-
ع
+

تصورات خاطئة (42) هل القرآن حمّال لحقائق العلوم الطبيعية؟

يتصور الكثير خطأً أن القرآن الكريم يحمل اعجازاً علمياً يتفق مع ما عليه النتاج العلمي الحالي..

والحال ان الطريقة التي يتزعمها أصحاب الاعجاز العلمي تتوسل إلى مدعاها بأدنى مناسبة ممكنة؛ بلا فهم منضبط للنص، ولا معرفة بالإشكالية العلمية لدى القضايا غير المحسوسة، وهي الإشكالية التي أصبحت – اليوم - ليست معنية بالتطابق مع الطبيعة، فالعلم متقلب وهو يقدّم تأويلات مفتوحة. وهذه الحقيقة تتعارض مع جعل الكثير من النتاج العلمي بمثابة الحقائق الثابتة، كما تتعارض مع ايجاد سند لها في النص الديني لأدنى مناسبة..

ويمكن لحاظ ان العلم ورث الرؤية التأويلية للكون من الفهم الديني. فقد كانت الأديان تثير هذا الفضول حتى قبل ان يبدأ العلم بدايته كعلم، ومع الزمن تحولت هذه الوظيفة إلى العلم بالتدريج دون الدين، واختصت به إلى يومنا هذا، وهو ما جعل الكثيرين يشعرون بالحاجة إلى أن يكون الدين في المقدمة كالسابق من دون تهميش، الأمر الذي دفعهم إلى العمل بردّ النتائج العلمية إلى أصول دينية ومن ثم القول بالإعجاز العلمي في القرآن وفي الحديث أحياناً، وربما قد يأتي يوم يدعي فيه البعض وجود الإعجاز في كلمات السلف..

لقد كان من أبرز المؤلفات التي عنيت بالتفسير العلمي كتاب (الجواهر في تفسير القرآن الكريم) للشيخ طنطاوي جوهري (المتوفى سنة 1940م). فقد ولع الشيخ جوهري بهذا النوع من التفسير كولع الفخر الرازي بالجدل الكلامي في تفسيره الكبير، فكلاهما لم يترك للنص حيّزاً من البحث والتداول كما هو في ذاته. وقد وصف إبن حيان الفخر الرازي في (البحر) بأنه جمع كل شيء إلا التفسير، وكذلك إتّهم البعض طنطاوي جوهري بأنه قام بإلصاق كل شيء بالدين حتى كاد يجعل القرآن كله علوماً طبيعية، مثلما كاد الفقيه يجعل من القرآن فقهاً فحسب، كالذي فعله القرطبي في (جامع أحكام القرآن).

وهناك عدد كبير ممن عوّلوا على التفسير العلمي إلى حد الإسفاف والإبتذال، مما يؤكد الحالة الإنفعالية التي انتابت العقل المسلم الحديث إزاء التطورات الباهرة في الغرب، والتي عبّر عنها البعض بقوله: هذه بضاعتنا ردّت إلينا. وتمّ فهم الكثير من النصوص القرآنية كتعبير عن النتاج العلمي الحديث، وظهرت المغالات في تفسير حتى الكائنات الغيبية تبعاً لعلاقات الطبيعة. ففسّرت الملائكة بـ ‹‹القوى الطبيعية››، والجن بـ ‹‹الميكروب الخفي الذي يسبب كثيراً من الأمراض››، والنور في آية النور وغيرها بالكهارب. كما فسّرت (الأزواج) في مثل قوله تعالى: ((سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون))؛ بأنها تشمل الكهارب وغيرها، وأيضاً فسّرت الآية القائلة: ((ثم استوى إلى السماء وهي دخان))؛ بأنها تعني الأثير في الإصطلاح العلمي الذي افترضه العلماء واختلفوا حوله. كذلك فسّرت آية الرحمن ((يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان))؛ بأنها دالة على إمكانية النفوذ في الأقطار الكونية، وأن معنى كلمة (سلطان) هو ‹‹العلم››، خلافاً لما رآه القدماء من ان المعنى هو من خصائص يوم القيامة كما يدلّ عليه سياق النص.

وفي قبال هذا الغلو هناك اتجاهات مختلفة أحدها يناقض الاتجاه السابق، ليس لانكاره الاعجاز العلمي فحسب، بل لرفضه بعض النتائج العلمية المسلم بها بحجة مخالفتها لعدد من النصوص الدينية ومقالات السلف، ومن ذلك رفضه لمسلمة حركة الأرض بل وكرويتها أيضاً. وهو الاتجاه السلفي الذي اعتبر القول بالاعجاز العلمي مخالفاً لفهم السلف للآيات القرآنية. وبلا شك ان هذه الرؤية تعتبر خاسرة لإعتبارين، أحدهما أنها مجرد فهم دون ان تعبّر عن جوهر النص الديني، أي خلاف ما يدعى. يضاف إلى أنها غير متسلحة بالأدوات العلمية الكاشفة عن الواقع الموضوعي، وذلك بغض النظر عن مقولات النص الديني.

وهناك اتجاه ثالث شائع يرى ان الوظيفة الدينية تختلف عن الوظيفة العلمية، فقد جاء الدين لهداية البشر وليس لينوب عن عقولهم في الكشف عن قوانين الطبيعة وعلاقاتها. وقد كان الكثير من العلماء القدماء من ينكر ان يكون القرآن الكريم محلاً لعلوم الطبيعة وحقائقها، كردّ على بعض من انتهج هذا السبيل. وظهر من يشاطر هذه الدعوة لدى الغرب خلال القرن السابع عشر، إذ هناك من يقول بأن للعلم وظيفة هي الكشف عن الواقع والحقائق الموضوعية، في حين يتعامل الدين مع سلوك الناس واخلاقهم فحسب. وقد اضطر الكثير من المؤمنين بالمسيحية وغيرهم للاعتقاد بهذا التقسيم كي لا يظهر التعارض بين العلم والدين. وربما يكون الكاردينال المؤرخ بارونيوس (المتوفى عام 1607) هو أول من أسس لهذا المنحى بقوله: ‹‹إن مقصد الروح المقدسة هي أن يعلّمنا كيف يسير الانسان إلى السماء، وليس كيف تسير السماء››. وقد استشهد غاليلو بهذا النص لينكر كون الكتاب المقدس حجة في العلم؛ رغم أنه كاثوليكي مخلص في دينه.

مع هذا فالدين قد تعرض الى عدد من القضايا الرئيسية التي لها علاقة بالبحث العلمي، لذلك نجد اتجاهاً رابعاً اضطر إلى تأويل النص الديني تأثراً بالنتائج العلمية الحديثة، إذ رأى أن بعض النصوص القرآنية تبدي شيئاً من التعارض مع هذه النتائج، مثل تلك التي تشير إلى وجود شياطين في السماء الدنيا وتكون عرضة للقذف بالشهب لدحرهم، كالذي تظهره الآيات الخمس من أوائل سورة الصافات، ومثلها بعض الآيات الواردة في سورة الجن والتي توحي أنه كان للشياطين مقاعد للسمع في السماء، حتى جاءت الرسالة الإسلامية فمُلئت السماء بالحرس والشهب كي لا يُسترق السمع. ويعلل المفسرون هذا الحدث الكوني الطارئ بأنه جاء للحفاظ على الوحي القرآني خشية من أن يُسترق شيء منه فيلقيه الشياطين على ألسنة الكهنة، فيلتبس الأمر ويختلط الصادق بالكاذب. لذلك أبدى العلامة الطباطبائي بعض الإفتراضات الذهنية لتأويل مثل هذه النصوص القرآنية. وعلى هذه الشاكلة ورد في سورة (فصلت) أن الزمن الذي خلق الله فيه الأرض يفوق الزمن الذي خلق فيه السماوات السبع، كما ورد بأن خلق الأرض بما فيها من رواسي وأقوات سابق لخلق السماوات، وهو غير متسق مع النتائج العلمية المعاصرة.

لقد كان للفهم الديني قبل النهضة العلمية الحديثة دور سيادي حتى على العلم ذاته. أما بعد ذلك فقد أصبح العلم هو ما يطرح علينا التأويلات المختلفة والمعمقة ازاء الكون، حتى تحول فيها المتدين من وظيفة حمل الرؤية التأويلية للدين ازاء الكون إلى وظيفة أخرى، وهي كيف يوفق بين فهمه للدين وما يطرحه العلم من تأويلات أو نماذج تفسيرية. والنتيجة هي ان الوظيفة الموسعة للفهم قديماً قد تم إختزالها – اليوم – في كيفية ايجاد نسق ملائم يتفق مع ما يقدّمه العلم من نماذج تأويلية.

يضاف إلى ما سبق وجود اتجاه خامس يحاول ان يوظف بعض النصوص القرآنية لتوليد نظريات علمية جديدة. وهو اتجاه غير شائع اليوم.

وما ننتهي إليه هو أن لكل من العلم والدين هدفاً يبتغيه، كما لكل منهما اشكاليته الخاصة التي ينبغي معالجتها على انفراد قبل أي مماحكة مع الطرف الآخر. فمن الناحية المنطقية ان العلم الطبيعي شيء، والنص الديني شيء آخر قد يتفقان أو يختلفان. أو ان الحقيقة التي نستكشفها من أحدهما لا تعني هي ذاتها لدى الآخر بالضرورة. فعندما نريد التعرف على العلم ينبغي المثول إليه أساساً. وهو الحال ذاته عندما نريد التعرف على النص الديني، إذ ينبغي المثول إلى هذا النص في الأساس، لنستوحي منه ما هو ظاهر وفق السياق الدلالي. ثم بعد ذلك يلاحظ إن كانت هناك تماثلات او تشابهات بين الطرفين، دون القفز جزافاً إلى مقالة الاعجاز العلمي في النص.

comments powered by Disqus