-
ع
+

تصوارات خاطئة (23) هل يجوز الإجتهاد في قبال النص؟

يتصور الكثير خطأً أنه لا إجتهاد مع وجود النص الصريح، كما يعبّر عن ذلك لا إجتهاد في قبال النص. وهي القاعدة الأصولية التي ركن إليها الفقهاء..

والحال ان ذلك يعني انغلاق النص على ذاته من دون أن تتأثر أحكامه بتغيرات الواقع، وهو ما يفضي إلى تعارضه مع الأخير بمعية المقاصد العامة للشريعة، إذ لا يمكن فهم النص فهماً متسقاً بمعزل عن الواقع، لا سيما الواقع الخاص بتنزيل الخطاب الديني. وبالتالي تجب مراعاة علاقة النص بهذا الواقع، وحيث أنه تغيّر فلا بد من أن تتغيّر الأحكام المناطة به بالتبع وفقاً للمقاصد. واستناداً إلى ما ورد من أقوال بعض العلماء حول علاقة الحكم بالعادة؛ فإن الحكم يجري مجرى العادة في الثبات والتغير، فحيث أن العادة هي العلة في الحكم؛ فالأخير يتبعها وجوداً وعدماً، وبالتالي فحينما تطرأ بعض العادات الجديدة فإن مصير الحكم لا بد أن يتغير.

ورغم أن الفقهاء أقروا تلك القاعدة الأصولية إلا أنهم مارسوا مختلف أنواع التغيير للأحكام؛ انطلاقاً من الحاجات الزمنية وضغوطاتها، بما في ذلك تغيير بعض أحكام النص، وإن أنكروا من الناحية المبدئية العمل بمثل هذا التغيير في إجتهاداتهم، دفعاً لشبهة الوقوع في الإجتهاد في قبال النص، أو الإجتهاد مع وجوده، أو العمل على ممارسة النسخ في الأحكام.. وواقع الحال أن هناك الكثير من الممارسات الإجتهادية التي جاءت نتائجها مخالفة لأحكام النص. ويدخل ضمن هذا الإطار تلك التي عوّلت على تخصيص النص بالمصلحة والعرف. وعليه أضحت العملية الإجتهادية وتبديل الأحكام لا تفرّق بين حكم النص وغيره؛ مادامت الظروف تتنوع والأحوال تتبدل.

وكثير ما يذكر بأن للأزمان تأثيراً على تغيير الأحكام. فهي قاعدة مسلّم بها لدى أغلب المذاهب الفقهية. لكن القائلين بهذه القاعدة لم يضعوا صيغاً ثابتة ومنتظمة يفهم منها حدود ما يمكن للزمان أن يؤثر فيه على تغيير الأحكام. فإذا كانت الأحكام الإضطرارية التي تعنون ضمن العناوين الثانوية هي مما يدخل ضمن هذه القاعدة، وكذا الأحكام التي يتحدد نوعها ضمن طبيعة العرف المؤثر، فإن غيرها مما يعد من الأحكام الوسيلية تواجه صورتين مختلفتين من الموقف في الفقه التقليدي: إحداهما ترى أن الأحكام المنصوصة لا تقبل التغيير سواء كانت مقصدية أو وسيلية، فأي تغيير لها من غير ضرورة وإضطرار مؤقتين هو بمثابة الإجتهاد في قبال النص. ولا شك أن هذه الصورة تعد متسقة في ذاتها وإن كانت متخلفة لعدم انسجامها مع تطورات الواقع. أما الأخرى فهي وإن كانت أفضل حالاً من الأولى لما لديها من بعض المراعاة لتطور الواقع؛ إلا أنها تقف متذبذبة كدلالة على عدم إتساقها في ذاتها، فهي تتحيز لبعض الأحكام فتجيز تغييرها دون أن تفعل الشيء نفسه مع مثيلاتها من الأحكام الأخرى وبغير سبب معقول.

بل نجد تناقضاً لدى هذه الطريقة التي تقبلت مقالة جواز تغيير الأحكام طبقاً للعرف والعادة، أو تبعاً لتأثير الزمان والمكان. فهي من ناحية تعترف بضرورة تغيير الفتاوى التي عليها الفقهاء القدماء حين يتغير الواقع أو الزمان والمكان، كما إنها تتقبل أحياناً العمل بتغيير الأحكام الشرعية بفعل تغيرات الواقع أو الظروف تبعاً لربط الحكم بعادته أو بمقصده ومصلحته.. لكنها مع ذلك لا تضع ضوابط خاصة يفرز من خلالها ما يقبل التغيير عن غيره. بل لمّا كان الأصل لديها هو بقاء الحكم ثابتاً ما لم يثبت خلافه، وحيث أن إثبات الخلاف هو أمر إجتهادي قد يُعوَّل عليه إستناداً إلى أمارات أخرى غير النصوص الشرعية، لذا فغالباً ما يتعرض القائل بالخلاف إلى التشنيع باتهامه أنه يجتهد في قبال النصوص الصريحة، كما جرى الحال مع صاحب أبي حنيفة الفقيه أبي يوسف الذي حاول أن يربط بعض ما ورد حول الربا بالعرف السائد في عهد الرسالة.

وأغرب ما في الأمر هو أن الفقهاء أقروا بمشروعية ما فعله عمر بن الخطاب من تغيير بعض الأحكام بسبب تجدد الظروف، كما هو الحال مع سهم المؤلفة قلوبهم المصرح به في القرآن. والواقع لولا أن هذا الخليفة فعل ما فعل لكان من الصعب أن يجرؤ فقيه على التحرش بمثل هذه الأحكام، تحسباً من السقوط في حبال الإجتهاد في قبال النص، لا سيما عندما يكون الحكم منزلاً في القرآن الكريم وصريحاً غير مقيد بشيء. لهذا ما زال الإجتهاد العمري في سهم المؤلفة قلوبهم لم يفسر تفسيراً موحداً لدى الفقهاء، فإذا غضضنا الطرف عمن يتهم الخليفة العادل بأنه اجتهد في قبال النص الصريح، كما هو رأي طائفة من الفقهاء، نرى الفقهاء الآخرين بين موقفين، حيث ذهب البعض إلى أن ما فعله كان من النسخ المجمع عليه لدى الصحابة، فقيل إن ما حكم به لم ينكره أحد من هؤلاء، مما يدل على إجماعهم في نسخ الحكم القرآني، وبالتالي حكم الكثير من الفقهاء بعدم عودة هذا السهم، كما هو الحال مع الإمام مالك وفقهاء الكوفة. أما البعض الآخر فلم يتقبل رفع الحكم القرآني كلية، وبرر هذا الرأي استناداً إلى إجتهاد عمر في الموضوع فاستتبع ذلك حكمه الجديد، حيث أن الحكم يتبع سببه، وعند معرفة السبب يتحدد الحكم، وهذا ما حصل مع الخليفة الراشد، إذ حدد السبب بالذات فبنى عليه حكمه. لهذا قيل بجواز عودة حكم ذلك السهم عند الحاجة إليه وعندما يرى الإمام الحاكم ذلك، وهو قول إبن شهاب الزهري وعمر بن عبد العزيز والشافعي. لكن سواء هذا الرأي أو ذاك فقد ظل الحكم العمري هو السائد واقعاً تماشياً مع السلوك الإستصحابي للفقهاء في ثبات الأحكام وديمومتها رغم أنه كان إجتهاداً مع وجود النص الصريح.

ورغم أن قائمة تغيير الأحكام الشرعية للنصوص عديدة، وجميعها لها موجهاتها الإجتهادية، ورغم أن التعويل على تخصيص حكم النص وتقييده بالإجتهاد مسلّم به لدى الكثير من المذاهب الفقهية، كما رغم أن الصحابة كثيراً ما كانوا يجتهدون في النصوص الصريحة وينسبونها إلى ظروفها الخاصة مثلما هو حال الممارسات العمرية.. فرغم كل ذلك فإن الفقهاء ظلوا ينادون بعدم جواز تغيير حكم النص القاطع الصريح، بل ويشنعون على كل من يسعى لفهم جديد بجعل أحكام النص مرنة وقابلة للتغيير. وشاهد الطوفي الحنبلي (المتوفى سنة 716هـ) ليس ببعيد عنّا، حيث لقي من العنت والتشهير والإتهام الشيء الكثير لدى الفقهاء، حتى شوّهت الطريقة التي دعا إليها ولم تفهم على ما هي عليه.

وفي الوسط الشيعي كان فقهاء الإمامية قد حددوا الإجتهاد - في البداية - بحدود الإعتبارات النظرية، وبعدها بسطوا هذا الحكم على ظواهر النصوص، إذ توقفوا عند هذا الحد ومنعوا الإجتهاد في النص كأمر صريح، فميزوا بين صريح النص وظاهره، وقالوا بعدم جواز الإجتهاد في قبال النص. مع هذا فقد ظهر أخيراً من حاول المساس بالنص عندما وجده لا يفي بمتطلبات العصر الحديث، كالذي أشار إليه الشيخ محمد جواد مغنية وهو بصدد تفسير بعض النصوص التي لا تتسق مع مفرزات هذا العصر.

كما تقبل الإمام الخميني الإجتهاد حتى مع وجود النص الصريح، الأمر الذي خالف فيه طريقة الفقهاء التقليدية التي تعتبر هذا الإجتهاد هو في قبال النص وأن الأحكام الشرعية مؤبدة غير قابلة للتغيير. ومن ذلك إنه جدد بعض الفتاوى والأحكام بخلاف ما هو السائد وسط الفقهاء، مثل رأيه حول موارد الزكاة والرهان في السبق والأنفال والشطرنج والآلات الموسيقية، خصوصاً وان بعض هذه القضايا عُدّت من المحرمات في ذاتها كما أشار إلى ذلك المحقق الحلي، وسبقه في تأكيد حرمتها شيخ الطائفة الطوسي. لذلك أثارت هذه الطريقة حفيظة التيار التقليدي من الفقهاء، فاستشكل عليه عديدون، بعضهم من تلامذته مثل الشيخ محمد حسن القديري، مما جعل الخميني يذكّره في رسالة خطية بما مضمونه: إنه بغير الفهم الجديد لمثل تلك القضايا فإن الفقه الإسلامي سوف ينفصل عن الحياة ولا يصلح تطبيقه بأكثر من حياة الكهوف والصحارى المعزولة.

إذاً نحن بحاجة إلى إيجاد شكل من الإجتهاد يختلف جذراً عما ساد في العصور الماضية، تعويلاً على علاقة الواقع بالنص. وبالتالي لا بد من تغيير خارطة مصادر التشريع كما وضعها الفقهاء والتي تغفل ما للواقع من قوة كشفية تضاهي سائر المصادر الأخرى، بل وتتفوق عليها عند المعارضة التامة. فبدون هذا الإعتبار سوف ندور في ذات الفلك من المصادمة المتوقعة مع الواقع، أو إضفاء التبريرات الواهية لأجل تغطية ما يحدث من تصادم.

وبذلك يمكن نسف القاعدة القائلة (لا إجتهاد مع وجود النص الصريح). فالمعطيات التي قدمناها في عدد من البحوث والدراسات تثبت أن النص يحتاج إلى الواقع في ضبط مقصده ومعناه، وبدونه فإنه ينغلق على ذاته ويتعارض لا فقط مع الواقع، وإنما مع المقاصد التي لولاها ما كان للنص من معنى.

يبقى أن من الصحيح تماماً مفاد القاعدة الأصولية القائلة (لا إجتهاد في قبال النص)، وذلك حينما يتضمن المعنى الإعتراض على حكم النص إعتراضاً مطلقاً، لا المعنى الذي يُقصد منه (لا إجتهاد مع وجود النص الصريح) كالذي يعوّل عليه الأصوليون.

comments powered by Disqus