-
ع
+

تصورات خاطئة (28) هل يمكن البرهنة على الواقع الموضوعي؟

 يتصور الكثير خطأً أن من الممكن البرهنة على وجود الواقع الموضوعي العام..

والحال ان محاولات البرهنة على الواقع الموضوعي تصطدم بحقيقة وجود إحتمال يستحيل نفيه بأي دليل كان، سواء من حيث العقل أو الإستقراء، وهو إفتراض ان تكون الحياة عبارة عن حلم دائم لا ينتهي. وعلى حد تعبير بعض المفكرين الغربيين: لو أنني فقط استطيع أن أَخرج من رأسي لرأيت ما إذا كان هناك شيء.

وهناك فقرة مفعمة بالشك استشهد بها بعض مفكري الصين القدماء كالتالي: ‹‹لقد حلم تشوانغ تسو (369ـ286 ق.م) ذات يوم بأنه كان فراشة تحوم طائرة، هنا وهناك، كما لو كانت حقاً فراشة واعية في اتباعها لميولها. هذه الفراشة كانت تجهل أنها كانت تشوانغ تسو. وفجأة استيقظت، ومنذ ذلك أصبح بديهياً بأنها كانت تشوانغ تسو. ولكنه لا يعرف الان إذا كان تشوانغ تسو هو الذي حلم بأنه صار فراشة أو ان الفراشة قد حلمت بأنها أصبحت تشوانغ تسو››.

ومن منطلق صوفي إعتبر محي الدين بن عربي ان الحياة الدنيا محض منام، وانها جعلت عبرة أو جسراً يعبر منها الإنسان كما يتم العبور من الرؤيا التي يراها النائم إلى ما تعنيه في عالم اليقظة كالذي تنص عليه الاية الكريمة: ((يا أيها الملأ افتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعْبُرون))، واستشهد على ذلك بالحديث النبوي: (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا).

وقد لفتت هذه المشكلة انظار الكثير من المفكرين، القدماء منهم والمحدثين. وكان باسكال يرى انه ليس بوسع الإنسان ان يعرف إن كان في حلم أو يقظة، طالما ان ما يحدث في الحلم من احساس هو مثل الذي يحدث في اليقظة، وبالتالي لا مانع من أن نكون في حلم لا نستيقظ منه إلا عند الموت. كذلك كان برتراند رسل لا يرى مانعاً من إفتراض اننا في حلم دائم.

وكان فيلسوف المثالية جورج باركلي يعتبر ان إفتراض اجسام خارجية ليس ضرورياً لاحداث افكارنا، مادام من المعترف به ان هذه الافكار قد تحدث أحياناً وربما كانت تحدث دائماً، بنفس الترتيب الذي نراه به حالياً، دون وجود الاجسام الخارجية. وكان العالم الفيزيائي هلمولتز يقول: ‹‹لست أدري كيف يتم تفنيد المذهب المثالي الذي يذهب إلى حد القول أن الحياة لا تنطوي إلا على احلام››.

ويعد ديكارت من أبرز الذين اعترفوا بعجزهم عن ايجاد السبيل للإستدلال على الواقع الموضوعي، الأمر الذي اضطره إلى الاستعانة بالثقة بالله المدبر، فاعتبر يقينه الذاتي بالله كافياً للإطمئنان بواقعية العالم الخارجي، بعد ان يأس من التمييز بين عالمي اليقظة والرؤيا.

على ذلك لا يقال ان الحلم يختلف عن الواقع من جهة افتقاره للانسجام والاتساق والوضوح، وذلك لأن من الأحلام ما يحمل مثل هذه الصفات التي يمتاز بها الواقع. بل من الناحية المنطقية ليس هناك ما يمنع إفتراض كون واقعنا عبارة عن حلم متسق طويل يتضمن أحلاماً متقطعة تتصف بكلا الحالين من الاتساق وعدمه.

مع هذا فهناك محاولات فلسفية سعت الى اثبات الواقع الموضوعي، وكان من بينها تلك العائدة الى عمانوئيل كانت. وملخص محاولته هو انه أناط اثبات الواقع الموضوعي بالوعي الداخلي في الزمان، وللزمان صفة الديمومة لارتباطه بشيء دائم، ومن المؤكد ان هذا الشيء ليس في داخلنا، بل هو خارج عنا، وهو الجوهر في المكان، وبذلك يثبت الواقع الخارجي.

هذا هو مجمل استدلال (كانت) على الواقع الموضوعي، وهو استدلال يحمل عدداً من الثغرات المخلة، وقد تعرضنا الى تفاصيلها في (مفارقات في نقد العق المحض). لكن نكتفي هنا بالاشارة الى هذه المفارقة في الاستدلال:

فقد اعتمد هذا الفيلسوف على دوام الزمان في اثباته للواقع الموضوعي، في حين انه ذهب فيما بعد إلى ان الزمان ومثله المكان لا تعلم حقيقتهما إن كانت تتضمن الدوام واللانهاية أم لا، وهو المبرر الذي جعله ينكر وجودهما الواقعي. وتنطوي هذه النتيجة على مفارقتين، احداهما اقراره بعدم وجود ما يثبت التسلسل في الزمان، وهو ما يعني العجز عن اثبات الدوام الثابت خلافاً لمصادرته السابقة التي اعتمد فيها على اثبات الواقع الموضوعي. كذلك فانه قد نفى واقعية كل من المكان والزمان وما فيهما من ظواهر، وذلك على خلاف ما أراد اثباته عبر فكرة الجوهر وعلاقته بالزمان.

كذلك حاول المفكر محمد باقر الصدر ان يثبت الواقع الموضوعي عبر الدليل الاستقرائي كما في (الاسس المنطقية للاستقراء). اذ رأى انه لو ثبت بالإستقراء وجود بعض القضايا المحسوسة في الخارج؛ لكان يعني وجود واقع موضوعي منفصل عنا على نحو الإجمال. وحيث انه يمكن اثبات القضايا المحسوسة في الخارج عبر الاستقراء، فذلك يعني اثباتاً للواقع الموضوعي العام. فالدليل الذي قدّمه بهذا الشأن يعتمد على التمايز في الاتساق والنظام بين الواقع والحالة الذاتية، فهو ينمي القيمة الإحتمالية للواقع عبر لحاظ الثبات الذي يمكن تفسيره بقوة تبعاً للواقع مقارنة بالحالة الذاتية، أو عبر ما نتحسس به من نسق وانتظام في إقتران حادثتين مع بعض.

لكن الحقيقة هي ان هذه التنمية تفترض بعض القضايا المصادرة سلفاً ليتم نجاحها. واذا كنا لا نميز عادة بين اليقظة والمنام إلا من هذه الناحية، فذلك لا يدل على إثبات الوقائع الجزئية. فقد يفترض البعض عكس ما نريد إثباته، وهو ان ما نراه مناماً يراه واقعاً، وما نراه واقعاً يراه مناماً، وان الثبات والاتساق الملحوظ هو ثبات واتساق في المنام لا الواقع. فهذا الإفتراض لا يمكن الإستدلال على نفيه أو ضده، كذلك لا يمكن الإستدلال على نفي الإفتراض الذي يرى ان كلاً من الاتساق وعدمه هما من حالات الرؤيا الدائمة، وبالتالي فإن التمييز بين ما يعد من عالم الرؤيا وما يعد من عالم اليقظة لا يفيد في المسألة المطروحة. بل وان الطريق الذي اتخذه المفكر الصدر في إثبات الواقع المجمل عبر الوقائع الجزئية هو طريق غير صحيح، ذلك لأن هذه الأخيرة لا تثبت ما لم يفترض الأول سلفاً.

هكذا ننتهي الى ان الإستدلال على الواقع الموضوعي مستحيل، رغم اننا على يقين به وجداناً، مثلما نكون على يقين من ضرورة بعض المبادئ العقلية غير المنطقية؛ كمبدأ السببية العامة، وكون الشيء الواحد لا يمكن أن يكون في أكثر من مكان في الوقت نفسه، أو ان يكون شيئان في ذات المكان الواحد في الان نفسه، إذ ليس لدينا من الدليل ما يؤكد هذه القضايا غير الشعور والكشف. إلا ان مثل هذه المبادئ تختلف عن مسألة واقعية العالم، فنحن نستمد يقيننا من الأولى بضرورتها الوجدانية، في حين ليس هناك احساس بضرورة تلك المسألة، فلا مانع عقلياً من أن تكون حقيقة الأمر خلاف ما نتحسس به وجداناً، رغم أن شعورنا الذاتي لا يحتمل هذا المعنى. ونحمد الله على هذه الالفة والغريزة التي لم تدع مجالاً لعقول الناس ان يبثوا فيها روح التردد والتشكيك، أو ان يعاملوها على مستوى ما يعاملون به القضايا الأخرى.

comments powered by Disqus