-
ع
+

الواقع وضبط الفتوى

 

يحيى محمد

إن أهم ما يحتاج اليه الأصولي والفقيه اليوم هو اعادة النظر في العلاقة التي تربط الفتوى بالواقع. فما زال هناك عدد كبير من الفتاوى لم يُراعَ فيها حق الواقع وشروطه، بل استلّها الفقهاء من مجرد النص أو مما أدى اليه إجتهاد السلف. وما زالت هناك قضايا أخرى تحتاج إلى فحص الواقع كمرجع يناط به الكشف عما هو حقيقة وغير حقيقة، أو ممكن وغير ممكن، أو متسق وغير متسق، أو مقيد وغير مقيد... وغير ذلك من الصور التي يمكن للواقع الكشف عنها، سواء كان حاضراً أو ماضياً أو استشرافاً أو عاماً ومطلقاً. إذ تتخذ علاقة الفتوى بالواقع صوراً عديدة تستوجب النظر والتحقيق لحل المشاكل الفقهية والقضاء على حالات المعارضة والصدام. ويتخذ الواقع في أغلب هذه الصور دور الضابط للفتوى وفهم النص، كما يتبين من الفقرات التالية:

 

1ـ يمكن للواقع أن يُبطل الفتوى التي يرد تعليلها بما يتنافى وحقائقه الخاصة. فمثلاً أنه يبطل فتوى كراهة التعامل مع بعض الأقوام، لأنها معللة بأنهم من الجن، والتي عمل بها العلماء استناداً إلى بعض الروايات، وعلى رأسهم الشيخ الصدوق. كما أنه يبطل الفتوى القائلة بأن في الخصية اليسرى ثلثي الدية، وفي اليمنى الثلث، لأن الولد يُخلق من اليسرى لا من اليمنى. حيث عمل البعض بهذه الفتوى طبقاً للرواية عن الإمام الصادق (ع)، كالشيخ الطوسي والعلامة الحلي وغيرهما، لكن البعض الآخر اهملها، وقال الشهيد الثاني: قد انكر ذلك بعض الاطباء[1].

 

2ـ للبعد التاريخي دور في الكشف عن حقيقة الفتوى. ومن ذلك ما جاء حول مسألة نجاسة المتنجس أو طهارته، فهناك ثلاثة مواقف للفقهاء الشيعة: الأول افتى بتنجيسه، واليه يشار بقول الإمام المعصوم: ‹‹يغسل كل ما اصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة››. والثاني افتى بالطهارة وعدم التنجيس، وفيه قال السيد الخوئي في (التنقيح): ‹‹ذهب الحلي ونظراؤه إلى عدم تنجيس المتنجسات، بل ظاهر كلامه ان عدم التنجيس كان من الأمور المسلمة في ذلك.. أما العلماء المتقدمون فلم يتعرضوا لهذه المسألة اطلاقاً.. ومعه كيف يدعى الاجماع على تنجيس المتنجسات؟››[2]. ثم أردف قائلاً: إن الآغا رضا الأصفهاني قال: ‹‹والحكم بالتنجيس إحداث الخلف ولم نجد قائله من السلف››. أما الموقف الثالث فسكت عن هذه المسألة، ومال إلى ذلك الشيخ محمد جواد مغنية[3].

وبحسب الواقع ان أرجح هذه الآراء هو الموقف الثاني. إذ لو صح الموقف الأول لتصورنا مدى العسر الشديد الذي كان يعانيه الناس في عصر النص وما تلاه من عصور حتى زمن الاصلاحات الحديثة. فغالباً ما كانت أُسر العوائل كبيرة تبتلى بيوتها بكثرة النجاسة، وتشتد حاجتها للتطهير لكثرة النسل وقلة الموانع آنذاك، مع الأخذ بالاعتبار بساطة البيوت وتواضعها، وقلة الماء وبعد منابعه. الأمر الذي يجعل من التطهير عملية شاقة لا تتسق ومقصود الشرع.

وذات النتيجة نصلها من الناحية التاريخية الصرفة، إذ يصعب تصور ان المسلمين كانوا يعانون العسر من الحكم السابق ومع هذا لم يصلنا شيء يُذكر عن هذه المعاناة. فشدة الابتلاء وعمومه على المسلمين تدعو إلى عموم التساؤل والشكوى، مع أنه لم يردنا شيء من ذلك، مما يدل على انتفاء هذه المعاناة والحكم الذي يسببها.

وعلى هذه الشاكلة أثار السيد محمد رشيد رضا بحثاً حول نجاسة المشرك كما في قوله تعالى: ((إنما المشركون نجس)) التوبة/28، حيث رجح باعتبارات الواقع التاريخي، فضلاً عن الاعتبارات اللغوية والنقلية، أن هذه النجاسة ليست مادية[4].  ومن ذلك قوله: ‹‹من المعلوم القطعي لكل مطلع على السيرة النبوية وتاريخ ظهور الإسلام بالضرورة أن المسلمين كانوا يعاشرون المشركين ويخالطونهم ولا سيما بعد صلح الحديبية.. وكانت رسلهم ووفودهم ترد على النبي (ص) ويدخلون مسجده، وكذلك أهل الكتاب كنصارى نجران واليهود، ولم يعامل أحد أحداً منهم معاملة الأنجاس، ولم يأمر بغسل شيء مما أصابته أبدانهم، بل روي عنه ما يدل على خلاف ذلك مما احتج به الجمهور على طهارة أبدانهم من الأحاديث الصحيحة، ومنها أنه (ص) توضأ من مزادة مشركة، وأكل من طعام اليهود، وربط ثمامة بن أثال وهو مشرك بسارية من سواري المسجد، ومنها إطعامه هو وأصحابه للوفد من الكفار ولم يأمر (ص) بغسل الأواني التي كانوا يأكلون ويشربون فيها››[5].

ومثل ذلك ما قدّره المفكر الصدر، إذ نصّ على ‹‹أن إبتلاء المسلمين بالتعايش مع أصناف من الكفار في المدينة وغيرها على عهد النبي (ص) كان على نطاق واسع، واختلاطهم مع المشركين كان شديداً جداً، خصوصاً بعد صلح الحديبية، ووجود العلائق الرحمية وغيرها بينهم، فلو كانت نجاستهم مقررة في عصر النبوة لإنعكس ذلك وانتشر وأصبح من الواضحات، ولسمعت من النبي (ص) توضيحات كثيرة بهذا الشأن، كما هو الحال في كل مسألة تدخل في محل الإبتلاء إلى هذه الدرجة. ولا توجد في مثل هذه المسألة دواعي الإخفاء››[6].

وقد كرر هذا المعنى السيد محمد حسين فضل الله في بحث له حول الموضوع ذاته، حيث رجح بنفس الاعتبارات من الواقع التاريخي ان نجاسة المشرك ليست مادية، إذ استبعد ان تكون كذلك دون ان يرافقها حالة وجدانية لدى المسلمين تنعكس على طبيعة تعاملاتهم وتساؤلاتهم في الوقت الذي كانوا في خلطة قوية مع المشركين، بفعل السبي والأسر والملكية. وبالتالي كيف لم يصلنا ذكر شيء من تلك الحالة وما يعقبها من التساؤلات باعتبارها مورد ابتلاء للمسلمين كافة؟ إذ ما ورد عن ذلك إنما جاء متأخراً على لسان الأئمة ولسان المجتهدين المتأخرين[7].

 

3ـ للتطور التاريخي أثر في الكشف عن بطلان الفتوى. فمثلاً عمل هذا التطور على إبطال فتاوى الإمامية القديمة حول التصرف بالخمس، كالفتاوى القائلة بوجوب دفنه في باطن الأرض أو رميه في البحر أو ايداعه وحفظه لدى الثقات من واحد إلى آخر حتى ظهور المهدي. وقد استمر بقاء هذه الآراء، سيما الأخير، إلى ما يقارب تسعمائة سنة متواصلة، أي منذ بداية القرن الرابع وحتى القرن الثاني عشر الهجري.

ومن حيث التفصيل اضطربت الآراء حول التصرف بالخمس لعدم وجود نص معين حوله في عصر الغيبة. ونقل الشيخ الطوسي خلال القرن الخامس إفتراق الفقهاء إلى أربعة أقوال: أولها يرى ان الخمس مباح على الشيعة، ويشهد عليه عدد من الروايات التي تبيح للشيعة أو بعضهم عدم لزوم دفعه، وإن قابلها روايات أخرى معارضة[8]. والثاني يرى وجوب ايداعه وحفظه لدى الثقات من واحد إلى آخر حتى ظهور الإمام المنتظر ليسلمه اليه. والثالث افتى بوجوب دفنه في باطن الأرض؛ لأن الأرض سوف تخرج كنوزها عند قيام القائم فيكون ذلك تحت تصرفه. أما الرابع فيرى أنه يجب تقسيمه إلى ستة اسهم بحسب اية الخمس، فيكون ثلاثة منها حقاً خاصاً للإمام، وهي سهم الله والرسول وذي القربى، أما الثلاثة الأخرى فهي خاصة بمستحقي ذرية آل محمد ومحتاجيهم، من الأيتام والمساكين وأبناء السبيل. وقد اعتبر الطوسي أن الآراء الثلاثة الأخيرة كلها عملت بالاحتياط في فتاواها، خلافاً للرأي الأول الذي عده ضد الاحتياط ورأى أن الأوْلى اجتنابه[9]، وهو الذي ذهب اليه معاصر الطوسي الشيخ سلار بن عبد العزيز الديلمي (المتوفى سنة 448هـ)[10].

وسبق للشيخ المفيد ان عرض الآراء السابقة، ورجح حفظ الخمس والوصية عليه حتى ظهور القائم، لكنه لم يستبعد صواب الرأي الذي يشطر الخمس إلى قسمين أحدهما للامام والآخر إلى ذريته[11] . ونُقل عنه في (الغرية) أنه أجاز صرف حصة الإمام في الأصناف الموجودين[12].

وهناك رأي آخر يبدو أنه كان شاذاً لدى القدماء وإن ساد بين الفقهاء المحدثين حتى يومنا هذا، وخلاصته أنه يدعو إلى صرف حصة الإمام على الشيعة من أهل الفقر والصلاح دون تخصيص بالذرية، كالذي نقله المفيد عن البعض، وجعله قريباً من الصواب، وإليه ذهب ابن حمزة في (الوسيلة)[13].

وقد استمر وجود هذه الآراء قروناً طويلة دون زوال، واخذ الفقهاء يوسعون من مدارها بابراز بعض الشروط في كيفية الصرف، وكذا التخيير بين عدد منها. وظهر على هذا الاساس ما يتجاوز العشرة آراء؛ كالتي سجلها المحقق البحراني في (الحدائق الناضرة)[14]، ومن هذه الآراء تسعة مذاهب مختلفة حول التصرف بسهم الإمام؛ كالتي سجلها المحقق النراقي في (مستند الشيعة)[15]. ومن بين الشروط والتخييرات التي درج عليها الفقهاء ما أورده الشهيد الأول (المتوفى سنة 786هـ) في (الدروس الشرعية) الذي أجاز ثلاثة خيارات تخص حصة الإمام، هي: الدفن، أو الوصية، أو الصرف على الأصناف الموجودين عند الحاجة والعوز، واشرط ان يكون الصرف المذكور من خلال تولية ‹‹نائب الغيبة، وهو الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى››[16]. ومثل ذلك تخيير المحقق الكركي (المتوفى سنة 940هـ) العمل إما بتوكيل الفقيه في صرف حصة الإمام، أو الوصية عليه وتسليمه عند ظهور القائم[17] . ومثله تخيير المحقق الخوانساري بين الصرف على الأصناف الموجودين من الذرية الهاشمية، أو ايداعه والوصية عليه حتى ظهور القائم[18].

واصبح الرأي المشهور بين المتأخرين هو تقسيم الخمس؛ بصرف نصفه على الهاشميين وحفظ النصف الآخر والتوصية عليه من ثقة إلى اخر، كالذي يظهر لدى كل من ابي صلاح الحلبي وابن البراج وابن ادريس، واستحسنه العلامة الحلي في (المنتهى) واختاره في (المختلف)[19].

أما كيفية تصرف الأفراد بالخمس، فقد كانت هي الأخرى موضع خلاف بين الفقهاء، فأغلب القدماء أجاز للفرد ان يتولى بنفسه التصرف، وبعضهم اشترط دفع ذلك للفقيه ليتولّى الأمر، كما هو الحال مع ابن البراج (المتوفى سنة 481هـ) وابي صلاح الحلبي (المتوفى سنة 447هـ)، إذ ذهب الأول إلى حفظ السهم الخاص بالامام ودفعه إلى من يوثق به من فقهاء المذهب؛ ليتم ايداعه والوصية عليه حتى يصل إلى الإمام المهدي[20]. ويبدو أنه منفرد بهذا القول. أما ابو صلاح الحلبي فقد رأى لزوم دفع حصة الهاشميين وغيرها من الموارد المستحقة إلى الفقيه المأمون ليتولى صرفها عليهم، عند تعذر ايصالها إلى الإمام أو من ينصبه الإمام، الا أنه أجاز دفعها ايضاً بطريق مباشر دون وساطة الفقيه. أما حصة الإمام فقد صرح بوجوب عزلها انتظاراً للتمكن من ايصالها اليه، فإن استمر التعذر اوصى حين الوفاة إلى من يثق بدينه وبصيرته ليقوم بأداء الواجب مقامه[21].

في حين ذهب بعض آخر إلى تولية من له حق النيابة بالحكم، وإن لم يكن فقيهاً، كالذي مال اليه المحقق الحلي في (شرائع الإسلام) وتابعه العلامة الحلي في (تحرير الأحكام). فقد صرح المحقق الحلي بعد ان استعرض الاقوال في المسألة وقال: ‹‹يجب ان يتولى صرف حصة الإمام في الأصناف الموجودين من اليه الحكم بحق النيابة، كما يتولى اداء ما يجب على الغائب››[22]. ويبدو ان المقصود بمن اليه الحكم بحق النيابة؛ هو ذلك المتولي من قبل سلطان زمانه، وليس الفقيه، إذ سبق لبعض الفقهاء أن حدد هذا المفهوم بالمعنى المشار اليه، كما هو الحال مع تلميذ المرتضى ابي صلاح الحلبي، إذ عدّه مقيداً بعدد من الشروط، ومنها يتبين معناه[23]. وقد تكرر هذا الرأي لدى المتأخرين، كالذي قال به الشهيد الثاني (المتوفى سنة 965هـ)، حيث صرح بأن صرف حصة الإمام هو بيد من اليه الحكم بحق النيابة[24]. وكذا قال من جاء بعده كمحمد العاملي (المتوفى سنة 1009هـ)[25].

***

يتضح مما سبق بأن الآراء الفقهية حول الخمس، أو سهم الإمام خاصة، قد تراوحت بين الدفن والوصية والإباحة والصرف إلى الأصناف الموجودين من الذرية، أو إلى عموم أخيار الشيعة وصلحائهم. والغالب فيها هو الوصية. ورغم مرور ما يقارب تسعة قرون على غيبة القائم، فإن ذلك لم يمنع من استمرار مثل هذا الرأي وغيره من الآراء التي أدت إلى هدر الثروة وتبديدها. ويبدو أن أول ما اختفى من هذه الآراء هو القول بالدفن، فقد استمر حتى القرن الثامن الهجري ولم يعد له ظهور بعد ذلك. ومن ثم القول بالوصية، إذ بقي حتى القرن الثاني عشر ثم زال. كما استمر القول بالاباحة حتى القرن الثاني عشر، ومال اليه من المتأخرين كل من المحدث الكاشاني ومحمد باقر السبزواري ومحمد باقر الخراساني وعبد الله بن صالح البحراني، ومن بعدهم المحقق البحراني (المتوفى سنة 1186هـ) الذي عدّه مشهوراً لدى جملة من معاصريه[26]. ولعل الإخباريين ما زالوا يتبنون هذا الرأي حتى عصرنا الحالي. كذلك فإن الرأي الذي يميل إلى صرف سهم الإمام على الأصناف الموجودين من الذرية؛ لم يصمد كغيره من الآراء السابقة. أما الرأي القائل بصرف سهم الإمام على عموم أخيار الشيعة من المحتاجين فقد جرى عليه شيء من التوسعة والإضافات، إذ مال اليه الفقهاء المحدثون إلى يومنا هذا، رغم أنه كان من المذاهب الشاذة مقارنة بالآراء الأخرى، لكن مع الأخذ بعين الإعتبار ما أُضيف اليه من مجالات للصرف، كتلك التي تلبي حاجة الحوزات العلمية واقامة الشعائر الدينية والتبليغ وما اليها، وأغلبهم أشرط أن يولّى على صرفه الفقهاء بحكم النيابة العامة.

ومؤخراً أدرك الفقهاء خطأ ما تبناه اسلافهم من مذاهب الدفن والوصية؛ باعتبارها تفضي إلى هدر الثروة وتضييعها. ويعد السبزواري (المتوفى سنة 1090هـ) من السابقين الذين تنبهوا إلى هذا الخطأ الفادح، إذ صرح قائلاً: إن ‹‹الايداع مع استهلاك فقراء السادة مما ينفيه العقل، سيما مع تكرر التجارب وشهادة العادات ودلالة أحوال الأزمان على حصول التلف والفوات، وعدم وصوله إليه (ع)، ولا يبعد ان يقال الاذن منهم في صرفه في الأصناف حاصل بحسب شهادة القرائن ودلالة الأحوال كما لا يخفى على من يقيسه على نظائره من الأمثلة والصور المماثلة له من جميع الجهات، وبالجملة ظني ان هذا الوجه أوْلى وأحوط››[27] . كذلك ما صرح به النراقي (المتوفى سنة 1245هـ)، فقد اعترف هو الآخر بالخطأ المذكور واعتبر أن الإمام المهدي لا يرضى به يقيناً، وقال: إن ‹‹الدفن والوصية حبس بلا منفعة ومعرض للتلف والهلكة، بل يعلم التلف بالوصية غالباً في مثل ذلك الزمان، فيعلم رضا المالك بصلة الذرية ورفع حاجتهم ومسكنتهم بذلك قطعاً››[28]. وكذا هو الحال فيما صرح به السيد الخوئي الذي اعتبر الآراء الخاصة بالدفن والوصية ضعيفة لما تستلزمه من ‹‹ضياع المال واتلافه والتفريط فيه، ولا سيما بالنسبة إلى الاوراق النقدية مما ليست بذهب ولا فضة، إذ كيف يمكن ايداعها والاحتفاظ بها ولربما تبلغ من الكثرة الملايين إلا ان تودع في المصارف الحكومية التي هي تحت سيطرة الايادي الجائرة فتكون وقتئذ إلى الضياع أقرب وبالوبال أنسب››[29] .

بهذا يتضح بأن الأقوال التي عُدت قديماً من الآراء المحتاطة التي ينبغي الأخذ بها، هي الآن في عداد الآراء المنكرة التي يأسف على وجودها الفقيه المعاصر. وعلى عكسها ما كان يعد من الآراء غير المحتاطة، فانها ظلت حية - ربما - إلى يومنا هذا. وكذا تلك التي كانت شاذة، فإنها أصبحت اليوم سائدة - مع بعض التوسعة كما أشرنا - ولها من الديمومة إلى ما شاء الله.

 

4ـ للواقع أثر معارض على الفتوى؛ إلى حد يمنعها من التنفيذ والتطبيق. ومن ذلك معارضته لفتاوى الفقهاء الخاصة بالتعامل مع الأرض المفتوحة عنوة. فهذه الفتاوى على اختلافها أصبحت غير مقبولة لاصطدامها بمنطق الواقع. ورغم اختلاف آراء المذاهب الإسلامية حول ذلك، الا أنها جميعاً لم تعطِ ثمرة مفيدة. فسواء اخذنا بالرأي الذي يقول بتقسيم الأرض بعد التخميس على الجيش الفاتح، حالها حال الغنائم المنقولة، كما ذهب اليه الإجتهاد الشافعي.. أو بالرأي الذي يرى جعلها وقفاً حبيساً على جميع المسلمين فتوضع ثمرتها في بيت المال وتصرف على مصالحهم وحاجاتهم العامة، كما ذهب اليه الإجتهاد المالكي.. أو بالمذهب الذي يُعيد أمرها إلى نظر الإمام وتقديره بحسب ما يرى من الحاجة والمصلحة، فإن شاء عزل منها الخمس أو أكثر لبيت المال وقسّم الباقي على الفاتحين كما فعل النبي (ص) بأرض خيبر، وان شاء ترك الأرضين لأهلها وطرح عليها ضريبة الخراج كما فعل عمر بن الخطاب بالسواد، وهو الذي آل اليه ابو عبيد والإجتهاد الحنفي واكثر الكوفيين[30].. أو بالرأي الذي يعتبر ارض العنوة مما يجوز اجارتها بالاجماع، والساكن منها تحل فيه لاصحابها، ويمنع بيع مزارعها، كما هو قول ابن تيمية[31] .. أو بالرأي الذي يراها للمسلمين قاطبة لا يملك احد رقبتها ولا يصح بيعها ولا رهنها ولا توقيفها ولا توريثها، ولو ماتت لم يصح احياؤها لأن المالك لها معروف وهو المسلمون قاطبة، وما كان منها مواتاً في وقت الفتح فهو للامام، واليه ذهب الإماميون مستدلين برواية عن الإمام الصادق (ع) يقول فيها: ‹‹ومن يبيع ارض الخراج وهي ملك لجميع المسلمين؟››[32] . فسواء أخذنا بهذا الرأي أو بغيره من الآراء التي عرضناها للمذاهب الإسلامية؛ نجد أنها ساقطة - جميعاً - وفقاً لموازين تطور الواقع واعتباراته الحديثة. فالاحكام في واد، والواقع في واد آخر لا يلتقيان. لذلك عدّ الشيخ محمد جواد مغنية الفتوى القائلة بعدم جواز بيع الأرض المفتوحة عنوة بأنها فتوى نظرية تبريرية بعيدة عن الواقع، معلقاً على ذلك بقوله: ‹‹لا اعرف احداً عمل بها، فإن الناس، كل الناس، حتى الفقهاء يعاملون صاحب اليد على الأرض الخراجية معاملة المالك من البيع والشراء والوقف والتوريث وما إلى ذلك.. ويوجهون أو يؤولون اعمالهم بتأويلات لا تركن اليها النفس، منها ان لصاحب اليد نحواً من الحق والاختصاص، فينتقل هذا الحق منه إلى غيره دون رقبة الأرض وعينها، ومنها ان الأصل في الأرض ان تكون الموات، حتى يثبت العكس›› [33].

ويدخل ضمن هذه الشاكلة من معارضة الواقع للفتوى؛ ما واجهته الدولة الإسلامية في ايران لعدد من الموروثات الفقهية، كتحليل الانفال على الشيعة، واخراج سهم السادة من حصص انتاج النفط وسائر المعادن الأخرى الثمينة.

فحول تحليل الأنفال على الشيعة جاء في بعض الروايات عن الإمام الصادق قوله: ‹‹ما كان لنا فهو لشيعتنا›› . وقوله ايضاً: ‹‹هذا لشيعتنا حلال، الشاهد منهم والغائب، والميت منهم والحي، وما يولد منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال››[34] . لكن وجدت ايران نفسها - في ظل الدولة الإسلامية - عاجزة عن العمل بمثل هذه الأحاديث وفتاواها، وأخذت تفعل ما تراه مناسباً بحسب المصلحة، دون مراعاة الحلية ولا قيد (الشيعة) في النص. وبذلك أُلغي حكم النص مراعاة لما قد يسفر عنه من اضرار عند التطبيق. وقد نصت المادة الخامسة والأربعون من الدستور بأن الانفال والثروات مثل الأراضي الموات والأراضي المهجورة والمعادن والبحار والبحيرات والأنهار وكافة المياه العامة والجبال والوديان والغابات ومزارع القصب والأحراش الطبيعية والمراتع التي ليست حريماً لأحد.. كل هذه تكون باختيار الحكومة الإسلامية لتتصرف بها وفقاً للمصالح العامة[35].

أما بخصوص سهم السادة، فالمعروف ان موارده - ضمن الخمس - عديدة، منها المعادن سواء كانت منطبعة كالذهب والفضة والرصاص، أو غير منطبعة كالياقوت والزبرجَدْ والكحل، أو مائعة كالقير والنفط والكبريت[36]. وحيث ان هذا السهم يعادل نصف الخمس، كما يرى الفقهاء، لذا يتبين كم هو حجم المشكل الذي واجهته ايران، إذ لا يعقل ان يُعطى عشر موارد النفط وسائر المعادن الأخرى الضخمة إلى السادة ويُحرم الآخرون من فئات الشعب. وبالتالي كان المعوّل عليه هو ان لولي الأمر حق التصرف بسهمي الخمس - للسادة والامام - بحسب ما يراه من مصلحة وما تقتضيه الدولة من حاجات، اعتماداً على نظرية الإمام الخميني في ولاية الفقيه[37] .

وقديماً ذهب أحد الفقهاء إلى عدم تخصيص السادة بسهم خاص، كالذي انفرد به ابن الجنيد وشذ دون الطائفة. أما حديثاً فقد صرح كل من الإمام الخميني والشيخ المنتظري بهذا الموقف، تجنباً للتمايز الطبقي المترتب على الرأي السائد للفقهاء، إذ تعجز الدولة عن صرف مثل هذه الحصة من الثروات الضخمة. لذا قال المنتظري متبعاً ما يراه الخميني ومعترضاً على من سبقه من الفقهاء: ‹‹هذه نماذج من كلمات الأعاظم في المقام يظهر منها أنهم لم يلتفتوا إلى الخمس بما أنه ضريبة اسلامية واسعة ان اخذت من المعادن بسعتها ومن الارباح بكثرتها ومن غيرهما تبلغ في كل سنة آلاف الميليارات، وقد شُرّعت لادارة شؤون امامة المسلمين وحكومتهم كيفما اتسع نطاقها، غاية الأمر ان ادارة شؤون السادة الفقراء ايضاً بما أنهم من بيت النبوة تكون من شؤونها ايضاً. بل تراهم يرون الخمس مجعولاً لشخص الإمام المعصوم والسادة الفقراء فقط بالمناصفة. ومن التفت إلى كثرة مقدار الخمس وسعته ونسبته إلى مقدار الزكاة المشروع عندهم في خصوص الأشياء التسعة المعروفة بحدودها وشروطها، ونسبة عدد السادة الفقراء إلى جميع المصارف الثمانية للزكاة التي منها جميع الفقراء غير السادة وجميع سبل الخير والمشاريع العامة بل وفقراء السادة ايضاً بالنسبة إلى زكاة انفسهم؛ يظهر له بالوجدان بطلان ما ذكروه. والعمدة ان أصحابنا لبعدهم عن ميدان السياسة والحكم؛ لم يخطر ببالهم ارتباط هذه المسائل ولا سيما الانفال والأموال العامة بباب الحكومة وسعة نطاقها واحتياجها إلى نظام مالي واسع، وانصرف لفظ الإمام الوارد في أخبار الباب في أذهانهم إلى خصوص الأئمة الإثني عشر المعصومين عندنا وحملوا الملكية للإمام على الملكية الشخصية فتدبر جيداً››[38] .

 

5ـ  للواقع سعة في تقييد إطلاق الفتوى. مثل تلك التي تبيح للناس ان يكونوا مسلطين على أموالهم، والتي عمل بها اغلب فقهاء الإمامية استناداً إلى عدد من الروايات. فقد ذكر الشيخ الانصاري في (فرائد الاصول) بأن منع المالك من التصرف بأمواله لدفع ضرر الغير يعد حرجاً وضيقاً عليه، إما لحكومته ابتداءاً على نفي الضرر وإما لتعارضهما والرجوع إلى الأصل. وقال بهذا الصدد: ‹‹ولعل هذا أو بعضه منشأ اطلاق جماعة وتصريح آخرين بجواز تصرف المالك في ملكه وإن تضرر الجار.. بل حكي عن الشيخ - الطوسي - والحلبي وابن زهرة دعوى الوفاق عليه››. لكن بعض الفقهاء ناقش وعارض عموم التسلط لعموم نفي الضرر. فقال صاحب (كفاية الأحكام): ‹‹ويشكل جواز ذلك فيما اذا تضرر الجار تضرراً فاحشاً››. وقد رد عليه البعض بأن ما ذكره غير صحيح بعد اطباق الأصحاب نقلاً وتحصيلاً والخبر المعمول عليه بل المتواتر من ‹‹ان الناس مسلطون على أموالهم››. لكنه مع ذلك فصّل في حالات جواز التصرف وعدم التصرف، فإعتبر أنه اذا تصرف الشخص في ملكه من غير نفع مع اضرار الغير فإنه يمنع منه. كذلك لا يجوز إضرار الجار كثيراً بحيث لا يحتمل عادة، ويمنع المالك من التصرف بملكه حتى وإن كان له نفع في تصرفه[39].

كما بحث المفكر محمد باقر الصدر مسألة التعارض بين قاعدتي (لا ضرر ولا ضرار) والسلطنة الآنفة الذكر، فاعتبر الأخيرة ليس عليها دليل لفظي معتبر ليمكن التمسك بإطلاقه، وإنما هي قاعدة متصيدة من موارد مختلفة[40].

وحديثاً فُرضت بعض القيود على فتوى (الناس مسلطون على أموالهم). فمثلاً وضعت جمهورية ايران الإسلامية بعض الشروط التي تقيد تلك الفتوى؛ مراعاة لما قد يخلفه التصرف بالملكية من اضرار اجتماعية وبيئية. وقد نصت المادة الخمسون من الدستور على منع النشاطات الاقتصادية وغيرها التي تؤدي إلى تلوث البيئة أو تخريبها بشكل لا يمكن تعويضه[41].

وكذا هو الحال فيما جرى مع الفتوى التي تشجع على كثرة النسل طبقاً لبعض الأحاديث، منها ما روي عن الإمام الصادق (ع) عن النبي (ص) قوله: ‹‹أكثروا الولد أكاثر بكم الأُمم غداً››[42] . إذ تمسك الفقهاء من مختلف المذاهب الإسلامية بالاطلاق الذي يبديه الحديث النبوي طيلة قرون، وما زال الكثير منهم يتبع خطاه دون مراعاة للواقع، لكن جملة من التحولات اضطرت عدداً منهم - في كلا الساحتين السنية والشيعية - إلى وضع قيود لهذا الاطلاق تفادياً للاضرار الاجتماعية والاقتصادية.

 

6ـ للواقع أثر على تجريد الفتوى من شروطها، إما بتبيان عدم جدوى هذه الشروط، أو لكونها غير قابلة للتطبيق الدائم. ومن ذلك الفتوى التي تشترط الاعلمية في القضاء والتي تتعارض مع كثرة القضايا الحادثة، فكما يقول المحقق الخوئي: ان ‹‹اعتبار الاعلمية المطلقة في باب القضاء مقطوع العدم لإستحالة الرجوع في المرافعات الواقعة في ارجاء العالم ونقاطه - على كثرتها وتباعدها - إلى شخص واحد وهو الاعلم، كما ان التصدي للقضاء في تلك المرافعات الكثيرة أمر خارج على طوق البشر - عادة -››[43]  .

وكذا هو الحال مع الفتاوى التي تشترط وحدة النظام والنسب القرشي والعصمة في الحكم السياسي.

فمن المسلم به وجوب وحدة هذا النظام وعدم جواز تعدده في العصر الواحد[44] . مع ان التعدد كان قائماً منذ زمن بعيد، وهو أمر وإن أمكن تبريره بنفي شرعية الأنظمة السابقة؛ لأنها لا تتقيد بالشروط الإسلامية.. إلا أن قيام وحدة سياسية تجمع البلدان الإسلامية هو أمر مستبعد جداً، سيما في العصر الحديث، إذ أضحت المواطنة والإعتبارات القومية وسائر الخصوصيات الأخرى مانعاً كبيراً بوجه مثل هذه الوحدة، الأمر الذي اضطر بعض الحركات الإسلامية إلى تضييق هدفها وحصره ضمن الحدود القطرية باعتباره الأمر الممكن فعلاً. وكذا هو الحال مع دساتير البلدان التي استهدفت تطبيق الشريعة الإسلامية، إذ اضطرت هي الأخرى للتغلف بالخصوصيات الوطنية المستحدثة، عوضاً عن الاعتبارات الدينية القائمة على الشمول العقائدي.

وشبيه بذلك ما يتعلق بالشروط الأخرى لدى كل من الاتجاهين السني والشيعي. فقد عول أهل السنة على جملة شروط تخص الإمام أو الخليفة؛ أوصلها الماوردي إلى سبعة، هي: العدالة على شروطها الجامعة، والعلم المؤدي إلى الإجتهاد في النوازل والأحكام، وسلامة الحواس، وكذا سلامة الأعضاء من النقص، والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، والشجاعة والنجدة عند الحاجة، والنسب القرشي[45].

وما يهمنا من هذه الشروط الأخير، إذ يعني أن النظام السياسي لا يتصف بأي صلاحية دينية من دونه. الأمر الذي ينال من شرعية بعض الحكومات التي سادت في العالم الإسلامي، كالخلافة العثمانية. لكن بغض النظر عن طبيعة هذه الخلافة ومدى صلاحيتها الدينية؛ يلاحظ ان الشرط المذكور يتصف بنوع من التعال، فمن المتعذر تطبيقه على مختلف حالات الواقع وتغايراته. وقد شكك به بعض القدماء، وحاول عدد منهم توجيهه، فيما نفاه آخرون.

فمع ما قيل من أن هذا الشرط يحظى بالنص والاجماع[46] ؛ الا ان عدداً من القدماء لم يعترف به، مثل الفضل الرقاشي وغيلان الدمشقي وابي شمر وجهم بن صفوان والخوارج وجمهور المعتزلة؛ وعلى رأسهم ضرار بن عمرو وابراهيم النظام وغيرهم[47] . كما أسقطه عدد آخر من العلماء، وعلى رأسهم الإمام الباقلاني مثلما جاء في (مقدمة) ابن خلدون، وان اعتبره في كتابه (الانصاف) شرطاً لازماً استناداً إلى قول النبي: (الائمة من قريش)[48]. وسلك تلميذه الجويني مسلك الشك من غير قطع، وقال في (الارشاد): ‹‹وهذا مما يخالف فيه بعض الناس، وللإحتمال فيه عندي مجال، والله اعلم بالصواب››[49]. فيما أيد ابن خلدون رأي الباقلاني في الإسقاط، وفسّر الشرط المذكور اجتماعياً، معتبراً أن النبي أوجب الأئمة من قريش لأنها تمتلك سلطة (العصبية)، لكن حيث أنها فقدت هذه السلطة بمرور الزمن؛ فلا معنى للحفاظ على الشرط. واعتبر هذه الحالة من الشواذ التي يكون فيها الأمر الشرعي مخالفاً للأمر الوجودي التكويني[50] .

وسُئل أبو بكر البلخي عن تأويل قول النبي: (الأئمة من قريش) فقال: ‹‹يعني اذا جُعل من قريش واتفقوا عليه. ولو أن الامة اتفقت على رجل من العجم وجعلوه أمير المؤمنين فلا نقول أن احكامه كلها تبطل، بل هي جائزة››[51].

وقد دار العديد من العلماء والمفكرين المحدثين حول الفلك الذي حدده ابن خلدون وما على شاكلته من توجيه، تبعاً لمنطق الواقع وما فرضه من مستجدات، فكان الغالب في اذهانهم هو ‹‹المكانة التي تتمتع بها قريش بين العرب عامة مما يسهل انقياد الناس لهم؛ لما لهم من الشرف والرياسة››[52] . ومن هؤلاء ولي الله الدهلوي في (حجة الله البالغة)[53] ، ومثله محمد رشيد رضا في (الخلافة). وكذا محمد يوسف موسى الذي استحسن تحليل ابن خلدون وعوّل عليه. وعلى نفس الشاكلة عبد الوهاب خلاف؛ حيث أيّد ما ذهب اليه ذلك التحليل[54] . واستفاد الريس من تحليل ابن خلدون فرأى على ضوئه لزوم ان يكون القائم بامور المسلمين متبوعاً من قبل غالبية الناس، ليكون مطاعاً مرضياً عنه ذا قوة مستمدة من الإرادة العامة، وهذا لا يتحقق الا بطريق الانتخاب والاختيار. فلم تعد العصبية القبلية أساس الإجتماع كما لدى ابن خلدون، بل الرابطة السياسية عبر اختيار أكثرية الأمة للإمام[55] .

في حين اعتبر ابو زهرة الأحاديث الواردة بشأن النسب القرشي ليس لها دلالة قاطعة صريحة، وعارضها بأحاديث أخرى مقابلة. وناقشه في ذلك محمد رأفت عثمان، إذ استدل على وجود الدلالة الصريحة في بعضها، مع وجود ما يعارضها، وانتهى إلى صحة الشرط ضمن قيد احراز سائر الشروط الأخرى، كالكفاءة. وعليه فقد أجاز تولية غير القرشي[56] . كذلك رأى محمد عبد القادر فارس أنه بحسب الأحاديث الصحيحة واجماع الصحابة لا بد من التعويل على النسب القرشي، بيد أنه اعتبره أحد المرجحات بين مرشحين أو أكثر للامامة، فلو استوفى القرشي سائر الشروط الأخرى لكان هو المرجح، والا قُدم غيره عليه[57] . مع ان هذا الرأي يظل في دائرة التنظير يصعب تحويله إلى أمر واقع، سيما في ظل الانتخابات العامة.

أما الدائرة الشيعية فيلاحظ أنها الأخرى قد بُليت بشرط آخر جعلها عاجزة عن التفاعل مع الواقع، إذ اعتبرت الخلافة مشروطة بالعصمة والتعيين الإلهي[58] . فلما كان المعصوم غائباً لأكثر من ألف سنة؛ فقد أمست الحكومة في التنظير الشيعي محرّمة ومعطلة طيلة هذه المدة. الأمر الذي اضطر عدداً من الفقهاء إلى البحث عن بدائل ممكنة تخرجهم عن تلك العزلة الطويلة. ومن ذلك فكرة ولاية الفقيه المطلقة التي نظّر لها الشيخ أحمد النراقي خلال القرن التاسع عشر[59] ، وتبناها الإمام الخميني[60] . ومثلها فكرة ولاية الأمة التي نظّر لها الشيخ النائيني أوائل القرن العشرين، فرغم اعترافه بأن هذه الولاية لا تخلو من غصب لحق الإمام المعصوم؛ الا أنه قَبِل ذلك تبعاً لقاعدة العمل بأهون الشرين، إذ بدونها يبقى الحكم بيد الظلمة من الملوك والرؤساء، فيكون الشر مضاعفاً.

هكذا يتبين لنا بأن للواقع قدرة على تغيير الشروط المناطة بالفتاوى.

 

7ـ للواقع أثر في الكشف عن المشاكل الاجتماعية التي تنجم عن الفتوى والحكم، مثل الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية كما واجهها المقننون المحدثون، كتلك التي لها علاقة بالوصية والارث وأساليب الزواج والطلاق، مثل فتوى الطلاق بالثلاث في الجلسة الواحدة التي ذهب اليها جمهور فقهاء أهل السنة. وكذا السماح في الزواج المتعدد من غير قيود وشروط. ولعل الشيخ محمد عبده هو أول من اعترض على هذا الزواج صراحة؛ مشيراً إلى ما يترتب عليه من مشاكل ومآسي. ومثل ذلك تطبيق الحدود بلا قيود، لما قد تخلفه من آثار نفسية واجتماعية وخيمة، كالذي يحدث مع حد الرجم، مع أنه غير مجمع على اعتباره، إذ أبطله كل من الخوارج وبعض المعتزلة[61] ، منكرين ما دار حوله من روايات، بل ومستدلين بالقرآن على نفي اعتباره وأنه لا عقوبة في الزنا غير الجلد، فكما تقول الآية الكريمة: ((فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشة فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب)) النساء/25. ووردت الآية في الإماء وجاء فيها ذكر (أحصنّ) أي (تزوجن)، كما جاء فيها ذكر (المحصنات) أي المتزوجات. ومعنى النص هو أنه اذا تزوج الإماء فعليهن من العقاب نصف عقاب المتزوجات الحرائر عند الزنا. مما يعني أنه لا يمكن تنصيف عقوبة الرجم على فرض أنها تصدق على المتزوجات الحرائر، فالرجم شيء واحد كيف يقبل التنصيف[62] ؟!

 

8ـ للواقع قدرة على الكشف عن نسبية الفتوى وتبيان ظرفيتها الزمانية. مثلما لاحظنا ذلك في فتاوى عديدة؛ كالضعفية في القتال، والفتوى الخاصة بالعورات الثلاث، ووجوب اعداد رباط الخيل، وتقسيم الغنائم على المجاهدين، واحكام الرق والجزية، والمراهنة في السبق للصور الثلاث المعروفة، وحريم الأرض وصاع مصر وغيرها. ويدخل ضمن هذا الباب ما جاء حول العاقلة، إذ ذهب جمهور الفقهاء إلى ان العاقلة عبارة عن قرابة القاتل فقط. لكن فقهاء الحنفية ذهبوا إلى أنهم أهل الديوان، إن كان القاتل منهم، وهم الجيش والعسكر الذين كتبت اساميهم، أو من الرجال الاحرار المقاتلين، أي أهل الرايات والالوية، واستدلوا على ذلك بما فعله عمر بن الخطاب. أما لو لم يكن القاتل من اولئك فإن عاقلته هم قبيلته وأقاربه وكل ما يتناصر بهم. ويعد هذا الرأي ملائماً للأحوال تبعاً لتغير الظروف نسبياً. فعلى رأي الحنفية ان نظام العاقلة قد تطور من الاسرة إلى العشيرة فالقبيلة ثم إلى الديوان، ثم إلى الحرفة ثم إلى بيت المال.

مع ذلك فهناك من أنكر حكم العاقلة معتبراً ان دية القتل الخطأ واجبة في مال القاتل وحده، كالذي ينقل عن ابي بكر الاصم وابن علية واكثر الخوارج، وذلك اخذاً بعموم بعض الآيات والأحاديث، كقوله تعالى: ((ولا تزر وازرة وزر أخرى)) الأنعام/164. لكن الفقهاء اعتبروا الأحاديث المتضمنة لحكم العاقلة مخصصة لعموم مثل هذه الآية لما في ذلك من المصلحة العامة في المساعدة والتعاون[63] . والملاحظ ان نظام العاقلة يقبل التغيير من حالة إلى أخرى مع حفظ المقصد في التعاون والتضامن، فهو وان انتفى - غالباً - من حيث اصله القائم على القبيلة، لكن مضمونه يتقبل الإحياء والدوام، طبقاً للمقاصد ووفاقاً مع طبيعة الواقع القائم.

 

9ـ للواقع سعة في تأييد الفتوى. مثل تأييده للفتاوى والأحكام التي تتحقق من خلالها المصالح والحقوق. وهناك العديد من القواعد الفقهية التي تجد مجالها الرحب في الاتساق مع متطلبات الواقع وتسديد حاجاته، مثل قاعدة لا ضرر ولا ضرار.

 

10ـ للواقع سعة في أن يتقدم على الحكم والفتوى. ويأتي هذا التقدم باعتبار ما له من إمكانية الكشف عن الحالات الموضوعية التي يناط بها الحكم أو الفتوى، عبر الفحص والاختبار. فهو من هذه الجهة مقدم على الاعتبارات الشرعية التي تتوسل بالطرق الظنية في الكشف عن تلك الحالات، كتقديمه في الاستهلال على البيانات الشرعية من الشهادة والرؤية وما اليها، وذلك إن كان قول الفلكيين دقيقاً مثلما ذهب اليه المرحوم محمد جواد مغنية[64] .

ومثله ما جاء في بعض الروايات المرسلة من أن إمرأة ادعت العنن على زوجها، وانكر ذلك، وفي الرواية يوصى بأن يقام الرجل في الماء البارد، فإن تقلص احليله حُكم بقوله، وان استرخى حُكم بقولها. وقد كان المحقق الحلي يرى ان مثل هذا الحكم ليس بشيء، ومثله العلامة الحلي[65] . وذكر الشهيد الثاني في (المسالك) بأن هذا الحكم كان لابن بابويه وابن حمزة، لكن المتأخرين انكروا ما يحصل من علامات التقلص والاسترخاء، لعدم الوثوق بالإنضباط وعدم الوقوف على مستند صالح. وهو وإن كان قول الاطباء وان كلامهم يثمر الظن الغالب بالصحة الا أنه ليس طريقاً شرعياً[66] .

مع هذا فسواء صحت الرواية أم لم تصح فمن الممكن اليوم التحقق من القضية بفضل الامكانات العلمية الحديثة، فيُحكم على ضوء نتائجها، ويقدم ذلك على البيان الشرعي الوارد في الرواية، ولا يلتفت إلى ما يقال بأن ذلك ليس طريقاً شرعياً، باعتباره يجعل من الشرع منافياً لحقيقة الواقع، مع أن كل ما ينافي الأخير يعتبر باطلاً.

ومثل ذلك الروايات المتعارضة التي تتحدث عن تحديد خروج الحيض والقرحة إن كان من الأيمن أو الأيسر[67]، حيث يقدم عليها ما يثبته علم الطب.

وعلى هذه الشاكلة يقدّم الواقع على الرأي الفقهي. فمثلاً في المسألة التي تقول أنه لو اختلف الزوجان في الدخول، فقالت الزوجة بالادخال، وانكر الزوج ذلك، لتثبت ان لها حق الامتناع عنه حتى تقبض معجل مهرها، وهو لكي يسقط عنه نصف المهر بالطلاق، وهي لتثبت المهر كاملاً ونفقة العدة[68] . فمع اختلاف الرأي بين الفقهاء في أي منهما يعول عليه؛ فإن للواقع اليوم ان يحسم القضية ليثبت صحة دعوى الدخول أو الانكار، وذلك عن طريق الفحص الطبي. وبذا يكون الواقع مقدماً على الرأي الفقهي. كما يقدم على الآراء الفقهية التي تحدد مدد الحمل عند الشك، فبعضها يرى ان اقصاه سنتين، واخر اربع سنين، وثالث خمس سنين، وهو أمر تترتب عليه العديد من الأحكام، لكن من حيث الفحص الطبي يمكن ان يُكشف عن الحمل أو المولود إن كان يعود إلى الزوج بعد الفراق أو لا؟

وكان من بين القوانين المدنية المعمول بها في مصر قانون رقم 25 لسنة 1929م، وهو يمنع سماع دعوى النسب لأي معتدة من وفاة أو طلاق، إن جاءت بالولد لأكثر من سنة شمسية (365 يوماً). وبني ذلك على تقرير الأطباء ان الولد لا يمكث في بطن امه أكثر من هذه المدة[69] .

 

11ـ للواقع قدرة على التحقق من الحالات الموضوعية التي يشترطها الفقهاء للفتوى، إن كانت صادقة أم كاذبة. فمن الممكن - مثلاً - اجراء الفحص على التقسيم الذي احدثه جماعة من فقهاء الإمامية حول التمايز في سن اليأس بين القرشيات والعاميات[70] . فما زال الفقه الإمامي يتبنى هذا التقسيم ويفرق جوهرياً في جانب من التركيب الطبيعي للخلقة بين المرأة القرشية والعامية، إذ يجعل من مدة اليأس لدى الأولى أطول من الأخرى بمقدار لا يزيد عن عشر سنين[71] . كما الحق المفيد بالقرشيات النبطية، وتبعه في ذلك جماعة من الفقهاء، لكن على حد قول الشهيد الثاني أنه ليس هناك خبر مسند لهذا الالحاق[72] .

ومع أن هذا الإعتقاد يعد غريباً باعتباره يضع فارقاً فريداً لنوع الجنس البشري تبعاً للنسب الديني أو العرقي؛ الا ان تاريخ الفقه يشهد غياباً تاماً لأي تحرٍّ قام به العلماء لفحص الواقع والتأكد من القضية إلى يومنا هذا. وربما يكون الفقيه المعاصر الخوانساري (المتوفى سنة 1405) الوحيد الذي شكك بهذا التمييز من حيث الواقع، إذ اعتبر امزجة القرشيات مقاربة لأمزجة غيرهن، سيما في الأزمان المتأخرة[73] . لكن في جميع الأحوال أن من السهل القيام بمسح اجتماعي وإختبار عينة مختلطة من العاميات والقرشيات؛ ليتبين إن كان هناك فارق ملحوظ فيثبّت في كتب الفقه، أم لم يكن فيزال منها بتسقيط الروايات التي يرتكز عليها الإعتقاد المذكور؟

وشبيه بذلك ما زعمه الماوردي بوجود ‹‹الولادة بلا دم في نساء الأكراد كثيراً››[74]. وهو زعم يقبل الفحص والاختبار، إذ قد تكون أسباب ذلك - لو صح الزعم - راجعة للظروف الطبيعية من العيش في الجبال، أو غيره من الأسباب، خلافاً للتمييز الحاصل بين القرشيات وغيرهن، إذ من الصعب تفسيره - على فرض صحته - طبقاً للأسباب والظروف الطبيعية.

 

12ـ للواقع سعة في ترجيح الفتوى على نظيرتها بالإستناد إلى حجم الموافقة معه. ويحضرنا بهذا الصدد الخلاف الدائر حول ثبوت الولاية على تزويج البكر الصغيرة. إذ اختلف الشافعي مع ابي حنيفة في ذلك. فكان ابو حنيفة يقدر ان المصلحة من ثبوت الولاية هي لدفع الضرر عن القاصر عقلها، ومنشأ هذا القصور هو صغر السن. لهذا يقاس على البكر الصغيرة؛ الثيب الصغيرة لاتحاد المناط من مظنة القصور لصغر السن. لكن في القبال ذهب الشافعي إلى أن تقدير المصلحة في ثبوت ولاية التزويج على البكر الصغيرة هو لدفع الضرر عن الجاهلة بأمور الزوجية، وينشأ هذا الجهل بسبب البكارة أو عدم السابقة في الزواج. لهذا يقاس على البكر الصغيرة البكر الكبيرة ايضاً[75] .

ويلاحط ان الملاك الذي يتحرك من خلاله كل من ابي حنيفة والشافعي هو ملاك دفع الضرر الناشئ عن قصور الجهل فيما يتعلق بامور الزوجية. ومن حيث الواقع نرى ان تحقيق هذا الغرض يتم عبر الخبرة والممارسة الحياتية، سواء كانت هذه الخبرة مباشرة كما في فعلية الزواج، أو غير مباشرة بسبب بلوغ مرحلة الرشد والوعي. وبالتالي فمن حيث الواقع وتحقيق الملاك ان ما يقوله كل من ابي حنيفة والشافعي لا يخلو من صحة. ومن حيث المبدأ تكون الحاجة للولاية منحصرة في حالة البكر الصغيرة فحسب. أما الكبيرة فلا تحتاج لذلك خلافاً للشافعي، وربما الثيب الصغيرة لا تحتاج لتلك الولاية هي الأخرى خلافاً لابي حنيفة.

***

هكذا يتبين أثر الواقع ودوره في تحديد ما تحمله الفتوى من صور الصدق والموافقة والاتساق أو معارضاتها، كإن يثبت الفحص الواقعي بأن الفتوى نسبية تتلائم مع بعض الظروف، أو هي باطلة لا أصل لها، أو أنها ليست سليمة ما لم تتضمن بعض الشروط من المخصصات أو المقيدات... الخ. هذا بالإضافة إلى أهمية الواقع في مجال إدراك الأحكام وتجديد النظر فيها أو تغييرها استناداً إلى هدي المقاصد الشرعية.

 

 

الواقع ومبدأ الموافقة

 

إن ما أشرنا اليه من نماذج لأثر الواقع على ضبط الفتوى يدعو إلى ضرورة تأسيس خطوات اجرائية تحقق المصالحة بين الحكم والواقع دون الاسقاطات الجاهزة التي تمارسها طريقة الإجتهاد التقليدية. فهناك مرحلتان اجرائيتان يتحقق خلالهما معرفة العلاقة الجدلية بين الطرفين، احداهما قبلية والاخرى بعدية، وذلك كالاتي:

 

1 ـ المرحلة القبلية

 

تتحدد هذه المرحلة بخطوتين أساسيتين تسبقان ممارسة تنفيذ الحكم وتطبيقه، تتعلق إحداهما بدراسة الحكم واختباره من حيث ذاته قبل تنزيله إلى الواقع، وذلك بلحاظ ما يحمله من قوة تشريعية للتطبيق الفعلي، وكذا ما يتوقع له من قابلية استشرافية على الصمود والإتساق مع الواقع. أما الخطوة الأخرى فتتعلق بدراسة الواقع والتعرف عليه عن كثب.

وتكتسب هذه العملية من دراسة الواقع أهمية خاصة لإعتبارين؛ أحدهما أن بها يمكن الاهتداء إلى تحديد موضوع الحكم بدقة، وهي مشكلة باتت مقررة لدى الفقهاء اليوم، فبدونها يصعب تحديد الحكم المناسب ومعرفته، حتى أن بعض القدماء كان يشكو من العجز عن التجاوب في تأسيس الأحكام للحالات المصداقية موضع الإبتلاء، خلافاً للتأسيس النظري الكلي المنعزل عن لحاظ الواقع، والذي يكتفي بممارسة عملية الاستنباط أو الإجتهاد من المصادر النظرية المعتبرة. أما الإعتبار الآخر فهو لأجل معرفة أُفق التوقع التي يحملها الواقع لإمكانية التعايش وتقبّل الحكم المراد تنزيله اليه. والفائدة من ذلك هي تجنب ما قد تفضي اليه عملية التنفيذ من فشل وما قد ينجم عن ذلك من أضرار وإحباط.

وعموماً إن القيام بالمسح القبلي الآنف الذكر يتصف بالأمور التالية:

1 ـ إن المرحلة القبلية تتضمن خطوتين إجرائيتين تكمل إحداهما الأخرى. فالواقع بحاجة إلى حكم، ولا فائدة من هذا الأخير بغير الأول. لذا لا يصلح إناطة أحدهما بالآخر ما لم يتم التحقق من الإمكانات الذاتية لكل منهما؛ ليتم القِران بينهما بمودة وسلام.

2 ـ لمعرفة الواقع يؤخذ بنظر الاعتبار دراسة الموضوع قيد البحث. كما يؤخذ بعين الاعتبار معرفة الروح العامة للعصر التي يتأثر بها الموضوع المشار اليه. مضافاً إلى البحث الاستشرافي لتوقع ما سوف يفضي اليه حال الواقع، إذ أن لذلك أهمية لتقدير الأحكام المناسبة، وما يمكن ان يؤول اليه الحال عند التنفيذ والتطبيق، كإستراتيجية تهدف إلى الضمان المستقبلي كما يلوح في الأُفق قدر الامكان. لذا تبدو الحاجة ماسة لتوظيف العلوم الإنسانية لتحقيق هذه المطالب.

3 ـ قد تتسع دراسة الواقع وقد تضيق طبقاً لطبيعة الحالة المرهونة بالبحث. فلا شك ان الحالات الفردية الخاصة لا تتطلب نفس القدر الذي تتطلبه الحالات العامة من الدراسة. وقد يقتضي الأمر ان يكون البحث مستوعباً للمظاهر التاريخية التي تتشكل فيها الظاهرة قيد الدراسة وما يستتبعها من تطورات وتحولات. فلو أردنا - مثلاً - اختبار مبدأ من المبادئ السياسية للتعرف على مدى صلاحيته ووفاقه مع الواقع، كمبدأ الشورى أو ولاية الفقيه أو التعددية الديمقراطية أو غيرها من المبادئ، فإن ما يلزم ليس فقط لحاظ الواقع الخاص الذي يراد تطبيق المبدأ عليه، بل لحاظ التجارب السياسية التي مرت بها البشرية عبر التاريخ ايضاً. إذ أن ذلك يساعدنا على تقليص الممارسات الخاطئة أو تجنبها عند التطبيق تحت ظل التجربة الجديدة.

قد لا يرى البعض حاجة للحاظ الواقع ودراسته إذا ما ثبتت حجية المبدأ المراد تطبيقه. ولعل أقرب تمثيل لهذه الدعوى هو مبدأ الشورى، فالنظر في مقومات هذا المبدأ، سواء من حيث ذاته أو من حيث الإعتبار الشرعي، ينبئ بصلاحه للتنفيذ. فمن حيث الإعتبار الشرعي ان القرآن الكريم نصّ عليه صراحة، كما أن السنة النبوية ومن بعدها الخلافة الراشدة قامتا بتطبيقه على أكثر من صعيد. أما من حيث المبدأ ذاته، ففحصه يجعلنا ندرك أنه مبدأ صحيح وصالح للحياة، سواء الخاصة منها أو العامة. فاستشارة الجماعة يزيد المعرفة والإحاطة والتنبه. وبالتالي فطالما كان المبدأ مستحسناً ومقبولاً، ولو لم نختبره الاختبار المباشر مع الواقع، فذلك يفي بإقراره وصلاحه للتطبيق دون حاجة لبذل الجهد بدراسة الواقع.

ومع أن الرؤية في المبدأ ذاته تعد صحيحة، لكنها لا تكفي، بل لا بد من لحاظ طبيعة ما عليه الواقع موضع التطبيق. فرغم شرعية المبدأ وعقلانيته، الا ان ذلك لا يضمن نجاح تطبيقه على الواقع عند الاسقاط. فعلى الأقل ينبغي أن تتصف الأرضية المناسبة لنجاح هذا المبدأ بقدر كاف من الحرية والجرأة والوعي. فالمجتمع الذي يفتقر لمثل هذه المقومات قد لا يستسيغ ذلك المبدأ، وقد يكون من المناسب اخضاعه لسلطة تتصف بقدر ما من التفرد والاستبداد، وليس العيب في الشورى وانما في الواقع ذاته.

وعموماً إن الإلتزام المطلق بالمبادئ المعلنة، مثل الشورى وولاية الفقيه والسلفية والديمقراطية والليبرالية والماركسية وغيرها من المبادئ؛ هو إلتزام متعال لا يأخذ الواقع بنظر الاعتبار. فنحن إما أنصار هذه أو تلك دون أن نسأل أنفسنا عن مدى موافقة ذلك للواقع المراد تطبيق المبدأ عليه؟

ويمكن القول ان الإسلام ما كان له ان يحقق النجاح لولا مراعاته للواقع وتوفيره لشروط التفاعل والجدل معه، كما يتبين من موارد النسأ والنسخ والتدرج في الاحكام. وبالتالي كيف يُعقل التعويل على نظام مطلق أو مبدأ شمولي ليطبق على جميع المجتمعات دون أخذ اعتبار الخصوصيات الذاتية لها؟ فمثلاً لنتصور حجم الفارق فيما لو طبقنا نظاماً سلفياً على المجتمع الغربي، وطبقنا في قباله نظاماً غربياً على المجتمع الإسلامي الملتزم، فكيف تكون النتيجة والحال هكذا؟!

وعليه كان اصلاح الواقع هو أهم ما ينبغي فعله، فلا بد من حقنه بجرعة من الأحكام المناسبة. إذ يمكن تصوير الواقع بالكائن الحي وهو يمر بمراحل وحالات مختلفة، كالطفولة والبلوغ والصحة والمرض والنشاط والخمول والقوة والضعف والنمو والذبول وغيرها. ولا شك أنه ليس من المعقول حقن هذه الحالات المختلفة بصنف واحد من جرعات الدواء والغذاء، والا فقد الكائن حياته. فمثلاً لو كان الكائن صحيحاً معافى فسوف لا يحتاج إلى دواء، والا انقلب الدواء إلى داء. ولو كان الكائن مريضاً فلا غنى له عن نوع من الدواء يناسب المرض. وبالتالي فأول ما يحتاج اليه الكائن هو الفحص لتشخيص حالته وتقديم ما يناسبه من علاج.

4 ـ من الناحية المنطقية ان المسح القبلي السالف الذكر لا يتحقق تبعاً للقيود والشروط التي تفرضها العقلية التقليدية من الفهم الإجتهادي، وهي العقلية التي تتخذ النهج الماهوي وقوالب اللزوم والاطلاق محوراً جوهرياً لمنظومتها الفكرية. فالحال الذي ذكرناه لا يتسق الا مع التسليم سلفاً بالنهج الوقائعي والطابع الارشادي بعيداً عن الصيغ الماهوية من التعبد والاطلاق.

هكذا تتبين أهمية خطوة المسح القبلي التي يتم فيها التعريف والتحقيق بكل من الحكم والواقع قبل عملية المزاوجة. أما بعد هذه العملية فهناك خطوة أخرى متممة كالآتي..

 

2 ـ المرحلة البعدية

 

تستهدف هذه المرحلة الكشف عما يحصل من علاقة جدلية بين الحكم والواقع. فهي خطوة فحص غرضها الكشف عن حجم الموافقة والمعايشة بين الطرفين المتزاوجين، وتتجلى فائدتها في البحث عن الحد الذي يتحقق فيه أكبر قدر ممكن من الموافقة. ففي حالة ضعف التوافق وانعدامه يمكن البحث عن مصادر الخلل والأسباب التي تقف وراءه لتجنبها، فهل يعود الأمر إلى الواقع، أو إلى الحكم، أم لسوء التطبيق؟

وتتصف هذه الاستراتيجية بإبتعادها عن اشكالية ‹‹الحجية›› التي تعول عليها الطريقة التقليدية كمحك للقبول والاعتبار. إذ تتأسس الإشكالية الجديدة على النهج الإجرائي بما يتضمن الفحص الذي يحقق مبدأ القبول وعدمه تبعاً للموافقة. فالقبول وعدمه لدى الطريقة التقليدية يتوقف عند صيغة البحث الاستنباطي الذي يكشف عن المسوغ الشرعي وسلامته الفقهية، وهو ما يطلق عليه الحجية، في حين أن الأمر بحسب الاستراتيجية الجديدة شيء مختلف. صحيح أنه لا بد من احراز عدم الممانعة الشرعية بالشكل المرن الذي لا يتضارب مع الواقع ومرونته، لكن ذلك لا يكفي ما دامت المسألة متعالية يُحتمل لها الإصطدام بالواقع عند الاسقاط والمزاوجة. لذا كان لا بد من انتهاج استراتيجية أخرى تبتعد عن الصورة الأصولية التقليدية التي ترمي شباكها بغية احراز الحجية فحسب. فبنظرها أنه لو تحققت الحجية لإجتازت بذلك قنطرة الفحص والإختبار، وبالتالي جاز لها دخول حلبة الواقع بلا رقابة أو محاسبة. مع أن جوهر القضية يعود إلى اشكالية الموافقة مع الواقع وسلامة المزاوجة بين الطرفين، لا البحث المتعلق بالحجية والظنون المناطة بها. فليس كل ما هو حجة يقبل الموافقة دائماً، وإلا فكيف نفسر حالات الصدام التي تعرضت لها الكثير من الأحكام عند تنزيلها إلى الواقع؟! وهو ما جعل الفقهاء المحدثين في حيرة من أمرهم، فتراهم تارة يعتذرون بدعوى الضرورة والإضطرار، وأخرى بدعوى لزوم التدرج في الأحكام والعمل طبقاً للأولويات، وثالثة بإلفات النظر لضرورة التحقيق في موضوعات الأحكام، وغير ذلك من الدعوات التي تخلو من العلاج الحقيقي للمصالحة بين الحكم والواقع، سيما عند أخذ اعتبار ما يمر به الواقع من حالات وأطوار مختلفة كتلك التي صورناها لدى الكائن الحي. وهو ما يبرر النظرية التي طرحناها حول مبدأ الموافقة وما يتضمنه من مرحلتين اجرائيتين من الفحص والاختبار.

يبقى أننا استخدمنا مفهوم الموافقة عوضاً عن مفاهيم أخرى؛ كالمطابقة والتأييد والقابلية على التحقق والنجاح وما اليها. ويعود ذلك إلى نسبية مفهوم الموافقة بما يتسق والحالة التي نعالجها في ظل الأوضاع الاجتماعية وملابساتها. فقد تقوى الموافقة وتضعف، أو تزداد وتنقص، كما قد تتحقق في جوانب دون أخرى للقضية الواحدة، وقد يبدو عليها شيء من الأهمية في بعض الجوانب أو العكس. لذلك فإجراء هذا المبدأ في مثل هذه الصور يختلف عما يجري في القضايا العلمية الطبيعية التي يطبّق عليها مبدأ القابلية على التحقق والتأييد والتكذيب وما إلى ذلك.

أخيراً لسنا بحاجة للتذكير بأن الفقهاء مطالبون بصياغة قانونية لمبدأ الموافقة ضمن المطارح الأصولية، شرط تبني هذه الرؤية الجديدة من الفهم الوقائعي، بدل الحفاظ على النهج السائد من الفهم الماهوي المتعال!

***

هكذا نخلص إلى أن للدلالة الواقعية أهميتها في الكشف عن مقاصد الأحكام وتغييرها. الأمر الذي يفضي إلى اتخاذ الواقع معياراً لإختبار الأحكام طبقاً للموافقة والمخالفة، وبالتالي فلا بد من توظيف الدراسات الإنسانية الحديثة للكشف عن حقائق الواقع وسننه وحاجاته، ومن ثم الاستفادة منها ليكون التشريع والإجتهاد عقلانيين، وبغير ذلك ينقلب الأمر إلى ضده.

كما نخلص إلى ان عرضنا السابق يكشف لنا عن ثغرتين أساسيتين لحقتا بطريقة الإجتهاد التقليدية، كالتالي:

 

الثغرة الاولى:

طبقاً للنهج الماهوي الذي استندت اليه الطريقة التقليدية، أصبحت الأحكام متعالية، بل ومتعارضة مع الواقع ومتنافية مع مقاصد الشرع. إذ أبعدت الواقع عن أن يكون له أثر على تشكيل الأحكام، باستثناء بعض الموارد الهامشية، مما عرّضها للعديد من الصدمات وفقاً لتحولات الظروف وتغيراتها.

هكذا يتحدد الخلل بعدم أخذ الدلالة الواقعية بعين الإعتبار، وذلك لما تشكله هذه الدلالة من وساطة للتوفيق بين الأحكام ومقاصدها الكلية. وبالتالي كان لا بد من ايجاد مؤسسات للعلوم الإنسانية تُعنى بتحديد الموضوعات التي تناط بها الأحكام، وعندها سنشهد موضوعات جديدة لا مثيل لها في السابق، وإن بدت وكأنها ذات الموضوعات التي تعلّق بها الخطاب الشرعي.

 

الثغرة الثانية:

بقدر ما ركزت الطريقة التقليدية على الجزئيات من التشريع بقدر ما ابعدت حالها عن النظر إلى كليات التشريع المعارضة. فتزاحم جزئيات الأحكام قد أفضى إلى عدم الإلتفات للكليات العامة.

ويبدو أن هذه الحالة تنطبق على أغلب الذين يحصرون تفكيرهم وسط تزاحم الجزئيات في مختلف المعارف الإنسانية، بما فيها العلوم الطبيعية. مع أن التعارض بين الكلي والجزئي يفترض على الأقل بطلان أحدهما، ولما كان من غير المعقول التخلي عن الكلي لضرورته، فإن البطلان سيطال الجزئي، وهو ليس بطلاناً مطلقاً بالضرورة، بل قد يتصف بالنسبية تبعاً لطبيعة العلاقة مع الواقع، ومنه الواقع النسبي. فالجزئي إما أن يكون باطلاً على نحو مطلق، أو باطلاً لوضع ما من الواقع دون آخر. ويشبه هذا الحال ما يحصل من تعارض أحياناً بين النظريات العلمية ككليات مسلّم بها، وما يعترضها من شذوذ في المصاديق. ففي هذه الحالة إما أن تكون النظرية خاطئة، أو لأن المصداق يخضع لظروف خاصة فيحتاج إلى تفسير يجعله يتسق مع النظرية، على فرض أن للمصداق حقيقة لا تنكر. لكن ليس من السهل التخلي عن النظرية إن كانت مدعمة بشواهد كثيرة مقنعة، ما لم تكن هناك نظرية أخرى لها قدرة تفسيرية أوسع من الأولى. لذلك فالأصلح هو تفسير حالة الشذوذ عبر وضع بعض الإفتراضات وفقاً لما عليه النظرية، طالما ان الخطأ يُفترض في أحدهما، وأنه لا توجد نظرية أخرى اوسع شمولاً واكثر قدرة على تفسيره.

فمثلاً لم يرفض العلماء نظرية نيوتن في الجاذبية عندما وجدوا التقادير الأولية التي وضعها بشأن حالات كسوف القمر غير صحيحة. كما أنهم لم يطروحها أرضاً رغم فشلها في تفسير حركة عطارد وشذوذه. فقد اكتشف الفلكي (لفيريار) انحراف حركة كوكب عطارد عن مداره المتوقع نظرياً، ومثلما هو الأمر في حالة يورانوس؛ حاول هذا العالم توضيح الانحراف كنتيجة من السحب الجذبي من كوكب لم يتم اكتشافه والعثور عليه، إذ افترض أنه يقع بين عطارد والشمس، وأنه صغير الحجم جداً وذو كثافة عالية. لكن توضح فيما بعد أن الكوكب المفترض غير موجود، وأنه أمكن تفسير ذلك الانحراف تبعاً لنظرية النسبية العامة لاينشتاين[76]، وأنه قد انقضت عدة عقود على قبول هذا الشذوذ حتى أُعتبر شاهداً مكذباً للنظرية، سيما بعد ظهور نظرية اينشتاين كمنافس استطاع تفسير كل ما فسرته نظرية نيوتن، بل وتجاوزها في توضيح ما لم تستطع تفسيره من الشذوذ.

وقد أصبح من المعروف أنه يمكن للنظرية أن تبقى مقبولة حتى لو كان هناك دليل يكذبها، طالما لديها قوة تفسيرية كافية في النواحي الأخرى[77]. وكما يقول (همبل) فإن هناك شواهد عديدة في العلم تبين بأن التصادم بين النظرية التي تتمتع بقوة عالية للتأييد مع قضية تجريبية إنما يحل من خلال إلغاء اعتبار هذه القضية بدلاً من التضحية بالنظرية[78]، وذلك تبعاً لما تتمتع به هذه الأخيرة من قدرة تفسيرية عالية لعدد من المجالات. أما الحالة التي تكون فيها النظرية مفردة أو ضيقة لا تستوعب المجالات المختلفة؛ فإنه يضحى بها عندما تتضارب مع الشواهد الخارجية. وبالتالي فإن ترك العلماء للنظرية التي تمتاز بالتأييد والتعميم العالي لا يحصل بسبب معارضتها للحقائق الخارجية، بل لكونها مرجوحة بالقياس إلى غيرها من النظريات المنافسة الأخرى.

وبعبارة أخرى، إن النظرية المفردة البسيطة تحكمها الحقائق الخارجية وهي قابلة للتفنيد والاستبدال طبقاً لهذه الحقائق، خلافاً للنظرية ذات التأييد العالي؛ باعتبارها هي التي تحكم الحقائق الخارجية من خلال تفسيرها، وعند التعارض بينها وبين بعض من هذه الحقائق؛ فإن الرفض يكون لهذا البعض واعتباره شاذاً وغريباً[79].

وعلى هذه الشاكلة يصدق الأمر عندما نجد معارضة بين الكلي والجزئي من الأحكام، حيث لا يعقل طرح الكلي لأجل التمسك بالجزئي إن لم يوجد منافس آخر للكلي المعلوم، إنما المعقول هو تفسير الجزئي بما يجعله متفقاً مع الكلي، وبهذا يُحافظ على كليهما عبر وساطة الدلالة الواقعية، كما هو واضح مما أوردناه من نماذج وأمثلة. لذلك قال الشاطبي: ‹‹إذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية، ثم اتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة، فلا بد من الجمع في النظر بينهما، لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي الا مع الحفظ على تلك القواعد، اذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الاحاطة بمقاصد الشريعة.  فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بالغاء ما اعتبره الشارع، واذا ثبت هذا لم يكن ان يعتبر الكلي ويلغى الجزئي››[80] .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1] انظر: زين الدين العاملي: شرح اللمعة، ج10، ص237. ومسالك الافهام، ج15، ص436. والهندي: كشف اللثام، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم، الطبعة الاولى، 1416هـ، المعجم الفقهي الالكتروني، ج2، ص508. وجواهر الكلام، ج43، ص271. وفقه الإمام جعفر الصادق، ج6، ص367.

[2] رأى الفقيه المعاصر المرحوم السبزواري أن سكوت القدماء عن بحث مسألة المتنجس يعود إلى أنهم لم يفرقوا بينها وبين النجاسات العينية في الحكم، كما يظهر لدى المتشرعة، مما جعله يؤيد الاجماع على نجاسته، وكما قال: ‹‹الأقوى أن المتنجس منجس كالنجس››، ثم علق على ذلك معتبراً ان الحكم السابق جاء وفاقاً للمشهور ‹‹بل المجمع كما ادعاه جمع كثير، واجماع المسلمين، بل الضرورة كما في المستند والجواهر، وتقتضيه مرتكزات المتشرعة ايضاً، ولعل عدم تعرض الطبقة الأولى له كان لاجل اكتفائهم ببيان أحكام النجس عنه، لأنه كان كعين النجس لديهم، كما هو كذلك لدى المتشرعة فلا يفرقون بين الدم والمتنجس به في الاحكام. والمناقشة في مثل هذا الاجماع بانه إجتهادي، وليس بتعبدي›› (المهذب، مؤسسة المنار، ج1، ص448).

[3] فقه الإمام جعفر الصادق، ج1، ص42ـ43.

[4] نقل رشيد رضا ما قاله الراغب الأصفهاني، وهو أن النجاسة هي القذارة، وهي ضربان: ضرب يدرك بالحاسة، وضرب يدرك بالبصيرة. والثاني مثلما وصف الله المشركين فقال: ((إنما المشركون نجس)). ويقال نجسه اذا جعله نجساً، ونجسه أيضاً: أزال نجسه، ومنه تنجيس العرب، وهو شيء كانوا يفعلونه من تعليق عوذة على الصبي ليدفعوا عنه نجاسة الشيطان، والناجس والنجيس: داء خبيث لا دواء له (الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، دار القلم، دمشق، عن شبكة المشكاة الالكترونية، ج2، مادة نجس). ونقل قول البعض: ومن المجاز: الناس أجناس، وأكثرهم أنجاس، ونجسته الذنوب، وتقول: لا ترى أنجس من الكافر، ولا أنجس من الفاجر. ثم ذكر يقول: ‹‹هذا هو الحق الظاهر، وما أفك عنه من أفك الا بتحكيم الاصطلاحات الفقهية وغيرها في استعمال اللغة الفصحى التي نزل بها القرآن، ومن الغريب أخذ الرازي الشافعي المذهب بالقول الشاذ المخالف للحس واستعمال اللغة في نجاسة المشركين بعد بيان الشافعي العربي وأصحابه لبطلانه، وقد اتبعه الآلوسي في ذلك على سعة اطلاعه في الفقه واللغة، وكان شافعياً ثم صار مفتياً للحنفية. وما أطلت في هذا البحث اللغوي الا لتفنيد رأيهما حتى لا يغتر به أحد في هذا العصر الذي صار فيه الكثيرون من الشعوب غير الإسلامية أشد عناية من المسلمين بالنظافة التي جعلها المقلدون أحكاماً تعبدية يكابرون فيها الحس واللغة والقياس وحكمة الشارع، ويوقعون مقلديهم في أشد الحرج في السفر وفي عداوة البشر.. وقد اتبع القائلون به سنن بعض وثني الهند وبعض متعصبي النصارى الذين يعدون كل من لم يعتمد نجساً››. في حين على حد قوله: إن معنى النجس في عرف الفقهاء هو ما يجب التطهير لما يصيبه، سواء كان قذراً في الحس كالبول والغائط، أم لا كالخمر والخنزير والكلب عند من يقول بنجاسة أعيانها وهم الأكثرون. ومن ثم قال بعضهم بنجاسة أعيان المشركين ووجوب تطهير ما تصيبه أبدانهم مع البلل. وحكي هذا القول عن ابن عباس والحسن البصري ومالك وعن الهادي والقاسم والناصر من أئمة العترة، وهو مذهب جمهور الظاهرية والشيعة الإمامية. وجمهور السلف والخلف على خلافه ومنهم أهل المذاهب الأربعة (تفسير المنار، ج10، ص272ـ275).

[5] تفسير المنار، ج10، ص273.

[6] محمد باقر الصدر: بحوث في شرح العروة الوثقى، مصدر سابق، ص242.

[7] حوار مع السيد محمد حسين فضل الله، مجلة قضايا اسلامية، عدد4، ص137.

[8] انظر حول ذلك: أحمد النراقي: مستند الشيعة في أحكام الشريعة، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، مشهد، الطبعة الاولى، 1415هـ، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج10، ص112 وما بعدها.

[9] النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، ص198ـ202. كذلك: جواهر الكلام، ج16، ص165ـ169.

[10] الحدائق الناضرة، ج12، ص438.

[11] المفيد: المقنعة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم، الطبعة الثانية، 1410هـ، ص285ـ287. كذلك: ابن البراج الطرابلسي: جواهر الفقه، تحقيق ابراهيم بهادري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، الطبعة الاولى، 1411هـ، المعجم الفقهي الالكتروني، ص269.

[12] محمد باقر السبزواري: ذخيرة المعاد في شرح الارشاد، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج3، ص491. والحدائق الناضرة، ج12، ص321. ومستند الشيعة، ج10، ص128. ومحمد صادق الروحاني: فقه الصادق، ج7، ص508.

[13] مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج10، ص129. والحدائق الناضرة، ج12، ص443.

[14] الحدائق الناضرة، ج12، ص437 وما بعدها.

[15] مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج10، ص127ـ129.

[16] محمد بن مكي العاملي: الدروس الشرعية في فقه الإمامية، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم، الطبعة الاولى، 1412هـ، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج1، ص262.

[17] الكركي: جامع المقاصد، مؤسسة آل البيت، قم، الطبعة الاولى، 1411هـ، المعجم الفقهي الالكتروني، ج8، ص213. 

[18] مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج10، ص129. والمقصود بالخوانساري هو إما آقا حسين الخوانساري (المتوفى سنة 1099هـ) أو محمد الخوانساري (المتوفى سنة 1125).

[19] الحدائق الناضرة، ج12، ص440ـ441.

[20] ذخيرة المعاد في شرح الارشاد، ج3، ص491.

[21] فقد قال ابو صلاح: ‹‹يجب على كل من تعين عليه فرض زكاة أو فطرة أو خمس أو انفال ان يخرج ما وجب عليه من ذلك إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبله سبحانه، أو إلى من ينصبه لقبض ذلك من شيعته ليضعه مواضعه، فإن تعذر الأمر فالى الفقيه المأمون، فإن تعذر أو آثر المكلف تولى ذلك نفسه››. ثم قال: ‹‹ويلزم من وجب عليه الخمس اخراجه من ماله وعزل شطره لولي الأمر انتظاراً للتمكن من ايصاله اليه، فإن استمر التعذر اوصى حين الوفاة إلى من يثق بدينه وبصيرته ليقوم في اداء الواجب مقامه›› (الكافي في الفقه، ص172 و173). وواضح ان الجمع بين العبارتين الانفتي الذكر تفترض ان المقصود بالخمس في العبارة الأولى هو الشطر الآخر الخاص بفقراء الهاشميين غير حصة الإمام.

[22] شرائع الإسلام، ج1، ص138. كذلك: تحرير الأحكام، نشر مؤسسة آل البيت، طبعة حجرية، مشهد، المعجم الفقهي الالكتروني، ج1، ص75.

[23] والشروط هي: العلم بالحق في الحكم المردود اليه، والتمكن من امضائه على وجهه، واجتماع العقل والرأي وسعة الحلم والبصيرة بالوضع، وظهور العدالة والورع والتدين بالحكم، والقوة على القيام به ووضعه مواضعه. واعتبر الحلبي ان من تكاملت فيه هذه الشروط فقد أذن له في تقلد الحكم وإن كان مقلده ظالماً متغلباً، حيث أنه نائب عن ولي الأمر في الحكم ومأهول له لثبوت الاذن منه. وقد تكررت ذات هذه الشروط لدى ابن ادريس الحلي (انظر: ابو صلاح الحلبي: الكافي في الفقه، تحقيق رضا استادي، نشر مكتبة امير المؤمنين، اصفهان، 1403هـ، المعجم الفقهي الالكتروني، ص421ـ423. والسرائر، ج1، ص538.

[24] مسالك الافهام، ج1، ص476.

[25] مدارك الأحكام، ج5، ص427

[26] الحدائق الناضرة، ج12، ص438ـ439 و443. وذخيرة المعاد في شرح الارشاد، ج3، ص492. وكفاية الأحكام، ص43.

[27] ذخيرة المعاد في شرح الارشاد، ج3، ص492.

[28] مستند الشيعة، ج10، ص131.

[29] الخوئي: كتاب الخمس، ضمن مستند العروة الوثقى، تحرير مرتضى البروجردي، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص325. كذلك: التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الإجتهاد والتقليد، ص424ـ425.

[30] الزرقاء: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، ج1، ص175-176. وابن سلام: الأموال، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، الطبعة الاولى، 1981م، ص31. وابن رشد (الجد): البيان والتحصيل، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1404هـ ـ1984م، ج17، ص514.

[31] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج29، ص211.

[32] شرائع الإسلام، مصدر سابق، ج3، ص271-272. وفقه الإمام جعفر الصادق، ج5، ص44. وحسين علي منتظري: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، نشر المركز العالمي للدراسات الإسلامية، إيران، الطبعة الثانية، 1409هـ، ج3، ص190-191.

[33] فقه الإمام جعفر الصادق، ج5، ص44-45.

[34] وسائل الشيعة، ج9، كتاب الخمس، باب اباحة حصة الإمام من الخمس للشيعة.. وجواز تصرف الشيعة في الانفال والفيء، ص543 وما بعدها، حديث17 وحديث4.

[35] دستور الجمهورية الإسلامية في ايران، المادة الخمسون، ص39.

[36] النهاية للطوسي، ص197. وشرائع الإسلام، ج1، ص179.

[37] دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج3، ص118.

[38] دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج3، ص28ـ29، وص106 وما بعدها.

[39] فرائد الاصول، ج2، ص538ـ539.

[40] محمد باقر الصدر: لا ضرر ولا ضرار، ص345ـ346، و383 وما بعدها.

[41] دستور الجمهورية الإسلامية في ايران، المادة الخمسون، ص40.

[42] وسائل الشيعة، ج12، كتاب النكاح، باب استحباب الاستيلاد وتكثير الاولاد، حديث8، ص357. ومثله حديث14، ص358.

[43] التنقيح، كتاب الإجتهاد، مصدر سابق، ص427.

[44] انظر: الأحكام السلطانية، ص9. والاشباه والنظائر، ص556.

[45] الأحكام السلطانية، ص6.

[46] الأحكام السلطانية، ص6.

[47] النوبختي: فرق الشيعة، ص9ـ10. وعبد الكريم الشهرستاني: الملل والنحل، عرض وتعريف حسين جمعة، دار دانية للنشر، الطبعة الاولى، 1990م، ص38 و51 و61.

[48] الانصاف، ص69.

[49] عن: محمد رأفت عثمان: رياسة الدولة في الفقه الإسلامي، دار القلم، الامارات العربية، الطبعة الثانية، 1406هـ ـ1986م، ص195. كذلك: النظريات السياسية الإسلامية، ص233.

[50] مقدمة ابن خلدون، الفصل السادس والعشرون (في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشروطه)، ص344ـ346.

[51] محمد عبد اللطيف المدرس: مشايخ بلخ من الحنفية، الدار العربية للطباعة، بغداد، ج2، ص807.

[52] رياسة الدولة في الفقه الإسلامي، ص216.

[53] رياسة الدولة في الفقه الإسلامي، ص217.

[54] محمد عبد القادر فارس: القاضي ابو يعلى الفراء وكتابه الأحكام السلطانية، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ ـ1983م، ص437.

[55] النظريات السياسية الإسلامية، ص234.

[56] رياسة الدولة الإسلامية في الفقه الإسلامي، ص221 و230.

[57] القاضي ابو يعلى الفراء وكتابه الأحكام السلطانية، ص437ـ439.

[58] انظر: المفيد: النكت الاعتقادية، طبعة طهران. ورسائل المرتضى، ج1، ص327ـ328. وتمهيد الاصول، ص353. وارشاد الطالبين، ص332.

[59] أحمد النراقي: عوائد الأيام، طبعة حجرية (لم يذكر عنها شيء)، ص185 وما بعدها.

[60] روح الله الموسوي الخميني: الحكومة الإسلامية، المكتبة الإسلامية الكبرى، إيران، ص56 وما بعدها.

[61] وأضاف الشيخ ابو زهرة إلى هؤلاء بعضاً من الشيعة. مع أنه اذا كان المقصود من ذلك الإمامية الاثنى عشرية؛ فهو على خلاف أقوالهم الدالة على وجود الاجماع، ومن ذلك ما قرره الشيخ الطوسي في (المبسوط، ج28، ص2) بأنه لا خلاف عليه، ومثله ما قاله ابن ادريس في (السرائر، ج3، ص441)، وكذا العلامة الحلي في (مختلف الشيعة، ج9، ص132)، وصرح الشيخ محمد حسن النجفي بقوله: لا خلاف أجده، بل عليه الاجماع بقسميه (الكلبايكاني: الدر المنضود، تقرير ابحاث الكلبايكاني، تحرير علي الكريمي الجهرمي، دار القرآن الكريم، الطبعة الاولى، 1412هـ، المعجم الفقهي الالكتروني، ج1، ص279). وعلى ما يبدو أنه قصد بعض الشيعة الاسماعيلية.

[62] انظر: ابو زهرة: العقوبة، دار الفكر العربي، ص102 وما بعدها.

[63] نيل الاوطار، ج7، ص243. والفقه الإسلامي وادلته، ج6، ص322ـ326.

[64] فقه الإمام جعفر الصادق، ج2، ص49.

[65] شرائع الإسلام، ج2، ص543. وتحرير الأحكام، ج3، ص519.

[66] مسالك الافهام، ج8، ص131. وقد كرر النجفي ما قاله قبله الشهيد الثاني كما في ( جواهر الكلام، المعجم الفقهي، ج30، ص353). وانظر ايضاً: الحدائق الناضرة، ج24، ص383. ومحمد العاملي: نهاية المرام، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الاولى، قم، 1413هـ، المعجم الفقهي الالكتروني، ج1، ص344. وفقه الإمام جعفر الصادق، ج6، ص137.

[67] وحيد الدين البهبهاني: رسالة الإجتهاد والاخبار، وهي ملحقة خلف عدة الأصول للشيخ الطوسي مع حاشية في الأخير، طبعة حجرية، مطبعة ميرزا حبيب الله، دار الخلافة بطهران، 1317هـ، ص13.

[68] الفقه على المذاهب الخمسة، ص352-353.

[69] ابو زهرة: الأحوال الشخصية، الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الثالثة ، ص392.

[70] توجد ثلاثة أقوال حول المسألة بحسب ما جاء في الروايات، إذ قيل ان سن اليأس يحصل ببلوغ ستين سنة مطلقاً، وقيل ان ذلك يتحقق في القرشية، وألحق البعض بها النبطية، اما العامية فيتحقق ببلوغ خمسين سنة، كما قيل أنه يتحقق مطلقاً ببلوغ الخمسين (جامع المدارك، ج1، ص80). والمعول عليه لدى اغلب الفقهاء هو الرأي القائل ببلوغ القرشيات سن الستين والعاميات سن الخمسين، اعتماداً على رواية مرسلة بهذا الخصوص.

[71] انظر حول ذلك المصادر التالية: المحقق الحلي: المعتبر، مصدر سابق، ج1، ص199. والعلامة الحلي: منتهى المطلب، ج1، ص96. وتذكرة الفقهاء، ج1، ص26. ونهاية الأحكام، تحقيق مهدي رجائي، مؤسسة اسماعيليان، قم، الطبعة الثانية، 1410هـ، المعجم الفقهي الالكتروني، ج1، ص117. وابن فهد الحلي: المهذب البارع، ج3، ص491. والاردبيلي: مجمع الفائدة، ج1، ص144. وكشف اللثام، ج1، ص87. والحدائق الناضرة، ج3، ص172ـ173. ورياض المسائل، ج11، ص124ـ125. والخوئي: كتاب الطهارة، ج6، ص89ـ90.

[72] زين الدين العاملي: روض الجنان، مؤسسة آل البيت، طبعة حجرية، 1404هـ، المعجم الفقهي الالكتروني، ص62. ومسالك الافهام، ج1، ص58.

[73] وقد ناقش ايضاً حول الرواية المرسلة المعتمد عليها في التمييز، وهي مرسلة ابن ابي عمير الذي روى عن الصادق قوله: ‹‹اذا بلغت المرأة خمسين سنة لم ترَ حمرة الا ان يكون امرأة من قريش››. إذ اعتبر ان في النص قول الإمام (لم ترَ حمرة) وهو غير التعبير بعدم الحيض. كما اعتبر الإعتماد على هذه الرواية وتقييد غيرها من الروايات في الموضوع؛ لا يلغي التعارض بين الطرفين، إذ جاء في الروايات الأخرى كما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق قوله: ‹‹حد التي قد يئست من المحيض خمسون سنة››، وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق موثقة أو حسنة، قال فيها: ان المرأة ‹‹اذا بلغت ستين سنة فقد يئست من المحيض›› (جامع المدارك، ج1، ص80ـ81).

[74] محيي الدين النووي: المجموع في شرح المهذب، دار الفكر، المعجم الفقهي الالكتروني، ج2، ص150.

[75] مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص27.

[76] انظر:

 Hemple,1987, p.54

[77] انظر مثلاً:

L. Jonathan Cohen, An Introduction To The Philosophy of Induction And Probability, Oxford university press, New york, 1989, p. 142. Imre Lakatos, The methodology of scientific reserch programmes, philosiphical papers, volume1, editted by Jhon Worrall and Gregery Currie, first published 1978, reprinted 1984, cambridge university press, p. 30

[78] انظر:

 Lakatos, 1978, p. 29

[79] انظر:

  Lakatos, 1978, p. 44-45.

وانظر ايضاً: فيليب فرانك: فلسفة العلم، ترجمة علي علي ناصف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الاولى، 1983م، ص53ـ54 .

[80] الموافقات، ج3، ص9ـ10.

comments powered by Disqus