-
ع
+

الفرق بين التقليد الفقهي والإتّباع

يحيى محمد 

التقليد في اللغة مأخوذ من القلادة التي يقلّد الإنسان غيره بها، ومنه يكون المقلّد جاعلاً للحكم الذي قلّد فيه المجتهد كالقلادة في عنق من قلّده([1]). وفي أصل الإستعمال يعّرف التقليد بأنه العمل بقول الغير من غير حجة مُلزمة([2])، أو من غير حجة فحسب([3]). ومثاله أخذ العامي والمجتهد بقول مثله. مع ذلك سُمي أخذ المقلّد بقول المفتي تقليداً عرفا([4]ً). وفي هذه الحالة أُعتبر التقليد لدى الذين جوزوه بأنه عمل العامي بقول المفتي بحجة مُلزمة. فهو من هذه الناحية عبارة عن إتباع المجتهد فيما ينتهي إليه نظره دون العلم بدليله على المسألة. وهو باختصار عبارة عن إتباع من هو عاجز عن الفحص لمن هو قادر عليه بالإجتهاد.

فمن تعريفاته هو أنه «أخذ فتوى الغير للعمل به». أو أنه تطبيق العمل على فتوى الغير. أو «الإلتزام بالعمل بفتوى الغير وإن لم يعمل به بعد، ولا أخذ فتواه»([5]).

وقد لقيت هذه التعاريف نقداً من قبل المحقق الخوئي، واستبدلها بتعريف آخر يتناسب مع كل من المفهوم اللغوي والعرفي، فعرفه بأنه «الإستناد إلى قول الغير في مقام العمل»، فيكون معنى تقليد العامي للمجتهد هو أن يجعل أعماله على رقبة المجتهد وعاتقه، لا أن معناه الإلتزام  أو الأخذ أو غير ذلك مما لا يوافق المعنى اللغوي. وبرأي الخوئي أنه اذا فسرنا التقليد بالإلتزام فسيكون معنى تقليد المجتهد هو أن يجعل العامي فتوى المجتهد وأقواله قلادة لنفسه، لا أنه يجعل أعماله قلادة في رقبة المجتهد. لذلك فالمناسب برأيه هو التعريف الثاني لا الأول([6]).

وبنظر السيد محسن الحكيم إن إختلاف التعاريف في معنى التقليد لا يغير من حقيقة وحدة مراد العلماء من أنه العمل بقول الغير([7]).

ومن الناحية التاريخية ان التقليد بالمعنى الدال على إتباع قول المجتهد ورأيه، سواء بالأخذ أو العمل أو غير ذلك، لم يكن معروفاً في عصر النص وظلاله. فقد كان الناس في عصر النبي ـ والأئمة ـ والصحابة والتابعين يأخذون معالم دينهم عبر عملية تدعى الإتباع. وهي تعني إتباع أقوال النبي والأئمة وسيرتهم، ولو بصور غير مباشرة من خلال ما يكشف عنها من سيرة الصحابة والتابعين أو من حيث نقل الناقلين. حتى قيل أن الناس آنذاك كانوا لا يتبعون إلا صاحب الشرع، وكانوا يتعلمون صفة الوضوء والغسل والصلاة والزكاة ونحو ذلك من آبائهم أو معلمي بلدانهم؛ فيمشون حسب ذلك. بل حتى مع ظهور المذاهب وشيوعها إذا وقعت لهم واقعة إستفتوا فيها أي مفت وجدوه من غير تعيين مذهب محدد([8]). وهو أمر وإن كان لا يخلو من تقليد، لكنه ليس تقليداً لشخص بعينه، فربما يراد من ذلك إعتبار الفقهاء تابعين أكثر من كونهم مجتهدين.

ويبدو أن التقليد باتباع أقوال أصحاب الرأي والإجتهاد من دون تمحيص لم يحدث بصورة واعية إلا بعد وقت متأخر عن عصر التابعين. وعلى رأي إبن حزم إنه لم يكن للتقليد أثر في عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، إنما بدأ أول الأمر بعد (سنة 140هـ)، ومن ثم شاع وعمّ بعد المائتين من الهجرة، فندر من لم يلتزم به ويعول عليه([9]). وإن كان قد ذكر في إحدى رسائله أنه حدث في القرن الرابع الهجري([10]).

كما جاء في كتاب (أعلام الموقعين) لإبن القيم الجوزية أن التقليد لم يعرف على وجه الضرورة واليقين في عصر التابعين وتابعي التابعين، إنما حدث في القرن الرابع الهجري([11]). فقد قال في معرض ردّه على دعاة التقليد: «إنا نعلم بالضرورة، انه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلاً منهم يقلده في جميع اقواله، فلم يسقط منها شيئاً، وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئاً. ونعلم بالضرورة ان هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابعي التابعين. فليكذبنا المقلدون برجل واحد، سلك سبيلهم الوخيمة، في القرون الفضيلة على لسان رسول الله (ص)»([12]). وأيد الشيخ ابو زهرة كون التقليد ابتدأ منذ القرن الرابع الهجري لكنه كان تقليداً جزئياً ابتداءً، ثم أخذ يتسع نطاقه حتى صار تقليداً كلياً في آخر العصور([13]).

على أن هناك فرقاً بين التقليد والإتباع لم يكترث له الكثير من الفقهاء في الساحتين السنية والشيعية، فحسبوه أمراً واحداً، الأمر الذي جعلهم يستدلون على صحة التقليد بالاستناد إلى دليل الإتباع الممارس في عصر الصحابة والتابعين. فالكثير منهم يذكر في معرض تقديم الأدلة على التقليد بأن الناس كانوا يقلّدون الصحابة والتابعين وأصحاب الأئمة - كما عند الشيعة - بأخذ الفتوى عنهم([14]). بل يسمي البعض حتى الأخذ عن النبي بأنه تقليد، كما هو الحال مع الشافعي، وإن كان يريد بذلك القبول من غير سؤال، ولم يرد ما هو مصطلح عليه([15]). فهو ليس بالتقليد الذي يريده الفقهاء من حيث أنه الأخذ بالرأي، ففارق بين إتباع النص، سواء كان آية أم رواية أو ما يكشف عنه من سيرة، وبين إتباع الرأي الذي هو عبارة عن سلسلة من النظر والتفكير والمماحكة بين الأدلة. فموارد الاتباع ليست موضعاً للاجتهاد المفضي الى الظن بخلاف موارد التقليد. لهذا قال الشيخ ابو محمد المقدسي وبعض الشافعية: «ليس الاخذ بقوله عليه السلام تقليداً؛ لان قوله حجة لما سبق وعرف في مواضعه، والتقليد اخذ السائل بقول من قلده بلا حجة ملزمة له يعرفها»([16]).

 



[1] البحر المحيط، ج6، ص270 . وإرشاد الفحول، ص265  .

[2] الإحكام للآمدي، ج4، ص445.

[3] إرشاد الفحول، ص265.

[4] معالم الدين، ص385.

[5] انظر: الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص77ـ79. والكفاية، ص539. ومعالم الدين، ص385.  ومنتهى الأُصول، ج2 ، ص631. وعناية الأُصول، ج6 ، ص214ـ 215.

[6] الإجتهاد والتقليد، ص77ـ79.

[7] الحكيم، محسن الطباطبائي: مستمسك العروة الوثقى، مطبعة الآداب في النجف، الطبعة الرابعة، 1391هـ، ج1، ص11.

[8] حجة الله البالغة، ج1، ص153  .

[9] إبن حزم: الإحكام في أُصول الأحكام، مطبعة السعادة، ج6، ص146 . كذلك: الشوكاني، محمد بن علي: رسالة القول المفيد في أدلة الإجتهاد والتقليد، ضمن رسائله السلفية، ص17.

[10] ملخص إبطال القياس، ص52 .

[11] أعلام الموقعين، ج2، ص 108.

[12] اعلام الموقعين، ج2، ص208  .

[13] تاريخ المذاهب الاسلامية، ص 302 .

[14] انظر مثلاً: الإحكام للآمدي، ج4، ص451. والكفاية، ص540ـ541. والفصول الغروية، ص419. والإجتهاد والتقليد للخوئي، ص91 وما بعدها.

[15] بهذا الصدد نُقل عن البعض قوله: «لا خلاف أن قبول قول غير النبي (ص) من الصحابة والتابعين يسمى تقليداً، وأما قبول قوله صلى الله عليه وسلم فهل يسمى تقليداً؟ فيه وجهان يبتنيان على الخلاف في حقيقة التقليد ماذا هو، وذكر الشيخ أبو حامد إن الذي  نصّ عليه الشافعي أنه يسمى تقليداً، فإنه قال في حق قول الصحابي لما ذهب إلى أنه لا يجب الأخذ به ما نصه: وأما أن يقلّده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله (ص)» (إرشاد الفحول، ص265 . كذلك: البحر المحيط، ج6، ص270ـ272 ). ويقال في المصادر الشيعية: إن إتباع الكتاب والسنة النبوية والأئمة كما هو مأمور به عبارة عن تقليد (انظر: النجفي، محمد حسن: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، تحقيق وتعليق وتصحيح محمود القوچاني، دار الكتب الإسلامية بطهران، 1367هـ. ش، ج4 ، ص23. كذلك انظر عنوان الباب العاشر من أبواب صفات القاضي للوسائل، ج18، ص89.

[16] صفة الفتوى، ص54  .

comments powered by Disqus