-
ع
+

علم الكلام وتأسيس المسألة الدينية

يحيى محمد

من وجهة نظر منطق الحق الذاتي إن الكشف عن الواجبات العقلية يفضي إلى تأسيس المسألة الدينية. إذ يجعل من علاقة التكليف محكومة بتلك الواجبات والحقوق، وبدونها لا يمكن تأسيس هذه المسألة وإثباتها. فبالواجبات الإلهية القائمة على العدل والألطاف يتحقق تبرير ثبوت المسألة، في حين أنه بفعل الواجبات الملقاة على المكلَّف يتحقق إثباتها. فالإثبات لا يكون من غير ثبوت، وما ليس بثابت لا يقبل الإثبات.

هذا من الناحية المنطقية، أما من حيث الكشف الذاتي فالأمر ينعكس، حيث يصبح الإثبات سابقاً للثبوت، كسبق صورة الشيء في ذاتنا مقارنة بالشيء الموضوعي لها، إذ لا يمكن معرفة الجانب الموضوعي للشيء ما لم يدرك سلفاً، فنحن نتحسس بالشيء كصورة في ذهننا أولاً قبل أن نعلم حقيقة ما هو عليه إن كان له وجود في الخارج أو ليس له وجود؟ وبعبارة أخرى، يتخذ إحساسنا بالصورة حضوراً مباشراً، خلافاً لعلمنا بوجود الشيء خارجاً، حيث يستدل عليه ويتصف بالكسب أو العلم غير المباشر. ومن حيث التعبير الفلسفي للماهية والوجود، يكون للماهية بعدها الذاتي خلافاً لما للوجود من بعد موضوعي، لذا يصدق القول بأن الوجود يتقدم على ماهيته بالإعتبار الموضوعي، وبالعكس تتقدم الماهية على وجودها بالإعتبار الذاتي.

إذاً لكي تتأسس المسألة الدينية لا بد أن تتخذ علاقة الواجبات بين المكلِّف والمكلَّف صورة الثبوت والإثبات. فإذا كان من مهمة المكلَّف إثبات المسألة الدينية، فإن من مهمة المكلِّف أن يجعل هذه المسألة ثابتة ليتم إثباتها. فالواجب الملقى على عاتق المكلِّف سابق على الواجب الملقى على عاتق المكلَّف، وما يجب على الأول هو جعل المسألة الدينية ثابتة بفعل ما عليه من واجبات الألطاف تبعاً لقاعدة العدل التي مرت معنا، مثل أن لا يفعل القبيح وأن يجري الجزاء ويهيء الألطاف للمكلَّف وما إلى ذلك. أما ما يجب على الثاني فهو أن يتخذ النظر وما يترتب عليه من لوازم، بما في ذلك إثبات المسألة الدينية وما يستلزمها من الطاعة التكليفية. وحتى الجزاء فهو بالنسبة للمكلِّف واجب ثبوتي، بينما هو لدى المكلَّف واجب إثباتي.

لذلك يعد التكليف العقلي متقدماً على التكليف الشرعي؛ لإعتبارين كما صرح بذلك القاضي الهمداني، أحدهما: إن الشرع يعتمد على العقل، والثاني: إن النظر هو الطريق المؤدي إلى معرفة الله وعدله وتوحيده[1]. والمبرران غير منفصلين عن بعضهما، حيث أن الثاني يكشف عن فحوى الأول جزئياً أو كلياً. ومن الناحية المنطقية إنّ توقف الشرع على الإدراك العقلي لا يدل على ضرورة وجوب هذا الأخير، فربما كان بمثابة الشرط لتحقق الوجوب الشرعي لا غير، مع أنه ليس من المعلوم وجوب الشرط ما لم توجد أمارات أخرى دالة عليه.

هكذا أن من بين الأغراض الهامة وراء الواجبات العقلية للمكلَّف، وعلى رأسها وجوب النظر، إثبات كلا المسألتين الإلهية والدينية. وقد أفضى الأمر إلى أن يكون لمنطق الحق الذاتي تشريع يوازي التشريع الديني، بل لولا الأول ما كان للثاني وجود، طالما أن تأسيس الخطاب من الخارج مدين إلى التشريع العقلي.

وبهذا يمكن تصور حالة المنازعة بين التشريعين، طالما أن لكل من الخطاب الديني والمنطق المذكور إعتباراتهما المستقلة في التشريع. بل من ضمن إعتبارات الدائرة العقلية عموماً كون العقل قيماً على التشريع الديني، ولها في ذلك بعض المبررات؛ أبرزها الإعتماد على الوثاقة العقلية عند التأسيس الخارجي للخطاب. فطالما أن العقل مقبول في هذا التأسيس فلماذا لا يُقبل في تأسيسه الآخر؟! وهذا ما أثار حفيظة الدائرة البيانية التي قلبت القضية رأساً على عقب، حيث بنظرها أنه لا أهمية للتشريع العقلي إن لم يصادف موافقة التشريع الديني، مما يعني أن القيمومة للأخير لا الأول.

وعموماً يرى منطق الحق الذاتي ان اول الواجبات هو الواجب العقلي المتمثل بوجوب النظر، والذي يؤدي الى معرفة الله وصفاته الرئيسة. فعلى ذلك يتأسس التشريع العقلي الخاص بسائر الالطاف ومتفرعات الحسن والقبح، كما يتأسس الخطاب الديني من الخارج. فبحسب هذا المنطق انه لا يمكن الاستدلال بالسمع ما لم تتقرر جملة من الامور العقلية، كمعرفة الله وعدالته وحكمته وانه لا يفعل القبيح مطلقاً. فلهذه المعارف اهمية خاصة لتصحيح صدق الباري في كلامه واخباره، وانه لا يُجري المعجز على يد الكذابين. وعندئذ يمكن الاستدلال بالسمع والاحتجاج به، لان صحته تتوقف على هذه الامور العقلية (9). ومن الواضح ان جميع هذه القضايا، باستثناء معرفة الله، هي قضايا معيارية تحددها قاعدة الحسن والقبح العقليين. بل حتى معرفة الله انما تتحقق بشكلها الطبيعي عبر تلك القضية المعيارية الخاصة بوجوب النظر العقلي كما اسلفنا. وبالتالي فان اثبات المسألة الدينية متوقف على تلك القاعدة. لذلك قال بعض اتباع هذا المنطق: ان عزل العقل عن ادراك الحسن والقبح يوجب هدم اساس اثبات الصانع، ويلزم عنه افحام الانبياء، وبالتالي يوجب هدم اصل الشريعة (10).

ويمكن القول ان التشريع العقلي لدى هذا المنطق يفضي الى تأسيس العديد من المسائل الوجودية، وعلى رأسها المسألة الالهية. ولاجل ذلك ظهر البحث في القضايا الكونية، كالبحث في الجسم والاعراض والجوهر والجزء والخلاء والمكان والزمان وغيرها. فالغرض من هذه البحوث هو اثبات المسألة الالهية، وان الغرض من هذه الاخيرة هو اثبات التكاليف العقلية والدينية وفقاً للحق الذاتي، رغم ما يفضي اليه الامر من الدور كما لاحظنا في السابق. وعرفنا ايضاً ان التكاليف الدينية تتوقف على صحة التكاليف العقلية من غير عكس. فبحسب هذا المنطق تحتوي العقول على ادراك الامور التكليفية بصورة اجمالية، ولا تُعرف تفاصيلها الا عبر السمع او الخطاب الديني (11). وهو بذلك يجعل من هذه التكاليف مبرراً لاثبات منظومة الحقائق الدينية. لذلك كان وجوب النظر هو اول هذه التكاليف واساس اثبات سائر التكاليف الاخرى، سواء العقلية منها او الدينية.

ويضيف هذا المنطق الى أن الخطاب الديني قد حثّ على النظر؛ كمنبّه لما ينبغي على العقل فعله، لذلك أشار جماعة من أتباعه الى أن الله تعالى قد وبّخ الكفار بسبب تركهم الاستدلال بعقولهم على وحدانيته وربوبيته بما يشاهدونه في أنفسهم وغيرهم، فقال تعالى: ((لآيات لأولي الألباب)) (آل عمران/190)، وقال: ((لأولي النهى)) (طه/54)، وقال: ((أفلا تعقلون)) (البقرة/44)، وقال: ((لقوم يعقلون)) (البقرة/164)، وقال: ((وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل)) (الملك/10) (12). ويتوقف اثبات المسألة الدينية على العديد من الواجبات والشروط العقلية التي تجمعها نظرية اللطف، ومن ذلك اثبات البعثة وعصمة الانبياء، وكذا الائمة لدى بعض المذاهب، حيث ان هذه القضايا هي المفصل المباشر لتأسيس الخطاب من الخارج، كالذي سنتعرف عليه أدناه:

لمنطق الحق الذاتي عدد من المبررات التي تؤكد وجوب بعثة الأنبياء على الله تبعاً لنظرية اللطف، كالتي ذكرها الشيخ الطوسي بقوله: «الذي يدل على حسن بعثة الرسل فهو ما يؤدونه الينا من المصالح والالطاف؛ لانه لا يمتنع ان يعلم الله تعالى ان في افعال المكلَّف ما اذا دعاه الى فعل الواجب العقلي او صرفه عن فعل القبيح العقلي، او ما اذا فعله دعاه الى فعل القبيح والاخلال بالواجب، فيجب اعلامه ذلك، لان الاول لطف له والثاني مفسدة، ويجب عليه تعالى ازاحة علته في التكليف في فعل اللطف على ما بيناه فيما مضى، ولا يمكن اعلام المكلف ذلك الا بأن يبعث اليه نبياً يعلمه ذلك، وانما قلنا ذلك لانه لا يمكن الوصول الى ذلك باستدلال عقلي، ولا يحسن خلق العلم ضرورة بذلك لان التكليف يمنع منه، فلم يبق بعد ذلك الا بعثة الرسول ليعرفه ذلك، وهذا الوجه الذي نقول انه متى حسنت بعثة الانبياء وجبت، فلا ينفصل الحسن من الوجوب، وانما قلنا لا يمكن العلم بهذه الالطاف ضرورة؛ لانا قد بينا ان العلم بالله تعالى انما يكون لطفاً اذا كان كسباً، وإن كان ضرورة لا يكون لطفاً» (13).

بهذا المعنى تكون التكاليف السمعية الطافاً للتكاليف العقلية، فاللطف يدعو الى كل من فعل الواجبات وترك المناهي، ومنها الواجبات والمناهي العقلية، فمثلاً «إنا نعلم ضرورة ان الانسان اذا واظب على فعل الصلاة والصوم مثلاً دعاه ذلك الى العلم بالله تعالى وصفاته، ليعلم ان العبادة هل هي لائقة به ام لا. وكل لطف واجب كما تقدم» (14).

وشبيه بذلك ما اكده القاضي الهمداني حول تحديد وجوب لطف النبوة بما تقرر لدى العقل من ان الافعال يدعو بعضها الى بعض ويصرف بعضها عن بعض «فاذا علم الله ان فعل المكلف ما اذا تمسك به كان اقرب الى فعل الواجبات، او انه يكون فاعلاً لها لا محالة، ولم يكن في قوة العقول ما يمكن معه الوقوف على تفاصيله، فلا بد من حكمة ان يبعث اليهم من يعرفهم به. وبعبارة اخرى ان ما يحصل للمكلفين من الصلاح في بعض أفعالهم التي لا يمكنهم ان يقفوا عليها بعقولهم فلا بد من ان يزيح الله علتهم بالبيان ونصب الادلة، كما لا بد فيما هو لطف من فعله تعالى ان يفعله، فاذا لم يكن لضرورة العقل مدخل في معرفة ذلك، ولا لادلة العقول والنظر مجال، فلا بد من طريقة اخرى يعلمهم الله بواسطتها، وهذه هي طريقة السمع والنبوة». واكد القاضي ايضاً بان سبب وجوب البعثة هو ان فيها وجوهاً تحسن عليها (15).

كما قدّم هذا الشيخ تفصيلاً حول وجوب البعثة وعدمه، فذكر ثلاثة أحوال:

«1ـ فإما ان يكون من المعلوم من حالهم - اي حال المكلفين - التمسك بسائر ما كلفوه عقلاً، سواء تمسكوا بما نزل عن طريق النبوة او لم يتمسكوا به، ومثل هذا المكلف لا تجب بعثة الرسول له لتأكيد ما يستملك به الامور العقلية، ولكنها واجبة لما يتصل بالتكليف السمعي.

2ـ ان يكون المعلوم من حالهم انهم لا يتمسكون بما في عقولهم او بعضها، وهؤلاء لا تؤثر البعثة في حالهم من حيث اداؤهم الواجبات العقلية، ولذلك لا تجب بعثة الرسول اليهم عقلاً، ولكنها تجب سمعاً لاقامة الحجة، ومعرفة التكليف السمعي.

3ـ واخيراً فان هناك من المعلوم من حاله انه اذا تمسك ببعض الشرائع صلح في بعض ما كلف به شرعاً وعقلاً واختار الواجب، ولولاه كان لا يختاره، وهذا النوع هو الذي تحسن البعثة له وتجب عقلاً وشرعاً. وإذاً فان النبوة تجب للمكلفين جميعاً، وإن اختلفت سبل وجوبها لهم» (16).

***

نستخلص مما سبق النقطتين التاليتين:

أ ـ أن سبب وجوب بعثة الانبياء يعود الى كونها لطفاً؛ لحثّها على الواجبات ومنها الواجبات العقلية وتفصيلها لما يجمله العقل من واجبات ومنهيات.

ب ـ أن تعيين هذا الوجوب مستند الى ملاحظة جهات الحسن فيها.

فحول هاتين النقطتين سنجمل نقاشنا عبر الفقرتين التاليتين:

1ـ أول ما يلاحظ أنه لا يمكن البت في وجوب اللطف، فليس كل ما يدعو الى فعل الحسن يكون واجباً، ولا كل ما يدعو الى فعل القبيح يكون محظوراً. ويظل العلم بهذا الوجوب متوقفاً على العلم بالحكمة. والعلم العقلي بطبيعة الأخيرة منفي لمجمل الأفعال الإلهية. ولو اخذنا بنظرية اللطف لأعتبرنا بأن من الواجب ملئ فراغ الفترات الشاغرة للأنبياء والائمة، فاستمرار وجودهم من غير انقطاع يعمل على حفظ الدعوة الى فعل الحسن وتجنب القبيح، بل لكان من الواجب ايضاً أن تكون بعثات الانبياء ورسالاتهم شاملة لكل الناس على السواء، لذات العلة من لطف الدعوة الى فعل الحسن وتجنب القبيح، ولأصبحنا اليوم نحفل بوجود عدد من الانبياء او الأئمة، طالما ظلت الحاجة اليهم قائمة لرفع اللبس والانقسام بين الناس حول معرفة الحقيقة الدينية وتقويم السلوك، وذلك لنفس المبررات والدواعي التي وجبت بها بعثة الانبياء في السابق.

2ـ كذلك يمكن القول أنه لا دليل على وجوب النبوة تبعاً لملاحظة وجوه الحسن فيها، إذ ما الذي يؤكد أنه لا بديل لهذه الوجوه؟ فلعل هناك مصالح أخرى سوى البعثة لا نعلمها قد تستوجب التعيين؛ مثل افتراض أن تكون حكمة الله ناظرة الى ما يتحقق للانسان من مكاسب وتطورات بفعل الخبرة التاريخية، كالذي يُشاهد في القضايا الدنيوية التي تتقبل البحث العلمي. وبالتالي يتعذر علينا معرفة الواجبات الإلهية الفعلية؛ طالما ليس باستطاعتنا العلم بكافة وجوه الحسن والحكمة في الخلق والتدبير.

على ان هناك صورة اخرى لاثبات النبوة منسوبة الى الحكماء (الفلاسفة)، وهي طريقة كلامية غير فلسفية، وتقريرها كالتالي: «كلما كان صلاح النوع مطلوباً لله تعالى كانت الشريعة واجبة، وكلما كانت الشريعة واجبة كانت البعثة واجبة، فكلما كان صلاح النوع مطلوباً فالبعثة واجبة» (17). وواضح انه لا يمكن البت في المقدمة الاولى، اذ قد يكون صلاح النوع مطلوباً بأمر آخر غير المسألة الدينية. كما ان استخدام مصطلح (الوجوب) إن كان يقصد به ما تعارف لدى اهل الكلام من ان تركه قبيح؛ فهو غير لازم عن تلك المقدمة، وإن كان يقصد بالوجوب ما تعارف لدى اهل الفلسفة من معنى مرادف للضرورة والحتمية؛ فهو غير معقول بالمرة.

ومن الناحية العقلية الصرفة تظل مسألة البعثة مرجحة تبعاً لقضايا الاحتمال، حيث من مصلحة الناس ان يأتيهم الانبياء لحثهم على الفعل الحسن وتجنب القبيح، وان يطمئنوا الى ان ما يفعلونه من خير وما يصيبهم من شر لا يذهب سدى، فمثل ذلك لا يتحقق بقوة اخرى افضل من النبوة. اما اثباتها فيعتمد على دراسة الواقع الخاص بمدعي النبوة وفقاً للقرائن الاستقرائية وحسابات الاحتمال، كالذي فصّل الحديث عنه المفكر الصدر في (المرسل، الرسول، الرسالة)، فلو ثبت صدق جزئية واحدة موجبة لدل ذلك على صدق القضية على النحو الكلي.

***

هكذا عرفنا بأنه تبعاً لمنطق الحق الذاتي فإن تأسيس المسألة الدينية يستند الى الواجبات المعيارية قبل اي اعتبار اخر، فتبدأ العملية باثبات الواجبات المتعينة على المكلَّف، وعلى رأسها وجوب النظر، ليتم من خلالها اثبات حالة الثبوت التي تتعين بها الواجبات المفترضة على المكلِّف، ومنها واجبات بناء المسألة الدينية وفق بعثة الانبياء والعصمة. لكن الامر مع منطق حق الملكية يختلف تماماً، فهو لا يسمح بوجود واجبات عقلية مفترضة سلفاً، طالما أن كل واجب تكليفي مبعثه من المالك الحقيقي لا غير، مما يعني أنه لا بد من إذن شرعي لتبرير الواجبات دون أن يكون للعقل حظ من التشريع. وايضاً فإنه بحسب اعتبارات البداهة الأولية لهذا المنطق لا مجال للقول بواجبات المكلِّف، طالما أن الأخير يمتلك سلطة الواجبات باطلاق دون أن تعلو عليه سلطة أخرى كما هو واضح. وهذا يعني أن المسألة الدينية لا يمكنها أن تتأسس على القضايا المعيارية، فأي تأسيس لها على هذه القضايا يفضي بها الى التناقض والصدام مع الأصل المولد، وهو ما كان يعيه أصحاب هذا المنطق تماماً.

والسؤال المطروح: على ماذا تتأسس المسألة الدينية إذاً؟

من الواضح أنه لم يبق من الأمر شيء سوى أن يكون تأسيسها قائماً على القضايا الوجودية او التكوينية. واذا كنا نعلم أن الغالب على المسألة الدينية هو المضمون المعياري، فهذا يعني أن المعيار أصبح يتأسس وفقاً للامر الوجودي، مما يقرب هذا الإتجاه من الإعتبارات التي عوّل عليها النظام الوجودي، بخلاف ما كان عليه منطق الحق الذاتي الذي جعل الأخير قائماً على الأول، مثلما يتعلق بالأساس الأول للواجبات الملقاة على عاتق المكلَّف، وهو وجوب النظر، والذي تتأسس عليه المسألة الإلهية والدينية.

نعود لنسأل: ما هي القضايا الوجودية المعول عليها في اثبات المسألة الدينية؛ كبعثة الانبياء وما اليها؟ إذ كنا مع منطق الحق الذاتي نعتمد على قاعدة العدل ومشتقاتها فيما يخص المكلِّف، وعلى وجوب النظر العقلي فيما يخص المكلَّف. لكن ماذا مع منطق حق الملكية؟

من المقرر لدى هذا المنطق أن اثبات المسألة الدينية يستند أساساً الى نظرية (الكلام الالهي). إذ تشكل هذه النظرية المناط الذي يربط القضايا العقلية بالدينية، كالذي يوضحه نص الإمام الغزالي التالي: إن «المعلوم بدليل العقل دون الشرع فهو حدوث العالم ووجود المحدث وقدرته وعلمه وارادته، فإن كل ذلك ما لم يثبت؛ لم يثبت الشرع، إذ الشرع يبنى على الكلام فإن لم يثبت كلام النفس لم يثبت الشرع، فكل ما يتقدم في الرتبة على كلام النفس يستحيل اثباته بكلام النفس وما يستند اليه، ونفس الكلام ايضاً فيما اخترناه لا يمكن اثباته بالشرع» (18).

وما يعنيه هذا النص هو تأسيس المسألة الدينية عبر العقل النظري، إذ لا مجال للعقل العملي كالذي يفيده منطق الحق الذاتي. وبعبارة أخرى لا مجال للقول بنظرية اللطف والوجوب العقلي على المكلِّف. لكن قد تثار مشكلة بهذا الصدد، وهي أن عدم أخذ اعتبارات الوجوب السابقة يمكن أن يفضي الى جواز اتصاف الأخبار الإلهي بالكذب والخداع، وهو ما ينفيه أصحاب هذا المنطق اعتماداً على العقل النظري، إذ اعتبروا كلام الله كلاماً نفسياً ثابتاً وصادقاً يستحيل عليه الكذب. فالصدق والكلام كلاهما من الصفات الذاتية للمكلِّف (19). وتبرير هذه المقولة يستند الى قولهم بانه لما كان الصدق من صفات الله تعالى، وان الكذب نقص، فان النقص محال عليه. وهم وإن جوزوا الكذب في مواضع مختلفة؛ الا انهم جوزوه لاغراض صحيحة من وجود ضرورة وحاجة، والله منزه عن الضرورة والاغراض والمصالح (20).

وتواجه هذه المسألة مشاكل أربع كما يلي:

الأولى: إن استخدام العقل النظري لتبرير نفي الكذب الإلهي يمكن أن يثير مشكلة حول صلاحيات هذا العقل وفقاً لذات البداهة الأولية لحق الملكية، فماذا نقول لو أن المالك يمنعنا من استخدام هذا العقل؟ صحيح ما قد يجاب على ذلك بأنه لا دليل على هذا المدعى، لكن صحيح ايضاً أنه لا دليل على العكس، إذ ما الدليل على جواز استخدام العقل قبل ورود الشرع وقيام المسألة الدينية؟ فلو اعتمدنا على المرجعية الدينية في جواز استخدام العقل لأوقعنا ذلك في الدور، إذ كيف نعلم حجية هذا الاستخدام من غير اثبات المسألة الدينية، وان اثبات هذه المسألة موكول على عدم ممانعة المالك في استخدام العقل، والعلم بعدم الممانعة لا يعرف إلا من حيث ثبوت المسألة الدينية، وهكذا نقع في الدور والتسلسل.

الثانية: لا يوجد لدى العقل ما يدل على استحالة الكذب في الأخبار الالهي، فطالما أن القدرة حاصلة والاختيار ممكن، فذلك يجعل من الصدق والكذب امرين ممكنين، وان حتمية احدهما لا تكون إلا على ضوء الفهم الوجودي كالذي يبشرنا به النظام الوجودي.

الثالثة: لا يتوقف الأمر عند الحد السابق، فحتى مع سلامة حتمية صدق الأخبار الالهي، تظل هناك مشكلة أخرى تتعلق بالصدق البشري، إذ كيف يمكن التأكد من صدق الناس الذين ينقلون كلام الله تحت عنوان النبوة؟ فقد تكون دعوى النبوة كاذبة، سيما وأن أصحاب هذا المنطق يرون أن الأفعال البشرية هي أفعال الهية، وان كل شيء يعود اليه بحكم العادة، وان من الجائز أن ينقلب كل شيء الى ضده، وعليه ما المانع من أن يُظهِر الله المعجزات على يد الكذابين؟ واذا كانت قد جرت عادة الله أن لا يُظهِر المعجز على يد الكذابين فكيف نعلم بذلك ونثبته ونحن لم نطلع على الغيب ولم نعرف أن كان أجراها سابقاً على يد كذابين أم لا؟

فكل ما يقوله أصحاب هذا المنطق هو احالة ظهور المعجزة عند دعوى الكاذب؛ باعتبارها تتضمن تصديقاً، فالخارق للعادة «يمتنع من الدعوى لأنه يكون تصديقاً لكاذب، وتصديق الكاذب محال، ولا يمتنع مع عدمها». او أن المعجزة لا تظهر على يد الكاذب؛ لأنها لو ظهرت لدلت على صدقه، وتصديق الكاذب مستحيل في قضايا العقل (21).

وحقيقة الامر انه لا توجد استحالة عقلية فيما ذُكر، لكن القائلين بذلك اضطروا لهذا القول؛ لانهم لا يملكون دليلاً اخر يمكنهم به اثبات المسألة الدينية، مثلما الجأتهم الضرورة الى اعتبار الكلام الالهي صادقاً صدقاً محتماً. وكل ذلك يتنافى مع الاعتبارات المعيارية لهذه القضايا. وقد ظهر من اصحاب هذا الاتجاه من ناقض نفسه، فجمع بين الاخذ بنظرية التقبيح والتحسين الشرعيين، وبين الاعتقاد بوجوب عصمة الانبياء عقلاً في الحالة التي لا تناقض فيها مدلول المعجرة، وهي عبارة عن صدقهم فيما يبلغون (22).

الرابعة: أضف الى ما سبق أن في هذا المنطق ما يفقد مدلول المعجزة عن معناها. ذلك أنه إذا كانت السببية عبارة عن عادة الهية تتضمن الخلق المستمر للاعراض، وانه لا يوجد تأثير لبعض الاشياء على البعض الآخر، بل الله هو المؤثر المباشر، فذلك يجعل من المعجزة فعلاً لا يختلف نوعاً عن سائر الأفعال الإلهية الأخرى، فليس هناك خرق لقوانين الطبيعة، ولا ايقاف لتأثير بعض القوى على البعض الآخر،  إنما الموجود هو أفعال نتوهم أنها جاءت خارقة للقوانين، وإلا فالكل عبارة عن فعل الله المباشر، وكل شيء جائز الحصول، وبالتالي فإن مقولة (لا فاعل في الوجود إلا الله) كما يقرها هذا المنطق لا تبرر لنا المعجزات بمعناها الخارق، ومن ثم فانها لا تبرر صدق دعوى النبوة.

***

أخيراً نقول بأن اتباع هذا المنطق يدركون أن ما يترتب على نفي عقلية الحسن والقبح يفضي الى استحالة اثبات الصدقين الخاصين بالإله والنبوة، أي أنه يفضي بالنتيجة الى عدم امكان تأسيس المسألة الدينية برمتها، ومن ثم عدم اثبات صحة ما يخبرنا التشريع الديني بقبح الكذب والخداع، إذ قد يكون ذلك من الكذب المتعلق بالكلام الالهي، او الكذب المتعلق بالنبوة. فلأجل الفرار من مثل هذه اللوازم الفاسدة اعتبروا الصدق من الأمور الحتمية في الكلام الالهي، مع أن التسليم بالصفة الذاتية الثابتة للكلام الإلهي لا يستلزم ضرورة الاتصاف بالصدق دون الكذب، فالكلام شيء، وصدقه او كذبه شيء اخر، ومثلما يحتاج الأول الى دليل، فالآخر يحتاج الى دليل غيره. أما اقوالهم عن علاقة النبوة بمقولة الصدق التي يترتب عليها تأسيس المسألة الدينية؛ فهي مضطربة وضعيفة. إذ لا مبرر للقول باستحالة إجراء المعجزات على يد الكذابين، كما لا مبرر للقول بأن ذلك جار ضمن العادة الإلهية من دون خرق.

وبذلك نصل الى أن كلا المنطقين السابقين لم يتمكن من اثبات المسألة الدينية بالادلة العقلية التي تم طرحها وفق ما تعارف عليه من الأصول المولدة.

 



[1]  نظرية التكليف، ص409.

comments powered by Disqus