-
ع
+

تطور معنى الإجتهاد في الساحة السنية

يحيى محمد

حدث لمفهوم الإجتهاد تطورات عديدة، منذ بداية تأسيسه التنظيري إلى يومنا هذا. ففي البداية لم يكن معنى الإجتهاد يخرج عن القياس أو ما يقابله من الممارسات الإجتهادية الأخرى المطروحة حول القضايا غير المنصوص فيها؛ مثل الاستحسان والمصالح المرسلة وما على شاكلتها، وبالتالي فإن مفهومه لم يكن دالاً على بذل الجهد لإستنباط الأحكام من النص وفي النص ذاته، كما هو واضح عند المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها من المذاهب التي سادت خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة. فقد عُدّ الإجتهاد مصدراً من مصادر التشريع، وبالتالي فهو يقع في نفس القائمة التي تضم المصادر الأساسية للإستنباط، كالكتاب والسنة والإجماع. مما يعني أن آلية إستنباط الأحكام من المصادر الثلاثة لم تفهم بأنها من الإجتهاد. فالإجتهاد لم يصح إلا مع غياب الحكم الشرعي من هذه المصادر.

فمن الناحية المبدئية تتمتع المصادر الثلاثة بدلالة القطع والبيان أو ما يردّ إليهما من ظنون، كتلك المؤسسة على البيان ذاته، مثل حجية الظهور وخبر الواحد، بينما لا يفيد الإجتهاد إلا الظن والرأي. وعليه كان العمل به من موقع الإضطرار طالما ليس هناك حكم للنص أو الإجماع على الواقعة. وكما قال الشافعي - الذي يرادف بين الإجتهاد والقياس -: «ونحكم بالإجماع ثم القياس وهو أضعف من هذا، ولكنه منزلة ضرورة لأنه لا يحل القياس والخبر موجود»[1]. فالإجتهاد إنما يباح للمضطر كما تباح الميتة والدم عند الضرورة فمن إضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم[2]

لذلك تحفّظ السلف الأوائل من الفتوى وفقاً لما يُنقل عنهم، ومن الشواهد المنقولة أن البراء قال: «لقد رأيت ثلاثمائة من أصحاب بدر ما فيهم من أحد إلا وهو يحب ان يكفيه صاحبه الفتيا». وقال ابن أبي ليلى: أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله (ص) يسأل أحدهم عن المسألة، فيردها إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدّث بحديث، أو يسأل عن شيء إلا ودّ أخاه لو كفاه؟ وجاء عن ابن عباس انه قال: إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي. وقال عطاء بن السائب: أدركت أقواماً إن كان أحدهم ليسأل عن شيء فيتكلم وانه ليرعد. وكان سعيد بن المسيب لا يكاد يفتي، ولا يقول إلا قال: اللهم سلمني، وسلم مني. وقال أبو حصين الأسدي: «إن أحدهم يفتي في المسألة لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر». وقال عقبة بن مسلم: «صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهراً، فكان كثيراً ما يُسأل، فيقول: لا أدري !». وقال الهيثم بن جميل: شهدت مالكاً سُئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا ادرى. وقيل ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها. وقال أبو نعيم: ما رأيت عالماً أكثر قولاً لا أدري من مالك بن أنس. وكان مالك يقول: «من سُئل عن مسألة، فينبغي له قبل ان يجيب فيها ان يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها». وقال ابن القاسم: «سمعت مالكاً يقول: إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن». وقال سفيان بن عيينة وسحنون بن سعيد: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً[3].

كما كان العديد من السلف لا يحرم ولا يحلل إلا بنص صريح، وانما يقول أكره واستحسن. وروي ان هذا الوصف ينطبق على سيرة مالك بن انس الذي يعقب على ما يفتي به بقبس من القرآن: إنْ نظنُّ إلا ظناً، وما نحن بمستيقنين الجاثية/32[4]. فهو يقول: ما من شيء أشد عليّ من أن أُسأل عن مسألة من الحلال والحرام؛ لأن هذا هو القطع في حكم الله، ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كان الموت أشرف عليه. وقال: ولم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا الذين يقتضى بهم ومعول الإسلام عليهم أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام ولكن يقول أنا أكره كذا وأرى كذا، وأما حلال وحرام فهذا الافتراء على الله أما سمعت قول الله تعالى: قل أرأيتُم ما أنزلَ اللهُ لكم من رزقٍ فجعلتم منه حراماً وحلالاً، قل أاللهُ أذنَ لكم أم على الله تفترون يونس/59، لأن الحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرماه[5].

ويؤيد هذا ما ورد في صحيح مسلم في رواية عن النبي (ص) انه إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه ومن معه بأن يجتهد في الحكم برأيه - على من حاصرهم - دون ان ينسب ذلك إلى الله، ومما جاء في وصيته: «واذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فانك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا»[6]. وعلى هذه الشاكلة روى أبو يوسف عن أبي وائل، قال: أتانا كتاب عمر بن الخطاب ونحن بخانقين: وفيه قوله: «واذا حاصرتم حصناً فأرادوكم أن ينزلوا على حكم الله، فلا تنزلوا فانكم لا تدرون أتصيبون فيهم حكم الله أم لا، ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم اقضوا بعد فيهم بما شئتم»[7].

وجاء عن بعض السلف قوله: ليتق أحدكم أن يقول أحلّ الله كذا وحرم كذا؛ خشية أن يقول الله له كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا[8].

هكذا لم يُقحم الفقهاء الأوائل "الإجتهاد" في دائرة النص، خصوصاً وانهم أخذوا على عاتقهم مبدأ عدم التكثير في السؤال وتشقيق النصوص، وهو مبدأ طالما أكدت عليه بعض المرويات النبوية، ومن ذلك ما رواه البخاري ضمن باب ما يكره من كثرة السؤال عن النبي ص: «إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحُرّم من أجل مسألته»[9]. وقد جرت على ذلك سيرة الصحابة كما يطلعنا عن ذلك ابن عباس في قوله: ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله (ص) ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلّهن في القرآن، منهن: يسألونك عن الشهر الحرام...الخ[10]. لهذا قال بعض السلف وهو يخاطب معاصريه: انكم تسألون عن أشياء ما كنّا نسأل عنها، وتنقّرون عن أشياء ما كنّا ننقّر عنها، وتسألون عن أشياء ما أدري ما هي. وعن عمر بن اسحاق انه قال: لمن أدركت من أصحاب رسول الله (ص) أكثر ممن سبقني منهم فما رأيت قوماً أيسر سيرة ولا أقل تشديداً منهم[11]. وقال مالك: ادركت اهل هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة، فاذا نزلت نازلة جمع الامير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه انفذه، وانتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله[12].

وعلى العموم كان السلف الأوائل يخشون كثرة السؤال وهم يدركون ما يترتب عليه من زجّ النص في حبائل الإجتهاد. حتى جاء عن الكثير من العلماء قولهم: التكثير من السؤال في المسائل الفقهية هو تكلف وتنطع فيما لم ينزل، وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف[13].

 

بداية التنظير

إن أول صورة منظّرة وصلتنا عن مبدأ الإجتهاد الفقهي هي تلك التي رسمها مؤسس علم الأصول الشافعي المتوفى سنة 204هـ. أما قبل هذا الامام فلم يردنا شيء بخصوص التنظير، انما كانت هناك قواعد معتمدة للإجتهاد يمارسها الفقهاء؛ كتلك التي اعتمد عليها أبو حنيفة مثل مبدأ القياس والاستحسان[14]، أو تلك التي استند اليها مالك مثل المصلحة المرسلة أو الاستصلاح[15]. وكما قال الإمام أحمد بن حنبل: لم نكن نعرف الخصوص والعموم حتى ورد الشافعي. وقال الجويني في شرح الرسالة: لم يسبق الشافعي أحد في تصانيف الأصول ومعرفتها[16].

ومن حيث التنظير يرادف الشافعي بين الإجتهاد والقياس؛ في الوقت الذي لا يجد لهذا الإجتهاد،  أو القياس منه بالذات، أساساً منصوصاً عليه من قبل الشرع، لهذا فهو يثير تساؤلاً بهذا الشأن ليجيب عليه فيقول: «فمن أين قلتَ يقال بالقياس فيما لا كتاب فيه ولا سنة ولا إجماع؟ أفبالقياس نص خبر لازم؟ قلتُ: لو كان القياس نص كتاب أو سنة قيل في كل ما كان نص كتاب هذا حكم الله، وفي كل ما كان نص السنة هذا حكم رسول الله، ولم نقل له قياس. قال: فما القياس؟ أهو الإجتهاد؟ أم هما مفترقان؟ قلت: هما إسمان لمعنى واحد...» [17].

ومع ذلك فقد استدل الشافعي على صحة القياس جملة من النص ولكن بصورة غير مباشرة، فتساءل ليجيب قائلاً: «أفتجد تجويز ما قلتَ من الإجتهاد، فتذكره؟ قلتُ نعم إستدلالاً بقول الله: ومن حيث خرجتَ فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره. قال: فما شطره؟ قلت: تلقاءه... فالعلم يحيط أن من توجّه تلقاء المسجد الحرام ممن نأتْ داره عنه على صواب بالإجتهاد للتوجه إلى البيت بالدلائل عليه، لأن الذي كُلّف التوجه إليه، وهو لا يدري أصاب بتوجهه قصد المسجد الحرام أم أخطأه، وقد يرى دلائل يعرفها فيتوجه بقدر ما يعرفه، ويعرف غيره دلائل غيرها بقدر ما يعرف وإن إختلف توجههما...» [18].

هكذا نفهم بأن الشافعي لا يرد القياس إلى النص مباشرة، وهو وإن استدل على الإجتهاد من خلال نص الحديث كما سنعرف، لكن ذلك كان بصدد القضاء، لا بمعناه المصطلح عليه، ولا بمعنى القياس الذي حاول الشافعي أن يستدل عليه بالقرآن. وهو في طريقته في الإستدلال على القياس إنما استند إلى القياس ذاته، وبالتالي فإنه يصادر على المطلوب. حيث كيف يصح له أن يستدل على القياس من خلال فهم طلب التوجه إلى المسجد الحرام في الآية لولا أنه قاس هذه القضية على غيرها؟!

مهما يكن فقد كثر الجدل حول مسند القياس وغيره من موارد الإجتهاد الأخرى. وقد عرفنا موقف الشافعي بهذا الخصوص، وربما لا تختلف مواقف المذاهب الثلاثة الأخرى (الحنفي والمالكي والحنبلي) عنه، لا سيما ان القائمة التي تضم مبدأ الإجتهاد هي نفسها التي يُذكر فيها النص كمصدر للتشريع. فحينما يعدد أتباع المذاهب الأربعة مصادر التشريع يضعون أنواع الإجتهاد مع أنواع النص وملحقاته جنباً إلى جنب، رغم أنهم يميزون بينهما من حيث الرتبة والدرجة.

فالقرافي المالكي يُحصي في تنقيح الأصول أُصول مذهب مالك ويعددها كالآتي: القرآن والسنة والإجماع، وإجماع أهل المدينة وقول الصحابي، والقياس والمصالح المرسلة والعرف والعادات والإستحسان وسد الذرائع والإستصحاب[19].

كما أن الشاطبي في الموافقات حاول أن يرد أدلة المذهب المالكي إلى أربعة؛ جامعاً فيها النص والإجتهاد معاً. فهو يرى أن هذه الأدلة عبارة عن الكتاب والسنة والإجماع والرأي، معتقداً أن مالكاً كان يرى السنة متضمنة لكلٍّ من عمل أهل المدينة وقول الصحابي، وأن لفظة الرأي تتضمن كلاً من المصالح المرسلة والإستحسان والإستصحاب وسد الذرائع والعادات[20].

وأيضاً فإن الطوفي الحنبلي - ومن قبله القرافي - قد أحصى الأدلة بين العلماء عموماً فوجدها لا تزيد على تسعة عشر دليلاً، وهي كلٌّ من النص والإجتهاد معاً، حيث حددها بكل من: الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإجماع أهل المدينة والقياس وقول الصحابي والمصلحة المرسلة والإستصحاب والبراءة الأصلية والعوائد أو العادات والإستقراء وسد الذرائع والإستدلال والإستحسان والأخذ بالأخف والعصمة وإجماع أهل الكوفة وإجماع العترة وإجماع الخلفاء الأربعة[21].

كل ذلك يتسق مع الفهم الخاص للإجتهاد من كونه ليس مستلهماً من النص مباشرة، ولا أنه موضوع حول فهمه بالذات، بل بالعرض. فهذا هو حال ما كان عليه العصر الذي ضمّ أئمة المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها.

 

تغير مفهوم الإجتهاد وإتساعه

لقد أخذ مفهوم الإجتهاد يتسع ويتغير مع مرور الزمن، إذ كسب هذا المفهوم معنى شمل فيه حالة الإجتهاد في النص، ولم يبقَ حبيساً وموقوفاً على ما لا نص فيه كما عهدناه في السابق. كما ظهرت محاولات واسعة للإستدلال بالنص على قضايا الإجتهاد، لا سيما القياس منه. ومن ذلك شاع الإستدلال على جواز العمل بالإجتهاد بدعوى الإجماع وذكر بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتضمن عدم الممانعة من العمل به حين عدم توفر النص، كالاستدلال بحديث معاذ بن جبل. ويبدو ان الشافعي لم يعول على هذا الحديث باعتباره مرسلاً، فكما نصّ الآمدي ان المرسل عند الشافعي ليس بحجة[22]، ومعلوم أن الشافعي لا يأخذ بالمرسل إلا بشروط[23]. لكنه مع ذلك استدل على الإجتهاد برواية أخرى تتعلق بالقضاء، إذ روى عن عمرو بن العاص - وكذا عن أبي هريرة - أنه سمع رسول الله (ص) يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»[24]، وهي الرواية التي يوردها البخاري ومسلم في صحيحيهما عن هذين الصحابيين[25]. لكن العلماء الذين جاءوا بعد الشافعي لم يكتفوا بالقدر الضيق الذي اعتمده الأخير في الاستدلال على الإجتهاد، بل وسّعوا من هذه الدائرة؛ فاستدلوا عليه بمختلف الأدلة، سواء من حيث النصوص القرآنية، أو الأحاديث الكثيرة، أو دعوى الاجماع، أو سيرة الصحابة واقوال الخلفاء الراشدين، مثلما يُنقل عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب على ما سنعرف.

أما من حيث إتساع مفهوم الإجتهاد، فقد ذكر العلماء المتأخرون ان الإجتهاد ينطبق على قضايا النص ولا يقتصر على الوقائع غير المنصوص فيها، كالذي يوضحه قول أبي الحسين البصري المتوفى سنة 436هـ: «وأعلم أن الفقهاء يعدّون من مسائل الإجتهاد ما يستدل عليه بالكتاب كالنية في الوضوء والترتيب وأن الواو للترتيب أو للجمع..»[26].

وذكر أبو اسحاق الشيرازي بأن الإجتهاد هو «بذل الوسع وبذل المجهود في طلب الحكم الشرعي ممن هو من أهله»[27]. كما ذكر القاضي أبو بكر بن العربي بأن الإجتهاد هو بذل الجهد واستنفاذ الوسع في طلب الصواب أو الحكم بحسب الظن[28]. ومثل ذلك ما صرح به ابن رشد، حيث عرّفه بأنه بذل المجتهد وسعه قي الطلب بالآلات التي  تشترط فيه، بحسب الظن[29]. وكذا ما قاله البيضاوي والسبكي وهو أن الإجتهاد عبارة عن استفراغ الوسع في درك الأحكام الشرعية[30]. وعلى هذه الشاكلة صرح تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي وشارح كتابه جمع الجوامع شمس الدين المحلي بأن الإجتهاد استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي[31]. كما عرّفه البعض بأنه «بذل الجهد وغاية الوسع إما في إستنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية، وإما في تطبيقها»[32].

ومن جهته صرح الغزالي في كتابه المستصفى بأن الإجتهاد هو «بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة»[33]. بل أكثر من ذلك فإن هذا الإمام لم يعتبر دائرة الإجتهاد خارجة عن دائرة النص، بدلالة أنه يعد أُصول الأدلة أربعة، هي: الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل والإستصحاب الدالين على براءة الذمة في الأفعال قبل ورود السمع[34]. ومثل ذلك وقبله نجد تعريف الإجتهاد عند إبن حزم المتوفى سنة 456هـ مقيداً بما هو منصوص باعتباره ينكر قضايا الإجتهاد فيما لا نص فيه. إذ يعرفه بأنه «بلوغ الغاية وإستنفاد الجهد في المواضع التي يرجى وجوده فيها في طلب الحق فمصيب موفق أو محروم»[35]. أو انه عبارة عن: انفاد الجهد في طلب الحكم في الدين في القرآن والسنة والإجماع[36].

وعلى هذه الوتيرة ظهر مفهوم الإجتهاد لدى الآمدي والفتوحي والشنقيطي ومحب الله بن عبد الشكور وعلاء الدين البخاري وغيرهم من المتأخرين[37]. وبعضهم بسطه على ساحة العقليات، كما هو الحال مع الشيخ أبي محمد السالمي المتوفى سنة 1332هـ الذي عرفه بأنه «استفراغ الفقيه الوسع في استحصال حادثة بشرع أو عقل، وانما قلت كذلك ليشمل العقليات فان فيها الإجتهاد ايضاً»[38].

هكذا يلاحظ أن معظم تعاريف الإجتهاد، كالتي ذكرناها، لها صفة الاطلاق والعموم، أو أنها تجعل موضوعها الأساس هو النص وليس قضايا ما لا نص فيه. فشتان بين المفهوم القديم للإجتهاد كما حدده الشافعي وبين ما استحدثه الأتباع فيما بعد. إذ كان التحديد الأول ينحصر ضمن «الإنتاج المعرفي» الخاص بالإجتهاد فيما لا نص فيه، بينما شمل التحديد الأخير مجال «فهم النص» ووضع تفاوتاً بيّناً بين الفهم والشريعة.


[1]           الشافعي: الرسالة، شرح وتحقيق أحمد محمد شاكر، مكتبة دار التراث، القاهرة، الطبعة الثانية، 1979م، ص599. كذلك: إبن القيم الجوزية: أعلام الموقعين عن رب العالمين، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف، دار الجيل ببيروت، 1973م، ج2، ص284.

[2]           أعلام الموقعين، ج2، ص284.

[3]           لاحظ النصوص السابقة في: اعلام الموقعين، ج1، ص34ـ35، وج4، ص217ـ219. والشاطبي: الموافقات في أُصول الشريعة، مع حواشي وتعليقات عبد الله دراز، دار المعرفة ببيروت، الطبعة الثانية، 1395هـ ـ1975م، ج4، ص286 وما بعدها. والخطيب البغدادي: الفقيه والمتفقه، تحقيق عادل الغرازي، دار ابن الجوزي، السعودية، 1421هـ، عن شبكة المشكاة الالكترونية www.almeshkat.net، ج2، ص427. والنووي، يحيى بن شرف: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، تحقيق عبد الوهاب الجابي، دار الفكر، دمشق، الطبعة الاولى، 1408هـ، عن الموسوعة الشاملة الالكترونية  islamport.com، ص15. والحراني، أحمد بن حمدان الحنبلي: صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، خرّج أحاديثه وعلق عليه محمد ناصر الدين الالباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1404هـ ـ1984م، ص7ـ10.

[4]           ابن عبد البر النمري: جامع بيان العلم وفضله، موقع أم الكتاب للأبحاث والدراسات الإلكترونية، عن شبكة المشكاة الالكترونية لم تذكر أرقام صفحاته باب معرفة أصول العلم وحقيقته. واعلام الموقعين، ج1، ص44. والموافقات، ج4، ص286. وأبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية، دار الفكر العربي، ص407.

[5]           الموافقات، ج4، ص286. واعلام الموقعين، ج1، ص39. ومحمد أمين الشنقيطي: القول السديد في كشف حقيقة التقليد، دار الصحوة، القاهرة، الطبعة الاولى، 1405هـ ـ1985م، ص69.

[6]           صحيح مسلم، شبكة المشكاة الالكترونية، حديث 1731. كذلك: ابن القيم الجوزية: أحكام أهل الذمة، حققه وعلّق عليه صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، 1401هـ ـ1981م، ج1، ص4ـ5. واعلام الموقعين، ج1، ص39. والقول السديد في كشف حقيقة التقليد، ص68.

[7]           أبو يوسف: الخراج، تحقيق محمود الباجي، دار بو سلامة، تونس، 1984م، ص194 و205.

[8]           أعلام الموقعين، ج1، ص39. كذلك: القول السديد، ص69. وموسوعة الفقه الإسلامي المعروفة بموسوعة جمال عبد الناصر، أصدرها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ج17، ص242ـ243. وقال بعض العلماء في انكاره للذين يحللون ويحرمون تقليداً لأقوال أئمتهم ما نصه: «الذين يقولون من الجهلة المقلدين: هذا حلال وهذا حرام وهذا حكم الله؛ ظناً منهم أن أقوال الامام الذي قلدوه تقوم مقام الكتاب والسنة وتغني عنهما، وأن ترك الكتاب والسنة والاكتفاء بأقوال من قلدوه أسلم لدينه، أعمتهم ظلمات الجهل المتراكمة عن الحقائق حتى صاروا يقولون هذا. فهم كما ترى، مع أن الامام الذي قلدوه، ما كان يتجرأ على مثل الذي تجرأوا عليه، لأن علمه يمنعه من ذلك» (القول السديد، ص71).

[9]           البخاري، محمد بن اسماعيل: صحيح البخاري، ضبطه، ورقمه، وذكر تكرار مواضعه، وشرح ألفاظه وجمله وخرج أحاديثه في صحيح مسلم، ووضع فهارسه مصطفى ديب البغا، شبكة المشكاة الالكترونية، حديث 6859. والعسقلاني، محمد بن حجر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية www.yasoob.com، ج13، ص226ـ227.

[10]          اعلام الموقعين، ج1، ص71. والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن، تصحيح أحمد عبد العليم البردوني، دار الكاتب العربي، مصر، الطبعة الثالثة، 1387هـ ـ1967م، ج6، ص333. والمكي، محمد علي المالكي: تهذيب الفروق، مطبوع في هامش الفروق للقرافي، نشر عالم الكتب، بيروت، ج1، ص180.

[11]          دهلوي، ولي الله: رسالة الانصاف في بيان سبب الاختلاف، طبعة حجرية، ص2. وحجة الله البالغة، دار التراث بالقاهرة، 1355هـ، ج1، ص141.

[12]          الجامع للقرطبي، ج6، ص332.

[13]          الجامع، ج6، ص332.

[14]          الاستحسان هو جعل الدليل الإجتهادي حاكماً على دليل العموم في النص ومقدماً على غيره من الأدلة الإجتهادية الأخرى سواء بالترجيح أو بالعدول والتحكيم التخصيص. إذ له ثلاثة أدوار، الاول: ترجيح دليل إجتهادي على اخر مثله، كترجيح القياس الخفي على الظاهر. والثاني: استثناء لقاعدة عامة إجتهادية بدليل إجتهادي اخر، فيعمل على تخصيص هذه القاعدة أو الحاكمية عليها، كتخصيص القياس بالمصلحة أو العرف، اي حاكمية أحد هذين الاخيرين للاول. وهو ما يعرف بالعدول بحكم المسألة عن نظائرها. والثالث: استثناء لعموم النص بدليل إجتهادي، فيكون الدليل مخصصاً لهذا العموم أو حاكماً ومقدماً عليه (يحيى محمد: النظام الواقعي، ضمن سلسلة المنهج في فهم الإسلام (5)، مؤسسة العارف، بيروت، 2019م).

[15]          المقصود بالمصلحة المرسلة بوجه عام هي كل ما يجلب نفعاً ويدفع ضرراً. وبعض التعاريف قيدها بالمحافظة على مقاصد الشرع كي تكون مقبولة. وسميت المصلحة بالمرسلة أو المطلقة باعتبار ان وظيفتها تتحدد بالقضايا التي لم يرد فيها حكم نص، لا بالاعتبار ولا بالالغاء، أو انها مما لم يشهد لها شاهد معين من الشريعة بالاعتبار. وقد اطلق عليها الغزالي في كتابه المستصفى الاستصلاح (انظر: النظام الواقعي).

[16]          بدر الدين الزركشي: البحر المحيط، شبكة المشكاة الالكترونية، فقرة 3 لم تذكر أرقام صفحاته.

[17]          الرسالة، ص476ـ477.

[18]          المصدر السابق، ص487ـ488.

[19]          أبو زهرة: مالك، دار الفكر العربي، ص276.

[20]          المصدر السابق، حاشية ص276.

[21]          الطوفي: رسالة في رعاية المصلحة، نشرت خلف كتاب مصادر التشريع الإسلامي لعبد الوهاب خلاف، ص109ـ110. والقرافي: تنقيح الفصول في علم الأصول، شبكة المشكاة الالكترونية، ضمن الفصل الأول من الباب العشرين، وهو بعنوان في جميع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين، لم تذكر ارقام صفحاته.

[22]          انظر: الآمدي، سيف الدين علي: الإحكام في أُصول الأحكام، كتب هوامشه الشيخ إبراهيم العجوز، دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الأُولى، 1405هـ ـ1985م، ج4، ص296.

[23]          انظر بهذا الصدد كلاً من: ابن كثير: اختصار علوم الحديث، شبكة المشكاة الالكترونية، فقرة النوع التاسع لم تذكر أرقام صفحاته. والبحر المحيط، فقرة 1163. والقاسمي، جمال الدين: قواعد التحديث، شبكة المشكاة الالكترونية، ص169. وحجة الله البالغة، ج1، ص146. وتاريخ المذاهب الإسلامية، ص270. وكتابنا: مشكلة الحديث، دار أفريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الثانية، 2015م.

[24]          الرسالة، ص494.

[25]          صحيح البخاري، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، حديث 6919. وصحيح مسلم، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، حديث 1716. والعسقلاني، ابن حجر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج13، ص271ـ272. كما روى هذه الرواية كل من الحاكم والدارقطني عن عقبة بن نافع الإحكام للآمدي، ج4، هامش ص416.

[26]          البصري، أبو الحسين: المعتمد في أُصول الفقه، تحقيق محمد حميد الله، طبعة دمشق، 1964م، ص766.

[27]          الشيرازي، أبو اسحاق: شرح اللمع، تحقيق وتقديم عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأُولى، 1408هـ ـ1988م، ج2، ص1043.

[28]          أبو بكر بن العربي: أصول الفقه، عن شبكة المشكاة الالكترونية، ص78.

[29]          ابن رشد الحفيد: الضروري في أصول الفقه، أو مختصر المستصفى، تقديم وتحقيق جمال الدين العلوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1994م، عن شبكة المشكاة الالكترونية، الفصل الأول، الفقرة 231 و237.

[30]          السبكي، علي بن عبد الكافي: الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1404هـ، عن شبكة المشكاة الالكترونية، الكتاب السابع في الإجتهاد، لم تذكر ارقام صفحاته.

[31]          المحلي، محمد بن أحمد: شرح جمع الجوامع، عن شبكة المشكاة الالكترونية، الكتاب السابع في الإجتهاد، لم تذكر ارقام صفحاته.

[32]          أبو زهرة: الغزالي الفقيه، بحث منشور في: أبو حامد الغزالي، في الذكرى المئوية التاسعة لميلاده، مهرجان الغرالي في دمشق، 1961م، ص561. كذلك: تاريخ المذاهب الإسلامية، ص321.

[33]          الغزالي، أبو حامد: المستصفى من علم الأصول، وبذيله فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في أُصول الفقه، المطبعة الأميرية في مصر، الطبعة الأُولى، 1322هـ، ج2، ص350.

[34]          المصدر السابق، ج1، ص100 و217ـ218.

[35]          انظر لإبن حزم: الإحكام في أُصول الأحكام، مطبعة السعادة، ج1، ص45، ج5، ص126 وما بعدها. والمحلى، تصحيح محمد خليل هراس، مطبعة الإمام في القلعة بمصر، ج1، ص60.

[36]          ابن حزم: النبذ في أصول الفقه، شبكة المشكاة الالكترونية، ص74.

[37]          انظر بهذا الصدد: الآمدي: الإحكام في اصول الأحكام، ج4، ص396. والأنصاري، عبد العلي محمد بن نظام الدين: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، وهو مطبوع في ذيل كتاب المستصفى، ج2، ص362. والمرعي، حسن أحمد: الإجتهاد في الشريعة الإسلامية، ضمن كتاب الإجتهاد في الشريعة الإسلامية وبحوث أخرى، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية القسم الأول، ص12ـ13.

[38]          السالمي، عبد الله بن حميد: مشارق أنوار العقول، صححه وعلق عليه أحمد بن حمد الخليلي، منشورات العقيدة بسلطنة عمان، الطبعة الثانية، 1398هـ ـ1978م، ص70.

comments powered by Disqus