-
ع
+

ما هو علم الكلام؟

يحيى محمد

لقد اعتاد المفكرون المسلمون تحديد علم الكلام طبقاً للوظيفة التي انيطت به؛ وهي اثبات قضايا العقيدة الاسلامية والدفاع عنها ضد شبهات الخصوم. وفي بعض هذه التحديدات نجد الوظيفة الكلامية لم تتوقف عند ذلك الشكل العمومي من العقيدة وانما تجاوزته في التخصيص ضمن بعض الصور المذهبية. فقد أخذ التحديد بُعداً مذهبياً خالصاً وهو الدفاع عن المذهب والرد على خصومه ممن وصفوا بالمبتدعة. الامر الذي ألبسه طابعاً آيديولوجياً أبعده عن هويته الحقيقية، مما جعله مساغاً سهلاً للطعن والاعتراض. فالغزالي في (المنقذ من الضلال) يرى ان هذا العلم مناط بالكشف «عن تلبيسات اهل البدعة المحدثة على خلاف السنة المأثورة، فمنه نشأ علم الكلام واهله». ولا شك ان هذا التحديد الذي اخطأ عن تقديم تصور حقيقي لنشأة علم الكلام؛ أثّر على تعريف هذا العلم، ومن ذلك أن ابن خلدون ضمّنه مفهوماً مذهبياً ذا طابع اشعري. فقد اعتبره علماً «يتضمن الحجاج عن العقائد الايمانية بالادلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف واهل السنة». فالتعريف كما هو واضح يتضمن عدم الاعتراف بغير الكلام الاشعري وما على شاكلته كممثل وحيد لعلم الكلام. وبالتالي فهو يتجاهل سائر الممارسات الكلامية بما فيها تلك التي سبقت الاشاعرة بمدة طويلة، كالمعتزلة وغيرها. وواضح ايضاً ان هذا التعريف الممذهب لا يتقبل الاعتراف بحقيقة ما ينطوي عليه علم الكلام من خصوصية (الاجتهاد) الذي يعمل على تبرير اختلاف الرأي في مختلف العلوم الانسانية. فضلاً عن انه لا يسمح لهذا العلم من ان يمارس وظيفته في التحقيق والابداع العلمي المستقل.

من جهتنا يمكننا ان نحدد علم الكلام كهوية تجعله يختلف عن غيره من العلوم والمعارف، وذلك في ما لو اخذنا بنظر الاعتبار هويته الذاتية المفترضة كموضوع قائم في ذاته بغض النظر عما يلحق به من عوارض طارئة.

إن هوية كل علم تستمد من امرين متلازمين هما الموضوع والوظيفة، شرط أن تكون الأخيرة مقيدة بالبحث والكشف المعرفي دون الوقوع في المصادرة على المطلوب. فالفيزياء مثلاً هو علم موضوعه الظواهر الطبيعية ووظيفته تفسير هذه الظواهر، لذا  فتحديده كهوية يأتي من حيث اعتباره علماً لتفسير الظواهر الطبيعية. فهو بهذا الافتراض يعد موضوعاً قائماً في ذاته، اما ما يلحق به من خصائص اخرى، مثل كيفية تفسير هذه الظواهر ودقتها العلمية والمناهج المتبعة في التفسير وكذا النتائج والنظريات المتخذة في ذلك؛ فكلها امور لاحقة لا تمثل جوهر ما عليه هذا العلم في ذاته. وبالتالي فهي ان تبدلت فلا يقتضي منها تبدل العلم المفترض. والفقه – كمثال آخر - هو علم موضوعه الاحكام الشرعية، وله وظيفة تتمثل باستنباط الاحكام الشرعية من مصادرها المعتبرة. لكن كيفية الاستنباط والمناهج المتبعة فيها وكذا النتائج المترتبة عليها؛ فكل ذلك يعد من الامور التي لا تتعلق بجوهر موضوع الفقه بما هو في ذاته، وهي بالتالي عرضة للتغير والتبدل دون ان يطرأ تغيرّ على اصل هذا الموضوع. لكن لو تبدل موضوع العلم او وظيفته فان ذلك سيبعث على ايجاد علم آخر مفترض غير السابق بما هو في ذاته. ويمكن ان ينتزع من العلم علم آخر اضيق او اوسع دائرة من الاول، فتكون لكل منهما هويته الذاتية، رغم ان احدهما يكون متضمناً في الآخر. وكمثال على ذلك الفيزياء النووية باعتبارها فرعاً لعلم أعم هو الفيزياء العامة.

وعندما نبحث عن الكلام كهوية ذاتية نجد ان له موضوعاً هو العقيدة الدينية، وبالتحديد مبادئ التكليف. وكذا ان له وظيفة هي التحقيق في أرجاء هذه المبادئ. فمبادئ التكليف التي تبشر بها الاديان لا تعدو عن اربعة كالآتي: المكلِّف (التوحيد)، والمكلَّف (العبودية)، والواسطة او الصلة بينهما (الرسالة)، ومن ثم ثمرة التكليف (الحساب). وبالتالي فكل علم يبحث في اطار العقيدة الدينية او مبادئ التكليف فهو من علم الكلام، والا كان خارجاً عن هذه الهوية. فمثلاً ان البحث الدائر حول التحقيق في وجود اله لهذا الكون بشكل منفصل ومستقل عما تقوله العقيدة الدينية التي تتضمن الاطار المعياري لنظرية التكليف؛ لا يمكن ان يكون بحثاً كلامياً بالمعنى الذي تحدده تلك الهوية الذاتية من الموضوع الكلامي، انما يمكن ان يكون بحثاً فلسفياً او منطقياً او أي بحث آخر مختلف.

من هنا فأن تحديدنا لعلم الكلام - كموضوع في ذاته - يتصف بعدد من الصفات والخصائص كالآتي:

1ـ اهم صفة يتصف بها هذا العلم هو انه ذو طابع معياري. فهي خصوصية تنبعث من مركز الدائرة التي يدور حول محيطها البحث الكلامي. فالمبادئ الاربعة لا تُبحث كقضايا وجودية مستقلة ومجردة عن دائرة التكليف، وهي دائرة معيارية مستمدة من الصبغة الدينية. الامر الذي يميز هذا العلم عن غيره من العلوم الاخرى المنافسة كالفلسفة.

2ـ يلاحظ ان التحديد الآنف الذكر هو تحديد ابستمولوجي لا ينطوي على التسليم سلفاً بأي قضية يراد الاستدلال عليها. وبالتالي فهو على خلاف التحديدات المألوفة التي تعرّف هذا العلم بما ينطوي على قضايا مسلم بها سلفاً ويراد الاستدلال عليها في الوقت ذاته، مثل اعتباره علماً يراد منه اثبات العقيدة الدينية والدفاع عنها والرد على خصومها. وهو تحديد يفترض التسليم بالعقيدة سلفاً قبل اقامة الدليل عليها.

نعم لو قلنا ان الايمان بالعقيدة نابع من مصدر آخر لا يمت الى الكلام بصلة؛ لكان يمكن مجاراة مثل ذلك التعريف بشرط ان تتوضح الوظيفة المعرفية بما يخرجها عن المصادرة على المطلوب. لكن الاشكال: من اين يأتي الايمان بالعقيدة ما لم تمارس فيه الادلة الموضوعية التي هي محل اهتمام ذلك العلم!

كما يخلو تحديدنا الآنف الذكر من السمات الآيديولوجية الممذهبة كتلك التي تجعل من وظيفته الرد على المبتدعة. بل ويخلو من صفة مطلق الرد على الخصوم، اذ الرد ليس من الصفات الذاتية للعلم بما هو علم ابستمولوجي قائم في ذاته، فالعلم بما هو علم وظيفته الذاتية للكشف المعرفي لا الرد الذي يفترض التسليم سلفاً بالقضايا التي ينبغي ان تكون ضمن دائرة البحث والتحقيق الكلامي.

وعليه فالتعريف الذي وضعناه يجعل من التفكير الكلامي بما هو موضوع في ذاته ليس فقط محل ممارسة اولئك المدافعين عن العقيدة الكلامية، بل كذلك محل ممارسة اولئك الذين يتصفون بالخصوم. فالمدافع والخصم ينطبق عليهما التفكير الكلامي حينما يتعلق الغرض بدراسة مبادئ التكليف او ما يلف حولها من قضايا. فضلاً عن انه شامل لكل كلام ديني، كالكلام الاسلامي والمسيحي واليهودي.. ولكل كلام مذهبي، كالكلام الاشعري والاعتزالي والامامي والكاثوليكي والبروتستانتي… الخ.

وتصحيحاً للموقف نعتبر التعريف التقليدي للكلام المتضمن لاثبات العقيدة والرد على خصومها؛ ليس تعريفاً للكلام بما في ذاته، وانما هو تعريف للكلام الديني المتحقق والمخصوص، كالكلام الاسلامي مثلاً. وحينما يوضع قيد آخر في التعريف؛ فانه لا يحتفظ بالكلام الديني الشامل كالكلام الاسلامي، بل يكون علم كلام مذهبي. وبالتالي فإن القيود الموضوعة في التعريف تعمل على تضييق هوية الكلام، وكلما زادت هذه القيود كلما زاد التضييق في الدائرة التي يعمل بها هذا العلم.

ومع كل هذا فان من المفارقة والتناقض ان يحتفظ التعريف بقيود تلك المسلمات دون ان يشار الى كونها تفريعاً او نتاجاً لعلم اشمل يتناولها بالبحث والتحقيق، وهو ما يمثل جوهر مهمة علم الكلام بما هو موضوع قائم في ذاته.

3ـ ان تحديدنا الآنف الذكر للكلام يحتفظ له بكونه علماً كلياً ليس معنياً بجزئيات التكليف كالذي يمارسه علم الفقه. وعليه ففي الدائرة الاسلامية ان قياس الكلام الى غيره من العلوم الاسلامية هو قياس الكلي الى الجزئي.

الكلام كموضوع متحقق

اذا كنا قد عرفنا بأن الكلام كموضوع في ذاته هو ذلك الذي يهدف للبحث والتحقيق في قضايا مبادئ التكليف وما يترتب عليها من مقدمات ونتائج؛ فانه كموضوع متحقق عبارة عن نمط الممارسة العلمية الخاصة حول قضايا تلك المبادئ، وذلك بما تنطوي عليه الممارسة من استخدام مفاهيم اجرائية محددة ومناهج معينة واصول تتكئ عليها ومواقف معرفية ترتضيها ومصادر علمية توظفها لاغراضها، وقد يترتب على ذلك ايضاً اجراء بعض الانماط من التعامل مع نص الخطاب الديني وما الى ذلك من ممارسات علمية ومعرفية. فما يظهر من طبيعة هذه الممارسات العلمية هو ما يحدد فعلاً هوية الكلام المتحقق، وهي هوية اضافية لا تعود في صميمها الى موضوع الكلام كما هو في ذاته. لهذا كان من الممكن ان ينشأ عدد من الهويات الفعلية التي يعبر كل منها بطريقته الخاصة عن الكلام المتحقق، وان تتنافس هذه الهويات وتتناقض، او يتجدد بعضها او يندثر ويموت، كل ذلك بغض النظر عن الكلام المفترض كما هو في ذاته. ومنه يظهر لدينا ما يطلق عليه الكلام الاسلامي والمسيحي واليهودي، كما يظهر لدينا ضمن الدائرة الاسلامية مثلاً كل من الكلام الاعتزالي والاشعري والامامي والسلفي، وكذا يظهر ما يطلق عليه التقليدي والجديد.

ان أي علم من العلوم ليس باستطاعته التحقق فعلاً من غير الممارسة الاجتهادية. فالاجتهاد متضمن في آلية التحقق ذاتها. وهو المبرر الموضوعي للتعددية التحققية، سواء اطلقنا على ذلك عبارة (نظريات)؛ كالذي يجري في العلوم الطبيعية والاجتماعية، او قلنا انها (مذاهب)؛ كمذاهب الفلسفة وعلم النفس وما اليها، او غير ذلك من التسميات التي لا تغير من حقيقتها الجوهرية وهي انها عبارة عن تعددية اجتهادية تتضمنها ذات الآلية التحققية. بمعنى انه لا يمكن صون هذه الآلية عن الاجتهاد والتعدد اطلاقاً.

وحيث ان حديثنا عن الكلام الاسلامي فلنعلم انه رغم وجود الاتفاق على قبول مبادئ التكليف؛ الا ان الممارسة الاجتهادية التي تتضمنها آلية التحقق جعلت فهم هذه القضايا مثاراً للتعددية والاختلاف. فقد اختلف الكلاميون حول طبيعة (المكلِّف) من حيث ذاته وصفاته ونمط ارتباطه وعلاقته بخلقه وعباده. كما اختلفوا حول طبيعة (المكلَّف) من حيث قدرته وارادته ونمط التكليف الذي يخصه إن كان شرعياً محضاً او يضاف اليه التكليف العقلي. واختلفوا ايضاً حول (رسالة التكليف) في عدد من القضايا كالدليل عليها وصفاتها ووجوبها وما قد يترتب عليها من امور كالامامة. وكذا انسحب الاختلاف الى الموقف من المضامين البيانية للرسالة، وتعددت وجهات النظر حول التقنين الخاص في العلاقة بين العقل والنص، اذ هناك من عمل على رفض الممارسة العقلية في علاقتها مع النص، وهناك من اعتبر العقل في خدمة البيان، كما هناك من فعل العكس بجعل العقل قيماً على الظاهر البياني ولو افضى الامر الى تأويله واعتباره من المتشابه لا البيان. واخيراً انهم اختلفوا حول (ثمرة التكليف)؛ كاختلافهم المتعلق بمسائل الاحباط والوفاء والارجاء والوعيد وغيرها الكثير الكثير.

خصائص الكلام التقليدي

لقد ظهر للكلام التقليدي خصائص وصفات على الصعيد المعرفي بعضها كان كفيلاً بأن يفضي به الى الوقوع في الشلل المزمن من غير قدرة على النهوض. واهم هذه الخصائص ما يلي:

1ـ الوقوع في خندق الآيدولوجيا (المذهبية). فقد بنى هذا العلم نفسه بشكل تكون فيه المذهبية كانتماء اجتماعي هي اساس تكوين العلم لا العكس.

نعم، لقد نشأ الكلام وهو في طور الثقافة نشأة فردية غير ممذهبة، بل وفي اجواء هذه النشأة يعبّر عدد من الاراء عن اجتهادات حرة غير متأثرة بأيديولوجيا السياسة وما اليها؛ رغم ان المطارح الاولى كانت مطارح داخلية ولم تكن من ذلك الصنف المنشغل بتأسيس الخطاب الديني من الخارج. فمثلاً ان اقدم رسالة وصلتنا بهذا الخصوص هي الرسالة المنسوبة الى الحسن بن محمد بن الحنفية في القدر والذي يرجع تأليفها الى سنة 73هـ. فهي من جانب رسالة ثقافة لا علم متخصص. كما انها رسالة رأي فردي وليس اتجاه مذهبي، وهي اكثر من هذا لا تعبر عن المدلول السياسي، أي انها ليست متأثرة بالسياسة. وموضوعها يعبر عن مسألة جزئية من القضايا المتعلقة بمبادئ التكليف. وقد تناولت الرسالة مسائل الخلاف الداخلي دون أن يكون لها علاقة بالخلاف الخارجي. على ان ما يعنينا من هذه الرسالة هو انها تخلو من الدوافع الآيديولوجية على الصعيدين السياسي والمذهبي كانتماء اجتماعي، على عكس ما آل اليه الامر بعد تكوين المدارس والاتجاهات، بدلالة ان الحسن كان يخالف اباه في هذه القضية كما خالفه في مسألة الارجاء. والمخالفة في تلك الفترة ليست من نوع ما تمّ التعبير عنه فيما بعد بأنه مخالفة للاجماع او المذهب او ما تسالم عليه. اذ كانت الآراء آنذاك تعبّر عن مبادرات فردية لم تتبلور بعد على هيئة مذاهب متبعة جيلاً بعد جيل، والتي غالباً ما يتعطل عندها دور التحقيق والابداع.

لكن حيث ان الشاغل الاعظم للكلاميين الاوائل هو ليس تأسيس العقيدة الاسلامية من الخارج والرد على خصومها، بل هو تأسيسها من الداخل بالفهم والاجتهاد، لذا فقد سهل ذلك على صياغة منظومات تعددية افضت الى ان تكون مذاهب كلامية متبعة بحسب الانتماء الاجتماعي، وكذا السياسي، وليس بمحض البحث والتحقيق. الامر الذي ولّد حالة من الانغلاق حجبت الممارسات الكلامية عن القيام بدور اجتهادي، ولم يعترف للكلام بطابعه الاجتماعي بعد ان غدا عبارة عن ممارسات جدلية ممذهبة، واصبح العمل المعرفي مساقاً بايديولوجيا المذهب عوض ان يساق بابستمولوجيا الحقيقة، ومن ثم أُغلق باب البحث والتفكير وعلا مكانه باب التضليل والتكفير، رغم ما انطوت عليه تلك الممارسات من تناقضات مفضوحة.

2ـ لقد اعتمد الكلام التقليدي - غالباً- على العقل في علاجه للقضايا التي كانت موضع اهتمامه. لكنه مع ذلك لم يعمل على تحليل هذا العقل والكشف عن ابعاده وما يترتب عليها من نتائج. ومن ذلك انه لم يفرق بين العقلين القبلي والبعدي، فكلاهما تم التعامل معهما بنفس النسق والاعتماد، بل غالب الامر هو انه اتخذ من العقل القبلي اداة للنظر في توليد النتائج الإخبارية الكاشفة عن الابعاد الخارجية ومنها مداليل النص والواقع الموضوعي. وهو ما جعلها تحمل مضامين هشة وضعيفة، فأفضى بها الأمر الى الاعتراف بالعجز والتناقض حتى من قبل اولئك الممارسين لها، وكان على رأسهم الفخر الرازي خلال القرن السادس الهجري.

على انّا نعدّ مرحلة الفخر الرازي مرحلة حاسمة بالنسبة الى الحركة العقلية في علم الكلام. ذلك انها تمثل شكلاً من المفارقة بما تحتضنه من مظهرين متنافيين، فقد بلغت هذه المرحلة أقصى حد ممكن من التطور، وظهر اثرها في الصياغة الكلية لقانون العلاقة التي تربط العقل بالنص، لكنها مع ذلك أنهت دور العقل المعياري من الحياة الفكرية الفاعلة. فقد تم التخلي عن العقل والقضاء عليه بعد الاعتراف بعجزه وتناقضاته، وذلك من قبل ذات الشخص الذي سبق له أن بالغ في قيمة النتائج العقلية المحضة ورجحها على النص فيما سماه بالقانون الكلي للتأويل.

يظل ان نشير الى ان الممارسة الكلامية لها بعد آخر اقل تأثيراً، وهو المتمثل بالتيار البياني او السلفي، مثلما هو الحال لدى كل من ابن حزم وابن تيمية وابن القيم ومحمد امين الاسترابادي وغيرهم.

3ـ يلاحظ انه رغم الاتفاق الغالب لدى علماء الكلام حول اصالة العقل؛ الا ان القواعد والاصول المعرفية المعتمدة على هذا الاصل هي غير متفق عليها في الغالب، وكان من ابرز واهم ما اختلفوا حوله هو قاعدة الحسن والقبح، وهي قاعدة يترتب عليها الكثير من المسائل والنتائج.

4ـ هناك ثلاثة انماط من التأسيس العقلي في علم الكلام، احدها عبارة عن التأسيس القبلي للنظر، حيث يعبر عن التشريع الخاص بالعقل الكلامي بغض النظر عن علاقته بغيره. وثانيها عبارة عن التأسيس الخارجي للخطاب الديني، والذي تتحقق به الحجة الدينية والاعتراف بصدق مدلولها. اما ثالثها فهو التأسيس الداخلي للخطاب والذي يتم فيه التحقق من طبيعة مضمون النص إن كان على توافق مع الرؤية القبلية للعقل فيقر عليه، او انه لا يتفق ظاهره معها فلا يقر عليه؛ بل يوجّه بما يتفق واياها. وهو الامر الذي افضى بالعقل الكلامي الى ان يرى في الخطاب صفات مثل المجاز والاحتمال والتشابه هي على الضد من صفات العقل المتمثلة بالحقيقة والقطع والاحكام. وهو ما يبرر ممارسة التأويل لصالح الرؤية العقلية القبلية،  بل وحتى المذهبية.

5ـ لقد اصبح علم الكلام علماً ميتاً شُلّت حركته نهائياً، ولم يعد ثمة من يجدد هذه الحركة طبقاً للموازين المعهودة سابقاً. فمن حيث الممارسة العقلية يلاحظ انها جسدت جملة من التناقضات كان آخرها تلك التي اعترف بها الفخر الرازي. فمنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا لم يكن هناك من يجدد للعقل اعتباراته ويصحح مفاهيمه ومنهجه، بل ظلت الممارسة العقلية تتحرك على نفسها باللف والدوران، وتضاءلت هذه الحركة شيئاً فشيئاً باضطراد، واخذت المفاهيم الاجرائية التي وظفها هذا العلم بالضمور والاختفاء، كما ذهبت الكثير من موضوعاته ولم يعد بالامكان احياؤها من جديد. بل ولم يعد هناك من يحتفي بهذا العلم او يشيد باعتباراته مقارنة بغيره من العلوم الاسلامية الاخرى. لكن رغم هذا وذاك فان الكلام التقليدي قد نجح فعلاً في تحقيق ما استهدفه من تكوين عقائد مذهبية مغلقة يصعب زحزحتها او الاجتهاد فيها رغم مضامينها الضيقة والضعيفة. وهو امر جعل من الكلام الجديد مقيداً غالباً بقيود ذلك الكلام ضمن تشكيلة ازدواجية من الصعب حلها والقضاء عليها، كالذي اشرنا اليه في دراسة مستقلة.

 

 

comments powered by Disqus