-
ع
+

تصورات خاطئة (13) كيفية التصرف بالخُمس لدى الشيعة

 يتصور الكثير خطأً أن التقسيم السائد اليوم حول التصرف بالخمس في الأرباح هو ذات ما كان يراه قدماء الشيعة..

والحال إن الآراء القديمة حول الموضوع مضطربة. ومن حيث التفصيل ذكر الشيخ الطوسي ان الفقهاء إفترقوا إلى أربعة أقوال: أولها يرى ان الخمس مباح على الشيعة. والثاني يرى وجوب ايداعه وحفظه لدى الثقات من واحد إلى آخر حتى ظهور الإمام المنتظر ليسلمه اليه. والثالث افتى بوجوب دفنه في باطن الأرض؛ لأن الأرض سوف تخرج كنوزها عند قيام القائم فيكون ذلك تحت تصرفه. أما الرابع فيرى أنه يجب تقسيمه إلى ستة اسهم بحسب آية الخمس، فيكون ثلاثة منها حقاً خاصاً للإمام، وهي سهم الله والرسول وذي القربى، أما الثلاثة الأخرى فهي خاصة بمستحقي ذرية آل محمد ومحتاجيهم، من الأيتام والمساكين وأبناء السبيل. وقد اعتبر الطوسي الآراء الثلاثة الأخيرة كلها عملت بالاحتياط، خلافاً للرأي الأول الذي عدّه ضد الاحتياط ورأى أن الأوْلى اجتنابه[1]، وهو الذي ذهب اليه معاصر الطوسي الشيخ سلار بن عبد العزيز الديلمي (المتوفى سنة 448هـ)[2].

وسبق للشيخ المفيد أن عرض الآراء السابقة، ورجح حفظ الخمس والوصية عليه حتى ظهور القائم، لكنه لم يستبعد صواب الرأي الذي يشطر الخمس إلى قسمين أحدهما للامام والآخر إلى ذريته[3]. ونُقل عنه في (الغرية) أنه أجاز صرف حصة الإمام في الأصناف الموجودين[4].

وهناك رأي آخر يبدو أنه كان شاذاً لدى القدماء وإن ساد بين الفقهاء المحدثين حتى يومنا هذا، وخلاصته أنه يدعو إلى صرف حصة الإمام على الشيعة من أهل الفقر والصلاح دون تخصيص بالذرية، كالذي نقله المفيد عن البعض، وجعله قريباً من الصواب، وإليه ذهب ابن حمزة في (الوسيلة)[5].

وقد استمرت هذه الآراء قروناً طويلة دون زوال، واخذ الفقهاء يوسعون من مدارها بابراز بعض الشروط في كيفية الصرف، وكذا التخيير بين عدد منها. وظهر على هذا الاساس ما يتجاوز العشرة آراء؛ كالتي سجلها المحقق البحراني في (الحدائق الناضرة)[6]، ومن هذه الآراء تسعة مذاهب مختلفة حول التصرف بسهم الإمام؛ كالتي سجلها المحقق النراقي في (مستند الشيعة)[7]. ومن بين الشروط والتخييرات التي درج عليها الفقهاء ما أورده محمد بن مكي العاملي الملقب بالشهيد الأول الذي أجاز ثلاثة خيارات تخص حصة الإمام، هي: الدفن، أو الوصية، أو الصرف على الأصناف الموجودين عند الحاجة والعوز، واشرط ان يكون الصرف المذكور من خلال تولية ‹‹نائب الغيبة، وهو الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى››[8]. ومثل ذلك تخيير المحقق الكركي (المتوفى سنة 940هـ) العمل إما بتوكيل الفقيه في صرف حصة الإمام، أو الوصية عليه وتسليمه عند ظهور القائم[9]. ومثله تخيير المحقق الخوانساري بين الصرف على الأصناف الموجودين من الذرية الهاشمية، أو ايداعه والوصية عليه حتى ظهور القائم[10].

واصبح الرأي المشهور بين المتأخرين هو تقسيم الخمس؛ بصرف نصفه على الهاشميين وحفظ النصف الآخر والتوصية عليه من ثقة إلى اخر، كالذي يظهر لدى كل من ابي صلاح الحلبي وابن البراج وابن ادريس، واستحسنه العلامة الحلي في (المنتهى) واختاره في (المختلف)[11].

أما كيفية تصرف الأفراد بالخمس، فقد كانت هي الأخرى موضع خلاف بين الفقهاء، فأغلب القدماء أجاز للفرد ان يتولى بنفسه التصرف، وبعضهم اشترط دفع ذلك للفقيه ليتولّى الأمر، كما هو الحال مع ابن البراج (المتوفى سنة 481هـ) وابي صلاح الحلبي (المتوفى سنة 447هـ)، إذ ذهب الأول إلى حفظ السهم الخاص بالامام ودفعه إلى من يوثق به من فقهاء المذهب؛ ليتم ايداعه والوصية عليه حتى يصل إلى الإمام المهدي[12]. ويبدو أنه منفرد بهذا القول. أما ابو صلاح الحلبي فقد رأى لزوم دفع حصة الهاشميين وغيرها من الموارد المستحقة إلى الفقيه المأمون ليتولى صرفها عليهم، عند تعذر ايصالها إلى الإمام أو من ينصبه الإمام، الا أنه أجاز دفعها ايضاً بطريق مباشر دون وساطة الفقيه. أما حصة الإمام فقد صرح بوجوب عزلها انتظاراً للتمكن من ايصالها اليه، فإن استمر التعذر اوصى حين الوفاة إلى من يثق بدينه وبصيرته ليقوم بأداء الواجب مقامه.

في حين ذهب بعض آخر إلى تولية من له حق النيابة بالحكم، وإن لم يكن فقيهاً، كالذي مال اليه المحقق الحلي في (شرائع الإسلام) وتابعه العلامة الحلي في (تحرير الأحكام). وقد تكرر هذا الرأي لدى المتأخرين، كالذي قال به الشهيد الثاني (المتوفى سنة 965هـ)، حيث صرح بأن صرف حصة الإمام هو بيد من اليه الحكم بحق النيابة[13]. وكذا قال من جاء بعده كمحمد العاملي (المتوفى سنة 1009هـ)[14].

ويتضح مما سبق بأن الآراء الفقهية حول الخمس، أو سهم الإمام خاصة، قد تراوحت بين الدفن والوصية والإباحة والصرف إلى الأصناف الموجودين من الذرية، أو إلى عموم أخيار الشيعة وصلحائهم. والغالب فيها هو الوصية. ورغم مرور ما يقارب تسعة قرون على غيبة القائم، فإن ذلك لم يمنع من استمرار مثل هذا الرأي وغيره من الآراء التي أدت إلى هدر الثروة وتبديدها. ويبدو أن أول ما اختفى من هذه الآراء هو القول بالدفن، فقد استمر حتى القرن الثامن الهجري ولم يعد له ظهور بعد ذلك. ثم القول بالوصية، إذ بقي حتى القرن الثاني عشر ثم زال. كما استمر القول بالاباحة حتى القرن الثاني عشر، ومال اليه من المتأخرين كل من المحدث الكاشاني ومحمد باقر السبزواري ومحمد باقر الخراساني وعبد الله بن صالح البحراني، ومن بعدهم المحقق البحراني (المتوفى سنة 1186هـ) الذي اعتبره مشهوراً لدى جملة من معاصريه[15]. ولعل الإخباريين ما زالوا يتبنون هذا الرأي حتى عصرنا الحالي. كذلك فإن الرأي الذي يميل إلى صرف سهم الإمام على الأصناف الموجودين من الذرية؛ لم يصمد كغيره من الآراء السابقة. أما الرأي القائل بصرف سهم الإمام على عموم أخيار الشيعة من المحتاجين فقد جرى عليه شيء من التوسعة والإضافات، إذ مال اليه الفقهاء المحدثون إلى يومنا هذا، رغم أنه كان من المذاهب الشاذة مقارنة بالآراء الأخرى، لكن مع الأخذ بعين الإعتبار ما أُضيف اليه من مجالات للصرف، كتلك التي تلبي حاجة الحوزات العلمية واقامة الشعائر الدينية والتبليغ وما اليها، وأغلبهم أشرط أن يولّى على صرفه الفقهاء بحكم النيابة العامة.

ومؤخراً أدرك الفقهاء خطأ ما تبناه اسلافهم من مذاهب الدفن والوصية؛ باعتبارها تفضي إلى هدر الثروة وتضييعها. ويعد السبزواري (المتوفى سنة 1090هـ) من السابقين الذين تنبهوا إلى هذا الخطأ الفادح[16]. كذلك ما صرح به النراقي (المتوفى سنة 1245هـ)، فقد اعترف هو الآخر بالخطأ المذكور واعتبر أن الإمام المهدي لا يرضى به يقيناً[17]. وكذا هو الحال فيما صرح به السيد الخوئي الذي اعتبر الآراء الخاصة بالدفن والوصية ضعيفة لما تستلزمه من ضياع المال واتلافه[18].

وبهذا يتضح بأن الأقوال التي أُعتبرت قديماً من الآراء المحتاطة التي ينبغي الأخذ بها، هي الآن في عداد الآراء المنكرة التي يأسف على وجودها الفقيه المعاصر. وعلى عكسها ما كان يعتبر من الآراء غير المحتاطة، فانها ظلت حية - ربما - إلى يومنا هذا. وكذا تلك التي كانت شاذة، فإنها أصبحت اليوم سائدة - مع بعض التوسعة كما أشرنا - ولها من الديمومة إلى ما شاء الله.


[1]   الطوسي: النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، ص198ـ202. كذلك: جواهر الكلام، ج16، ص165ـ169.

[2]   البحراني: الحدائق الناضرة، ج12، ص438.

[3]   المفيد: المقنعة، ص285ـ287. كذلك: ابن البراج الطرابلسي: جواهر الفقه، ص269.

[4]   محمد باقر السبزواري: ذخيرة المعاد في شرح الارشاد، ج3، ص491. والحدائق الناضرة، ج12، ص321. ومستند الشيعة، ج10، ص128. ومحمد صادق الروحاني: فقه الصادق، ج7، ص508.

[5]   مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج10، ص129. والحدائق الناضرة، ج12، ص443.

[6]   الحدائق الناضرة، ج12، ص437 وما بعدها.

[7]   مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج10، ص127ـ129.

[8]   محمد بن مكي العاملي: الدروس الشرعية في فقه الإمامية، ج1، ص262.

[9]   الكركي: جامع المقاصد، ج8، ص213.

[10]  مستند الشيعة في أحكام الشريعة، ج10، ص129.

[11]  الحدائق الناضرة، ج12، ص440ـ441.

[12]  ذخيرة المعاد في شرح الارشاد، ج3، ص491.

[13]  مسالك الافهام، ج1، ص476.

[14]  مدارك الأحكام، ج5، ص427

[15]  الحدائق الناضرة، ج12، ص438ـ439 و443. وذخيرة المعاد في شرح الارشاد، ج3، ص492. وكفاية الأحكام، ص43.

[16]  ذخيرة المعاد في شرح الارشاد، ج3، ص492.

[17]  مستند الشيعة، ج10، ص131.

[18]  الخوئي: كتاب الخمس، ضمن مستند العروة الوثقى، ص325. كذلك: التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الإجتهاد والتقليد، ص424ـ425.

comments powered by Disqus