بمختلف ملابساته كما بينا ذلك في (جدلية الخطاب والواقع)، وحتى لو ابتعدنا عن حكم العقل الخاص بأن الوفاء بالمثل قد فقد موضوعه اليوم لكثير من الحالات تبعاً لما يجر اليه من الظلم والاجحاف بحق احد الطرفين، وكذا لو لم نستند إلى ما يفضي اليه مبدأ المثلية اليوم من المقامرة والغرر المنهي عنهما في الشريعة... فحتى لو أننا ابتعدنا عن كل ذلك واتجهنا إلى ذات الآية الكريمة موضع البحث وقريب عن الادوات الحرفية التي تمارس لفهمها؛ نجد أن آخر الآية يشير بالقول: ((لا تظلمون ولا تُظلمون)). ففي هذه الحالة إما ان نعتبر التطبيق الحرفي للآية في ردّ المثلية لا يؤدي إلى الظلم، وبذلك نكون قد عولنا على أمر يشهد الوجدان على بطلانه أحياناً، أو ان الغرض من الآية هو تحقيق العدل بردّ رؤوس الأموال بالطريقة التي لا تؤدي إلى الظلم، لكن دون أن تحدد طبيعة هذه الطريقة وما هو المقصود من رؤوس الأموال، هل هو النقد المتعارف عليه، أو قيمة هذا النقد؟ فإذا كنّا في تردد من ذلك تبعاً لذيل الاية، فإن من الطبيعي أن تكون معاملتنا مبنية على القصد المذكور في آخر الآية كموجه للفهم دون تجاوزه.

بل يشتد التناقض عندما لا يعول فقيهنا السابق على مبدأ استرداد ما يماثل العملة في حالة اسقاط السلطان لها، بدعوى ان رواج العملة هو ايضاً داخل ضمن الاوصاف الذاتية لها لا النسبية، حاله حال اللون والشكل وما إلى ذلك[104]. لكن الصحيح أنه حتى على فرض اعتبار الرواج من الصفات الذاتية بالمعنى الذي قصده، فلا يعني ذلك كل ما دخل هذه الصفات يصح اعتباره. فلو ان من صفات العملة المتداولة اللون الابيض، فلا يصح استنتاج أنه اذا تغير هذا اللون إلى لون آخر فإنه يفقد طبيعته التداولية وبالتالي يفقد الطبيعة الاستردادية بالمثل كما في القرض. إذ يتوقف رواج العملة على ما يعتبره العرف أو أصحاب القرار بغض النظر عن طبيعة ما تحمله العملة من صفات. بل كيف يقال هذا ونحن نعلم ان من الممكن ان تحمل العملة الساقطة صفات ذاتية تحقق مبدأ المثلية أكثر من الجديدة؟ وبالتالي كيف يصح العمل بالجديدة وهي تفتقد للكثير من الصفات التي تحملها العملة الساقطة؟ إذ من الممكن أن تتصف العملة الجديدة بصفات جد مغايرة لما كانت عليه العملة الساقطة، فما هو مبرر التعويل اذاً على العملة الجديدة في الاسترداد بالمثل؟! والاهم من كل ذلك ان قبول التعويض بالعملة الجديدة عوض الساقطة هو ضرب لمبدأ المثلية كلية، رغم أنه موضع النزاع. لهذا لا مبرر للتفكيك بين حالتي تدهور العملة واسقاطها؟ فإن قيل ان بالاسقاط يتحقق الضرر، وهو مبرر التعويض، قلنا كذلك الأمر يحدث في حالة تغير قيمتها الشرائية عند الارتفاع والهبوط.

وعلى العموم يلاحظ أننا بين أمرين: الأول هو ان نحافظ على حرفية الحكم المنصوص في ايفاء الدين، وبه نصطدم مع العدل الذي هو الأصل في العقود والغاية من المعاملات، بل ونعمل على سد باب الخير والمعروف، لأنه يدفع الناس على تجنب إقراض الغير خشية الوقوع في الضرر من النقيصة المستردة. أما الثاني فهو ان نعمل على تغيير الحكم استناداً إلى تغير موضوعه بما يتفق مع أصل العدل الذي قامت به السماوات والأرض، وأنه من اعظم المقاصد التي تتوخاها الشريعة، وان الخدش به يعني خدشاً بالعقل والشريعة على السواء.

ولقد صدق ابن القيم بتحكيم وجدانه في نظرته إلى العدل وطرقه التي لا تتقيد بقيود ولا تتنافى مع شرع، فحيثما تحقق وبأي طريق كان فإن ذلك لا يخرجه عن الدين ومقاصده. وعلى ما ذكره بأن الله اعدل من (ان يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو اظهر منها واقوى دلالة، وابين امارة. فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها. بل قد بيّن سبحانه بما شرعه من الطرق: ان مقصوده اقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط. فاي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له)[105]. كما قال: (إن الله ارسل رسوله وانزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، فاذا ظهرت امارات الحق، وقامت أدلة العقل، واسفر صبحه باي طريق كان؛ فثم شرع الله ودينه ورضاه وامره، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وادلته واماراته في نوع واحد وابطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وادل واظهر، بل بيّن بما شرعه من الطرق ان مقصوده اقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فاي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها، والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها، وانما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبه بما شرعه من الطرق على اسبابها وامثالها، ولن تجد طريقاً من الطرق المثبتة للحق الا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها، وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك؟)[106]. وعلى شاكلته صرح المرحوم مرتضى مطهري قائلاً: (اصل العدالة أنها من معايير الإسلام، بحيث يجب ان يلحظ ما يتطابق معها وما لا يتطابق. تقع العدالة في سياق سلسلة علل الأحكام، لا في سلسلة المعلولات، فليس ما يقوله الدين هو العدل، بل حيثما يكون العدل ينطق به الدين. وهذا هو معنى كون العدالة معياراً للدين)[107].

هكذا يتضح أنه ليس من العقل أو الشرع التضحية بمقصد ثابت هو من اعظم المقاصد واشملها قبال حكم جزئي اقل ما يقال فيه أنه من أحكام الوسيلة التي تتغير بحسب الوقائع والظروف. لذلك فمن واجب القوانين المدنية للدولة الإسلامية - وكذا الفقهاء - أن تراعي وضع التقديرات النسبية للقروض وفق معدلات التغير للقوة الشرائية للنقد؛ ضمن مدد مقدرة قابلة للتجديد بين زمن وآخر، كذلك وضع صيغ للحالات الإستثنائية الطارئة التي يصاب بها النقد بالهزّات الفجائية قفزاً وانهياراً، دفعاً للظلم والإجحاف.

9 ـ المقدرات المالية والواقع

وينطبق ما سبق عرضه في الفقرة السابقة على جميع المقدرات المالية كالدية ونصاب الزكاة والكفارات وما إلى ذلك مما قدّره الشرع، طالما ان قوتها الشرائية تتعرض إلى التغيير بفعل تغيرات الظروف والواقع، خلافاً للنهج الحرفي الماهوي الذي لجأت اليه الطريقة التقليدية، إذ حددت المقادير طبقاً للإعتبارات الحرفية التي وردت في نصوص الشرع، سواء بالإبل أو الأبقار أو الشياه أو الحلل - الثياب - أو الدنانير الذهبية أو الدراهم الفضية أو غيرها.

فمثلاً قُدّرت دية القتل بحسب ما جاء عن النبي (ص) بأنها مائة من الإبل أو ألف دينار من الذهب أو عشرة آلاف درهم من الفضة، أو ألف شاة أو مائتا بقرة أو مائتا حلة كل حلة ثوبان. وصرح النجفي من الإمامية أنه لم يجد على هذه المقادير خلافاً بين العلماء، بل عن كتاب (الغنية) ان الاجماع حاصل فيها[108]. كما قُدّر نصاب الزكاة عشرين دينار من الذهب أو مائتي درهم من الفضة أو خمساً من الإبل أو أربعين من الغنم أو خمسة أوسق من الزبيب أو التمر. وقد اعتبر الاستاذ عبد الوهاب خلاف ان التخيير الوارد في قيم الدية مبني على التقارب في قيمها، ثم قال: (ولا شك ان تساوي هذه المقادير أو تقاربها أمر زمني مراعى فيه حال البيئة وقت التشريع وخاضع لنظرية العرض والطلب). وكذا الأمر مع قيم نصاب الزكاة[109].

والملاحظ ان القيم الشرائية لجميع هذه المقادير أصبحت عرضة للتغير والتحول؛ مقارنة مع ما كانت عليه في عصر النص. لذلك لا يعقل أن تسدَّد هذه المقادير اليوم بنفس ما هو مقدر حرفياً بالنص، طالما كانت قيمها النفعية متفاوتة بين العصرين.

فلو اتبعنا النهج الحرفي الماهوي كما سلكته الطريقة التقليدية؛ لوقعنا بمشكل المعارضة مع العدل والانصاف، مثل ما مرّ علينا في قضية القروض. فمثلاً قدّرت اللجنة المنتخبة من علماء المذاهب الأربعة، كما في كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة) الذي اعتمدته وزارة الاوقاف المصرية، أن تضع للزكاة نصابين أحدهما مقدر بالذهب والآخر بالفضة، لكنها أفضت إلى جعل أحدهما يفوق الآخر بأكثر من ثلاث عشرة مرة حسب العملة المصرية، إذ يقدر الأول بـ (1187 ونصف القرش) والاخر بـ (529 وثلثي القرش)[110]، فهل يعقل أن يكون هناك نصابان متفاوتان إلى هذا الحد، واي منهما يقع تحت دائرة التكليف لدى المكلف؟! ناهيك عن ان هذا التقدير لم يضع لتغيرات القوة الشرائية - بين الماضي والحاضر - حساباً، ولم يراع حالة التقارب في الانصبة التي جعلها الشرع لغرض العدل والتيسير في مجتمع لم يشهد تحولات كبيرة في القيم الشرائية للأشياء.

وما زالت هذه المشكلة قائمة لدى الفقهاء المعاصرين، إذ كيف يمكن تحديد معيار متسق تقاس على ضوئه الأنصبة والمقادير الشرعية؟

فالكثير من العلماء المعاصرين يميلون في مجال أنصبة الزكاة الى التعويل على نصاب الفضة، سيما وهو أنفع للفقراء مقارنة مع الذهب، لكن في المقابل ذهب آخرون من امثال ابي زهرة وعبد الوهاب خلاف إلى ان النصاب يجب ان يسوى بالذهب، باعتبار ما جرى لقيمة الفضة الشرائية من تغيرات كبيرة عبر العصور، خلافاً للذهب الذي ظلت قيمته النقدية - كما يُدّعى - ثابتة إلى حد بعيد. وهو ما استحسنه القرضاوي شرط ثبات قيمة الذهب دون تغيرها[111].

ومن حيث التحقيق، يمكن القول أنه حتى لو سلمنا بأن القيمة الشرائية للذهب لم يطرأ عليها تغيير، رغم ان ذلك غير صحيح كما يلاحظ في عصرنا اليوم، فإن التسوية سوف لا تكون صحيحة وعادلة، وذلك اذا ما أخذنا بالاعتبار أن جعل الأنصبة بحسب الذهب أو غيره من المقادير إنما كان يناسب ما عليه الوضع المعيشي زمن عصر النص، وهو وضع يختلف عن وضعنا الراهن. ناهيك عن ان الوضع المعيشي في بلدان العالم الإسلامي اليوم يشهد تفاوتاً حاداً لا يمكن مقارنته مع ما كان عليه الحال في السابق.

وقد مال البعض إلى الابتعاد عن التقدير بالنقود باعتبارها معرضة للتغير سواء كانت فضة أم ذهباً، ومن ثم عوّل على قيمة ذاتية ثابتة نصّ عليها الشرع، رغم اختلاف قيمها النقدية من بلد لآخر، ومن عصر لآخر. فمما ذكره الشرع من نصاب هو ذلك المقدر بالإبل أو الغنم، إذ ورد في النص ان النصاب يتحقق في خمس من الإبل أو أربعين من الغنم أو خمسة اوسق من القمح، رغم ان النصاب الأخير يقل عن نصاب الأنعام ربما لبعض المقاصد الشرعية كما أشار إلى ذلك القرضاوي[112]. وذهب هذا الأخير إلى أن من الممكن وضع معيار ثابت (للنصاب النقدي، يلجأ اليه عند تغير القوة الشرائية للنقود تغيراً فاحشاً، يجحف بأرباب المال أو بالفقراء. وهذا المعيار هو ما يوازي متوسط نصف قيمة خمس من الإبل، أو أربعين من الغنم، في أوسط البلاد وأعدلها. وانما قلنا: أوسط البلاد وأعدلها: لأن بعض البلاد تندر فيها الثروة الحيوانية وتصبح اثمانها غالية جداً، وبعضها تكثر فيه وتصبح رخيصة جداً، فالوسط هو العدل، ولا بد ان يوكل هذا التقدير إلى أهل الرأي والخبرة)[113].

لكن الصحيح هو أن نعتبر الأمر رهناً بما يُقدّر من قيمة شرائية للانصبة وقت صدور التشريع، بمعنى أن تقدّر القيمة النفعية أو المعيشية للأنصبة آنذاك، باعتبارها تمثل قيماً حقيقية للناس في ذلك الوقت، ثم بعدها يُقدّر ما يقابلها من قيمة تقديرية اليوم. فعلى هذا المنطق لا يصح الحل القائم على معيار النقد، سواء كان بالذهب أو بالفضة. وكذا لا يصح الحل المستند إلى قيم الأشياء كما نصّ عليها الشرع، باعتبار أن قيمها الشرائية أو النفعية معرضة للتغير هي الأخرى. والمطلوب هو تحقيق ذات القدر من القيمة الحقيقية للمنفعة لدى من طُبق عليهم نص الخطاب، إذ  لم تفرض الأنصبة فرضاً معزولاً عن واقعهم الخاص، مما يعني أنه لا بد من أخذ اعتبار هذا الواقع، وذلك بتقدير الانصبة قياساً بقدرتها الشرائية أو المعيشية آنذاك، وتقدير هذا الأمر على واقع الناس كل بحسب بلده وزمانه.

وينطبق ذات الأمر على تقدير الديات، حيث يلاحظ أنه مقدر بحسب أحوال المعيشة آنذاك، فلا يصح المثول إلى منطق الحرفية، بل العدل ان تراعى قيمة ما تعادله الدية من قوة معيشية في ذلك الوقت لتقدّر على الوضع الحالي. وكذا يقال ذات الشيء في جميع ما ذكره الشرع من تقديرات.

وقريب من هذا المعنى ما سلكه الصحابة من النهج المقاصدي عند الطوارئ، ومنها تلك المتعلقة بتغير القوة الشرائية لبعض الأموال، كالذي حصل في عهد عمر بن الخطاب، إذ روي أنه تعامل مع مثل هذه الظروف بمنطق تحقيق المقصد الشرعي في تقييم المال بقيمته الأصلية أو ما يقرب منها قدر الامكان. فمن ذلك ما رواه ابو داود من أنه كانت قيمة الدية في عهد رسول الله (800) دينار أو (8000) درهم، حتى استخلف عمر فخطب في الناس وقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها على أهل الذهب، وهم أهل الشام (1000) دينار، وعلى أهل الوَرِق، وهم أهل العراق (12000) درهم[114]. كذلك أنه رفع دية الفضة في زمانه لما رخصت، ولم ينكر عليه احد من الصحابة[115]. ومثل ذلك ما أشار اليه الإمام علي في خلافته من لزوم تغيير ما فُرض من زكاة الفطر عندما رخص السعر، فقد كان الصحابة قبله يرون الزكاة في البر أو القمح نصف صاع، أما سائر مواد الزكاة فعليها صاع. لكن لما رخص السعر في خلافته فإنه جعل الزكاة صاعاً على جميع المواد، لذلك قال: (قد اوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعاً من كل شيء). وفي حديث آخر قال علي: (أما اذا اوسع الله عليكم فاوسعوا، اجعلوه صاعاً من بُرّ وغيره)[116].

هكذا يلاحظ بأن الصحابة كانوا يدركون بأن العبرة ليست بالحرفية والالفاظ، بل بروح التشريع ومقاصده.

10 ـ قضايا أخرى والواقع

هناك الكثير من النصوص الخاصة بالمعاملات الحضارية لا يفهم لها مغزى أو معنى مفيد متى ما فُصلت عن واقعها المرتهن بالتنزيل. فعند لحاظ هذا الواقع يُعلم ما لها من مقاصد، الأمر الذي يجعل أحكامها قابلة للتجديد والتغيير، كالذي يتضح من الأمثلة التالية:

 

أـ يلاحظ فيما يتعلق بنص الحديث القائل: (لا سبق الا في نصل أو خف أو حافر) أنه لولا دلالة الواقع الخاص بالتنزيل ما امكن ان يُعرف القصد من ذلك، وهو التشجيع على التمرن للاستعداد الحربي، إذ يستبعد تماماً ان يكون الحكم تعبدياً، وبالتالي فإن تحول الواقع لا بد ان يغير الحكم بما يناسب المقصد المذكور. وقد التفت إلى هذا الأمر عدد من الفقهاء المعاصرين والمحدثين. وبعضهم طبّق على الحديث قاعدة القياس، فكما رأى السيد رشيد رضا أنه يقاس على رمي السهام بالرمي ببنادق الرصاص وقذائف المدافع[117]. وهو رأي غير صحيح باعتبار ان القياس لا يلغي الأصل وهو السبق في الموارد الثلاثة المنصوصة التي لم يعد لها فائدة تذكر في الحروب والممارسات القتالية. وغير صحيح ايضاً ما ذهب اليه هذا المصلح من قبول قاعدة القياس فيما يتعلق باحكام المعاملات القضائية والسياسية والادارية التي تختلف باختلاف الأحوال والازمنة مادامت النصوص فيها لا تفي بمتطلبات المتغيرات والأحوال[118]، إذ لا يصلح القياس لمثل هذه الأمور اذا ما استثنينا ذلك الذي له علاقة بمقاصد التشريع، وبالتالي فملاك المسألة عائد إلى المقاصد لا القياس.

ب ـ يلاحظ بخصوص آية النبأ في قوله تعالى: ((إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة)) الحجرات/6، ان منطوق الآية جاء متسقاً مع دلالة الواقع، فهو يمضي ما يكون عليه هذا الواقع عادة. أما المفهوم فهو أمر اخر، حيث ان الواقع لا يدل عليه مثلما يدل على المنطوق. لكن حيث ان القصد من الآية هو التثبت، لذا فإن مفهومها لا يفضي إلى تحقيق المقصد من غير معرفة حقيقة الواقع ذاته، مثلما ان بيان المنطوق للاية جاء ممضياً لما عليه هذا الاخير. فسكوت الآية عن المفهوم هو اعطاء الصلاحية للأمارات الأخرى التي يكشف عنها الواقع للدلالة على الحكم سلباً وايجاباً .

ج ـ ومن ذلك ايضاً ما جاء في آية الاستئذان من سورة النور، حيث يقول تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحُلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم، ليس عليكم ولا عليهم جُناح بعدهنّ، طوّافون عليكم بعضكم على بعض، كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم)) النور/58. وهي تعني جواز طواف ملك اليمين والصغار غير البالغين في غرف أصحابها عدا ثلاثة اوقات لا بد فيها من الاستئذان، باعتبارها فترات تتكشف فيها العورة عادة، حيث يضع الناس ثيابهم أو يكونون بثياب النوم الخفيفة طلباً للراحة. وهي قبل صلاة الفجر وعند الظهر وبعد صلاة العشاء. وواضح ان جدوى الحكم وغرضه إنما يعالج وضعاً عالقاً بالواقع الخاص بالتنزيل، حيث كانت الاوقات الثلاثة الآنفة الذكر هي فترات الاسترخاء التي تتكشف فيها العورة، لكنها ليست حالة شاملة لمختلف الظروف، ومنها واقعنا الحالي.

والمهم اننا بلحاظ الواقع مع صراحة النص قد علمنا القصد من الحكم وقيوده، كما تكشّف لنا بدلالته ان الاوقات المذكورة ليست ثابتة للمظنة من انكشاف العورة مثلما كانت في عصر التنزيل، وإن كان القصد في الحكم ثابتاً وبه يحدد ما يناسبه من فتوى، سواء خصّ الأمر وقتاً محدداً أو اكثر، وسواء صدق الحال على العبيد أو على غيرهم من الخدم، إذ مناط الحكم واحد يشمل الفئتين.

د ـ يضاف إلى ما سبق هناك أحكام منصوصة اثبت الواقع ظرفيتها ووجوب تغييرها بعد الكشف عن مقاصدها ولو بالمشاركة مع دلالة النص، مثلما جاء في آية المصابرة وحكم رباط الخيل، وكذا جملة من نصوص الحديث مثل تلك الخاصة بتحديد حريم الأرض وما اليها[119].

 



[1] اصول الفقه، ج1، ص157.

[2] انظر القسم الأخير من: منطق فهم النص، دار افريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2009م.

[3] انظر القسم الاول من: جدلية الخطاب والواقع.

[4] محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون، دار الكتب الحديثة، مصر، الطبعة الثانية، 1396هـ ـ1976م، ج2، ص606.

[5] انظر: وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، ابواب صلاة المسافر، ج8، ص451 وما بعدها.

[6] انظر: جواهر الكلام، طبعة مؤسسة المرتضى ودار المؤرخ العربي، ج5، ص330.

[7] جاء في احدى الروايات ان تقدير القصر في السفر قائم على اعتبار الزمان وان المسافة مقاسة عليه، لكن من غير اعتبار للمشقة كما هو مدلول الآية. فقد روي عن الإمام الرضا (ع) أنه قال: (إنما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر، لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم، ولو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة ألف سنة، وذلك لأن كل يوم يكون بعد هذا اليوم فانما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره إذ كان نظيره مثله لا فرق بينهما) (وسائل الشيعة، ج8، ص451).

[8] اعتبر النجفي صاحب (جواهر الكلام) ان التقدير بحسب الزمان والمسافة هو أمر واحد عند الشارع (فمسير اليوم عنده عبارة عن قطع بريدين وبالعكس، ومتى تحقق أحدهما تحقق الآخر في نظره) (جواهر الكلام، ج5، ص330).

[9] نفس المصدر والصفحة.

[10] مهذب الأحكام، ج27، ص194. وانظر ايضاً: فقه الإمام جعفر الصادق، مصدر سابق، ج5، ص163.

[11] عبد الرحمن الناصر السعدي: المختارات الجلية من المسائل الفقهية، نشر الرئاسة العامة لادارة البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد، الرياض، الطبعة الثانية، 1405هـ، ص176-177.

[12] الطرق الحكمية، ص183.

[13] عن: محمد الغزالي: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، دار صحارى، الطبعة الخامسة، 1409هـ ـ1989م، ص59.

[14] الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الاثار، ص11. وانظر ايضاً: جواهر الكلام، ج14، ص400.

[15] ابو القاسم القمي: قوانين الاصول، طبعة حجرية قديمة، ص443.

[16] الطرق الحكمية، ص177. كذلك: اعلام الموقعين، ج1، ص95.

[17] المنار، ج3، ص124.

[18] صحيح البخاري، حديث 1765. وفتح الباري، ج4، ص63.

[19] صحيح البخاري، حديث 1763. وفتح الباري، ج4، ص60-61.

[20] عن: عبد الكريم زيدان: المفصل في أحكام المرأة، مؤسسة الرسالة، الطبعة الاولى، 1413هـ ـ1993م، ج4، ص202.

[21] المفصل في أحكام المرأة، ج4، ص203.

[22] فتح الباري، ج4، ص60. والمفصل في أحكام المرأة، ج4، 203.

[23] عن: محمد الغزالي: دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، دار القلم، دمشق، الطبعة الاولى، 1407هـ ـ1987م، ص95.

[24] كقوله تعالى: ((قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك ازكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها وليضربن بخُمُرهنّ على جيوبهن ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن أو آبائهن.. أو ما ملكت ايمانهن أو التابعين غير أُولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بارجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن)) النور/30ـ31، وقوله: ((يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذَين وكان الله غفوراً رحيماً)) الاحزاب/59ـ60.

[25] معلوم ان النساء في عصر النبي (ص) كنّ يشاركن في الحروب ويضمدن جروح المجاهدين. وقد اعتقد الفقهاء ان هذه الخلطة في المشاركة النسوية كانت لوجود الحاجة الماسة. وهو تقدير غير صحيح، إذ لو كان صحيحاً لظهر هناك نهي عن المشاركة عند ارتفاع الحاجة اليهن، مع أنه لا يوجد مثل هذا النهي رغم التضخم الملحوظ في تزايد اعداد الجماعة الإسلامية قبل الفتح وبعده. وهناك نصوص متضافرة تبدي المشاركة النسوية بتلقائية، الصغار منهن والكبار، وبعضهن من نساء النبي وبناته، دون ان يظهر ما يثير الشكوك في طبيعة الابتلاءات التي يمكن ان تحدث من جراء هذا التماس. ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن الربيع بنت معوذ قالت: (كنا نغزو مع النبي (ص) فنسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة ). وعن أم عطية الانصارية قالت: (غزوت مع رسول الله (ص) سبع غروات اخلفهم في رحالهم واصنع لهم الطعام واداوي الجرحى واقوم على الزمنى). وعن انس قال: كان رسول الله (ص) يغزو وام سليم ونسوة معها من الانصار يسقين الماء ويداوين الجرحى. وقد بوّب البخاري في صحيحه باباً بعنوان (غزو النساء وقتالهن مع الرجال). ومن النساء من قاتلن في الحروب مباشرة، فمنهن أم سليم التي اشتركت في غزوة حنين واتخذت خنجراً لتقتل به من يدنو منها من المشركين، كما اشتركت أم عمارة في حرب الردة ضد مسيلمة الكذاب، حيث جُرحت يومئذ اثنتا عشرة جراحة وقطعت يدها، كما اشتركت صفية بنت عبد المطلب في معركة الخندق وقتلت رجلاً من اليهود آنذاك. وقبل ذلك ان هذه الصحابية جاءت يوم احد وبيدها رمح تضرب به وجوه المشركين. ومن النساء من نُصب لها خيمة في المسجد بعلم النبي واذنه لتداوي فيها الجرحى، كما هو الحال مع رفيدة الانصارية.

ومما يذكر في الخلطة مما هو خارج عن الحرب ومداواة الجرحى ما اخرجه البخاري في صحيحه عن اسماء بنت ابي بكر أنها قالت: (تزوجني الزبير وما في الارض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه فكنت اعلف فرسه واستقي الماء واخرز غربه واعجن ولم اكن أحسن الخبز فكان يخبزه جارات لي من الانصار، وكن نسوة صدق، وكنت انقل النوى من ارض الزبير التي اقطعه رسول الله على رأسي، فلقيت رسول الله ومعه نفر من الانصار فدعاني ثم قال اخ اخ ليحملني خلفه، فاستحييت ان اسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول الله اني قد استحييت، فمضى رسول الله، فجئت الزبير فقلت: لقيني النبي ومعه نفر من أصحابه، فاناخ لأركب، فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النبي كان أشد عليّ من ركوبك معه. قالت: حتى ارسل الي ابو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما اعتقني (لاحظ حول ما سبق: صحيح البخاري، حديث 2727، وحديث 1812، وحديث 4926، وصحيح مسلم، حديث 2182. وفتح الباري، ج6، ص59-61. والمفصل في أحكام المرأة، ج4، ص269-272، وص389-392). ومن الروايات التي لها علاقة بهذا الصدد ما ذكره ابن حجر العسقلاني في ترجمته للشفاء بنت عبد الله من أن عمر بن الخطاب كان يقدّم هذه المرأة في الرأي ويرعاها ويفضلها وربما ولاها شيئاً من أمر السوق (ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق علي محمد البجاوي، نشر دار الجيل، بيروت، 1412هـ ـ 1992م، عن مكتبة المشكاة الالكترونية، ج7، فقرة 11373، ص727).

[26] أحمد بن محمد الأردبيلي: زبدة البيان في أحكام القرآن، تعليق محمد الباقر البهبودي، نشر المكتبة المرتضوية لاحياء الاثار الجعفرية، تهران، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص544.

[27] صحيح البخاري، حديث 5606. وصحيح مسلم، حديث 2109. وفتح الباري، ج10، ص314.

[28] صحيح البخاري، حديث 5610. وصحيح مسلم، حديث 2107. وفتح الباري، ج10، ص318 .

[29] صحيح البخاري، حديث 5607. وفتح الباري، ج10، ص316.

[30] صحيح البخاري، حديث 5618. وصحيح مسلم، حديث 2110. وفتح الباري، ج10، ص323. وروي مثل ذلك عن ابن عباس كما في: وسائل الشيعة، ج17، كتاب التجارة، باب تحريم عمل الصور المجسمة والتماثيل، حديث9، ص298. كما ورد ما يماثل ذلك عن الإمام الصادق عن آبائه (ع) عن رسول الله (ص) أنه قال: (من صور صورة كلفه الله تعالى يوم القيامة ان ينفخ فيها وليس بنافخ) (وسائل الشيعة، حديث6، ص297). وعن الإمام الصادق أنه قال: (ثلاثة يعذبون يوم القيامة: من صور صورة من الحيوان يعذب حتى ينفخ فيها وليس بنافخ فيها..) (المصدر السابق، حديث7، ص297).

[31] صحيح البخاري، حديث 5605. وفتح الباري، ج10، ص313. ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد، مصدر سابق، ج5، باب ما جاء في التماثيل والصور، حديث 8892.

[32] صحيح البخاري، حديث 5609. وفتح الباري، ج10، ص317.

[33] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نفس الباب السابق، حديث 8894. كذلك: عزت علي عطية: البدعة/ تحديدها وموقف الإسلام منها، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1400هـ ـ1980م، ص402.

[34] البدعة، ص403.

[35] أحكام القرآن، ج4، ص1600.

[36] المصدر السابق، نفس الصفحة.

[37] يلاحظ اننا نستبعد وجهة النظر التي تركز على الجانب التعبدي من التحريم وتعتبر عمل الصور المجسمة والغناء وما إلى ذلك كلها من المحرمات في نفسها، لذا حرم بيعها وشرائها، كالذي ذهب اليه المحقق الحلي في (شرائع الإسلام، ج2، ص10).

[38] القرطبي: الجامع لاحكام القرآن، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 1413هـ ـ1993م، ج14، ص175.

[39] إذ ذُكر أنه ثبت عن السيدة عائشة كما في الصحيحين ان النبي (ص) تزوجها وهي بنت سبع سنين، وفي رواية ست سنين، وزُفّت اليه وهي بنت تسع ولُعبها معها، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة (صحيح البخاري، حديث 4840ـ4841. وصحيح مسلم، حديث 1422). وعنها أيضاً قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي (ص) وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله (ص) اذا دخل ينقمعن منه فيُسرِّبُهنّ الي فيلعبن معي (صحيح البخاري، حديث 5779. وصحيح مسلم، حديث 2440، والجامع للقرطبي، ج14، ص176).

[40] عبد الهادي الحكيم: الفقه للمغتربين، وفق فتاوى السيد علي السيستاني، مؤسسة الإمام علي، لندن، الطبعة الاولى، 1419هـ ـ1998م، ص331.

[41] عن: محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، الطبعة العاشرة، ص116.

[42] جاء في (شرح النيل) ان الإمام اذا ملك بعض المصر فقط فإن عليه ان لا يقيم الحد كجلد وقطع، بل يحبس حتى يملك المصر، وقيل يقيم الحد، وقيل هو مخير حتى تضع الحرب أوزارها، والحكم في ذلك كالحد، وقيل لا يدع الأحكام، وقيل يجوز ترك الحدود لئلا يشغله ذلك عن الفتح، وقيل لزمه ترك الحكم لئلا يشغل (موسوعة الفقه الإسلامي المعروفة بموسوعة جمال عبد الناصر، 1410هـ ـ1989م، ج2، ص214).

[43] اعلام الموقعين ج3 ص7.

[44] جاء في حادثة أنه قال عمر للنبي (ص): ارجم الذي اعترف بالزنا، فأبى النبي معللاً ذلك بانه قد تاب إلى الله. إذ روي ان امرأة وقع عليها في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها، فاستغاثت برجل مرَّ عليها، وفر صاحبها، ثم مر عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم، فادركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فاخذوه، وسبقهم الآخر، فجاءوا به يقودونه اليها، فقال: انا الذي اغثتك، وقد ذهب الآخر، قال: فأتوا به نبي الله (ص) فاخبرته أنه الذي وقع عليها، واخبر القومُ أنهم ادركوه يشتد، فقال: إنما كنت اغثتها على صاحبها فادركني هؤلاء فاخذوني، فقالت: كذب، هو الذي وقع علي، فقال النبي (ص): (انطلقوا به فارجموه) فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني، فانا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله (ص): الذي وقع عليها، والذي اغاثها، والمرأة، فقال: (أما أنت فقد غفر لك، وقال للذي اغاثها قولاً حسناً، فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنا، فأبى رسول الله (ص) فقال: (لأنه قد تاب إلى الله) (اعلام الموقعين، ج3، ص8).

[45] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج28، ص255. واعلام الموقعين ج3، ص8.

[46] اعلام الموقعين، ج3، ص8.

[47] القرطبي: جامع أحكام القرآن، طبعة مؤسسة التاريخ العربي، 1405هـ ـ1985م، ج6، ص174. والشوكاني: فتح القدير، دار احياء التراث العربي، ج2، ص39.

[48] نُقل عن ابن تيمية وابن القيم انهما أجريا تعديلاً فيما يخص الحكم الخاص بتنفيذ حد السرقة حين ثبوتها، فكما قال الشيخ محمد الغزالي: (حسب ابن تيمية وابن القيم وما أفهمه أنا من السنن؛ استطيع ان اقول بأن القاضي يستطيع وقف التنفيذ في السابقة الاولى. فلو سرق تلميذ أو شاب، وكانت سرقته الأولى أو عثرة قدم زلت بصاحبها، فاذا وجده القاضي متألماً لذلك ونادماً أو شاعراً بالخجل؛ له ان يوقف العقوبة ويستتيبه ويقبل توبته، وله ان يعزره بالكلام أو بالجلد أو السجن، حسبما يرى، ولكن اذا عاد للجريمة مرة أو مرات أخرى تقطع يده) (محمد الغزالي: تطبيق الشريعة حل لأزمة الاستعمار التشريعي في بلادنا، منبر الحوار، العدد13، 1410هـ ـ1989م، ص15).

[49] الطرق الحكمية، ص22.

[50] ذكر أن خالد بن الوليد كتب لأبي بكر في خلافته بأنه (وُجد في بعض نواحي العرب رجل ينكح كما تنكح المرأة)، فاستشار ابو بكر الصحابة، وكان فيهم علي فقال: (ان هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم الا واحدة، فصنع الله بهم ما قد علمتم. أرى ان يحرقوا بالنار)، فكتب ابو بكر إلى خالد وأمره بحرقه (الطرق الحكمية، ص18. واعلام الموقعين، ج4، ص378). وجاء عن الإمام الصادق ان خالد بن الوليد كتب إلى ابي بكر عن رجل يؤتى في دبره، فاستشار ابو بكر علياً فقال: احرقه بالنار، فإن العرب لا ترى القتل شيئاً (انظر: رياض المسائل، ج2، ص475. وجامع المدارك، ج7، ص73. ومباني تكملة المنهاج، ج1، ص235. والبرقي: المحاسن، تحقيق جلال الدين الحسيني، نشر دار الكتب الإسلامية، المعجم الفقهي الالكتروني، ج1، ص112. وفقه الإمام جعفر الصادق، ج6، ص278).

[51] انظر: ابو زهرة: العقوبة، دار الفكر العربي، ص102 وما بعدها.

[52] المسوى شرح الموطأ، ج2، ص299. والخراج لأبي يوسف، ص167. والأحكام السلطانية، ص228. وأقضية رسول الله، ص19. ومجموع فتاوى إبن تيمية، ج28، ص336. علماً بأن النص المنقول عن الإمام علي قد ورد في المصادر الشيعية منقولاً ليس عنه وإنما عن الإمام الرضا ثامن الأئمة الإثني عشر (علل الشرائع، ج2، باب 335، ص264).

[53] علماً بأن هناك من فسّر الحد المذكور بتفسير آخر لا يمت إلى المصلحة. والحديث مروي في المصادر الشيعية فضلاً عن السنية (انظر: الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج28، ص220). وننبه بأنه جاء في (الاعتصام، ج2، ص118) للشاطبي ان الحادثة كانت في عهد عثمان. وهو على ما يبدو خطأ، إذ المعروف لدى مختلف المصادر الإسلامية أنها كانت في عهد عمر.

[54] مجموع فتاوى إبن تيمية، ج33، ص88.

[55] المسوى شرح الموطأ، ج2، ص300.

[56] ابن رشد الحفيد: بداية المجتهد، ج2، ص444.

[57] المستصفى، ج1، ص305ـ306.

[58] نيل الأوطار، ج7، ص320ـ321.

[59] مغنية: فقه الإمام جعفر الصادق، ج2، ص269. والفقه على المذاهب الخمسة، دار الجواد، بيروت، الطبعة السابعة، 1982م، ص465.

[60] المفصل في أحكام المرأة، ج4، ص411-412.

[61] جواهر الكلام، ج21، ص10.

[62] الفوائد في اختصار المقاصد، مصدر سابق، فصل في الناجز والمتوقع من المصالح والمفاسد.

[63] ابن طولون الدمشقي: إعلام السائرين عن كتب سيد المرسلين، تحقيق محمود الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1407هـ ـ1987م، ص52 و60.

[64] فتح القدير، ج1، ص191-192.

[65] رغم ما جاء في كثير من الأحاديث من معنى الفتنة في الآية هو الشرك؛ فإن المرحوم الطباطبائي اعتبر ذلك من مصاديق الفساد في الارض، أي ان الفتنة تعني الفساد في الارض وأن الشرك من مصاديقه (محمد حسين الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن، نشر جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، ج2، ص72).

[66] عبد الكريم زيدان: مجموعة بحوث فقهية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1396هـ ـ1976م، ص55.

[67] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، دار الخير، الطبعة الاولى، 1990، ج1، ص254.

[68] المنار، ج9، ص666.

[69] ابن القيم: أحكام أهل الذمة، حققه وعلق حواشيه صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، 1401هـ ـ1981م، ج1، ص17.

[70] على رأي ابي حنيفة أنه اذا امتنع أهل الذمة عن اداء الجزية ونقضوا عهدهم فإن ذلك لا يبيح قتلهم ولا غنم أموالهم ولا سبي ذراريهم ما لم يقاتلوا، إنما يجب اخراجهم من بلاد المسلمين آمنين حتى يلحقوا مأمنهم من أدنى بلاد الشرك، فإن لم يخرجوا طوعاً أُخرجوا كرهاً (الاحكام السلطانية، ص186).

[71] دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص61.

[72] المنار، ج3، ص39. وعلى رأي ابن تيمية الذي ينسبه إلى السلف فإن الآية ليست منسوخة ولا مخصوصة أو يصح نسخها وتخصيصها، وانما على حد قوله: (النص عام فلا نكره أحداً على الدين، والقتال لمن حاربنا، فإن أسلم عصم ماله ودمه، واذا لم يكن من أهل الكتاب لا نقتله، ولا يقدر أحد قط ان ينقل ان رسول الله (ص) اكره أحداً على الإسلام، لا ممتنعاً ولا مقدوراً عليه، ولا فائدة في اسلام مثل هذا، لكن من أسلم قُبل منه ظاهر الإسلام) (عن: وهبه الزحيلي: آثار الحرب في الفقه الإسلامي، دار الفكر، دمشق، ص67). ومثل ذلك اعتبر الشوكاني الآية محكمة غير منسوخة (فتح القدير، ج1، ص275). كما ذهب الطباطبائي من المعاصرين إلى نفس هذه النتيجة من عدم نسخ الاية، فهي ثابتة الحكم لثبات علة الحكم ((قد تبين الرشد من الغي))، وردّ على الذين اتهموا الإسلام بأنه دين سيف ودم؛ معتبراً الجهاد والقتال ليس لغاية احراز التقدم وبسط الدين بالقوة، بل لاحياء الحق والدفاع عن فطرة الإنسان (التوحيد). أما (بعد انبساط التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوة ولو بالتهود والتنصر فلا نزاع لمسلم مع موحد ولا جدال) (الميزان، ج2، ص343-344). وواضح من ذلك ان الطباطبائي يستثني من آية الرشد المشركين، أو أنه يعتبرها واردة بخصوص أهل التوحيد من الديانات السماوية، خلافاً لما هو لدى ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.

[73] محمد عبد الله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم، دار القلم، الكويت، 1400هـ ـ1980م، ص112-113.

[74] ابو زهرة: العلاقات الدولية في الإسلام، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1384هـ ـ1964م، ص48-.49.

[75] المنار، ج10، ص313.

[76] انظر بهذا الصدد الفصل الرابع من (جدلية الخطاب والواقع(.

[77] الراغب الاصفهاني: مفردات غريب القرآن، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص101. والمنار، ج10، ص306.

[78] انظر مقالنا: خطوات على طريق المرجعية الرائدة، الفكر الجديد، عدد7، 1993م، ص320-327.

[79] دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص74.

[80] أحكام القرآن، ج2، ص758-759.

[81] المنار، ج8، ص138.

[82] الأصناف التسعة التي حصر فيها وجوب الزكاة هي: الذهب والفضة، والابل والبقر والغنم، والحنطة والشعير والتمر والزبيب. فمما جاء في ذلك من الروايات ما قاله الإمام الصادق: أُنزلت آية الزكاة ((خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها)) في شهر رمضان، فأمر رسول الله (ص) مناديه فنادى في الناس: إن الله تبارك وتعالى قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة، ففرض الله عليكم من الذهب والفضة والابل والبقر والغنم والحنطة والشعير والتمر والزبيب، ونادى فيهم بذلك في شهر رمضان، وعفا لهم عما سوى ذلك.. (وسائل الشيعة، ج9، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة في تسعة أشياء، حديث1، ص53).

[83] كاظم الحائري: الاوراق المالية الاعتبارية (1)، رسالة الثقلين، عدد8، 1414هـ ـ1994م، ص38-39. وانظر الحوار مع الحائري في: قضايا اسلامية، عدد4، ص32.

[84] انظر وسائل الشيعة، ج9، كتاب الزكاة، باب استحباب الزكاة في الخيل الاناث السائمة، حديث1، ص77.

[85] لاحظ محمد مهدي الاصفي: نظرية الإمام الخميني في دور الزمان والمكان في الإجتهاد، قضايا اسلامية، عدد4، ص299 وما بعدها. كما انظر: وسائل الشيعة، ج9، كتاب الزكاة، باب استحباب الزكاة فيما سوى الغلات الأربع من الحبوب، حديث11، ص64.

[86] فمن ذلك ما روي ان ابا الحسن (ع) كتب إلى عبد الله بن محمد: الزكاة على كل ما كيل بالصاع. وكتب عبد الله عن الإمام الصادق أنه سأله عن الحبوب؟ فقال: وما هي؟ قال: السمسم والارز والدخن، وكل هذا غلة كالحنطة والشعير، فقال الإمام الصادق: في الحبوب كلها زكاة. كما روي عن الإمام الصادق أنه قال: كل ما دخل القفيز فهو يجري مجرى الحنطة والشعير والتمر والزبيب، فقال سائل: أخبرني جعلت فداك هل على الارز وما اشبهه من الحبوب الحمص والعدس زكاة؟ فوقع الإمام: صدّقوا الزكاة في كل شيء كِيل (وسائل الشيعة، ج9، ص61). كما روي عن الإمام الصادق أنه سئل عن السمسم والارز وغير ذلك من الحبوب هل تزكى؟ فقال: نعم هي كالحنطة والتمر (مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج7، كتاب الزكاة، باب استحباب الزكاة فيما سوى الغلات الاربع، حديث1، ص39). وعن الإمام الصادق ايضاً أنه قال: كل شيء يدخل فيه القفزان - المكاييل - والميزان ففيه الزكاة (المصدر، ص39).

[87] فمن ذلك ما روي عن الإمام الصادق أنه سُئل عن الزكاة؟ فقال: وضع رسول الله (ص) الزكاة على تسعة وعفا عما سوى ذلك: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، والذهب والفضة، والبقر والغنم والابل، فقال السائل: فالذرة؟ فغضب (ع) ثم قال: كان والله على عهد رسول الله (ص) السماسم والذرة والدخن وجميع ذلك، فقال السائل: إنهم يقولون أنه لم يكن ذلك على عهد رسول الله (ص) وانما وضع على تسعة لما لم يكن بحضرته غير ذلك؟ فغضب الإمام وقال: كذبوا، فهل يكون العفو الا عن شيء قد كان، لا والله ما اعرف شيئاً عليه الزكاة غير هذا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر (وسائل الشيعة، ج9، باب وجوب الزكاة في تسعة أشياء، حديث3، ص54). وعن علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب عبد الله بن محمد إلى ابي الحسن (ع): جعلت فداك، روي عن ابي عبد الله (ع) أنه قال وضع رسول الله (ص) الزكاة على تسعة اشياء... وعفا رسول الله (ص) عما سوى ذلك، فقال له القائل: عندنا شيء كثير يكون باضعاف ذلك، فقال: وما هو؟ فقال له: الارز، فقال ابو عبد الله (ع): اقول لك: ان رسول الله (ص) وضع الزكاة على تسعة أشياء وعفا عما سوى ذلك، وتقول: عندنا ارز وعندنا ذرة، وقد كانت الذرة على عهد رسول الله (ص)؟! فوقع (ع): كذلك هو، والزكاة كل ما كيل بالصاع (المصدر، حديث6، ص55-56). وعن محمد بن الطيار قال: سألت ابا عبد الله (ع) عما تجب فيه الزكاة؟ فقال: في تسعة اشياء... وعفا رسول الله (ص) عما سوى ذلك، فقلت: اصلحك الله، فإن عندنا حباً كثيراً، قال: وما هو؟ قلت: الارز، قال: نعم، ما اكثره، فقلت: أفيه الزكاة؟ فزبرني وقال: اقول لك ان رسول الله (ص) عفا عما سوى ذلك وتقول لي ان عندنا حباً كثيراً، أفيه الزكاة؟! (المصدر، حديث12، ومثله حديث13، ص58-59. وانظر على شاكلة ما سبق من الروايات ما جاء في: مستدرك الوسائل، ج7، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة في تسعة أشياء، ص38).

[88] وسائل الشيعة، ج9، ص64.

[89] انظر حول ذلك: وسائل الشيعة، ج9، ص154.

[90] فقه الإمام جعفر الصادق، ص76-77.

[91] اعلام الموقعين، ج2، ص7.

[92] الموافقات،ج4، ص174.

[93] محمد ضياء الدين الريس: الخراج في الدولة الإسلامية، مطبعة النهضة، الطبعة الاولى، 1957م.

[94] أحمد بن علي المقريزي: النقود الإسلامية (شذور العقود في ذكر النقود)، تحقيق واضافات محمد بحر العلوم، دار الزهراء، بيروت، الطبعة السادسة، 1408هـ ـ1988م، ص79.

[95] اعلام الموقعين، ج1، ص333. وفقه الإمام جعفر الصادق، ج3، ص274.

[96] اعتمدنا على ما سبق من نصوص على: علي أحمد السالوس: أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار، دار الثقافة بقطر ـ دار الاعتصام بمصر، 1990م، ص21-24.

[97] جواهر الكلام، ج25، ص66.

[98] فمن ذلك ما جاء عن يونس أنه قال: كتبت إلى الإمام الرضا (ع) بأن لي على رجل ثلاثة آلاف درهم، وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الايام، وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها، أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ فكتب الإمام الي: لك ان تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما اعطيته ما ينفق بين الناس (وسائل الشيعة، ج18، كتاب التجارة، باب حكم من كان له على غيره دراهم فسقطت، حديث1، ص206. وعلى هذه الشاكلة لاحظ: مستدرك الوسائل، ج13، نفس العنوان من الكتاب والباب، حديث1، ص353-354). وفي رواية معارضة عن يونس ايضاً أنه قال: كتبت إلى ابي الحسن الرضا (ع) أنه كان لي على رجل دراهم، وان السلطان اسقط تلك الدراهم، وجاءت دراهم أغلى من الدراهم الأولى، وهي اليوم وضيعة، فاي شيء لي عليه الأولى التي اسقطها السلطان، أو الدراهم التي اجازها السلطان؟ فكتب له الإمام: لك الدراهم الأولى (المصدر، حديث2، ص206). وعن الإمام الرضا سأله معاوية بن سعيد عن رجل استقرض دراهم من رجل، وسقطت تلك الدراهم أو تغيرت، ولا يباع بها شيء: ألصاحب الدراهم الدراهم الأولى أو الجائزة التي تجوز بين الناس؟ فقال: لصاحب الدراهم الدراهم الأولى (المصدر، حديث4، ص207).

فكما يلاحظ ان هناك شيئاً من التعارض الظاهر في الروايات المتعلقة بمشكل الدراهم الساقطة. حتى ان الشيخ الطوسي حاول علاج مثل هذا التعارض بالقول بأنه متى كان على المقترض دراهم بنقد معروف فليس له الا ذلك النقد، اما لو كان عليه دراهم بوزن معلوم بغير نقد معروف فانما له الدراهم التي تجوز بين الناس (المصدر، ص207(.

[99] ورد العديد من الروايات والنصوص التي تبدي حالة التغير في اسعار المواد وكيفية التعامل معها منذ القرن الأول للهجرة - وقت الصحابة - وما بعده. ومن ذلك ما حصل في عهد الخليفتين عمر بن الخطاب (رض) وعلي بن أبي طالب (ع) كما سنرى. كما وردت نصوص عن أئمة أهل البيت تصب في هذا المجرى، ومن ذلك ما جاء عن محمد بن الحسن أنه كتب إلى الإمام أبي محمد (ع) يقول له: رجل استأجر اجيراً يعمل له بناءاً أو غيره وجعل يعطيه طعاماً وقطناً وغير ذلك، ثم تغير الطعام والقطن من سعره الذي كان اعطاه إلى نقصان أو زيادة، أيحتسب له بسعر يوم اعطاه، أو بسعر يوم حاسبه؟ فوقع (ع): يحتسب له بسعر يوم شارطه فيه ان شاء الله. وأجاب (ع) في المال يحل على الرجل فيعطي به طعاماً عند محله ولم يقاطعه ثم تغير السعر، فوقع (ع): له سعر يوم اعطاه الطعام (وسائل الشيعة، ج18، كتاب التجارة، باب حكم من اشترى طعاماً فتغير سعره، حديث4، ص85). وعن محمد بن الحسن ايضاً أنه قال: كتبت إلى الإمام (ع) في رجل كان له على رجل مال، فلما حل عليه المال اعطاه بها طعاماً أو قطناً أو زعفراناً، ولم يقاطعه على السعر، فلما كان بعد شهرين أو ثلاثة، ارتفع الطعام والزعفران والقطن أو نقص، بأي السعرين يحسبه؟ قال: لصاحب الدين سعر يومه الذي اعطاه وحلّ ماله عليه، أو السعر الذي بعد شهرين أو ثلاثة يوم حاسبه؟ فوقع (ع): ليس له الا على حسب سعر وقت ما دفع اليه الطعام ان شاء الله. قال: وكتبت اليه: الرجل استأجر اجيراً ليعمل له بناءاً أو غيره من الاعمال، وجعل يعطيه طعاماً أو قطعاً وغيرهما، ثم تغير الطعام والقطن عن سعره الذي كان اعطاه إلى نقصان أو زيادة، يحسب له بسعره يوم اعطاه أو بسعره يوم حاسبه؟ فوقع: يحسب له سعر يوم شارطه فيه ان شاء الله (المصدر، حديث5، ص85-86).

ويلاحظ ان مثل هذه النصوص تؤكد بأن مورد التعامل كان بحسب السعر المتعارف عليه عند الأداء، ولم يؤخذ باعتبار التغيرات الجزئية للمواد الاستهلاكية، ربما لكونها ليست في مقام المال المتداول.

[100] ابن تيمية: القياس، ضمن القياس في الشرع الإسلامي، مقدمة محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1375هـ، ص9.

[101] علل الشرائع، ج2، باب235، ص195. وتاريخ المذاهب الإسلامية، ص712.

[102] شبيه بهذا ما وقع معي في السابق، إذ كان لي صديق (رحمه الله) أقرضني مبلغاً قدره خمسمائة وعشرون ديناراً عراقياً سنة 1978م، وبحكم الظروف المانعة لم أسدد المبلغ المطلوب. ومعلوم ان العملة العراقية أصابها الهبوط والانهيار منذ بداية التسعينات من القرن المنصرم، بسبب الحصار الاقتصادي الذي فُرض على العراق، حتى أصبح سعر الدولار الواحد يقدر بالفي دينار أو أكثر، في حين كان الدينار يساوي أكثر من ثلاثة دولارات. وعليه فهل من العدل أن أسدد الدائن وأسلمه خمسمائة دينار على حالها؟! وهل يعقل ان تكون المعاملة ربوية فيما لو طالبني الدائن لأسلمه ما يعادل القيمة الشرائية للمبلغ بحسب ما كانت عليه آنذاك وقت نفاذ القرض.. فأين العدل من هذين الأمرين؟!.

[103] كاظم الحائري: الاوراق المالية الاعتبارية (2)، مجلة رسالة الثقلين، عدد 9، قم، 1415هـ ـ 1994م، ص104.

[104] المصدر، ص105.

[105] الطرق الحكمية، ص16-17.

[106] اعلام الموقعين، ج4، ص373.

[107] عن: مهدي مهريزي: الفقه والزمان، قضايا اسلامية، عدد5، 1418هـ ـ1997م، ص276.

[108] جواهر الكلام، ج42، ص4. وفقه الإمام جعفر الصادق، ج6، ص353. وانظر ايضاً: مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه، ص163.

[109] مصادر التشريع الإسلامي، ص163.

[110] عبد الرحمن الجزيري: الفقه على المذاهب الأربعة، مكتبة ايشيق، استانبول، 1397هـ ـ1977م، ج2، ص601. ويوسف القرضاوي: فقه الزكاة، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1397هـ ـ1977م، ج1، ص262.

[111] فقه الزكاة، ج1، ص263-264.

[112] فقه الزكاة ج1، ص266.

[113] فقه الزكاة، ج1، ص269.

[114] المنار، ج5، ص335. كذلك: السيد سابق: فقه السنة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الرابعة، 1403هـ ـ 1983م، ج2، ص466. وأحكام القرآن، ج1، ص475.

[115] المختارات الجلية من المسائل الفقهية، ص163.

[116] ابن القيم: زاد المعاد، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1401هـ ـ 1981م، ج2، ص19-21. كذلك: فتح الباري، ج3، ص374. ونيل الاوطار، ج4، ص253.

[117] المنار، ج7، ص99.

[118] المنار، ج5، ص219.

[119] انظر بهذا الصدد الفصل الثالث من كتابنا (جدلية الخطاب والواقع(.


comments powered by Disqus