-
ع
+

تصورات خاطئة (40) العلم الطبيعي بين البستمة والهرمنة

يتصور الكثير خطأً أن العلوم الطبيعية تتبع منهجاً ابستيمياً دقيقاً لا يخضع للهرمنوطيقا أو التأويلات المنفتحة..

والحال انه منذ بداية القرن العشرين والى يومنا هذا برزت ظاهرة التأويل والهرمنوطيقا تلوح العلوم الفيزيائية برمتها.

فمع أن لفظ التأويل مستخدم أساساً في مجال تفسير النصوص، وهو يعني التعويل على غير ظاهر النص لأسباب تدعو لذلك، لكن هذا المعنى ينطبق كذلك على القضايا العلمية. ففي كثير من الأحيان جرى التعامل مع الطبيعة وفقاً للأخذ بخلاف الظاهر المعلوم أو المتبادر من الكشف الحسي أو الوجداني. فإذا كان التأويل في حالة النص يعبّر عن تأويل اللفظ وسياقه، فإنه يعبّر في حالة الطبيعة عن تأويل الظاهرة الكونية وعلاقاتها المتشابكة. وإذا ما اعتبرنا ان ادراك المعنى والكشف، سواء في حالة النصوص أو في علم الطبيعة، يتصف بالانفتاح، فذلك يعني أن التعامل مع قضاياهما قد جرى طبقاً للآفاق الواسعة للهرمنوطيقا.

فمنذ أوائل القرن الماضي أخذ الكشف العلمي يستند إلى منهجين مترابطين، أحدهما قائم على الرياضيات الصورية، كالذي بدأ مع ماكسويل، ثم توج لدى الكوانتم الموجية. والآخر قائم على التأمل الخيالي كما يتمثل في نسبية أينشتاين بشكل واضح وصريح، وهو يمتاز بقدر واسع من الحرية واطلاق العنان دون الاعتماد على منهج محدد في تكوين الفروض. وكلا هذين المنهجين قد ابتعدا عن الحس المشترك (common sense)، وفي كثير من الأحيان حصلت حالة الصدام مع هذا الحس الوجداني. وقد اشتهرت الكوانتم بغرابتها في صدامها مع القضايا الوجدانية والبديهية. فالفيزياء كعلم لا تهتم بالواقع كالفلسفة بقدر ما تهتم بأن قوانينها منتجة ومفيدة؛ كإن يكون لها القابلية على التنبؤ والإكتشاف وسعة التفسير. وبالتالي فما ندركه من تصادمها مع المبادئ الفلسفية يمكن أخذه بهذا الإعتبار من النهج الهرمنوطيقي. كما ظهرت حالات ما تسمى بالحيل الرياضية المصطنعة، ويمكن ان نجد ما يشاكلها من حيل لدى المنهج الخيالي. فللخيال أفاق عظيمة في القدرة على الاصطناع والتلاعب لا ينافسه في ذلك شيء آخر كالرياضيات والتصورات العقلية والمنطقية. وكل ذلك يعتبر من نماذج التأويل الهرمنوطيقي.

لقد جرى الترابط بين المنهجين السابقين وفق نمطين متعاكسين من بدء الممارسة العلمية ومسارها. فبحسب المنهج الخيالي تبدأ الممارسة العلمية بالخيال والتأمل لتصنع صورة تأويلية هرمنوطيقية حول الواقع الفيزيائي، ثم تُحول إلى قالب رياضي مناسب، فيصبح الناتج عبارة عما نسميه المنهج (الخيالي-الرياضي). وعلى عكس ذلك المنهج الرياضي، فهو يبدأ بالبعد الصوري لينتهي إلى صورة خيالية هرمنوطيقية، لذا نسميه المنهج (الرياضي-الخيالي). وأحياناً يحصل تشابك بين الحالين بحيث يكون التطور العلمي هو بناء متراكم من التصورات الخيالية والرياضية بعضها قائم على البعض الآخر.

ويعبّر هذا التشابك بين الرياضيات والخيال عن العلاقة بين الابستمولوجيا والهرمنوطيقا. فهناك حركتان تبدأ إحداهما بالبستمة لتنتهي إلى الهرمنة، في حين تبدأ الأخرى بالهرمنة لتنتهي إلى البستمة. فعندما تعمل الرياضيات على تحديد فعل الخيال ينشأ لدينا نوع من البستمة الهرمنوطيقية، وعلى العكس من ذلك عندما يحدد الخيال فعل الرياضيات وفقاً للمنهج المقابل، إذ يعني ان هناك نوعاً من الهرمنة الابستمولوجية.

والحقيقة ان كليهما يمارسان نوعين مختلفين من الهرمنة أو التأويل. فالمنهج الرياضي هو ايضاً يتنزل من كونه أداة كشف ابستيمي إلى أداة تأويل هرمنوطيقي. وبذلك لا تقل الرياضيات هرمنة عن الخيال العلمي. فالتأويل الرياضي هو تأويل يراد منه الكشف عن الواقع، وهو مفتوح الآفاق وقابل لاتخاذ الصيغ العديدة المختلفة، مثلما ان التأويل الخيالي هو تأويل للواقع، وانه لكي نسقط التأويل الرياضي على الواقع فسنحتاج إلى الاستنجاد بالتأويل الخيالي.

فمثلاً عندما ظهرت المعادلات الرياضية لدى القواعد الأساسية لنظرية الكوانتم؛ بدت غير مفهومة، أو انها لا تحمل فهماً نهائياً، لذلك أصبحت الهرمنة العلمية لا مناص منها. فهي جسر التواصل من الرياضيات إلى الخيال. فالفارق بين نشأتها وتطوراتها وبين نشأة النسبية هو أن الأخيرة قامت على عاتق رجل واحد فحسب هو أينشتاين، وبالتالي انها من حيث الأساس تخضع إلى تأويله دون مشاركة أحد في الغالب، في حين شارك في الأولى رجال كثيرون، وكان من بينهم أينشتاين كما في بداية الأمر قبل انسحابه منها، لذلك كانت موضع تأويلات كثيرة بقدر مساهمات الرجال. وقد صوّر الفيزيائي ادوارد ويتن أن الكوانتم المعتمدة تحوي عدداً لا نهائياً من النظريات الممكنة، وقد فحص الفيزيائيون النظريون آلافاً منها فحصاً جدياً. وهو ما يجعل الموقف غامضاً. فما يتحدث عنه هؤلاء يعبّر عن تفاسير كثيرة ومفتوحة هي أشبه بالتأويلات المعروضة على النصوص الدينية.

وبحسب الفيزيائي رولان أومنيس، هناك على الأقل ثلاثة أسباب للتأويل في الكوانتم: فهي من جهة صورية إلى درجة أنها بلغت الذروة في الغموض والإبهام. كما أنها أخذت تتضمن - وفق رأي علماء الكوانتم أنفسهم - وعي المراقب العلمي بعين الإعتبار، فأصبحت بذلك ذاتية وليست موضوعية خالصة. كذلك فإن نتائجها أدت إلى أن تتصادم مع الوجود اليقيني للحقائق الواقعية والمسلمات الأساسية. فكل هذه الإعتبارات التي إنتهت إليها نظرية الكوانتم جعلت الحاجة إلى التأويل ماسة تماماً، وهو ما جعل طريق العلم سالكاً للهرمنوطيقا من أوسع أبوابه. فجميع النظريات التي ظهرت إلى يومنا هذا لم تتمكن من أن تجد لها طريقاً يبتعد عن اسطورة هذه النظرية أو غريمتها النسبية.

comments powered by Disqus