-
ع
+

تصورات خاطئة (15) هل الأحكام الدينية ثابتة؟

 يتصور الكثير خطأً أن أحكام النص الديني ثابتة ومجردة عن الواقع التنزيلي، وهي بذلك صالحة لكل زمان ومكان..

والحال ان النص الديني ذاته لم يحافظ على هذا الثبات المزعوم، بل ان ظاهرة جدله من الواقع الموضوعي صريحة وواضحة للعيان. فقد تعامل الخطاب القرآني مع قضايا الأحكام المختلفة وفق اعتبارات حركة الواقع وتغيراته، وإنه بدافع هذه الحركية جرت ممارسة النسخ[1].

ورغم شهادة القرآن الكريم على مراعاة الواقع عند تنزيل الأحكام، وان الأخيرة لم تنفصل قط عن هذه المراعاة، لكن للأسف أصبحت هذه الفكرة الواضحة غريبة لدى الأوساط الإسلامية، إلى درجة ان الكثير يتصور بانها تعارض الفكرة الدينية من دون أن يكون لها أصالة إسلامية أو قرآنية.

لقد حدث هذا التضييق بفعل هيمنة التفكير الفقهي الذي جعل الأحكام الدينية ماهيات ثابتة دون أن تتأثر بالواقع الموضوعي واعتباراته المختلفة. ومن هنا شيع بأن الأحكام صالحة لكل زمان ومكان، مع رفض كل محاولة لربطها بواقع التنزيل، واعتبار من يفعل ذلك بأنه يخالف الضرورة الدينية. رغم أن الصحيح هو العكس، وأن هناك خطأً تاريخياً ما زالت آثاره سارية إلى يومنا هذا.

وبلا شك ان لدعوات العنف والكراهية والإرهاب بواعث اصلها متعلق بهذا التفكير المغلق. فالعامل الرئيسي للعنف والكراهية الدينية يعود إلى سوء الفهم الذي ما زال يروج له النهج البياني بمذاهبه المختلفة، وهو النهج الذي يعتمد على حرفية النص الديني مفصولاً عن واقعه التنزيلي. فالنص المجرد عن الواقع هو الحجة الأولى التي يستخدمها دعاة العنف والكراهية وترويجها بين الشباب. وهو الإطار الذي يعول عليه الفقهاء كركيزة ثابتة غير قابلة للتغيير، وعلى أساسه تُرفع شعارات كون الشريعة الإسلامية بأحكامها المنصوصة مناسبة وصالحة للتطبيق في كل زمان ومكان.

فالتصور الفقهي ثابت، فيما التصور القرآني مرن غير ثابت، وهذه المرونة تابعة لمرونة الواقع، وإذا كان الفقهاء قد انتهوا إلى منظومة مغلقة بحملها لأحكام منصوصة لا يمكن تجاوزها رغم ما تدعو اليه من عنف وكراهية كما في قضايا الكفر والجهاد ودفع الجزية وقتل المرتد وما إلى ذلك؛ فإن القرآن الكريم كان على العكس من ذلك يمارس أحكاماً مرنة ومفتوحة وفقاً لتغايرات الواقع الموضوعي وحركيته، ويؤيد هذا المنحى ما وردنا عن السيرة النبوية وأفعال الصحابة.

فهذه هي ركيزة الواقع التي غيبها الفقهاء من معجم التعامل القرآني، حيث تمسكوا بالنص وقطعوا الصلة فيما بينه وبين مراعاته لها.

إن التفكير الديني سلاح ذو حدين، فهو قابل لأن يكون مدمراً للبشرية، كما قابل لأن يكون مصلحاً لها. فالخط الفاصل بين ان ينتج الفكر الديني منتجات إرهابية أو ثماراً انسانية هو خط الواقع والقيم الأخلاقية. فعندما يضاف الواقع إلى النص فإنه يبعث على الثمار الانسانية، لكن عندما يطرح من النص فإنه يؤدي إلى منتجات العنف والتشدد والكراهية ومن ثم الموت والفناء.

وبحسب التعبير الرياضي فإن:

النص – الواقع ← افساد

النص + الواقع ← اصلاح

هكذا نضطر إلى اتخاذ أحد خيارين لا ثالث لهما. فإما ان نقيم الفكر الديني على اصالة الواقع والقيم الأخلاقية، أو نقيمه على الأحكام المجردة المغلقة الثابتة التي تفضي بنا إلى العنف والكراهية، وهي الركيزة التي آثرتها المنظومة الفقهية كصيغة من صيغ الإرشاد الفكري.

إن اقامة الفكر الديني على الواقع يقتضي اعتبار الخطاب القرآني نزل في بيئة نموذجية تتصف بجغرافيا معينة وزمن محدد، وهو ما يجعل الأحكام الدينية نموذجية لا مركزية طالما ان شبه الجزيرة العربية ليست مركزاً للأرض ليستنتج منها مركزية الأحكام.

إن الدين من خلال المنظور الديني ليس نصاً مجرداً كما يُخيل للفقهاء والعلماء التقليديين، بل هو حصيلة التفاعل بين الخطاب القرآني والواقع، وعليه كان لا بد من أن يستظل بظل القيم والمقاصد، وبدونها ليس للأحكام الدينية من معنى سوى العبث والتدمير.

إن العلاقة بين النص والواقع تجعلنا في غنى عن ان نكون متمذهبين ضمن اي من المذاهب الإسلامية المعروفة. فليس بين هذه المذاهب من يعول على مرجعية الواقع، كما ليس منها من يولي القضية الأخلاقية قيمتها كمصدر للأحكام الفقهية أو موجه لها، كذلك ليس منها من يلتزم بالطرح المنهجي كما تطرحه هذه العلاقة الوطيدة.

ومن حيث المبدأ ليس من الممكن فهم الأحكام الدينية وتطبيقها باتساق وصلاح دون التعويل على ركيزتي الواقع والقيم الأخلاقية. فهما الخيار الذي يمنعنا من الوقوع في متاهات التشديد والتكفير والتضليل والانغلاق. وبالتالي فكل علاج لا يستعين بما ذكرنا سيفضي إلى الفشل والتعارض مع ابسط حقوق البشر.

 


[1]           للتفصيل انظر: جدلية الخطاب والواقع.

comments powered by Disqus