-
ع
+

الشرع سيد العقلاء

يحيى محمد 

كثيراً ما تثار شبهات بوجه ممارسة العقل لتأسيس الأحكام الفقهية، وهي أن هذه الممارسة تبعث على نسخ الأحكام الشرعية وتغييرها، أو طرحها وإلغائها كلية، وأنها عاجزة عن إدراك المصالح الدنيوية، بدلالة ان الشرع لم يكتف بذكر المصالح الأخروية وانما جاء ايضاً بتعليم المصالح الدنيوية، وأنه بالشرع لا العقل قد تبين ما كان عليه أهل الفترة (الجاهلية) من انحراف الأحوال عن الإستقامة وخروجهم عن مقتضى العدل في الاحكام. كذلك أنها غير قابلة للضبط والإنضباط، وتتأثر بالأهواء والمصالح الخاصة، وأنها توقع في الأخطاء الكثيرة وإن لم يدركها المدرك، كما أنها لا تتفق مع مقولة كمال الشريعة وبيانها وتمامها، ولا مع منطق (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)، يضاف الى وجود الأحاديث الناهية عن هذه الممارسة في إدراك الأحكام ومناطاتها.

لكن مع ذلك أننا لو سلمنا بمصداقية هذه الشبهات لكان بعضها على الأقل يصدق على جميع المذاهب التي تعول على الإجتهاد والرأي. ذلك ان هذه الإجتهادات تضطر أحياناً لتغيير الأحكام تبعاً لمراعاة المقاصد أو المصالح أو غير ذلك من الاعتبارات، ومع ذلك لا يصح ان يقال أنها تمارس نسخاً للشريعة أو إلغاء احكامها. وفعلاً أنها تُتهم بمثل هذه التهمة من قبل تلك المذاهب التي لا ترى مجالاً لممارسة الرأي والإجتهاد. بل ان الشاهد التاريخي يكشف عن تبادل الاتهامات بين المذاهب في هذا الخصوص، تبعاً لمنطق التوسع في الأخذ بأصول الإجتهاد. فكلما زادت أصول الإجتهاد أكثر كلما زادت الشبهة بحق المذهب. فلو غضضنا الطرف عن الكم المستخدم من تلك الأصول وجدنا ان القائل بالقياس والإستحسان والمصالح متهم بدرجة أكبر من القائل بالقياس والإستحسان، والأخير متهم أكثر مقارنة مع من يقول بالقياس وحده. مع ذلك فنحن نعلم ان التهمة في حق الجميع غير صحيحة.

أما الاشكال عن عجز العقل عن إدراك المصالح الدنيوية فإنه لو صدق لانطبق ايضاً على جميع المذاهب التي تعول على المصالح والإستحسان، ومنهم الشاطبي الذي أثار مثل هذا الاشكال. وكما سنعرف ان الممارسة العقلية وخبرتها المناطة بالواقع والاسترشاد بمقاصد الشرع؛ كل ذلك يجعلها قادرة على إدراك مثل هذه المصالح، باعتبارها مصالح واقعية لها آثارها الواضحة إن كانت مفيدة معتبرة أو ضارة ملغاة. نعم ان فائدة الشرع - هنا - هو أنه سبّاق في تحديد المصالح لاحاطته الكلية، بينما يحتاج الكشف العقلي إلى المزيد من الخبرة والجدل مع الواقع، كما لا بد من تبني المقاصد لإدراك ما يخفى عنه من هذه المصالح.

وكذا يمكن القول ان الإجتهادات التقليدية للفقه غير قابلة للضبط والإنضباط باعتبارها تعود إلى الفهم، والفهم مختلف حوله اصولاً وفروعاً، الأمر الذي يجعلها مفضية للوقوع في الأخطاء الكثيرة، بدلالة ما لدينا من آراء كثيرة للمسألة الفقهية الواحدة. وهو ما أدى إلى تكوين علم خاص اطلق عليه الخلافيات، مما ليس معنوناً في أي علم من العلوم الإسلامية الأخرى. واكثر من هذا قد ضُرب بالفقه المثل على ضعف النتائج التي يولّدها لكثرة الشكوك التي تراود مسائله. ومن ذلك ان الفقيه الفيلسوف ابن رشد لم يجد وصفاً يليق بتسخيفه لنظرية الفيض الفارابية السينوية من حيث أنها مدعاة للظنون والخيالات غير مقارنته إياها بعلم الفقه، كما في قوله: (وبحق صارت العلوم الإلهية لما حُشيت بهذه الأقاويل أكثر ظنية من صناعة الفقه)[1] .

فأين هي اسعافات الضوابط الفقهية، وكيف يمكن تجنب الكم الهائل للاخطاء التي يدل عليها كثرة الخلاف الفقهي؟! فهي من الناحية المنطقية إما ان تكون كلها خاطئة بلا استثناء، أو ان الصحيح منها لا يتجاوز الرأي الواحد للمسألة، وفي كلا الحالين نعلم اننا أبعد ما يكون عن بلوغ الحد الذي يُعتمد عليه في علاج المشاكل الفقهية وحلها. فهل يعقل ان تكون أخطاء الوجدان العقلي أكثر من ذلك؟!

وكذا يجوز ان يقال بأن تلك الإجتهادات تبعث على الأهواء لما تحمله من مرونة يصعب ضبطها، الأمر الذي تشهد عليه فتاوى ما يسمون (وعاظ السلاطين)، وهم الذين لا يخلو منهم عصر ولا زمان. فهم يستخدمون نفس الأساليب الاستدلالية المعول عليها، فيصبح من الصعب كشف ما في ذاتهم من الدوافع الدخيلة، سيما ونحن نعلم بأن الإنسان، مهما بلغ من التجرد، فإنه يبقى عاجزاً عن ايجاد رصيف آخر خارج الطوق الذي تفرضه عليه ثقافة البيئة وروح العصر، مما يؤثر على تحديد آرائه ونتاجه الإجتهادي.

وكذا يمكن أن يقال بأن تلك الإجتهادات تتنافى مع مقولة بيان الشريعة أو تمامها وكمالها. إذ مع هذا البيان والكمال ليس ثمة حاجة للإجتهاد الذي هو منبع الاختلاف وموطن الأخطاء وموضع زلات الاقدام، وكل ذلك لا يتفق مع ما عليه الشريعة من الكمال والبيان.

كذلك فإن وجود عدد من الأحاديث الناهية عن الممارسة العقلية يمكن ان يعم بحسب اطلاقها، وبحسب غيرها من الأحاديث، جميع صور الإجتهاد الأخرى. فلسان هذه الأحاديث واضح في الحث على تجنب الوقوع في الأخطاء الناتجة عن الظنون الإجتهادية لإدراك الأحكام، وهو أمر ينطبق على جميع صور الإجتهاد التي يمارسها الفقهاء على مر العصور[2]. وإن كنا في القبال نجد أحاديث أخرى معارضة تشيد بالعقل ومكانته، وتحث على ممارسته في إدراك القضايا المعروضة. الأمر الذي يؤيد صدق الدعوة بالإحتكام إلى العقل في القضايا التي يمكنه إدراكها إدراكاً عقلائياً معتبراً، بعيداً عن الهوى والمصالح الشخصية.

على أن حجية الوجدان العقلي هي حجية ذاتية تستغني عن جعل الشارع، واي مساس بها يُعد في حد ذاته مساساً بالشرع، إذ لا يتقوم الشرع إثباتاً الا بهذه الحجية أو هذا الوجدان. كما يمكن القول بأن توكيد هذه الحجية ينبع من الشرع، لا من حيث التصريح بمكانته وقيمته وكذا الحث على ممارسته كما نجد ذلك في العديد من نصوص القرآن والحديث؛ إنما ايضاً من حيث ما يزودنا به منهج الإستقراء وحساب الإحتمالات من نتيجة مؤكدة مفادها صدق قضاياه بما يجعل العمل به مشروعاً حسب ضوابط لا غنى عنها. واذا اضفنا إلى ذلك ان الوجدان العقلي يستهدي بهدي مقاصد الشرع وتوجيهاته كأحد أبرز الضوابط التي يناط بها في علاج مزاحمات الواقع وما يفرضه من تشابك في قضايا المصالح والمفاسد؛ علمنا كم هو حجم الضرورة وجسامة المسؤولية الملقاة على عاتق مثل هذه الممارسة الإجتهادية.

على ذلك كيف تجوز المقارنة والموازاة بين الحكمين الوجداني والإجتهادي التقليدي، فيوضع الحكم الأول جنب الثاني، أو يُدرجان بحسب الترتيب، مع ان الحكم الأخير غالباً ما لا يرقى إلى نوع معتد به من الظنون العقلائية النوعية؟! والأنكى من ذلك كيف يرجح العمل بمثل هذه الطريقة وتقديمها على الحكم الوجداني للعقل؟ كما كيف يصح اتهام هذا الوجدان بالهوى والتضارب مع أنه يقبل الضبط العقلائي والمشاركة النوعية؟! في حين ان طريقة الإجتهاد التقليدية بضوابطها المعروفة لا تثمر في الكثير من قراراتها الا نتائج ضعيفة. بل ان الوسيلة التي تتبعها قائمة على مقدمات ضعيفة، فكيف يوثق بالنتائج التي تفرزها وتحسبها نتاجاً شرعياً خالصاً؟! إذ تتقوم ممارستها - في أحسن الأحوال - بجمع من المقدمات الظنية، وحيث ان صدق النتيجة متوقف على صحة هذه المقدمات جميعاً، لذلك فإنه بحسب منطق الإحتمالات لا بد من ضرب إحتمالات صدق تلك المقدمات ببعضها كي تكون النتيجة صحيحة صادقة، وبضرب الإحتمالات تضعف القيمة الإحتمالية، فتندرج النتيجة تحت مراتب الأحكام الضعيفة لا الظنية، لذلك كيف يمكن قبول مثل هذه الأحكام الضعيفة، في الوقت الذي يتم فيه تفويت فرصة العمل بالوجدان العقلي للمسائل التي تقبل الإدراك وتحديد النتائج؟!

وكما ذكرنا فإن حجم ما نراه من الاختلاف بين الفقهاء حول القضية الفقهية الواحدة؛ يضعّف من مصداقية طريقة الإجتهاد التقليدية، حيث ان الآراء المختلفة إما ان تكون كلها خاطئة، أو باستثناء واحدة منها صحيحة. لكن شتان بين هذه الطريقة وبين ممارسة الوجدان العقلي. فأحكام هذه الممارسة إن لم تكن قطعية فإنها متاخمة للعلم، أو على الأقل يكون الظن فيها قوياً لا يقارن بما عليه الصور التي تعكسها مرآة طريقة الإجتهاد التقليدية، سيما حينما تستهدي بهدي الشورى وتوظف لعملها دراسة الواقع وما تقتضيه من معرفة العلوم الإنسانية الكفيلة بالبحث الميداني.

إذاً نحن بصدد بيان كيف أن الإستقراء الشرعي يثبت صحة التعويل على الوجدان العقلي. ومن ثم بيان أن المقاصد هي المرشدة لهذا السلوك، الأمر الذي يعطي نتائج مخالفة لما عليه الطريقة التقليدية.

فليس هناك طريقة أهم من منهج الإستقراء في الكشف عن الحقائق وفهم القضايا، والتي منها قضايا الدين والإسلام المعرفي. ويعد الشاطبي من القلة الذين عزوا للإستقراء دوراً هاماً في الكشف عن الموارد الكلية للشريعة، وسعى لأن يجعل منها منبعاً للقطع واليقين. لهذا كان من المفيد ان نوظف هذه الطريقة للبحث عن مدى التوافق بين الأحكام العقلية والأحكام الدينية، وذلك في المسائل التي يمكن للعقل إدراكها، كما في قضايا الحسن والقبح وقضايا المصالح والمضار وما على شاكلتها.

وسبق ان طرقنا – في دراسة مستقلة - هذا الباب الجديد، وبيّنا أن التوافق في الأحكام بين التشريعين العقلي والديني يكاد يكون تاماً، وطبقاً لمنطق الإحتمالات يُستبعد أن يكون هذا التوافق صدفة واعتباطاً، وبالتالي كان لا بد من رد احد التشريعين للآخر، أو أن الشيء لا يُفسر الا طبقاً لمحور مشترك بحيث لا يمكن عزل أحدهما عن الآخر، الأمر الذي يفسره كون الأحكام الدينية عبارة عن امضاءات للأحكام العقلية، فالشرع لم يأت بهذه الأحكام على نحو التأسيس، بل على نحو الإمضاء والتبعية. والأهم من ذلك ان إحتمالية صحة الحكم العقلي أو الوجداني في قضية جديدة لم يطرقها الشرع، أو لم نستكشفها نحن منه، تساوي تبعاً للحساب الإحتمالي قدر ما يكسبه العقل من قيمة معرفية في موافقته للقضايا الدينية[3].

هكذا تتأيد بالإستقراء قاعدة الإمامية القائلة: (كل ما يحسن فعله عقلاً يحسن فعله شرعاً)[4]. وصدق من قال بأن الشرع سيد العقلاء. فكيف يجوز - اذاً - عزل العقل عن ممارسته الوجدانية في استكشاف الأحكام اذا ما كان الشرع سيداً فيها؟!

 



[1] ابن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص201.

[2] انظر بهذا الصدد كتابنا الإجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، طبعة دار أفريقيا الشرق، الطبعة الثالثة، 2009م، الفصل الثاني منه على وجه الخصوص.

[3] منطق الإحتمال ومبدأ التكليف في التفكير الكلامي ، العدد المزدوج، 9ـ10، ص14ـ33. كذلك: الفصل الأول من: العقل والبيان والاشكاليات الدينية.

[4] اصول الفقه، ج2، ص209 .

comments powered by Disqus