-
ع
+

تصورات خاطئة (25) هل أسس الإمام الخميني فقهاً جديداً؟

يتصور الكثير خطأً أن الإمام الخميني اتبع ذات النهج التقليدي الذي عليه الفقه الشيعي من دون تغيير، خاصة وانه اشار الى ان طريقته لا تختلف عن طريقة صاحب جواهر الكلام..

والحال اننا نجد لديه قواعد وضوابط تجاوز بها الفقه الشيعي، فقد قام باستنطاق ‹‹الواقع›› بعيداً عن فضاء النص وسائر اعتبارات الأدلة التقليدية. وأبرز ما قدّمه بهذا الصدد ترجيحه للمصلحة المتعلقة بنظام الحكم السياسي على النص عد التعارض. فأصدر فتوى عام (1988م) أعرب فيها عن أن الحكومة الإسلامية تمثل ‹‹سلطة السيادة المطلقة التي وكلها الله سبحانه وتعالى إلى الرسول (ص).. وان هذا أهم حكم من الأحكام الإلهية، وله اسبقية على كل الأحكام الإلهية الثانوية››. وأضاف قائلاً: ‹‹لو حددت سلطات الدولة الإسلامية داخل اطار الأحكام الإلهية الثانوية فإن شكل الحكم الإلهي والسيادة المطلقة التي انيبت إلى الرسول (ص) سيكون ظاهرة جوفاء لا معنى لها››. فهذا هو مبرر التعويل على المصلحة الواقعية التي أكدها بقوله: تستطيع الحكومة ان تلغي من جانب واحد عقودها الشرعية مع الناس حينما تخالف تلك العقود مصالح الدولة والإسلام، وتستطيع ان تمنع كل أمر عبادي أو غير عبادي إذا كان مخالفاً لمصالح الإسلام ما دام كذلك، وتستطيع الحكومة ان تعطل الحج وهو من الفرائض الإلهية المهمة مؤقتاً في الحالات التي تعتبره مخالفاً لصلاح الدولة الإسلامية. لهذا دعا إلى تكوين مجلس فقهي لتشخيص مصلحة النظام.

ومعلوم أن فقهاء الشيعة ينكرون العمل بالمصلحة (الظنية) ولا يقرون مرجعيتها حتى بحدود ما لا نص فيه، لكن الحال لدى السيد الخميني شيء مختلف تماماً، إذ أخذ على عاتقه مبدأ العمل باعتبارات المصلحة الخاصة بحفظ النظام مقدماً اياها على غيرها من الأحكام والأدلة الشرعية، وعلى رأسها أحكام النص. رغم أن فكرة المصلحة عند الشيعة أخذت تعيد نفسها في العصر الحديث بصيغة أخرى مقيدة بولاية الأمر، أي بالتشريع الذي يقيمه ولي الأمر لتنظيم الحياة السياسية والادارية والاجتماعية، فهي من هذه الناحية تكون ذات صبغة ولائية تخص النظام السياسي، مثلما سبق إلى ذلك الإتجاه السني في اقرار الأحكام الولائية، فأطلق المفكر محمد باقر الصدر على هذه العملية (سد منطقة الفراغ)، وهي تشمل الأحكام التي يصيغها ولي الأمر مما لم يرد فيها نص تشريعي عام. أما فيما عدا هذه المصلحة المناطة بالأحكام الولائية؛ فما زال الفقه الشيعي لا يعترف بها. وبالتالي فهو يقيد المصالح الإجتهادية بالحاكمية السياسية.

هكذا لأول مرة في تاريخ الفقه الشيعي يصرح عالم لامع بضرورة أخذ اعتبار المصلحة وشروط الزمان والمكان في تشريع الأحكام، معتبراً إجتهادات القدماء إنما جاءت طبقاً لشروط ظروفهم من الزمان والمكان.

وعلى الرغم من زعمه بأنه لا يبغي من ذلك ايجاد فقه جديد يختلف عن الفقه التقليدي مثلما هو الحال لدى النجفي صاحب الموسوعة الفقهية الشهيرة (جواهر الكلام)، لكن واقع الحال انه تجاوز طريقة النجفي وغيره ممن رسموا الصورة التقليدية للفقه، خصوصاً وأنه اعتبر الحكم الفقهي قد يكون له موضوع هو غير الظاهر من المسألة، وأنه أدخل في الحساب الشروط الزمانية والمكانية في التشريع الإجتهادي، كما إنه أجاز التعارض بين المصلحة في نظام الدولة الإسلامية والأحكام الجزئية ورجح الأولى على الثانية عند التعارض، فكل ذلك يعد تجاوزاً لما كان، وهو بداية الثورة على الفهم التقليدي.

فقد عوّل على منهجين كلاهما يعودان إلى فاعلية الواقع ورجحهما على كل من اعتبارات السلف والنص. ففي مطالبته لأخذ اعتبارات الزمان والمكان في تأسيس الأحكام؛ تجاوز ما عليه طريقة السلف في فهمهم لقضايا الإجتهاد والاستنباط. أما ترجيحه للمصلحة العامة على النص عند التعارض؛ فقد تجاوز فيه الاطلاق الذي يبديه النص وما اتفق عليه العلماء من حجية.

لقد تقبّل السيد الخميني الإجتهاد حتى مع وجود النص الصريح، وهو ما يرفضه فقهاء الطريقة التقليدية؛ معتبرين هذا الإجتهاد هو في قبال النص، وانهم على ذلك اعتبروا الأحكام مؤبدة غير قابلة للتغيير، وهو ما يفسر عدم اهتمامهم بمبدأ تأثير الزمان والمكان على الأحكام، خصوصاً وأنه متداول لدى فقهاء السنة منذ زمن بعيد.

أما الآثار التي أحدثها على القضايا التي واجهتها الجمهورية الإسلامية فهي كثيرة، منها ان هذه الدولة سمحت بتعطيل حكم الجزية الوارد ذكره في القرآن الكريم، حيث لم يرد في الدستور الايراني شيء حول الجزية وقوانين الذمة، بل صرح الدستور بانه على الحكومة وعلى المسلمين أن يعاملوا الاشخاص غير المسلمين بالأخلاق الحسنة والقسط والعدل الإسلامي، وأن يراعوا حقوقهم الإنسانية.

كما ألزمت الدولة التسجيل الرسمي للزواج، وذلك في قانون (1310) كي تحول دون سوء الافادة، وحددت عقوبة للمتخلف عن ذلك. والذي حصل ابتداءاً ما حَكَم به مجلس حماية الدستور من ان هذا القانون هو خلاف الشرع. لكن بعد ذلك أصبح القانون ساري المفعول، ووفرت له ضمانة تنفيذية. وكذا هو الحال مع القانون الخاص بالغرامة التي يحددها البنك على المقترض فيما لو أخّر تأديته للقرض، حيث لم يقر بها مجلس حماية الدستور وعدّها من الربا، وكان البنك المركزي كثيراً ما يستلم رسائل اعتراضية على ما يقوم به. لكن عندما طرحت القضية على مجلس تشخيص المصلحة فإنه أقرّ تلك الغرامة. ومثل ذلك ما حدث مع قضية حق الكسب والحرفة، فلو ان مؤجراً أجّر محلاً لمستأجر ثم أخرجه بعد مدة، فعليه أن يدفع له تعويضاً يُطلق عليه حق الكسب والحرفة، وهو ما يسمى بـ (السرقفليه). وقد كان فقهاء حماية الدستور يعدون العمل بها من المحرمات طبقاً للفتاوى السائدة، معتبرين المادة المرقمة (190) والتي تعترف بذلك الحق بأنها مادة مخالفة للشرع. لكن حين طُرحت القضية على مجلس تشخيص المصلحة فإنه أقرها.

كما ان الانطلاقة التي فجرها السيد الخميني جعلت الفقهاء الجدد ينفتحون على أبواب ما كان لهم أن يجرأوا على طرقها لولا تلك الإثارة مع وجود الحاجة وضغط الواقع. وأصبح الحديث عن المقاصد الخاصة غير المنصوص فيها وارداً، وقد كانت محظورة لدى الفهم الشيعي التقليدي الذي اكتفى بقاعدة كشف الملاك من النص دون غيره. وأخذ الفقهاء الجدد يتحدثون عن قضايا مثل اباحة التشريح وبيع الدم وشرائه... الخ، بعد أن كانت هذه المسائل من المحرمات، وبعضها ورد النص في حرمته صراحة كبيع الدم. كما أخذ البحث يدور في اطار الزكاة لايجاد مخرج عما حدده النص من ضيق في الموارد. كذلك أعاد البعض النظر في حكم العاقلة التي ورد حولها عدد من النصوص. يضاف إلى ان البعض حاول ان يتنصّل من الإشكالات العالقة بالتعامل مع البنوك؛ معولاً في ذلك على وجود علاقات مستحدثة لا يصح اقحامها ضمن اعتبارات الربا الوارد ذكرها في النص. فالممارسة البنكية هي ممارسة استثمارية تتحول فيها الأموال السائبة إلى عمل، وبها تدور عجلة اقتصاد العالم، فهي بالتالي ضرورة حياتية تتوقف عليها كافة نظم الحياة الاجتماعية، كذلك أنه لا وجود للشخص في هذه الممارسة، بل إنها منّا والينا، مما يجعلها مختلفة عن الممارسة الربوية التي حرمها الشرع الإسلامي.

وكذا دعا بعض آخر إلى اتخاذ موقف رافض للجمود العالق بعدد من فتاوى الطريقة البيانية، وهي الفتاوى التي أصبحت لا تتناسب مع ما عليه الواقع، ومن ذلك: حصر حكم الاحتكار في الغلات الأربع، وجواز التصرف في الانفال التي أُحلت للشيعة حتى في الموارد التي يتمكن البعض فيها من تدمير آلاف الهكتارات من الغابات، وجواز التملك اللامحدود للأراضي الموات لمن له القدرة على احيائها، ومنع تحديد النسل، ومنع هدم المساجد والموقوفات في حالة ترتب أضرار اجتماعية عليها، وحصر مشروعية الرهان في السبق والرماية بالخيل والقوس والسهم، ولزوم تعطيل الحدود والقصاص في الغيبة الكبرى، وانحصار ثبوت خيار المجلس في المعاملات التي يكون البائع والمشتري حاضرين في مجلس المعاملة فقط، وخروج المعاملات التي تتم عبر الهاتف - مثلاً - من دائرة هذا الحكم، وتحليل الربا عن طريق تغيير كيفية المعاملة الربوية، وعدم مشروعية التعزيرات الا بالجلد، وضرورة استعمال السيف في اجراء الحدود، ولزوم دفع الدية بشكل مائة بعير أو مائتي بقرة أو حلة يمانية لأولياء المقتول عمداً من دون اكتفاء بالنقد أو ما له قيمة مالية.

هكذا تجري اليوم في ايران حركة جديدة من الذوق الفقهي لم تكن مألوفة من قبل، رغم أنها ما زالت تفتقر إلى التنظير العلمي المطلوب. وقد نشأت بفعل تطورات الواقع وما أفرزه من حاجات جديدة. الأمر الذي جعل بعض الفقهاء الجدد يشكك في صحة ما كانت عليه الطريقة التقليدية للفهم الفقهي، حيث ظهر عجزها وعدم قدرتها على مواكبة الحياة وحل المشاكل الحديثة، كالذي أفاده الشيخ أحمد جنتي..

comments powered by Disqus