-
ع
+

تصورات خاطئة (24) هل تترجح المصلحة على النص؟

 يتصور الكثير خطأً أنه لا يجوز ترجيح المصلحة على النص كالذي جنحت إليه نظرية الطوفي..

والحال ان هناك مبررات كثيرة تدعم هذا الترجيح، وبعضها يمثل نتاجاً طبيعياً للتطور التاريخي الذي أفضى إليه الفقه السني عبر مراحله التاريخية.

فمن ذلك ان نظرية الإستحسان للمالكية كانت قائمة على تخصيص النصوص بالمصلحة، فهذا التخصيص يمثل ترجيح المصلحة على عموم النص. فهو وإن لم يشمل النص بكامله إلا أن المناط واحد.

كذلك أجاز الغزالي ترجيح المصلحة على حكم النص والاجماع فيما لو تعارضا، معتبراً هذا الترجيح أو التخصيص لا يتم الا طبقاً لثلاثة شروط؛ هي ضرورية المصلحة وقطعيتها وكليتها. ونظرية الغزالي هذه وان لم تكن من حيث المضمون جديدة في الموضوع؛ لكن قبولها لجواز ترجيح المصلحة على حكم النص والاجماع - ولو ضمن شروط - يجعل نظرية ترجيح المصلحة على حكم النص مفتوحة وليست ممنوعة بالأصل، أو مرفوضة جملةً وتفصيلاً، إذ تصبح الاشكالية محددة بالشروط والقيود فحسب.

أيضاً إن قواعد فقهية من أمثال (الضرورات تبيح المحضورات) و(الحاجة تنزل منزلة الضرورة) و(المشقة تبعث على التيسير) وما اليها؛ يمكن اعتبارها ترجيحاً للمصلحة على النص ضمن بعض القيود.

كما قد توصل الفقهاء إلى ان الشرع موضوع لتحقيق مصالح الإنسان كمقصد أساس تدل عليه مختلف الأحكام الشرعية في جميع أبواب الفقه، سواء كانت المصالح ضرورية أو حاجية أو تحسينية، وهي التي أخذت من الشاطبي جلّ اهتمامه في كتابه (الموافقات) والتي سخّر لها منهجه المميز في الإستقراء.

يضاف إلى أن هناك عدداً من المواقف والمقالات التي أطلقها الفقهاء مما يتسق ونظرية ترجيح المصلحة على النص، منها مقالة تأثير الزمان والمكان على تغيير الأحكام. ومثل ذلك تبني الفقهاء أحياناً بعض الفتاوى التي تختلف كلياً عن أحكام النصوص بدعوى ان هذه الأخيرة كانت تعالج وضعاً خاصاً ضمن ظروف معينة لا يليق تمديدها عبر الزمان والمكان. كذلك مقالتهم في جواز تشريع ولي الأمر ما يناسب اعتبارات المصلحة حتى ولو اختلف في ذلك عن السياسة النبوية لتغير الظروف. والأهم من ذلك هو ان الفقهاء تقبلوا العديد من الأحكام الإجتهادية لبعض الصحابة وتوارثوها رغم أنها كانت تغييراً لأحكام بعض النصوص الصريحة بأعذار مختلفة.. فكل ذلك يتسق مع نظرية ترجيح المصلحة على النص ويجعلها غير بعيدة عن العقل الفقهي.

هكذا فنظرية ترجيح المصلحة على النص لها ما يبررها بحسب المقالات والنتائج التي أحدثها الفقه السني خلال مراحل تطوره عبر العصور. فبإضافة تلك الأمور بعضها إلى بعض تصبح النتيجة قريبة من نظرية ترجيح المصلحة على النص، اذ نجد بذورها وجذورها عند تلك المنطلقات التراثية التي زخر بها العقل الفقهي.

لكن يؤسف له أن الفقهاء لم يتقبلوا هذه النظرية اطلاقاً، ومن ذلك أنهم رفضوا ما بشّر به الطوفي الحنبلي (المتوفى سنة 716هـ) حولها مع تشديد النكير عليه. وقد كان هذا الفقيه قد استدل على نظريته باكثاره من الأمثلة الشرعية التي تكشف عن مراعاة الشرع للمصلحة واعتبارها من المقاصد في قبال أحكام الوسيلة. وهو بهذا يتبع الطريقة الإستقرائية في تتبع النصوص الوافرة التي تثبت مراعاة الشرع للمصلحة، كي يستخلص النتيجة المنطقية بوجوب تقديم المقاصد على الوسائل، وبالتالي تقديم المصلحة على سائر الأحكام والنصوص وكذا الاجماع عند التعارض. فلما كانت المصلحة هي المقصودة وان النص والإجماع وسائر الأدلة والامارات الشرعية هي وسائل لتحقيق هذه المصلحة؛ لذا وجب تقديم هذه الأخيرة عليها عند التعارض. يضاف الى ذكره لأمثلة عديدة حاول من خلالها أن يبين كيف أن الشرع من جانب، والصحابة من جانب آخر، رجحوا العديد من المصالح على أحكام النص، بل وعلى الاجماع أيضاً، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم تبلور هذا المصدر التشريعي عند الصحابة. كما إن الأمثلة التي ذكرها في رسالته المسماة (في رعاية المصلحة) ليست كلها دالة على ترجيح المصلحة.

كما استدل على نظريته عبر فهمه وتحليله للحديث النبوي (لا ضرر ولا ضرار)، ومن ثم توظيفه ضمن اطار اعتبار المصلحة مقصودة ومرجحة على غيرها.

وقد وُجد لهذه النظرية دعم من قبل بعض روّاد الإصلاح في عصرنا الحديث. فالملاحظ أن رشيد رضا قام بنشر رسالة الطوفي في أحد أعداد مجلته (المنار)، وأيد ما جاء فيها من نظرية. فهو يعد التعارض بين المصلحة العامة وبين العمل ببعض النصوص إنما يعود في الحقيقة إلى التعارض بين النصوص، لأن مراعاة المصلحة مؤيدة بها. وهذا هو أهم مبررات الطوفي في ترجيح المصلحة على حكم النص. مشيراً إلى أنه قلما يوجد في الكتب المتداولة بحث مشبع لهذه المسألة الهامة التي تتوقف عليها حياة الشريعة والعمل بها. 

comments powered by Disqus