-
ع
+

عالم الفقه وتجليات الصراع الكلامي

يحيى محمد

من تجليات التضاد بين منطق الحق الذاتي، كما يتمثل في المعتزلة وأشباهها، وبين حق الملكية، كما لدى الأشاعرة؛ تلك المتعلقة بعالم الفقه والتشريع. إذ تفتح الإعتبارات المختلفة لهذين المنطقين باباً من التعارض حول طريقة الإجتهاد في القضايا الفقهية وتشريع الأحكام. فبحسب إعتبارات الحق الذاتي ينبغي أن يكون الإجتهاد قائماً في الأساس على العقل دون التوقف عند حدود الخطاب الديني، وذلك لجميع قضايا الحقوق والمصالح والمفاسد القابلة للإدراك. أما بحسب إعتبارات حق الملكية فلا مجال للإجتهاد العقلي إلا ضمن ما يسمح به الخطاب الديني. فمثلاً لا مجال للإجتهاد في ما لا نص فيه من القضايا، ولا مجال للإستعانة بالقياس وغيره، ما لم يكشف عنه الخطاب الديني. ورغم أن واقع التشريع الفقهي لم يلتزم حرفياً بهذه الإنعكاسات المنطقية الناتجة عن البداهتين الأوليتين لإعتبارات مختلفة، إلا أنه توجد مؤشرات للتعارض المتسق بين المذاهب التشريعية يمكن عدها مستلهمة من إنعكاسات التضاد بين الأصلين المولّدين.

فقد ذهب المعتزلة والزيدية والإمامية الأصولية إلى الإعتقاد بأن العقل يدرك جملة من الواجبات السابقة لأحكام الخطاب الديني، مثل وجوب رد الوديعة وشكر المنعم ووجوب النظر ومعرفة الخالق وما إلى ذلك، الأمر الذي يناقض ما لجأت إليه الأشاعرة. إذ يتأسس هذا الخلاف على الإعتبارات المتعارضة بين الأصلين المولّدين. وهو ما جعل الأمر ينعكس على الصعيد الفقهي، إذ كان المتكلمون وبعض الفقهاء يعطون للعقل صلاحيات الكشف عن الحكم، فأقرت بعض المذاهب عدداً من القواعد الأصولية الفقهية التي يستعان بها عند عدم وجدان النص، مثل قاعدة البراءة الأصلية التي تُسند عادة إلى القاعدة العقلية (قبح العقاب بلا بيان)، وكذا مسائل الحسن والقبح العقليين ونفي الضرر المحتمل وما إليها. وعلى خلاف هذه القواعد والمسائل، هناك قاعدة التوقف والإشتغال ومسألة الحسن والقبح الشرعيين، وجميعها يعارض القواعد الأولى. وإذا كانت القواعد الأولى تتسق ومنطق الحق الذاتي، فإن أغلب القواعد الأخيرة هي مما تتسق ومنطق حق الملكية.

لكن من حيث الواقع الفقهي نجد تجاوزات لدى بعض أصحاب كلا المنطقين بما لا يتفق مع ما يلجأ إليه من البداهة الأولية أو الأصل المولّد. فالغزالي مثلاً، وهو القائل بمنطق حق الملكية، يعتقد بالبراءة العقلية قبل التشريع أو ورود السمع[1]، وهو موقف يناقض الأصل المولّد الذي تبنّاه. ومثله ما ذهب إليه إبن فورك، حيث اعتبر أن المجتهد الذي لم يعثر على دليل نقلي بعد التقصي فله أن يرجع إلى ما تقتضيه العقول من براءة الذمة[2]. وكذا ما ذهب إليه إبن كنج وهو ينتمي إلى نفس المنطق، من أن العقل يدل على أن ما لم يتعرض له الشرع فهو باق على النفي الأصلي، أو نفي الأحكام، فكما يقول: قد ثبت عندنا أن حجة العقل دليل، فإذا لم نجد سمعاً علمنا أن الله لا يهملنا، بل أراد بنا الرجوع إلى العقل فصرنا إليه[3].

وعلى هذه الشاكلة ذهب الإمام الصدر وعدد من أصوليي الإمامية إلى الأخذ بالقاعدة العقلية لإشغال الذمة لكل ما هو محتمل عقلاً، لكنهم من حيث النتيجة تمسكوا بالبراءة بسبب تسامح التشريع الديني. ولا شك أن تعويلهم على القاعدة العقلية لإشغال الذمة يناقض قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومن ثم فهو يناقض البداهة الأولية للحق الذاتي التي تشترط ضرورة الإعلام.

والمعلوم أن الإعتماد على العقل في قضايا الفقه التي لم يرد فيها نص هو خاصة المذهب الإمامي الذي لم يرتض الأخذ بموارد الرأي الظني الشائعة لدى الإتجاه السني، مثل القياس والمصالح المرسلة والإستحسان وغيرها من المصادر الظنية. لذلك فإن المتقدمين من المذهب الإمامي اعتبروا أنه ما لم يتم الحصول على الحجة الشرعية بالنص، فإن مآل الأمر الرجوع إلى الحكم العقلي، تعويلاً على الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، إذ تنص قاعدة الحسن العقلية بأن «كل ما يحسن فعله عقلاً يحسن فعله شرعاً»[4]، استناداً إلى البداهة الأولية للحق الذاتي.

ويقف الشريف المرتضى على رأس قدماء الإمامية الذين دافعوا عن هذا المسلك لأصالة التشريع العقلي للقضايا الفقهية. فقد صرح، وهو بصدد إستدلاله على عدم جواز العمل بخبر الآحاد، أنه إذا لم يوجد دليل شرعي في المسألة فسيتوجب العمل بما يقتضيه الحكم العقلي[5]. وقال بهذا الصدد: «قد ثبت أن المنافع التي لا ضرر فيها عاجلاً ولا آجلاً في أصل العقل مباحة». وطبق هذا الحكم العقلي على مورد نكاح المتعة، مستفيداً في ذلك من الكشف الواقعي الذي يفيد عدم وجود الضرر لهذا المورد. فقال: «إن سألت الدلالة على انتفاء الضرر عن هذا النكاح الذي فيه إنتفاع لا محالة، قلت: الضرر العاجل يعرف بالعادات والأمارات المشيرة إليها، ويعلم فقد ذلك، والضرر الآجل إنما هو العقاب، وذلك تابع للقبح، ولو كانت هذه المنفعة قبيحة مستحق بها العقاب لدلّ الله تعالى على ذلك، لوجوب إعلامه المكلَّف ما هذه سبيله»[6]. واتبعه في هذا المقال إبن ادريس في (السرائر)[7]. كما استفاد المرتضى من كشف الواقع لصالح الحكم العقلي، في مورد ادخال الضرر على البهائم، فقال: «إعلم أن ادخال الضرر على البهائم، المؤذية لنا منها وغير المؤذية، لا يحسن إلا بإذن سمعي، إلا أن يكون ذلك الضرر يسيراً، أو النفع المتكفل به لها عظيماً فيحسن من طريق العقل. فإن كثيراً من الناس أجازوا ركوب البهائم عقلاً من غير افتقار إلى سمع». ثم قال: «وإذا تكفلنا لها بما تحتاج إليه من غذاء وديار ومصلحة ربما كانت لها فائدة لولا تكفلنا جاز أن ندخل عليها ضرر الركوب، لأنه يسير في جنب ما نتحمله من منافعها»[8].

وعلى هذه الشاكلة ذهب معتزلة البصرة إلى الإباحة. بل قيل ذهب إلى ذلك أغلب المعتزلة وعلى رأسهم كل من أبي علي وإبنه أبي هاشم الجبائيين وأبي عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار الهمداني، وكذا من تأثر بهم كأتباع أبي حنيفة وغيرهم[9].

مع ذلك لا نجد هذا الإتساق لدى جميع من ينتمي إلى منطق الحق الذاتي، ومن ذلك أن الكثير من معتزلة بغداد والإمامية الإثنى عشرية اعتبروا أن الحكم العقلي المستقل، سواء قبل ورود النص أو بغض النظر عنه، يدل على الحظر في قضايا فقه الإنتفاع بالأشياء. فقد انشطر العلماء إلى ثلاثة إتجاهات كما يلي:

الأول: وهو يقول بالحظر ما لم يدل على ذلك نص من الخطاب الديني، واليه ذهب الكثير من البغداديين كالكعبي وأتباعه، وطائفة من الإمامية، وجماعة من الفقهاء، ومنهم من ينتمي إلى منطق حق الملكية كأبي عبد الله الزبيري والأبهري. لكنهم مع ذلك اختلفوا، فمنهم من قال: كل ما لا يقوم البدن إلا به ولا يتم العيش إلا معه فهو على الإباحة، وما عداه على الحظر. أما البعض الآخر فقد ساوى بين الكل في الحظر[10].

الثاني: ويقول بالإباحة وهو مذهب أكثر المتكلمين من البصريين وكثير من الفقهاء، وهو الذي اختاره الشريف المرتضى من الإمامية، كما ذهب إليه بعض من ينتمي إلى منطق حق الملكية كأبي إسحاق المروزي.

الثالث: وهو قد بنى على الوقف حتى يرد سمع من النص الديني، وهو الذي ذهب إليه أتباع منطق حق الملكية، وعلى رأسهم الأشعري وأتباعه، وعنوا به انتفاء الحكم لا التردد فيه، فهذه المسألة مبنية على أن العقل بمجرده لا يدل على حسن ولا قبح، بل ذلك موكول إلى الشرع. فالمباح ما أباحه الشرع، والمحظور ما حظره، فإذا لم يأت الشرع بواحد منهما لم يبق إلا الوقف، حتى يرد السمع بحكم فيه، كالذي صرح به إبن السمعاني في (القواطع). وهو موقف يتسق مع ما جاء به منطق حق الملكية، خلافاً لمن ذهب منهم إلى الحظر أو الإباحة.

لكن من الأشاعرة من قام بتوجيه رأي الذاهبين إلى الحظر أو الإباحة بما لا يتنافى مع الخط المتسق والمتمثل بالوقف، إذ اعتبر الزركشي أنهم ذهبوا إلى ذلك إعتماداً على الخطاب الديني لا العقل المستقل، فكما قال: «إعلم أن من قال من أصحابنا بالحظر أو الإباحة ليس موافقاً للمعتزلة على أصولهم، بل لمدرك شرعي. أما التحريم فلقوله تعالى: ((يسألونك ماذا أحل لهم)) (المائدة/4) ومفهومه أن المتقدم قبل الحل التحريم، فدلّ على أن حكم الأشياء كلها على الحظر. وأما الإباحة فلقوله تعالى: ((خلق لكم ما في الأرض جميعاً)) (البقرة/29). فهذه مدارك شرعية دالة على الحال قبل ورود الشرع. فلو لم ترد هذه النصوص لقال هؤلاء الفقهاء: لا علم لنا بتحريم ولا إباحة، بخلاف المعتزلة فإنهم يقولون: المدرك عندنا العقل ولا يضرنا عدم ورود الشرع»[11].

وممن ذهب إلى الوقف بعض المعتزلة[12]، والطوسي من الإمامية كما في (عدة الأصول)، إذ صرح بأن القضايا التي لم يرد حولها نص فطريقها العقل[13]، وهي بحكم هذا الأخير تكون على الوقف، ولا يمنع ذلك ما قد يدل عليه النص من الحظر أو الإباحة، بل ما يقدره العقل من الوقف لا يتنافى مع ما جاء به النص من الإباحة «بل عندنا الأمر على ذلك واليه نذهب، وعلى هذا سقطت المعارضة بالآيات»[14]. وهو المذهب الذي كان ينصره شيخه أبو عبد الله المفيد[15]، وهو أقرب ما يكون إلى منطق حق الملكية، خلافاً لما انتهى إليه استاذه الشريف المرتضى من أن حكم العقل في الإنتفاع من الأشياء هو الإباحة لا الحظر ولا الوقف.

ومع أن الأصوليين من الإمامية كانوا يتصورون أن بسعة العقل أن يحكم على القضايا التي ليس لها شاهد من نص، سواء كان الحكم جارياً وفق البراءة الأصلية أو بحسب الإشتغال والإحتياط، إلا أن المتأخرين منهم - منذ الوحيد البهبهاني (المتوفى سنة 1206هـ) - ادركوا أن هذه القواعد عبارة عن وظائف عقلية عملية لا تحدد حقيقة الحكم الشرعي، بل تعمل على إفراغ وإبراء الذمة فحسب، وعلى رأي المفكر الصدر أن بداية اختمار هذه الفكرة ظهرت سلفاً لدى المحقق جمال الدين، ثم تمّ تحديدها وتنقيحها لدى البهبهاني وتلامذته، وأطلقوا عليها (الأصول العملية)[16]. وبالتالي فقد أصبحت القضية العقلية المستقلة هي تلك التي تندرج - فقط - ضمن ما يعرف بالحسن والقبح، أو الملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع. ويتفرع عن هذه القضية القاعدة التي تقر قبح العقاب بلا بيان، والتي اعتمد عليها أغلب الأصوليين، إذ لا يُعقل أن يعاقب الله المكلَّف على شيء لا يعلمه، وأن هذه القاعدة راكزة لدى الوجدان العقلائي، فالناس لا يؤاخذ بعضهم البعض الآخر إلا ضمن ما يسعهم من العلم، وبغير ذلك يكون العقاب قبيحاً. الأمر الذي يتسق ومنطق الحق الذاتي.

وإذا عدنا إلى الإتجاهات الثلاثة السابقة نجدها تتعارض في أدلتها العقلية. ورغم وجود إتساق بين منطق الحق الذاتي وقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإن السجال الذي دار بين هذه الإتجاهات لم يكن معنياً بهذه النقطة الجوهرية. فمن النقاط التي سجلها المذهب القائل بالوقف والحظر إزاء الإنتفاع بالأشياء ما لم يرد في ذلك نص، هو أنه قد ثبت في العقول بأن الإقدام على ما لا يأمن المكلَّف كونه قبيحاً هو كالإقدام على ما يعلم بقبحه، تبعاً لقاعدة دفع الضرر المعلوم والمظنون عن النفس. في حين أجاب المذهب القائل بالحلية بأن المكلَّف يمكن أن يأمن من قبح الإنتفاع بالأشياء لأن هذا القبح لا يحصل إلا لوجود مفسدة فيها، وإذا كان فيها مفسدة وجب على المولى تعالى إعلام المكلَّف، وإلا قبح التكليف، فما لم يعلمه دلّ ذلك على أن الإنتفاع حسن لا قبيح، الأمر الذي يلزم عنه الإباحة. لكن قيل في الجواب على ذلك أنه لا يمتنع أن تتعلق المصلحة بشك المكلَّف، والمفسدة بإعلامه جهة الفعل على التفصيل، لذا يقبح الإعلام، وتكون المصلحة في الوقف والشك في الحكم[17].

على أن جواب القائلين بالحلية ليس صحيحاً، وبه ينسحب الرد الذي قدّمه القائلون بالوقف، فعدم إعلام المولى للمكلَّف بمفسدة الشيء المتردد حوله لا يستنتج منه الحسن ولا القبح، بل ما يعنيه هو عدم جواز المؤاخذة على فعل الإنتفاع به عقلاً ونصاً. فالعقل هنا لا يشرّع الحكم للشيء إن كان حلالاً أو حراماً، حسناً أو قبيحاً، بل يشرّع - فقط - لإبراء الذمة كما ذهب إلى ذلك البهبهاني وأتباعه المتأخرون. وهذا يعني أن الإقدام على القبيح دون العلم بقبحه ليس قبيحاً، وبالتالي فمن الناحية التكليفية لا يلزم عنه الحظر والإحتياط. فبحسب منطق الحق الذاتي أن من الواجبات التي تتعلق بالمكلِّف إعلام المكلَّفين، إذ لا مانع منه، بما في ذلك الإعلام بالوقف والحظر والإحتياط، ودونه يسقط التكليف. وسبب ذلك هو أن عدم الإعلام يجعل المكلِّف مخلاً بواجبه، مثلما يلاحظ في الشاهد الدال على الغائب، فالسيد لا يعاقب العبد على عدم إتيانه بشيء ما لم يعلمه بذلك، والأمر يصدق في الغائب أيضاً، رغم أن الأشياء تظل على حالها بما تتضمنه من مصلحة ومفسدة، أو حسن وقبح، فكل ذلك لا يفي ببلوغ التكليف ما لم يشترط فيه الإعلام.

هذا إذا كنّا نفكر ضمن دائرة الحق الذاتي، أما إذا كنّا نفكر ضمن إعتبارات حق الملكية فالأمر يختلف. لذلك نجد التناقض واضحاً لدى من ينتمي إلى دائرة الحق الذاتي عندما يذهب إلى الحظر والإحتياط، وكأنه يجمع بين الإعتبارات المتناقضة لدى كل من الحق الذاتي وحق الملكية. ومن ذلك ما تبناه المفكر الصدر من مسلك أطلق عليه (حق الطاعة)، إذ ذهب إلى نفس الإتجاه القائل بالحظر والإحتياط ضمن الإتجاهات الثلاثة السابقة. واستدل بمثل ما استدل به إتجاه الحظر القديم، حيث عوّل على الحظر بإعتبار أنه لا يجوز إستخدام ما هو عائد إلى ملكية الغير إلا بإذنه، مثل علمنا بقبح التصرف فيما لا نملكه في الشاهد[18]. كما استدل بدليل آخر سبق أن عوّل عليه القدماء ممن ذهب إلى الحظر والوقف، وهو عدم الأمان من الوقوع في الضرر لأيّ شيء جديد يراد منه الإنتفاع، فالتحرز من المضار واجب في العقول، وإذا كان ذلك واجباً لم يحسن الإقدام عليه، كإن يحتمل كون الشيء المنتفع به ضاراً لا نافعاً، حيث لا يُعلم إن كان سماً - مثلاً - أو غذاء. وقد ناقش القدماء من الإتجاه الآنف الذكر أولئك الذين عولوا على التجربة لمعرفة النافع من الضار، من خلال العرض على الحيوانات، فمنعوا هكذا تجربة واعتبروها غير كافية لتحصيل العلم، لأن من الأشياء ما ينفع الحيوان ويكون له غذاء، مع أنه قد يكون للإنسان سماً. فالظب - مثلاً - تأكل شحم الحنظل وتغتذي به، في حين لو اكله الإنسان لهلك في الحال. وكذا تأكل النعامة النار وتستمرئها[19]، ولو أكل إبن آدم ذلك لهلك في الحال. أيضاً فإن الفأرة تأكل البيش وتعيش عليه[20]، ورائحة ذلك تقتل الإنسان[21].

والواقع أن مسلك المفكر الصدر في حق الطاعة، وقبله مسلك القائلين بالحظر وفق الملكية، إنما يتجه نحو الجهة التي عليها الأشاعرة في تبنيها لمنطق حق الملكية. فرغم إعترافه بمبدأ الحسن والقبح العقليين، إلا أنه يستبعد في الوقت ذاته قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لكنه لا يعزل العقل - بذلك - عن التشريع طالما أنه يفتي بلزوم الإحتياط وإعطاء الطاعة حقها، خلافاً لما أفضت إليه الأشاعرة من إبطال العقل في التشريع بمنطق العقل ذاته.

ويشابه التبرير الموظف لدى الصدر في بعض فقراته التبرير المستخدم لدى الأشاعرة، وهو أن لله ملكية مطلقة تفترض حق الطاعة التامة، حتى في موارد المحتملات والموهومات. فالأشاعرة يجعلون الحق مطلقاً لله ويتوقفون عن التشريع في الأحكام عقلاً ما لم تأذن بذلك البيانات الشرعية الصادرة عن المالك المطلق. وقريب من ذلك ما فعله الصدر، فهو من حيث الواقع العرفي أقرّ بصدق قاعدة قبح العقاب بلا بيان تبعاً للنظرة العقلائية، إلا أنه رأى وجود الفارق بين الشاهد والغائب، وهو أن الله مالك حقيقي، مثلما أنه منعم حقيقي، الأمر الذي يجعل مولويته حقيقية تختلف عن الحاصل في الشاهد المتعلق بالواقع العرفي، وهذا ما يعطيه الحق في معاقبة المكلَّف لعدم الإحتراز والإحتياط، وإن لم يرد عنه البيان، فللمالك الحقيقي مطلق الحق في الطاعة حتى في موارد القضايا المحتملة والموهومة، وكما يقول: «هكذا يتخلص أنه لا أساس لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلا موجب للذهاب إلى البراءة العقلية في الشبهات، بل العقل يحكم بلزوم الإحتياط فيها جميعاً، لأن حق إطاعة مولانا الحقيقي ثابت بنحو مطلق ما لم يحرز إذن المولى في المخالفة فيرتفع موضوع الحق المذكور. ومن هنا يكون الأصل الأولي في الشبهات هو الإحتياط ولا نخرج عنه إلا بمقدار ما يثبت من الترخيص الشرعي والحكم الظاهري في موارد الأمارات أو الأصول الشرعية»[22]. ويقول أيضاً: «المولوية عبارة عن حق الطاعة، وحق الطاعة يدركه العقل بملاك من الملاكات، كملاك شكر المنعم أو ملاك الخالقية أو المالكية»[23]. وينطبق هذا الأمر حتى على المشكوكات والمحتملات من التكاليف، بل ويمتد حتى إلى التكاليف الموهومة، لسعة مولوية المولى الحقيقي[24]. كما أنه ينطبق حتى على الشبهات الموضوعية، وإن كان مسلك حق الطاعة محكوم لأدلة البراءة الشرعية، حيث يحكم العقل بالإحتياط ما لم يرد ترخيص شرعي[25].

والتشابه بين موقف الصدر وموقف الأشاعرة واضح تماماً، مع وجود بعض الفوارق، فالأول يستند إلى مبرر الملكية المطلقة لإفتراض منطق حق الطاعة، كما ويبرر هذا المنطق بحجة عقلية، وكذا أن الأشاعرة تستند إلى مبرر تلك الملكية لإفتراض منطق ما يريده الحق على نحو مطلق من غير قيود، كما تبرر ذلك بحجة عقلية، وهي أن الله منفرد في ملكه وخلقه، الأمر الذي يختلف فيه الحال عن الشاهد، لإفتقاره إلى الإنفراد والملكية الحقيقية، وهو نفس التبرير العقلي الذي لجأ إليه المفكر الصدر. لكن مورد الإختلاف بينهما هو أن ما يناسب منطق الأشاعرة هو القول بالوقف، بمعنى أن العقل لا يشرع شيئاً سواء كان ذلك على نحو البراءة الأصلية أو الإحتياط، ومن ثم لا مجال للقول بالحساب والعقاب، في حين أن العقل لدى مسلك حق الطاعة يتلبس بالتشريع الفعلي، وهو حكمه بإشغال الذمة ولزوم الإحتياط وما يترتب على ذلك من القول بالحساب والعقاب.

يبقى أن القول بالمولوية وحق الطاعة حتى في المحتملات والموهومات يثير عدداً من المشاكل على صعيد كل من المكلِّف والمكلَّف. ففيما يخص الأول أن جعل التكليف في تلك القضايا مع إخفائه على المكلَّف يفضي إلى منطق ما يسمى (المصالح الخفية)، إذ يفترض في هذه الحالة أن هناك مصلحة خفية إقتضت إخفاء التكليف على المكلَّف ومحاسبته على تركه. وهو أمر غير معقول، بل ولا يقبل على الصعيد الأخلاقي وفقاً لمنطق الحق الذاتي. فعلى الأقل كيف يمكن تصور هذه المصلحة الخفية التي تبرر للمكلِّف عدم الإعلام مع إخفائه الإشارة إلى وجوب الإحتياط وإشغال الذمة؟ وقد جاء في قوله تعالى: ((رسلاً مبشرين ومنذرين لئِلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزاً حكيماً)) (النساء/165)، والمعنى واضح من أن الحجة لا تتم على الخلق، بل يحصل العكس، ما لم يتحقق الإعلام والبلاغ، وهو ما تقدمه الرسل، تأييداً للمقتضى العقلي.

أما ما يخص المكلَّف فلنتصور كيف يكون حال من لم يصل إليه التشريع الديني كأهل الفترة، كيف يمكنه التصرف وسط ما لا يتناهى من المحتملات الممكنة للتكليف؟! فحيث أنه لم تبلغه الحجة الشرعية فذلك يجعله وسط ما لا يتناهى من إمكانات العمل المحتملة، فيصاب بالعجز عن فعل شيء، وبالتالي يصدق عليه التكليف بما لا يطاق، وهو غير معقول ومقبول تبعاً لمنطق الحق الذاتي.

وحتى لو قيل أن أهل الفترة إنما هم مخاطبون بشرع سابق، بدلالة قوله تعالى: ((وإن من أمة إلا خلا فيها نذير)) (فاطر/ 24)، فذلك لا يغير من طبيعة الإشكال، سواء من حيث الإفتراض، وفرض المحال ليس بمحال، أو من حيث الواقع، وهو أن من الناس من لم يصله التبليغ. لذا فالإشكال وارد كما هو.

 



[1]  المستصفى، ج1، ص100 و217ـ218.

[2]  البحر المحيط، فقرة 1533.

[3]  المصدر السابق، فقرة 1527.

[4]  أصول الفقه، ج2، ص 209.

[5]  رسائل الشريف المرتضى، ج1، ص20.

[6]  رسائل المرتضى، ج2، ص127.

[7]  السرائر، ج2، ص618. أيضاً: محمد حسين كاشف الغطاء: أصل الشيعة وأصولها، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، الطبعة السادسة، ص126.

[8]  رسائل المرتضى، ج2، ص372ـ373.

[9]  البحر المحيط، فقرة 88.

[10]  البحر المحيط، فقرة 88ـ89.

[11]  المصدر السابق، فقرة 89.

[12]  نفس المصدر، فقرة 89.

[13]  ومن ذلك قوله: «الكلام في الحظر والاباحة فعندنا وعند أكثر من خالفنا طريقه العقل» (عدة الأصول، ج1، ص41).

[14]  عدة الأصول، ص750. والفوائد المدنية، ص238ـ239.

[15]  عدة الأصول، ص296. والمفيد: شرح عقائد الصدوق، وهو ملحق خلف أوائل المقالات، نشر مكتبة الداوري، قم، ص244. والطبعة الحديثة بعنوان: تصحيح الإعتقاد، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد (5)، دار المفيد، بيروت، الطبعة الثانية، 1993م ـ1414هـ، ص143.

[16]  محمد باقر الصدر: بحوث في علم الأصول، تحرير محمود الهاشمي، المجمع العلمي للإمام الصدر، الطبعة الأولى، 1405هـ، ج5، ص11. ويبدو أن ما قصده المفكر الصدر من المحقق جمال الدين هو الشيخ حسن العاملي صاحب كتاب معالم الدين (والمتوفى سنة 1011هـ). لكن إذا كان قصده المحقق محمد الخونساري (المتوفى سنة 1125هـ) فالملاحظ أنه سبقه في ذلك الفيض الكاشاني (المتوفى سنة 1091هـ).

[17]  عدة الأصول، ص296. والفوائد المدنية، ص233ـ234.

[18]  عدة الأصول، ص297. والفوائد المدنية، ص235.

[19]  قيل أن من عجائب النعامة أنها تبتلع الجمر فيكون جوفها العامل في اطفائه فتغتذي به وتستمرئه. وهي أيضاً تبتلع العظم الصلب والحجر والمدر والحديد فتذيبه وتميعه كالماء. وقيل أيضاً أنه إذا حميت صنجة مائة درهم من الحديد حتى تحمر ورميت إليها فانها تبتلعها وتستمرئها (محمد بن موسى الدميري: حياة الحيوان الكبرى، منشورات الرضي، قم، الطبعة الثانية، 1368هـ، ج2، ص362ـ363. كما لاحظ خلف هذا الكتاب: زكريا بن محمد القزويني: عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، ص286).

[20]  البيش هو نبات عشبي معمر وسام قاتل يعيش في المناطق الجبلية، ويستعمل في الطب كدواء لعلاج التشنج (المنجد في اللغة، دار المشرق، بيروت، الطبعة الخامسة والثلاثون، 1996م، مادة بيش). وقيل عنه أنه نبات بارض الصين يؤكل في تلك البلاد وهو اخضر، فإذا يبس كان قوتاً لاهل الصين دون أن يضرهم منه شيئاً، لكن لو بعد عن هذه البلاد ولو مائة ذراع واكله آكل لمات من ساعته (حياة الحيوان الكبرى، ج1، ص573).

[21]  عدة الأصول، ج2، ص750ـ751. والفوائد المدنية، ص239ـ240.

[22]  بحوث في علم الأصول، ج5، ص28ـ29.

[23]  بحوث في علم الأصول، ج5، ص42. كذلك: محمد باقر الصدر: دروس في علم الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، الطبعة الرابعة، 1417هـ، ج3، ص35 وما بعدها.

[24]  بحوث في علم الأصول، ج5، ص24.

[25]  المصدر السابق، ج5، ص79.

comments powered by Disqus