-
ع
+

الأشاعرة وفعل الله المطلق

يحيى محمد 

اذا كانت الإرادة الإلهية، بحسب منطق حق الملكية كما يتمثل بالأشاعرة، شاملة لكل شيء في الوجود، فإن كل ما يحدث في هذا الوجود هو تعبير عن فعل الله المطلق، وذلك لأن الفعل يتبع الإرادة، وبالتالي تصدق مقولة هذا المنطق: (لا فاعل في الوجود إلا الله)، وهو نفي لكل تأثير جار في الوجود سوى التأثير الإلهي، كما أنه نفي للفعل الإنساني. وبعبارة أخرى أن هناك دلالتين لهذا الأمر، إحداهما أنه يدل على نفي التأثير السببي بين الأشياء الوجودية، والآخر يدل على نفي الفعل البشري. وفي كلا الحالين ترى الأشاعرة أن التأثير عبارة عن خلق متجدد باستمرار طبقاً لقاعدة أن العرض لا يبقى زمانين، حتى قال بعضهم بأن الفلك والرحى ونحوهما مما يدور هو متفكك دائماً عند الدوران، والله يعيده كل وقت كما كان، وكذا أن الألوان والمقادير والأشكال والصفات تعدم على تعاقب الآنات، وأن الله يعيدها كل وقت، ومثل ذلك أن ملوحة ماء البحر تعدم وتذهب كل لحظة، لكن الله يعيدها، فليس هناك من سبب ولا تأثير سوى التأثير الإلهي المباشر[1]. وكذا قولهم أن علومنا التي نعلمها الآن ليست علومنا التي علمناها أمس، بل عُدمت تلك العلوم وخُلقت علوم أخرى مثلها، وقالوا أن العلم عرض وكذا النفس أيضاً، مما يلزم أن تُخلق لكل ذي نفس مائة ألف نفس مثلاً في كل دقيقة. ويرون أنه عند تحريك الإنسان للقلم يخلق الله أربعة أعراض ليس منها ما هو سبب للآخر، بل هي متقارنة الوجود لا غير. وهذه الأعراض عبارة عن: إرادة تحريك القلم، والقدرة على تحريكه، ونفس حركة اليد، وحركة القلم. وجميعها يخلقها الله مباشرة دون أن يكون بينها تأثير أو سببية، بل إقتران العادة[2].

هكذا أن تبرير السببية في هذا المنطق يعود من حيث التحليل إلى البداهة الأولية لحق الملكية، إذ ما يفسر السببية هو الفعل المطلق لله، وأن هذا الفعل عائد لإرادته المطلقة، وأن هذه الإرادة تفسرها الملكية المطلقة، ومن حيث النتيجة تصبح السببية رهين هذا الأصل المولّد. فكل ما يحدث في الواقع من حوادث هو بفعل التأثير الإلهي دون سواه، وأن ما يقال بوجود علاقة سببية بين الأشياء ما هو إلا وهم وخداع، إذ لا مؤثر في الوجود غير الله، ولا سبب لحدوث الأشياء وتغيراتها سواه تعالى، وكما يقول الإمام الغزالي في نصه الشهير: «الإقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً ليس ضرورياً عندنا، بل كل شيئين، ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمناً لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمناً لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والإحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن وإستعمال المسهل.. الخ»[3].

وطبقاً لهذا المنطق يمكن تبرير نفي الفعل البشري، فهذا النفي هو في الوقت ذاته إثبات للفعل الإلهي المطلق، وأن هذا الفعل نتاج الإرادة الإلهية المطلقة، وأن هذه الإرادة تبررها الملكية المطلقة.

وتبعاً لهذا المنطق يصبح الإنسان مضطراً لفعله وسلوكه دون أن تشفع له قدرته على التأثير. فالقدرة تقترن مع الفعل وكلاهما يخلقهما المكلِّف، فلا تأثير لشيء سوى تأثير القدرة الإلهية[4]. فالله بحسب هذه النظرية خالق الأسباب والمسبَّبات والقدرة والإرادة وكل شيء، ولم يبق شيء ينسب إلى الإنسان سوى ما اظهره الله فيه مما يطلق عليه (الإكتساب)[5]. ولهذه العلة اعتبر الفخر الرازي أن العبد لا يصدر عنه أي شيء قبيح، ففعله يتوقف على ما يحدثه الله فيه من الداعي، فإذا ما تحقق هذا الأخير فإن الفعل يصبح واجب النفوذ[6].

ولإثبات هذه المسألة قدّم أصحاب هذا المنطق أدلة عقلية وأخرى دينية، لكن الأدلة الأولى كانت ضعيفة. فمثلاً استدل الأشعري بأنه لو كان الإنسان هو الفاعل الحقيقي لأعماله لوجب أن تأتي طبق ما يقصد ويشتهي، فالكفر - مثلاً - يمتاز بالبطلان والفساد والتناقض، والكافر يريده أن يكون حقاً وحسناً، إلا أنه غير قادر على ذلك، كما أن المؤمن يريد للايمان أن يكون خالياً من الألم والتعب، لكن من غير جدوى، معتبراً هذه الحقيقة دالة على الأصل الإلهي الذي تعود إليه الأعمال جميعاً[7]، مع أنها إن دلت على شيء فإنما تدل على نفي الإرادة المطلقة للإنسان، وهي لا تدل على نفيها كاملة، بدلالة أن من الأعمال ما تحدث طبق ما يقصده الإنسان ويشتهيه. إضافة إلى أن الواقع يشهد على وجود تفاعل متواصل بين إرادة الإنسان والظروف الخارجية، كما سيأتينا بحث ذلك فيما بعد.

أما من الناحية الدينية فقد استدل الأشعري بجملة من الآيات القرآنية لدعم فكرته حول رد الأفعال إلى الله وحده، وكما قال: «يقال لأهل القدر أليس قول الله تعالى: ((بكل شيء عليم)) يدل على أنه لا معلوم إلا والله به عالم؟ فإذا قالوا نعم، قيل لهم: ما أنكرتم أن يدل قوله تعالى: ((على كل شيء قدير)) على أنه لا مقدور إلا والله عليه قادر، وأن يدل قوله: ((خالق كل شيء)) على أنه لا محدث مفعول إلا والله محدث له فاعله وخالقه»[8]. وقال أيضاً: «فإن قال: أفليس الله تعالى قال: ((أتعبدون ما تنحتون)) وعنى الأصنام التي نحتوها، فما أنكرتم أن يكون قوله: ((خلقكم وما تعملون)) أراد الأصنام التي عملوها؟ قيل له: خطأ ما ظننته لأن الأصنام منحوتة لهم في الحقيقة فرجع الله تعالى بقوله: ((أتعبدون ما تنحتون)) إليها، وليست الخشب معمولة لهم في الحقيقة فيرجع بقوله: ((خلقكم وما تعملون)) إليها»[9].

وكذا قدّم آخرون مثل هذه الأدلة لإثبات المطلب ذاته، كإمام الحرمين الجويني[10]، ومن قبله الحافظ البيهقي الذي استشهد بنصوص قرآنية تشير إلى أن الفعل لا يكون إلا من الله، مثل قوله تعالى: ((فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)) (الأنفال/17)، وقوله: ((أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون)) (الواقعة/64)، فعلى رأيه أن الله سلب عن الآخرين فعل القتل والرمي والزرع مع مباشرتهم إياه وأثبت فعلها لنفسه ليدل بذلك على أن المعنى المؤثر في وجودها بعد عدمها هو إيجاده وخلقه، وإنما وجدت من عباده تلك الأفعال مباشرة بقدرة حادثة أحدثها خالقنا عز وجل على ما أراد، فهي من الله سبحانه، وقد خلقها واخترعها بقدرته القديمة[11]. وروى حول ذلك عن النبي (ص) قوله: إن الله عز وجل يقول أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخير وقدّرته؛ فطوبى لمن خلقته للخير وخلقت الخير له وأجريت الخير على يديه، أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الشر وقدّرته؛ فويل لمن خلقت الشر له وخلقته للشر وأجريت الشر على يديه. وإن كان في الوقت ذاته روى ما ظاهره ينافي ذلك، وهو ما ورد في حديث دعاء الاستفتاح: الخير في يديك والشر ليس إليك، واعتبر أن معناه هو الإرشاد إلى إستعمال الأدب في الثناء على الله عز وجل والمدح له بأن يضاف إليه محاسن الأمور دون مساوئها، مذكراً بأن الدعاء لا يقصد إدخال شيء آخر خارج فعل الله وقدرته، كالذي يذهب إليه عامة الأشاعرة[12].

ويبدو أن هناك شيئاً من اللبس والتشويش، فرغم أن الأشاعرة لم ترد لنفسها أن تكون من المذاهب الجبرية المحضة؛ إلا أنها لم تسلم من الطعن بهذه الشبهة؛ سواء بما استخدمته من الإستدلالات، أو بما حملته من مفهوم جديد لم يغير من واقع الجبر الذي حاولت إبعاده عنها، وهو مفهوم (الكسب) الذي استحدثه الأشعري، رغم ما قيل عن كون هذه النظرية ترجع في الأساس إلى أبي حنيفة[13]. وقد لخص الفخر الرازي معنى الكسب بقوله: «في الكسب قولان: أحدهما أن الله تعالى أجرى عادته بأن العبد إذا صمم العزم على الطاعة فإنه تعالى يخلقها، ومتى صمم العزم على المعصية فإنه يخلقها. وعلى هذا التقدير يكون العبد كالموجد، وإن لم يكن موجداً... وثانيهما أن ذات الفعل وإن حصلت بقدرة الله تعالى ولكن كونها طاعة ومعصية صفات تحصل لها وهي واقعة بقدرة العبد». لكن رغم ذلك فإن الرازي لم ير الإستدلال بالكسب صحيحاً، إذ بعد التحقيق اعتبره اسماً بلا مسمى[14].

وهي النتيجة التي اتفق عليها مجمل ناقدي هذه النظرية، وعلى رأسهم جملة من الأشاعرة التابعين؛ كالباقلاني والجويني والشهرستاني[15]. وقيل أن المحالات في علم الكلام ثلاثة: نظرية الكسب للأشعري، ونظرية الأحوال لأبي هاشم الجبائي، ونظرية الطفرة للنظّام المعتزلي[16].

كما تعرضت الأشاعرة لنقد آخر يتعلق بمفهوم (القدرة) الذي أُستخدم لتبرير مسألة خلق الأعمال. فقد وجّه إبن تيمية - مثلاً - سهام نقده إلى كل من فكرتي الكسب والقدرة معاً، ورآهما غير جديرين بحلّ المسألة، وخرج بنتيجة مفادها اتهام النظرية بالجبرية المقنّعة، وكما قال: «وأما الجبرية كجهم وأصحابه فعندهم أنه ليس للعبد قدرة البتة، والأشعري يوافقهم في المعنى فيقول: ليس للعبد قدرة مؤثرة، ويثبت شيئاً يسميه قدرة يجعل وجوده كعدمه، وكذلك الكسب الذي يثبته»[17]. وعلى رأي إبن تيمية فإن الأشاعرة لم يذكروا فرقاً معقولاً بين الكسب والفعل، وحقيقة قولهم هو قول جهم بأن العبد لا قدرة له ولا فعل ولا كسب[18].

لكن يبدو أن الأشعري لم يرد من القدرة - أو الإستطاعة - المعنى المتعارف عليه. وأغلب الظن أنه كان يضمنها معنى ما يصطلح عليه (العلة التامة) التي يقترن فيها الفعل بالضرورة من دون تأخر ولا تراخي. وربما كان هذا المعنى متداولاً لدى العصر الذي عاشه الأشعري (260ـ330هـ). وهو ذات المعنى الذي ورد في بعض الروايات الشيعية كما رواها الكليني خلال القرن الرابع الهجري عن الإمام الصادق (المتوفى سنة 148هـ)، ومن ذلك قول الإمام (ع): «إن الله خلق خلقاً فجعل فيهم آلة الإستطاعة ثم لم يفوض إليهم، فهم مستطيعون للفعل وقت الفعل مع الفعل إذا فعلوا ذلك الفعل، فإذا لم يفعلوا في ملكه لم يكونوا مستطيعين أن يفعلوا فعلاً لم يفعلوه، لأن الله عز وجل اعز من أن يضاده في ملكه أحد»[19]. وعن صالح النيلي أنه قال: سألت أبا عبد الله الصادق: هل للعباد من الإستطاعة شيء؟ فقال لي: إذا فعلوا الفعل كانوا مستطيعين بالإستطاعة التي جعلها الله فيهم، قال: قلت وما هي؟ قال الآلة مثل الزاني إذا زنا كان مستطيعاً للزنا حين زنا، ولو أنه ترك الزنا ولم يزن كان مستطيعاً لتركه إذا ترك»[20].

ويؤيد ما سبق ما قام به الشيخ الكوثري من تأويل لنظرية الأشعري، كما في تعليقه على العقيدة النظامية للجويني، حيث اعتبره غير منكر لقدرة العبد الموجودة فيه قبل الفعل والتي يعبر عنها بسلامة الأسباب والآلات[21]. ومع هذا فالمشكلة تبقى قائمة لسببين، الأول: هو أن الأشاعرة تحيل أن يكون للعبد قوة مؤثرة تشارك في إيجاد الفعل. والثاني: أنها تعتبر إرادة الله تعالى متعلقة بالتكوين فقط، وهذا يقتضي أن لا تكون هناك إرادة أخرى مؤثرة في الوجود، وإلا جاز أن تتضارب الإرادتان، وهو مستحيل عندها.

واستناداً إلى المعنى السابق يمكننا فهم جوهر نظرية الكسب كما عبّر عنها الغزالي بقوله: «إن إنفراد الله سبحانه باختراع حركات العباد لا يخرجها عن كونها مقدورة للعباد على سبيل الإكتساب، بل الله تعالى خلق القدرة والمقدور جميعاً، وخلق الإختيار والمختار جميعاً. فأما القدرة فوصف للعبد وخلق للرب سبحانه وليست بكسب له. وأما الحركة فخلق للرب تعالى ووصف للعبد وكسب له، فإنها خلقت مقدورة بقدرة هي وصفه، وكانت للحركة نسبة إلى وصفه أخرى تسمى قدرة، فتسمى بإعتبار تلك النسبة كسباً، وكيف تكون جبراً محضاً وهو بالضرورة يدرك التفرقة بين الحركة المقدورة والرعدة الضرورية؟ أو كيف يكون خلقاً للعبد وهو ولا يحيط علماً بتفاصيل أجزاء الحركات المكتسبة واعدادها، وإذا بطل الطرفان لم يبق إلا الإقتصاد في الإعتقاد، وهو أنها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً، وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلق يعبر عنه بالإكتساب، وليس من ضرورة تعلق القدرة بالمقدور أن يكون بالاختراع فقط، إذ قدرة الله تعالى في الأزل قد كانت متعلقة بالعالم ولم يكن الاختراع حاصلاً بها، وهي عند الاختراع متعلقة به نوعاً آخر من التعلق، فيه يظهر أن تعلق القدرة ليس مخصوصاً بحصول المقدور بها»[22].

ويتضح من النص السابق أن الأشاعرة تتحاشى إعتبار الفعل مخلوقاً من قبل العبد، وهي تجيز التعبير عن ذلك بالكسب، فهي تعتبر الخلق - الذي يعني الاختراع - خاصاً بالله تعالى وحده، فيكون الفعل منسوباً لله على سبيل الخلق أو الاختراع، ومنسوباً للعبد على سبيل الكسب، تجنباً من الوقوع في الشرك، فكما يقول الغزالي: «لو قيل إنْ كان للقدرة الحادثة أثر في المقدور فهو شرك خفي، وإنْ لم يكن لها أثر فهو جبر، يقال إنما يكون شركاً إذا كان لها في التخليق اثر، وإنما أثرها في الكسب والله تعالى ليس بكاسب حتى يكون شركاً، ولو لم يكن لها أثر في المقدور لزم أن يكون وجودها كعدمها.. واعلم أن من ظن أن الله تعالى أنزل الكتب وأرسل الرسل وأمر ونهى ووعد وتوعد لغير قادر مختار فهو مختل المزاج». واعتبر الغزالي أن الناس «لم يفرقوا بين قدرة الخالق القديمة وبين قدرة المخلوق الحادثة، والفرق بينهما أن القدرة القديمة مستقلة بالخلق ولا مدخل لها في الكسب، وأن القدرة الحادثة مستقلة بالكسب ولا مدخل لها في الخلق»[23]. أو كما سبقه في ذلك الإمام أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان، حيث قال: فعل القادر القديم خلق، وفعل القادر المحدث كسب، فتعالى القديم عن الكسب وجلّ، وصغر المحدث عن الخلق وذلّ[24].

ورغم أن هذه المحاولة استهدفت التخفيف من حدة القول بالجبر، والتوسط في الإعتقاد، إلا أنها مع ذلك لم تبرر لنا حرية الإختيار بشيء يذكر. فإذا كانت قدرة الإنسان مقترنة مع الفعل وهي مخلوقة من قبل الله تعالى، وكانت صفة الكسب تابعة لقدرة الإنسان، فأي مجال يسع فيه القول بحرية الإختيار؟ وبالتالي فمآل هذه النظرية إلى الجبرية المحضة، وأن الجهود التي رامت إلى تخليصها من هذا المستنقع لم تنفع.

وأفضى الأمر ببعض المتأخرين إلى استلهام المعنى الفلسفي للنظام الوجودي لتحليل القضية. فكما نقل الشهرستاني عن الجويني قوله: إن «الفعل يستند وجوده إلى القدرة، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة، وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتى ينتهي إلى مسبّب الأسباب، فهو الخالق للأسباب ومسبَّباتها». وعلق الشهرستاني على هذا القول بأنه رأي أخذه الجويني «من الحكماء الإلهيين وأبرزه في معرض الكلام»[25]. وعلى هذه الشاكلة أقام الغزالي حواراً خيالياً بين القلم والكاغد واليد والإرادة والقدرة والعلم وغيرها ليبين فيه أن التأثير لا يحصل إلا بفعل فاعل واحد هو الله تعالى[26]، وذلك على شاكلة ما يراه النظام الوجودي.

***

مع هذا يلاحظ رغم أن الفخر الرازي جارى الأشعري حول نظريته في القدرة كما في (المحصل)، ومن ذلك إعتقاده بأن القدرة مع الفعل لا قبله وأنه لا تأثير للقدرة على المقدور[27]، لكنه خالفه في كتاب (اصول الدين)، اذ اعتبر الإستطاعة قبل الفعل لا معه، كما اعترف بأن العبد فاعل على سبيل الحقيقة[28].

ويتوقف نجاح الأشاعرة في نفي الطابع الجبري على التسليم بوجود شيء من الإرادة الحرة للإنسان في إيجاد الفعل. بمعنى أن هناك أكثر من إرادة وفعل حقيقي في الوجود، فبالإضافة إلى إرادة الله وفعله، فإن للإنسان إرادته وفعله، رغم أنهما غير مستقلين عن الإرادة الأولى، وهو ما تنفيه الأشاعرة نفياً تاماً ومطلقاً. وبالتالي فإن هذه النظرية واقعة في الجبرية المقنعة، خلافاً لما أريد لها أن تكون. والذي يؤكد هذه النتيجة الأدلة العقلية والنقلية التي تقيمها الأشاعرة لإثبات المعنى السابق.

لكن ما الذي يحتم على الأشاعرة الأخذ بمثل ذلك المعنى؟

نجيب بأن الأمر يرتبط بمنطقها في حق الملكية، فمن كان له هذا الحق كان له الفعل كله، فهو المالك وهو الفاعل، وإفتراض أن للغير فعلاً ما، يعني في الوقت ذاته أن له شيئاً ما من الملكية - نسبياً - بقدر ما له من الفعل والخلق. لذا فقد نفى أصحاب هذا المنطق أن يكون للإنسان شيء من الفعل، واثبتوا قباله صفة الكسب، وهم بذلك يحققون هدفين: أحدهما التأكيد على أن الفعل إنما يكون للمالك المطلق دون مشاركة أحد في ملكه، لذا قالوا: لا فاعل سوى الله، إتساقاً مع ما تفرضه البداهة الأولية، وكونه مدعاة للتوحيد ونفي الشريك في الفعل. أما الهدف الآخر فهو أن اضفاء صفة الكسب على الاثار الإنسانية إنما يراد به تصحيح الدور التكليفي للإنسان، من حيث خضوعه لمنطق الحساب من الثواب والعقاب، إتساقاً مع ما تفرضه الحقيقة الدينية.

والحقيقة أن هذا المنطق ينجح في تبرير المعنى الخاص بالتوحيد، عبر توسّعة مجاله إلى مجال الفعل، وأنه لا فاعل في الوجود غير الله. لكنه في الوقت ذاته لا يبرر نظرية التكليف وما جاءت به الشرائع السماوية من الدعوة إلى الأفعال الحسنة وتجنب الأفعال القبيحة، وما يترتب على ذلك من الثواب والعقاب.

نشير أخيراً إلى خطأ وقع به بعض الباحثين، حيث جعل من حديث الإمام الصادق «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» يتطابق مع نظرية الأشاعرة في الكسب، لأنها على رأيه أرادت أن تقف بين التفويض والجبر. إذ نقل النشّار ما يروى عن الصادق، وهو قوله: «وإني أقول قولاً متوسطاً، لا جبر ولا تفويض ولا تسليط. والله تعالى لا يكلف العباد بما لا يطيقون، ولا أراد منهم ما لا يعلمون، ولا عاقبهم بما لم يعلموا، ولا سألهم عما لم يعلموا، ولا رضي لهم بالخوض فيما ليس لهم به علم، والله يعلم بما نحن فيه»، ورأى أنه عبارة عن نفس نظرية الكسب[29]. مع أن مضامين النص لا تشير إلى المعنى المراد للأشاعرة، وأن بعضها لا يتفق مع ما تراه.

كما عبّر بعض المعاصرين بأن الأشاعرة تقول: «ان الإنسان مختار في فعله مجبور في إختياره». أو أنه مسيّر في صورة مخير[30]. وسبق للغزالي أن قال في رسالة التوحيد: إنه لو انكشف الغطاء لعرفت أن الإنسان في عين الإختيار مجبور، فهو إذن مجبور على الإختيار. فمثلاً أن فعل النار في الإحراق جبر محض، وفعل الله تعالى إختيار محض، وفعل الإنسان على منزلة بين المنزلتين، فإنه جبر على الإختيار، وقد طلب أهل الحق لهذا عبارة ثالثة.. فسموه كسباً وليس مناقضاً للجبر ولا للإختيار بل هو جامع بينهما عند من فهمه[31]. لكن يظل المعنى الذي نظّر إليه الأشاعرة دالاً على حقيقة الجبر مع صورية الإختيار، وهو يختلف عن عبارة الإمام الصادق.

 



[1]  إبن القيم الجوزية: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، شبكة المشكاة الإلكترونية، ص206.

[2]  موسى بن ميمون: دلالة الحائرين، عارضه بأصوله العربية والعبرية حسين آتاي، نشر مكتبة الثقافة الدينية، ص203ـ204.

[3]  تهافت الفلاسفة، ص189.

[4]  اللمع، ص93ـ94. وتلخيص المحصل، ص325.

[5]  مرهم العلل المعضلة، ص95.

[6]  تخليص المحصل، ص340.

[7]  اللمع، ص83ـ93.

[8]  اللمع، ص88.

[9] اللمع، ص69.

[10]  الجويني: لمع الأدلة في قواعد أهل السنة، تقديم وتحقيق فوقية حسين محمود، الدار المصرية، الطبعة الأولى، 1385هـ ـ1965م، ص107.

[11]  الإعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، ص143.

[12]  المصدر السابق، ص145.

[13]  علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، الطبعة السابعة، 1977م، ج1، ص267.

[14]  المحصل، ص287ـ288. وتلخيص المحصل، ص333.

[15]  لاحظ: الملل والنحل، ص41ـ42.

[16]  شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ضمن الباب الثالث عشر.

[17]  إبن تيمية: منهاج السنة النبوية، تحقيق محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة، الطبعة الأولى، 1406هـ، ج1، ص111.

[18]  النبوات، ص141.

[19]  أصول الكافي، ج1، ص161.

[20]  المصدر السابق، ص162.

[21]  نظرية التكليف، ص329.

[22]  أبو حامد الغزالي: قواعد العقائد في التوحيد، ضمن رسائل الإمام الغزالي (2) دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1414هـ ـ1994م، ص84ـ85. ولاحظ أيضاً: الغزالي: روضة الطالبين، ضمن رسائل فرائد اللآلي، نشر فرج الله ذكي الكردي، مصر، 1343هـ ـ1924م، ص156.

[23]  روضة الطالبين، ضمن رسائل فرائد اللالي، ص160ـ161.

[24]  الإعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، ص144.

[25]  الملل والنحل، ص42.

[26]  أنظر: الغزالي: رسالة التوحيد، ضمن رسائل الغزالي، ضبطه وقدم له رياض مصطفى العبد الله، دار الحكمة، ص70ـ77. وكتاب التوحيد والتوكل، وهو الكتاب الخامس من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين.

[27]  المحصل، ص152. وتلخيص المحصل، ص325.

[28]  أصول الدين، ص89 و85.

[29]  نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص268ـ269.

[30]  مصطفى  صبري: موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين، دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1981م، ج3، ص425 و347.

[31]  رسالة التوحيد، ص81 و84. كما أنظر: إحياء علوم الدين، كتاب التوحيد والتوكل.

comments powered by Disqus