-
ع
+

الدائرة الكلامية وإثبات وجود الله

 

يحيى محمد 

قدّم اصحاب الدائرة العقلية في علم الكلام عدداً من الادلة حول اثبات وجود الله؛ اهمها ما يطلق عليه دليل الحدوث، وهو انه لما كانت الاشياء الخارجية مكونة من الاجسام او الجواهر الفردة، وان هذه الجواهر تقوم فيها اعراض او حالات متغيرة كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق، فانه على ذلك تكون الاعراض حادثة باعتبارها تحدث بعد ان لم تكن ثم تزول، حيث الحدوث عبارة عن اخراج الشيء من العدم الى الوجود، وبالتالي فلا بد لها من محدث. وحيث ان الجواهر لا تنفك عن الحوادث، وكل ما لا يخل عن الحوادث فانه لا بد ان يكون حادثاً مثله، فالاجسام لا تنفك عن الاعراض، والاعراض حادثة، لذا فالاجسام حادثة مثلها، وبذا يثبت ان لها محدثاً، وهو الله، حيث لا يمكن ان يكون الامر متسلسلاً من غير نهاية (1).

وقد تعرض هذا الدليل لجملة انتقادات ابرزها ما قدمه الفيلسوف ابن رشد في هذا الصدد، حيث انه لخص الدليل بثلاث مقدمات قبل نقدها، وذلك كما يلي:

1ـ لا تخلو الجواهر من اعراض ولا تنفك عنها.

2ـ ان الاعراض حادثة.

3ـ كل ما لا ينفك عن الحوادث لا بد ان يكون حادثاً مثله.

وقد اعترض ابن رشد على المقدمة الاولى، فالخلاف حول الجوهر الفرد بين العلماء والفلاسفة كثير، او أن عليه أقاويل كثيرة متضادة، وأنه ليس معروفاً بنفسه، فهل له وجود أم لا؟ سيما وأن الفلاسفة ينفونه ويرون أن كل جزء من الجسم قابل للإنقسام الى ما لا نهاية له من الاجزاء. ولا شك أن أصحاب الدائرة العقلية على علم بمثل هذا الخلاف الحاصل بينهم وبين الفلاسفة، وان كلا الطرفين يضع من الأدلة لإثبات موقفه من ذلك الجوهر، إن كان يقبل الانقسام كما يقول الفلاسفة او لا يقبل كما يقول أصحاب الدائرة العقلية (2). وحول المقدمة الثانية اعتبر ابن رشد انه لا دليل للعقليين على حدوث جميع الاعراض، إذ بنوا هذه المقدمة طبقاً لدليل الشاهد على الغائب، فاذا كنا نشهد حدوث الاعراض في الاجسام الارضية، فان الامر في الجسم السماوي غير معلوم، سواء بالنسبة له او بالنسبة الى اعراضه الخاصة، اذ ليس بالضرورة ان يكون حاله حال الجسم عندنا. وينطبق الامر ايضاً على الزمان، حيث انه من الاعراض، لكن ليس للحس دلالة تشير الى انه حادث. وكذا ينطبق على المكان الذي يكون فيه العالم، فكل متكون فالمكان سابق له، الامر الذي يعسر تصور حدوثه.

أما المقدمة الثالثة فقد نقدها ابن رشد من حيث عدم امتناع ان يكون المحل مورداً لجنس الحوادث دون ان يكون حادثاً هو الاخر. فقد تتعاقب على المحل او الجسم اعراض غير متناهية متضادة وغير متضادة، مثل حدوث الحركات غير المتناهية الذي تعتقد به الفلاسفة (3).

وحول اثبات مسألة التوحيد اعتمد الكثير من اصحاب الدائرة العقلية على دليل التمانع، وخلاصته هو انه لو فرضنا وجود الهين، اراد احدهما خلق انسان، واراد الاخر عدم خلقه، ففي هذه الحالة إما ان يتحقق المرادان، او لا يتحقق، او يتحقق احدهما، فالفرض الاول مستحيل لانه يعني التناقض، والاخر مستحيل ايضاً لانه يعني الوسط المرفوع، اما الاخير فهو الصحيح وبه تثبت الالوهية، وهو معنى قوله تعالى : ((لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)) (4) .

وعادة ما يرد على هذا الدليل عدد من الاشكالات، مثل: لِمَ لا يفترض وجود الهين قادرين ينتج عنهما مقدور واحد؟ ولِمَ لا يفترض ان القادرين يتفقان فلا يتمانعان؟ كذلك لِمَ لا يكون لكل اله خلقه الخاص دون العلم بالاخر او القدرة على منعه؟ او كما جاء في شبهة ابن كمونة التي افترضت وجود هويتين بسيطتين كل منهما عبارة عن موجود بسيط مستغن عن العلة مطلقاً (5).

والحقيقة انه لا هذا الدليل ولا دليل الحدوث المقدم لاثبات وجود الله يمكن ان يقنع الباحث، انما الدليل على ذلك قائم على لحاظ الواقع. فمن جانب ان العرض والجوهر كلاهما متغيران بلا فرق، وان ذات الشيء وتغيره كلاهما يعبران عن حقيقة الموضوع الخارجي بما اطلقنا عليه في دراسة مستقلة (الوجود الصيروري) (6). وحيث ان التغير لم يكن على وتيرة واحدة، بل انه تغير بلا حدود، فان ذلك يكشف عن ان له اسباباً خارجية طبقاً لمبدأ السببية، اذ لو كان التغير حادثاً بحسب الطبيعة الذاتية للمادة لكان تغيراً على وتيرة واحدة، اي لكان التغير ثابتاً من غير تغاير، أما والتغاير حاصل؛ فذلك يحتاج الى تعليل مرده من الخارج، وهو ما يثبت العلل الميتافيزيقية، ومن ثم وجود الله.

من جانب آخر أنه بحسب الحسابات الاحتمالية لا يعقل اطلاقاً أن يكون النظام في الواقع المشهود قائماً على المصادفة العمياء، فإما أن نفسر النظام في علاقات الطبيعة طبقاً للمصادفات العشوائية، أو نفسره تبعاً لوجود عقل حكيم. ولا شك أن العمل باجراء الحساب الاحتمالي لا يُبقي للفرض الأول قيمة يعد لها اعتبار، بل تنسحب أغلب القيم الاحتمالية لصالح محور اثبات تلك القضية، حيث أن استنتاجها لا يختلف عن استنتاج النظريات العلمية من حيث النظر الى وحدة الأساس، بل تفوق غيرها بكسبها ما لا يحصى من القرائن الدالة عليها دون منافس، فليست هناك ظواهر مضادة تعمل على تكذيبها. كما تتصف الأطراف فيها بأنها مغلقة وضيقة للغاية، خلافاً للنظريات العلمية المفتوحة. فأي نظرية علمية تُتخذ للتفسير يمكن استبدالها باخرى تفوقها، وهكذا من غير حدود. الأمر الذي لا ينطبق على المسألة الإلهية باعتبارها تتضمن طرفين فقط؛ احدهما لصالح هذه القضية، والآخرى لصالح المصادفات العشوائية المحضة، وبالتالي إذا كانت القرائن متجهة نحو اثبات القضية فذلك يعني دحضاً للطرف الآخر، إذ ليس هناك طرف ثالث منافس في هذه المعادلة. ويمكن القول أنه لا توجد قضية خارجية يمكن أن تحظى بتأييد معرفي مثلما هو الحال مع هذه المسألة، فحتى القضايا الحسية رغم اننا نتعامل معها بحسب القطع واليقين، لكنها من حيث التحليل لا تصل الى الدرجة المعرفية التي تختزنها تلك المسألة، لكثرة ما تحظى به من قرائن لا نهائية (7).

وينطبق هذا الحال على اثبات التوحيد، فوحدة هذا النظام تدل على وحدة المصدر، اذ لو كان هناك اكثر من اله لكنا نجد اثار الاختلاف في الخلق، او فساده واضطرابه، وحيث اننا لم نجد ذلك؛ فالامر دال على صدوره عن واحد احد. وهو ما يرشد اليه قوله تعالى: ((ما اتّخذ اللّه من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض)) (المؤمنون/91) وقوله: ((لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا)) (الأنبياء/22). حيث تدل الاية الاولى على نفي الاختلاف، وتدل الاخرى على نفي الاضطراب والفساد. وبالتالي فلو كان هناك اتفاق بين الهين لبان التعدد في اثارهما، ولدلّت عليه الحسابات الاحتمالية، مثلما دلت على عظمة الخالق ووحدته. كذلك فان افتراض وجود الهين قادرين ينتج منهما مقدور واحد، هو افتراض معقد لا مبرر له، حيث يكفي ان يكون المقدور الواحد صادراً عن اله فرد. مثلما انه لا مبرر لافتراض التسلسل في الالهة او العلل، حيث يكفي تفسير النظام القائم طبقاً لاصل واحد تبعاً لمبدأ البساطة الذي تعتمد عليه العلوم الطبيعية (8).

comments powered by Disqus