-
ع
+

تصورات خاطئة (34) هل حقاً كان الغزالي ينكر السببية الحتمية للفلاسفة؟

يتصور الكثير خطأً أن الغزالي لم يؤمن – مطلقاً - بمبدأ السببية الحتمية للفلاسفة؛ استناداً الى تبنيه لمبدأ العادة والاقتران كما اشار اليه في (تهافت الفلاسفة) بشكل واضح وصريح..

والحال ان كتب الغزالي الكلامية هي التي تُظهر نكرانه للسببية الحتمية العائدة الى الفلاسفة، إلا أن عقيدته الوجودية كانت مثقلة بحملها. فهو يقر بالترتيب السببي الفلسفي، ويرى مراتب الوجود لا تتفاوت إلا بالشدة والضعف من الكمال حسب منطق السنخية، فهي تتباين كتباين مراتب النور الواحد. الأمر الذي جعله يرفض القول بوحدة الوجود الشخصية، ولا يتقبل مقالات الإتحاد والحلول التي يشطح بها العرفاء، فهي عنده عبارة عن خيالات يحيلها العقل تماماً. فلولا إعتقاده بالضرورة السببية كما لدى الفلاسفة ما كان بإستطاعته أن يحيلها عقلاً. لهذا كان إبن رشد ينسب ميوله التي بثّها في كتبه إلى مذهب الفلاسفة، لا سيما كتاب (مشكاة الأنوار) الذي كشف فيه عن تباين مراتب الوجود شبيهاً بما يحصل مع النور في كماله وضعفه. وكل ذلك ينافي اعتراضاته على الفلاسفة كما في (تهافت الفلاسفة) وتكفيره لهم في عدد من القضايا.

فالغزالي يقر بضرورة ان يكون العقل مقدماً على الكشف ومصححاً لرؤاه عندما يكون واقعاً تحت أسر السنخية اللاسببية، كما هو الحال عند أغلب العرفاء. وله مبدأ يقول: «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر..»، وفيه تلويح إلى أن طريق العرفان لا يكون إلا بعد المرور بقنطرة العقل..

لقد كان الغزالي يعي أن قطع صلة الكشف العرفاني عن العقل والتعليم يعني السقوط في مستنقع نظام اللاسببية الناتج عن دعاوى شطحات الحلول والإتحاد ووحدة الوجود الشخصية. لذلك حرص على التمسك بالعقل، فهو الوسيلة الوحيدة التي تصحح حالات الكشف وشطحاته، الأمر الذي أعابه عليه إبن عربي واعتبره «زلة قدم»، لأنه يعي هو الآخر أن ما كان يرومه - الغزالي - هو إدخال الوجود تحت سلطة نظام السببية الدال على الثنائية لا الوحدة.

وبلا شك ان للغزالي بعض النصوص الصريحة في تمسكه بمذهب وحدة الوجود والشهود، ومن ذلك قوله: «ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى ذروة الحقيقة واستكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العيانية أنه ليس في الوجود إلا الله، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، لا أنه يصير هالكاً في وقت من الأوقات، بل هو هالك أزلاً وأبداً..».

وتوضيحاً لعبارته هذه نصّ على أن «الوجود ينقسم إلى ما للشيء من ذاته وإلى ما له من غيره، وما له الوجود من غيره فهو عدم محض. وإنما هو موجود من حيث نسبته إلى غيره، وذلك ليس بوجود حقيقي.. فالموجود الحق هو الله تعالى، كما أن النور الحق هو الله تعالى..». وأكد هذا المعنى فاعتبر أن «سائر الأنوار مستعارة، وإنما الحقيقي نوره فقط، وأن الكل نوره، بل هو الكل، بل لا هوية لغيره إلا بالمجاز. فإذاً لا نور إلا نوره، وسائر الأنوار أنوار من الذي يليه لا من ذاته».

ويُعدّ مثال النور مهماً في توجيه هذه النظرية بما يبعدها عن مقالة الصوفية. فالنور ظاهر بذاته ومظهر لغيره بالعرض، ولولا إظهاره لذاته ما ظهر شيء إطلاقاً، وبالتالي فإن كل شيء من حيث هو وبغض النظر عن النور المظهر له يكون عدماً وسراباً لا حقيقة ولا وجود له. وهذا المفهوم هو أقرب إلى التصور الفلسفي لوحدة الوجود منه إلى التصور الصوفي رغم الشعرة الدقيقة التي تفصل بينهما والتي تشهد إنقطاعها لدى المتأخرين من الإشراقيين كصدر المتألهين وغيره.

ويستعين الغزالي بمثال نور الشمس لتوضيح نظريته عن الوجود، حيث منه يستمد القمر نوره الذي يمكن أن يُرى في كوة المنزل، وبه ينعكس الضوء على مرآة معلقة على الحائط، فتنعكس صورته في مرآة أخرى معلقة على الجدار المقابل، ومنه على الأرض.. وهكذا يكون الضوء الحاصل على الأرض تابعاً لما في المرآة على الحائط، وهو بدوره تابع إلى غيره حتى ينتهي في الأخير إلى نور الشمس، بل إلى الشمس ذاتها، مثلما هو الحال في علاقة الموجودات بالموجود الأول. وعليه نعتبر الغزالي أول من حدد طريقة الفلاسفة في وحدة الوجود، والتي تختلف عن طريقة العرفاء. كما أن تبنيه لهذه الوحدة يجعله متمسكاً بالسببية الحتمية خلافاً لنكرانه لها في كتبه الكلامية..

comments powered by Disqus