-
ع
+

تصورات خاطئة (30) هل تغلب الممارسات غير المنطقية على النشاط اللاشعوري؟

يتصور الكثير خطأً أن النشاط اللاشعوري تغلب عليه الممارسات غير المنطقية..

والحال ان العكس هو الصحيح، فأغلب النشاط اللاشعوري هو من النوع المنطقي المنظم، واليه يعود الفضل في كون تفكيرنا وسلوكنا يتميزان عادة بطابع الاتساق. وعليه فالعلاقة بين المنطق واللاشعور ليست كما هي متصورة لدى علماء النفس بأنها منقطعة دائماً.

فمعلوم ان اللاوعي يطغى على أغلب حياتنا، فسلطته علينا أشد من سلطة الوعي وضغطه، فأعرافنا وعاداتنا وميولنا وأمزجتنا وتفكيرنا ومواقفنا وغير ذلك كلها تنطوي على نسبة أعظم لهذا العالم مقارنة بالوعي. وانه سواء في العقل الظاهر للوعي، أو اللاوعي الباطني، فإن لكل منهما طبقات بعضها عميقة الجذور خلافاً للبعض الآخر. ففي العقل الظاهر تقف القضايا الأساسية للإدراك المنطقي كأقصى حالات الوعي العميقة، رغم انها تمارس دورها وفق العقل الباطن، ويظهر أثرها لدى الاستدلالات المنطقية. لذا فمن الأخطاء الدارجة الاعتقاد بأن العقل الباطن هو غير منطقي خلافاً للعقل الظاهر. وقد يُستدل على ذلك بظاهرة نصادفها كثيراً في الأحلام والغفوات، وهي ان المعاني الواردة فيها غير متسقة حقيقة، ومثلها أن اللغة الدائرة فيها تبدي أحياناً ليس لها معنى، بل مجرد لغو، رغم أننا خلال الأحلام والغفوات نشعر باتساق المعاني ومعنى اللغة بلا خلل. وبالتالي نجد الإختلاف واضحاً بين الوعي المنطقي لليقظة واللاوعي اللامنطقي للحلم.

وهو أمر مؤكد، لكن للعقل الباطن علاقة أخرى منطقية، إذ لو كان هذا العقل غير منطقي دائماً لما أمكن تفسير كيف يمكن للبشر أن يمارسوا الاستدلال الصحيح حدساً من دون وعي بالخطوات المنطقية التي يتم فيها هذا الاستدلال.

فكثير من المعرفة الإستدلالية تجري بالشكل المنطقي اعتماداً على الضرورات الوجدانية والتنمية الاحتمالية وفق المنطق اللاشعوري. فالآلية التي يعمل بها الذهن البشري هي آلية تعتمد لاشعوراً على النشاط الباطني التلقائي للتنمية الاحتمالية. ويتصف هذا النشاط التوليدي بالمنطقية والتنظيم. وسمة النظام فيه واضحة وفقاً لما يمتاز به من العمل الآلي المخطط تبعاً للأصول المقررة. فنظام المعرفة لدى البشر يجري وفق قواعد وقوانين عامة مشتركة، وهي وإن لم تكن موضع إلتفات لدى أغلب الناس بمن فيهم أصحاب الإختصاصات المعرفية المختلفة، وكذلك رغم كونها محدودة العدد؛ إلا أنها ذات آليات فاعلة في الوعي الباطن أو اللاشعور، حيث يوظفها كل منّا في نتاجه المعرفي غير المحدود، ولولاها ما كان للبشر أن يمتلك القدرة والحرية على النتاج المفتوح، بل لكانت المعرفة لديه لا تخرج عن كونها انعكاسات مباشرة ومحددة للبيئة. في حين إن وجود هذا النظام الشامل، يجعل القدرة على التفكير وتوليد المعرفة غير متناهية، حيث تتم فيها آليات الإستدلال والاستنتاج وإن كنّا غير واعين بها. فنحن نفكر بها وإن لم نفكر فيها. والمهم هو أنها تنطلق من مبادئ وآليات صحيحة يشترك في توظيفها المختص وغيره، سواء كان ذلك بوعي أو بغير وعي. فمثلاً يطبق الناس – جميعاً - آليات القياس المنطقي والإستقرائي بفهم ودراية دون عناء، رغم أنهم لا يعون قواعد هذه الآليات وضوابطها المنطقية. فأغلب معارف الإنسان قائمة على هذا النحو.

يضاف إلى أن عالم اللاشعور هو عالم التفكير والإبداع وإن لم نشعر بذلك، أو إننا ندرك بأننا لم نقم بأنفسنا في توليد النتائج المذهلة خلال لحظة حيوية مدهشة لا تقبل الوصف. وهو الأمر الذي يفسر لنا الكثير من الاكتشافات العلمية التي تنبجس فجأة بعد أن تسبقها جهود مضنية. لذلك كان الرياضي الفرنسي هنري بوانكاريه يقول: «إن الحياة اللاشعورية لا تقل خطورة عن الحياة الشاعرة».

ولعل التجربة الذاتية للعلماء والمفكرين والأدباء هي أكبر شاهد على ما يحصل من أسرار عظيمة في عالم الكشف، إذ تخرج الأفكار بذاتها من مسرح اللاشعور إلى الشعور بلا تفكير ولا استدلال. وربما كانت نظرية نيوتن في الجاذبية تستند إلى هذه التجربة إذا ما صح النقل بأنه توصل إلى اكتشافه بعد أن رأى تفاحة تسقط على الأرض وهو جالس في حديقة منزله يتأمل، فصاح: وجدتها.. وجدتها، كما سبقه في هذه الصرخة أرخميدس.

وكثيراً ما يحصل الإكتشاف بهذه الطريقة المفاجئة في عالم الرياضيات، وهناك قصص كثيرة يرويها العلماء عن أنفسهم وكيف أنهم رأوا الحل أمامهم كبريق خاطف من دون تفكير. بل ان بعض الأفراد لهم القدرة على توليد النتائج الحسابية المعقدة بطلاقة أو من دون نظر وتفكير، ومن هؤلاء من يتصف بالعوق العقلي.

comments powered by Disqus