-
ع
+

نقد منطق حق الملكية لدى التفكير الكلامي

 

يحيى محمد 

إبتداءاً نعترف أنه ليس بيدنا أو بيد غيرنا الإعتراض على البداهة الأولية لمنطق حق الملكية، كما يتمثل في الأشاعرة، مثلما ليس بيدنا فعل الشيء نفسه حول الموقف من منطق الحق الذاتي. والسبب واضح، وهو أن البداهة الأولية لكل من الطرفين هي من الأمور المجردة. لكن لا يمنع ذلك من الإعتراض على النتائج المترتبة على تلك البداهة.

وبصفة عامة نعلم أن الإعتراض على مقدمات القضايا الإستدلالية يفضي إلى تخطئة النتائج المترتبة عليها. لكن ماذا بخصوص العكس؟ فهل يفضي الإعتراض على النتائج إلى عدم قبول المقدمات التي استلزمتها؟ سيما ونحن نتحدث عن قضايا اللزوم بين النتائج والمقدمات. فهناك جملة من القضايا المترتبة على القول بمنطق حق الملكية، وأن منها ما يعد من اللوازم الثابتة، بحيث أن أي تغيير لها يفضي إلى التعارض مع البداهة الأولية. فالقول بجواز تكليف ما لا يطاق - مثلاً - هو أمر مترتب على التسليم بالبداهة الأولية لحق الملكية، لكنه في الوقت ذاته يسفر عن إبطال الشروط المنطقية لنظرية التكليف، إذ يصبح التكليف اسماً بلا مسمى، وصورة بلا معنى. فهو جبر تام ليس فيه ما يترتب عليه من حق الثواب والعقاب. وكذا الحال مع نظرية الكسب في مسألة القضاء والقدر، إذ لو لم يكن للإنسان سوى الأثر المعبّر عنه بالكسب؛ لكان ذلك منافياً للتكليف الذي يترتب عليه الجزاء. إذ تصبح أمور التكليف وما يترتب عليها صورية تلتقي تماماً مع الصورية الملاحظة لدى النظام الوجودي في فهمه للإشكاليات الدينية.

ومن ذلك أيضاً أنه لو صدقت البداهة الأولية لحق الملكية لكانت العدالة الإلهية، كما نطق بها الخطاب الديني، عدالة صورية، إذ لا فرق فيها - مثلاً - بين أن ينعّم الله المطيعين في الجنة ويعذب المسيئين في النار من جهة، وبين أن يفعل العكس بهم من جهة أخرى، وتبرير ذلك أنها لازمة عن التوحيد لزوماً ذاتياً. فالعدل مشتق من التوحيد تبعاً لحق الملكية، خلافاً للعدل الذي يراه منطق الحق الذاتي.

لكن العدالة التي يتحدث عنها الخطاب الديني هي غير تلك التي حددها منطق حق الملكية، كما هو واضح مما جاء في النصوص القرآنية التالية: ((ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا وكفى بنا حاسبين)) (الأنبياء/47).. ((تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلماً للعالمين)) (آل عمران/108).. ((ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد)) (الانفال/51).. ((فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون)) (يس/54).. ((وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون)) (البقرة/272).. ((وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون)) (الزمر/69).

وتدل هذه النصوص على أن الله لم يرد ظلماً للعباد، فلو أراد ذلك لما استحال عليه، حيث الإرادة هي للممكن الذي يقبل الوجهين، الأمر الذي يتنافى وما يراه المنطق السابق.

كما يلاحظ أنه ليس في نظرية منطق حق الملكية ما يبرر الحقوق الإنسانية، خلافاً لنظرية الحق الذاتي. الأمر الذي يثير إعتراضاً على أولئك الذين ينتمون إلى المذهب الأشعري ويرفعون شعار مثل تلك الحقوق، كرفع شعار (حقوق الإنسان في الإسلام) كالذي يدعو إليه الكثير من أهل عصرنا. فالحقوق بحسب التصور الأشعري ليست حقوقاً بالمعنى الحقيقي لهذه اللفظة، وإنما هي تفضل ومنّة من الخالق على المخلوق.

 وينبسط هذا الإشكال أيضاً على أولئك الذين ينتمون إلى المنطق السابق ويقولون بمقاصد الشريعة. فالمعروف أن الأشاعرة هم أول من دعا إلى القول بالمقاصد، لكن هذا القول لا يتسق والاستناد إلى البداهة الأولية لحق الملكية. فهم من جانب اعتبروا تلك المصالح تعبدية لا تختلف عن سائر التعبديات الأخرى طبقاً لنظرية الحسن والقبح الشرعيين، في حين ميزوا من جانب آخر بين الأحكام التعبدية التي لا يُدرك معناها وبين الأحكام المصلحية المدركة بالعقل، وسلموا لهذا الأخير صلاحية تقدير التفاوت بين المصالح وإختلاف رتبها وأنواعها وما يرجع إليها من أحكام، كما بينّا ذلك في دراسة مستقلة[1]. وبالتالي فإذا كان العقل قادراً على إدراك التفاوت في المصالح وأنواعها فكيف لا يكون قادراً على إدراك ما هو مصلحة حقيقية وتمييزها عن غيرها؟!

على ذلك يمكن القول أن القضايا المترتبة على حق الملكية لا تتسق مع نظرية التكليف. وهي النظرية التي نعدها أولى الحقائق الأصلية للخطاب الديني. إذ بدونها يصبح الخطاب خطاباً غامضاً يفقد قيمته ومعناه. وبالتالي فإن الإعتماد على نظرية التكليف يفضي إلى إبطال الأصل المتمثل بحق الملكية، مثلما أن الإعتماد على الأخير لا يبقي لنظرية التكليف، ومن ثم الخطاب الديني، شيئاً يذكر.

***

يبقى أن نشير إلى أن هناك جماعة من أصحاب هذا المنطق انقلبوا على الأصل الذي اعتمدوه، فاعترفوا بالواجبات العقلية كما يراها اتباع منطق الحق الذاتي، وأقروا بأن الخطاب الديني أمضى ما في العقول من تلك الواجبات، وعدوا الإستدلال على معرفة الصانع واجباً عقلياً قبل ورود السمع به ودعوة الشرع إليه. ومن هؤلاء القفال الشاشي وأبو بكر الصيرفي وأبو بكر الفارسي والقاضي أبو حامد وأبو العباس بن القاص وأبو عبد الله الزبيري وأبو علي السقطي بن القطان وأبو علي بن أبي هريرة، ومن المتأخرين الحليمي وغيره.

وقيل أن هؤلاء لما نظروا إلى أسئلة المعتزلة - ومن ذلك قولهم بإيجاب الشكر عقلياً - اذعنوا لها، فاعتقدوا أن كلاً من شكر المنعم ومعرفة حدوث العالم وأن له محدثاً ومنعماً؛ تعد واجباً بالعقل قبل الشرع[2].

فقد قال القفال الشاشي: «أحكام الشرع ضربان: عقلي واجب وسمعي ممكن. فالأول: ما لا يجوز تغيره ولا يتوهم جواز استباحة ما يحظر، ولا حظر ما أوجب فعله؛ كتحريم الكفر والظلم والعدل ونحوه. وقد يرد السمع بهذا النوع فيكون مؤكداً لما وجب بالعقل. والثاني: كأعداد الصلوات وهو موقوف على تجويز العقل وقبوله إياه، فما جوّزه العقل فهو مقبول، وما ردّه فمردود، ومتى ورد السمع بإيجابه صار واجباً إلى أن يلحقه النسخ والتبديل». كما قال الصيرفي في (الدلائل والأعلام): «لا يجوز أن يأتي الكتاب أو السنة أو الإجماع بما يدفعه العقل، وإذا استحال ذلك فكل عبادة جاء بها القرآن أو السنة فعلى ضربين: أحدهما مؤكد لما في العقل إيجابه أو حظره أو إباحته، كتحريم الشرك وإيجاب شكر المنعم. والثاني: ما في العقل جواز مجيئه ومجيء خلافه، كالصلاة والزكاة، فالسمع يرقيها من حيز الجواز إلى الوجوب». وقال أيضاً: «ولا يأتي الخبر بخلاف ذلك.. والدليل على أن العقل حاكم على ما يرد به السمع أنه المميز بين الأشياء الواردة عليه.. وجماع نكتة الباب أن الذي يرد السمع مما يثبته العقل إنما يأتي تنبيهاً»[3]. وقال الزبيري: «العبادات من قبل السمع لا ترد إلا على ثلاثة أوجه: ضرب يرد بإيجاب ما تقدم في العقل وجوبه، كالإيمان بالله وشكر المنعم، والثاني: يرد بحظر ما تقدم في العقل وجوبه كالكفر بالله، والثالث: يرد لما في العقل جواز مجيئه، كالصلوات والزكوات والحج والصوم». وقال إبن القاص في (أدب الجدل): «الأشياء في العقل على ثلاثة أضرب: فضرب أوجبه العقل، وضرب نفاه، وضرب أجازه وأجاز خلافه، فما أوجبه العقل فهو واجب كشكر المنعم ومعرفة الصانع.. فأما الضربان الأولان فحجة الله فيهما قائمة على كل ذي لب قبل مجيء الشرع وبعده، ولا يجيء سمع إلا مطابقاً»[4].

لكن رغم إعتراف هؤلاء بالوجوب العقلي خلافاً للبداهة الأولية لمنطق حق الملكية، إلا انهم ظلوا محافظين على سائر القضايا الأخرى لذلك المنطق. الأمر الذي أوقعهم في التناقض. وكمثال على ذلك ما يذكر من الحوار الذي جرى بين أبي بكر الصيرفي وأبي الحسن الأشعري، حيث أظهر الأخير تناقض الأول، إذ جاء أن الصيرفي ممن يقول بوجوب شكر المنعم ووجوب الإستدلال على معرفته ومعرفة صفاته من جهة العقل قبل ورود الشرع، ثم أنه ناظر الأشعري في ذلك، واستدل على وجوب شكر المنعم بالعقل بوجوب الاحتراز مما يخاف منه الضرر. فقال له أبو الحسن: أبجدّ تقول: إن الكائنات كلها بإرادة الله تعالى خيرها وشرها؟ قال الصيرفي: نعم. فقال أبو الحسن: لكن هذا ينافي أصلك، فإذا كانت العلة في إيجاب شكر المنعم أنه لا يأمن أن يكون المنعم الذي خلقه قد أراد منه الشكر، فقد يجوز أن يريد منه أن لا يشكره؛ لأنه مستغن عن شكره، فإما أن يعتقد أنه لا يريد ما ليس بحسن كما قالت المعتزلة، وإما أن لا تأمن أنه أراد منك ترك شكر المنعم، وإذا شكرته عاقبك فلا يجب عليك شكر المنعم لهذا الجواز. فانقطع الصيرفي ورجع عن إعتقاده. وقيل أنه على أثر ذلك صنّف كتاب (الاستدراك) ليشير فيه إلى هذا الرجوع، ومما قال في حاشيته: «نحن وإن كنا نقول بشكر المنعم فإنما نقوله عند ورود الشرع»[5]. ومثله ما حصل مع أبي العباس القلانسي الذي قيل أن تصانيفه زادت على مائة وخمسين كتاباً[6]، إذ لما تحقق له ما في إعتقاده من التهافت رجع عنه. وجاء عن الطرطوشي أنه قال في (العمدة): «هذا مذهب أهل السنة قاطبة إلا ثلاثة رجال تلعثموا في هذا الأصل في أول أمرهم ثم رجعوا عنه إلى الحق، وهم: أبو بكر الصيرفي، وأبو العباس القلانسي، وأبو بكر القفال». وهناك من قال أنه لم يثبت عن القفال ولا عن أبي علي الرجوع عن هذه المقالة[7].

 



[1]  أنظر الفصل الرابع من كتابنا: فهم الدين والواقع، طبعة دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 2009م.

[2]  البحر المحيط، فقرة 86.

[3]  المصدر السابق، فقرة 81.

[4]  المصدر السابق، فقرة 86.

[5]  نفس المصدر، فقرة 86.

[6]  عبد القاهر البغدادي: الفَرق بين الفِرق، شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن الفصل السادس: في بيان فضائل أهل السنة (لم تذكر ارقام صفحاته).

[7]  البحر المحيط، فقرة 86.

comments powered by Disqus