-
ع
+

تصورات خاطئة (20) الفلسفة ليست وليدة العبقرية اليونانية

 يتصور الكثير خطأً أن الفلسفة هي وليدة العبقرية اليونانية، وأن تاريخها قد بدأ بطاليس المالطي خلال القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، كما نصّ على ذلك أرسطو، ولم يجد المؤرخون والفلاسفة ما يفنّد هذا الزعم..

والحال ان هناك تشابهات كثيرة بين ما قدمته الفلسفة اليونانية من أفكار، وبين ما وصلنا من نصوص قديمة تعود الى عدد من الحضارات الشرقية، أبرزها الحضارة المصرية.

فابتداءاً كان اليونانيون يدركون بأنهم مدينون لحكمة الشرق. وكان المؤرخ هيرودوتس يعتقد بأن ديانة اليونان وحضارتها قد جاءتا من مصر. وفي محاورة طيماوس لإفلاطون يوجّه أحد الكهنة المصريين إلى سولون كلمته التالية: «أيها اليونانيون إنكم أطفال».

وقد كان يُضرب المثل بحكمة المصريين لدى اليونانيين القدماء، ومنهم افلاطون الذي روي أنه زار مصر وتتلمذ على أيدي الكهنة المصريين.

وكان نومونيوس، رائد الافلاطونية المحدثة خلال القرن الثاني للميلاد، يقول: لم يكن افلاطون غير موسى يتكلم اللغة اليونانية.

ونجد بعض الباحثين الأمريكيين يرى أن الفلسفة اليونانية ما هي إلا فلسفة مصرية مسروقة.

ويشار إلى أن اليونانيين قد استعانوا بالحضارات الأخرى بكل ما له علاقة بالشؤون العلمية والعملية مما هو خارج نطاق الفلسفة. ومن ذلك ما يذكر بأن مصر كانت أعظم مركز تعليمي أمّه اليونانيون. ويروى أن طاليس قد تتلمذ على أيدي الكهنة المصريين الذين قبلوه مريداً مبتدئاً لتلقي الأسرار والعلوم المصرية. وعُرف عن طاليس بأنه عالم فلكي إستطاع التنبؤ بكسوف الشمس الكلي، كما حدث في (28 مايس عام 585 قبل الميلاد) استناداً إلى الحسابات الفلكية البابلية.

كذلك هو الحال مع فيثاغورس الذي تعلم من المصريين الطب والهندسة والرياضيات والموسيقى. وكان اليونانيون يعتقدون بأن طاليس وفيثاغورس قد حملا العلوم الرياضية من مصر. ومثل ذلك ديمقريطس الذي أقام في مصر خمس سنوات لتلقي العلم فيها. كما نُسب إليه رحلاته إلى الهند وغيرها ففُسّرت بها علومه الموسوعية.

وعلى الصعيد الفلسفي يقال بأن عدداً من الفلاسفة اليونانيين زاروا الهند واقتبسوا منها العديد من الأفكار، ومن ذلك ما ذُكر بأن فيثاغورس قد تأثر بآراء الهند، ومثله أرسطو، حتى قيل بأن المنطق الأرسطي متأثر بمذهب النيايا، وكذا أن المذهب الذري لديمقريطس له جذور هندية.

وتعود بداية الفلسفة الهندية إلى التأملات المسجلة في نصوص (الفيدا)، وهي نصوص الحكمة التي تبدأ بعام 1500 قبل الميلاد، وأقدم نص للفيدا هو الريج فيدا، ويعني أشعار الحكمة. وأُلحق بالفيدا نصوص ختامية تُعرف بـ (الاوبانيشاد)، وجرى تأليفها خلال الفترة الممتدة بين (800 و500) قبل الميلاد. وتعد نصوص الفيدا دينية أكثر منها فلسفية. أما الاوبانيشاد فهي تعبر عن تجربة الحكماء وليست نظريات فلسفية تحتاج إلى التبرير، فتجربة الحكماء هي التي تقدم البرهان على صدق الدعاوى فحسب.

يبقى ان هناك تشابهات قوية للأفكار الفلسفية يمكن لحاظها بين الفكر اليوناني من جهة، وبين التصورات المصرية القديمة من جهة ثانية، ومن بينها التشابهات الخاصة بأفكار افلاطون وأرسطو مع فلسفة (بتاح حتب) المصرية. ويعود زمن (بتاح) إلى ما قبل افلاطون بما يقرب من ألفين وثلاثمائة عام، أي أنه عاش حوالي سنة 2700 قبل الميلاد. والبعض يرى أنه عاش قبل ذلك بزمن طويل، فهناك حجر مصري محفوظ في المتحف البريطاني يحتوي على آراء المصريين القدماء حول النظام الكوني وأصله، ويرجع تاريخه إلى عام 700 قبل الميلاد، وهو يحمل إسم فرعون مصري يقرر أنه استنسخ نقشاً لأسلافه. وأمكن التحقق من ذلك طبقاً للغة ونظام ترتيب النص. ويعود التاريخ الأصلي لهذه الآراء إلى زمن مدينة الإله (بتاح) ممفيس، وذلك ما بين ثلاثة آلاف وخمسمائة إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد.

وبالفعل نصاب بالدهشة عند رؤية التشابه الكبير الذي نجده بين الفلسفة اليونانية، كما لدى افلاطون وأرسطو، وما جاء من نصوص مصرية قديمة، لا سيما حول النظام الكوني وعلاقته بموجده. فليس فقط أن بين هذه النصوص تلك العبارة الشهيرة المنسوبة إلى سقراط: (اعرفْ نفسك)، وهي التي وجدت منقوشة في الجدران الخارجية للمعابد المصرية.. ولا فقط ما ينسب إلى افلاطون في الفضائل الأربعة الرئيسية (العدالة والحكمة والإعتدال والشجاعة).. ولا أيضاً ما تبناه أرسطو في نظريته حول صفة مبدأ الوجود وهي أنه المحرك الأول غير المتحرك.. بل أكثر من ذلك أن نظرية الفيض والصدور التي شاعت لدى الفكر اليوناني، لا سيما لدى افلاطون، نجدها في النص القديم العائد إلى عصر مدينة ممفيس قبل حوالي ثلاثة أو أربعة آلاف سنة قبل الميلاد. إذ ترد بعض الإشارات المتعلقة بوجود أرباب للأشياء ومن قبلها رب الأرباب، فهناك الإله (بتاح) الذي هو بمثابة القلب واللسان للآلهة جميعاً، ويحمل في قلبه كل موجود، وبكلمته خلقهم جميعاً. ومع الإله بتاح هناك الإله (آتوم) وهو الوسيط بين الإله الأول وسائر الخلق، فهو الإله الصانع الموظف للخلق والإبداع، وهو بمثابة الصادر الأول لدى الفلسفة اليونانية، أو ما يسمى بالعقل الأول. ويضاف إلى هذا الإله هناك آلهة ثمانية أخرى، فيكون مجموع الآلهة عشرة بمن فيهم الإله بتاح، وبدونه فالآلهة أو العقول تسعة، وهي الإله الصانع آتوم والصوادر الثمانية المخلوقة منه، وجميعها متحدة في ربوبية واحدة. ولا شك أن هذه الآراء شبيهة بتلك التي جاء بها افلاطون.

وفي النصوص القديمة نجد ثالوثاً مصرياً يتألف من ثلاثة آلهة متحدين بواحد، كالثالوث المسيحي الذي ظهر بعد قرون طويلة. ففي النص أن كل الآلهة ثلاثة، هم آمون ورع وبتاح، فإسم الكائن الأحد هو آمون، رأسه رع، وجسمه بتاح، وثلاثتهم واحد، ولكل منهم هوية منفردة.

كما ظهر لدى حكماء مدينة واست، وهي ما تُعرف اليوم بمدينة أقصر المصرية، بعض الآراء التي سبقت الفكر اليوناني، فقد ذكر هؤلاء الحكماء بأن الروح الإلهية التي اعتاد الناس أن يتعبدوا لها في المعابد لم تكن في الحقيقة غير روح واحدة وإن تعددت أوضاعها، فهي قد صدرت جميعها عن واحد وارتدت إلى واحد.

وشبيه بالرؤية السابقة ما كان لدى الهند. فقد اعتقد الهنود القدماء بفكرة الوجود الواحد والكلي المختفي وراء مظاهر العالم المتغير، مثلما جاء وصف ذلك في الاوبانيشاد.

وقد عُرف عن فيثاغورس بأنه أبرز الذين تأثروا بالفكر الهندي، ومن ذلك تبنيه لفكرة تناسخ الأرواح، وهي أن الروح خالدة تنتقل من مخلوق إلى آخر، ومن حياة إلى أخرى، حتى تصل في رحلتها العلوية إلى الله. ومثل ذلك فكرة بنوة الإنسان للحيوان المصحوبة بمنع تناول اللحم، وكلاهما يعود إلى الفلسفة الهندية.

ومما إمتازت به الفلسفة اليونانية هو أن فكرها كان يدور حول تفسير الكثرة النوعية للأشياء وردها إلى أصل واحد. ومع أن بداية بحثها قد غلب عليه الطابع المادي، إلا أنها أفضت إلى نهاية ميتافيزيقية واضحة المعالم، وهي نهاية سبق إليها الفكر الهندي بشكل واضح وجلي.

comments powered by Disqus