-
ع
+

تصورات خاطئة (26) هل في النص الديني نظريات كونية وفلسفية؟

يتصور الكثير خطأً أن في النص الديني وضوحاً ما يجعله حاملاً للنظريات الكونية والفلسفية..

والحال إن الصور الإجمالية في القرآن الكريم تجعل من الصعب أو المستحيل التقرير بما هو أمر حاسم فيه.

فحديثاً قال الدكتور علي سامي النشار: «من الخطأ البالغ أن يقال إن القرآن خلو من النظريات الكونية والفلسفية وأنه لم يرتد آفاق الوجود لكي يحددها في صورة نهائية». ثم قال: «.. ولكن من المؤكد أنه لم يترك نظرية أو مذهباً فلسلفياً شغل به العقل الإنساني بدون أن يبحث فيه، وأن يضع أصوله العامة». وذكر بعض الأمثلة؛ منها: فكرة خلق الأشياء من لا شيء وايجاد العالم من العدم، منكراً فكرة قِدم المادة، ومعلناً بدء الزمان ونهايته «وبهذا أنكر سرمدية المادة وعدم فنائها».

لكن إذا كان النشار توصل فيما توصل إليه، من أن القرآن الكريم يثبت فكرة خلق العالم من العدم، فقد سبق لابن رشد أن توصل من منطق القرآن ذاته إلى نقيض هذه الفكرة. فهو في البداية أنكر أن يكون في القرآن آية واحدة تنص على أن الله كان موجوداً مع العدم المحض، أي مع عدم وجود شيء آخر معه. بل واستظهر بعدد من الآيات أن العكس هو الصحيح، وبالتالي فهو يرى بأن العالم وإن كان حادثاً من حيث صورته، إلا أنه كالقديم من حيث المادة، كالذي يبدو من قوله تعالى: ((هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء)). فقد استظهر إبن رشد بأن الآية دالة على وجود أشياء سابقة لوجود صورة العالم، كالماء والعرش والزمان الذي يقيس وجودهما. كذلك هو الحال مع قوله تعالى: ((ثم استوى إلى السماء وهي دخان)) ، معتبراً خلق السماء كان من مادة سابقة هي الدخان.

مع ما يلاحظ إن الموقف السابق لإبن رشد، إذا ما أخذ على ظاهره، فإنه لا يناسب حقيقة معتقده الفلسفي في ثبات السماء وقدمها، وكذا عدم انفصال صور الأشياء الأرضية عن المادة أو الهيولى بأي شكل من الأشكال. صحيح أن صور الأشياء عنده حادثة، لكن من حيث لا بداية حاسمة للحدوث، وبالتالي فالأشياء وإن كانت حادثة من حيث جزئياتها الفردية، إلا أنها قديمة من حيث النوع، فكل فرد حادث يسبقه فرد حادث آخر وهكذا من غير بداية أو نهاية. والموقف ذاته يتكرر مع مدرسة إبن تيمية، فهي أيضاً ترى الخطاب الديني - عموماً - دالاً على عدم وجود بداية للخلق، مستشهدة عليه بصفة (الفعّال)، كما في قوله تعالى: ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) ، وموظفة لذلك قول أحد علماء السلف، فكما نُقل عن عثمان بن سعيد الدارمي إنه قال: «كل حي فعال، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله، من الكلام والإرادة والفعل».

هكذا فمع أنه جاء ذكر الماء والعرش والدخان كموجودات سابقة على الأرض والسماء، إلا أنه لم يتبين أمرها على وجه القطع إن كانت حادثة أو قديمة. وبالتالي فمن السذاجة القول بأنه يمكننا التوصل بيقين إلى نظريات مبثوثة في النص الديني من هنا وهناك، ما لم تكن قرائن الإستقراء أو الإحتمال كثيرة في الوقت الذي تخلو فيه من وجود المحور المنافس لها. وحتى في هذه الناحية فإن الصورة الإجمالية هي البادية غالباً، مما لا يدع مجالاً لإعتبار النص محلاً لحمل النظريات «الممنطقة».

وعليه فنحن في الواقع نعيد من وجه موقف ذلك الإخباري الذي يقول بأن القرآن كله متشابه وأنه يتعذر معرفة مدلول آياته وسوره بما في ذلك سورة التوحيد، وهذا ما جعله مثاراً للعجب من قبل الأصوليين لظنهم أن ذلك من الواضحات.. بل هناك من أنكر وجود النص القطعي أو الصريح، وحكاه الباجي عن أبي محمد بن اللبان الأصفهاني، وحكى القاضي أبو الطيب الطبري عن أبي علي الطبري أنه قال: يعز وجود النص – القطعي أو الصريح - إلا أن يكون كقوله تعالى: ((يا أيها النبي)) وقوله: ((قل هو الله أحد))، وجاء في (المنخول) قول الأصوليين: لا يوجد النص في الكتاب والسنة إلا في ألفاظ متعددة، كقوله تعالى: ((قل هو الله أحد)) وقوله: ((محمد رسول الله)). ومن القدماء من اعتبر القرآن الكريم ورد على الإقتضاب كما هي طريقة العرب من الإنتقال من موضوع إلى آخر دون أن تكون بينهما مناسبة، كما هو رأي أبي العلاء محمد بن غانم. ومثل ذلك ما ذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وهو أن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يأتي ربط بعضه ببعض. ومن ربط ذلك فهو متكلّف.

والسؤال الذي يرد بهذا الخصوص هو أنه لو كان القرآن الكريم من الواضحات كما ينبغي؛ فلماذا - إذاً - هذا الزخم الذي لا ينتهي من الفهم المختلف والمتناقض في مسائل تعد واضحة تماماً مثل مسألة التوحيد التي هي على رأس أصول الدين وأهمها جميعاً؟ إذ تجد مفهوم التوحيد مختلفاً حوله عند الكلاميين، كما ويختلف عند أهل الحديث، وهو غيره عند الحشوية، وخلافه عند الفلاسفة، ومثله عند الصوفية والباطنية وهكذا.. وينطبق هذا الحال على مفهوم العدالة الإلهية، فرغم وضوحها إلا أن عليها خلافاً يجعل نظريات العلماء لا تقل عن ثلاث، كالخلاف الحاصل بين الفلاسفة والعرفاء من جهة، وبين الأشاعرة من جهة ثانية، وبين هؤلاء جميعاً من جانب، والمعتزلة والإمامية الإثني عشرية والزيدية من جانب آخر، ناهيك عما يمكن أن يقدّمه أهل النقل والبيان من مفاهيم مستمدة من النصوص بهذا الصدد.

لكن حين نقول بأننا نعيد موقف ذلك الإخباري لا يعني أننا نسلم معه بأن الوضوح مضمون عند سبرنا للأحاديث وأقوال السلف. كما لا يعني أننا نسلم معه بأن القرآن خلو من كافة مستويات الوضوح والبيان، فهو ليس رموزاً ولا ألغازاً، لا سيما إذا ما عولنا على القرائن التي يثيرها هنا وهناك والتي تكشف عن فهم بعض الدلالات العامة والخصوصيات، وإن كان التفصيل يحتاج إلى نوع من المعايير المساعدة لفهمه والتي ينتج عنها إختلاف التصورات لإختلاف الأدوات والمعايير كالتي استعرضناها في بعض الدراسات. أما الموقف العام فهو أن التفاصيل تظل مفتقرة إلى البيان؛ لأن قرائن الوضوح التام قد ذهبت مع ذهاب عصر الرسالة النبوية، لا سيما عندما كان القرآن خطاباً مشافهاً قبل أن يتحول إلى نص مدوّن، إذ يعاني الأخير من فقر الفهم مقارنة بغنى الخطاب المشافه، وذلك لمشاركة العديد من الدلالات الأخرى غير اللغوية في إفهام السامع عند الكلام المشافه، وهو ما يفتقر إليه النص، وبالتالي كان فهم النص أقل قدراً من فهم ذلك الكلام. فللواقع أثر بالغ في تحديد معنى الخطاب مما يفتقر إليه النص المكتوب. وهذا يعني إن نص القرآن لا يسعه منافسة الخطاب القرآني المنزّل في التعبير وايصال الدلالة الكافية للمتلقي، فهذا الأخير أكثر غنىً من الأول تبعاً لقانون (الإفتقار النسبي) الذي تعرضنا اليه في (علم الطريقة).

comments powered by Disqus