-
ع
+

تصورات خاطئة (5) هل هناك أحاديث قطعية الصدور؟

يتصور الكثير خطأً أن هناك أحاديث قطعية الصدور.. والحال إن أبلغ الأحاديث صحة هو حديث الكذب على النبي، ومع ذلك فقد روي بالفاظ ومعاني كثيرة مختلفة، وليست هناك صيغة محددة تبلغ القطع بما فيها الصيغة المستفاضة (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).

فإحتمالات التحوير في المعنى والزيادة والنقصان ترد على الدوام، تبعاً للنقل المتعدد من جيل إلى جيل مصحوباً بتغيير الالفاظ والعبارات، وكلما زاد السند في الطول كلما ضعفت القيمة الإحتمالية لإصابة نقل الحديث بدقة، ناهيك عن إحتمالات الوضع والدس.

وقد اعترف عدد من العلماء بعدم وجود حديث يرقى إلى مستوى التواتر أو القطع، ومن ذلك ما ذكره ابن عاشور: ‹‹واما الأحاديث المتواترة فقد قال علماؤنا: ليس في السنة متواتر لتعذر وجود العدد الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب››[1]. كما قيل أنه لا يوجد خبر من رواية عدلين في جميع سلسلة السند وان جميع الأخبار هي أخبار آحاد كالذي صرح بذلك ابن حبان البستي.

ولعل أعظم خطأ يقع به المحققون هو ظنهم ان الكثرة في الأخبار الموثقة تفيد التواتر، وهو خطأ، إذ قد يكون منشأ الكثرة بسبب الدس في الكتب، أو لوجود مصلحة غالبة تدفع إلى الكذب في الحديث، كالذي كان يفعله الزهاد من علماء السنة، أو لغير ذلك من الأسباب التاريخية التي نجهلها. ولو صح التواتر بهذا المعنى الاعتباطي لحصل التناقض في الكثير من القضايا المتعارضة التي يستشهد عليها بكثرة الحديث، ومن ذلك التعارض الحاصل بين تواترات أهل السنة، وتواترات الشيعة، وكلا الطرفين يدعي ان رواته ثقات، مع ان التحقيق الوارد لدى علماء الحديث هو تحقيق تاريخي مختزل ضعيف وغير مباشر. فهو بالصورة المتاحة لنا من وجود السلاسل الرجالية الطويلة يمنع ان يفضي إلى قطع في الأقوال المنقولة هنا أو هناك. لذلك كان زين الدين العاملي (الشهيد الثاني) ينفي تحقق خبر خاص بلغ حد التواتر اذا ما روعيت شرائطه، لكنه استثنى من ذلك حديث (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)[2]، وكذا كان ابن الصلاح من أهل السنة يرى ان من أراد مثالاً للحديث المتواتر غير هذا الحديث أعياه الطلب. فيما ذكر الشيخ زين الدين العراقي - خلال القرن التاسع الهجري - انه لم يتحقق التواتر في هذا الحديث، لتعذر وجود التواتر في الطرفين والوسط[3] .

ومع أنه لا علم للمتأخرين إلا بما دوّنه المتقدمون، فالصلة بين الطرفين غير مباشرة، والتواتر المذكور هو تواتر نقلي وغير حسي، فإحتمالات الدس والوضع في كتب الأوائل واردة، مثلما ان إحتمالات الكذب ودوافع اشاعة الحديث واردة هي الأخرى، وكل ذلك يقف مانعاً عن القطع، بخلاف ما لو كان التواتر حسياً؛ إذ كل شيء فيه ظاهر بلا خفاء.


[1]           تحقيقات وانظار في القرآن والسنة، ص50ـ51.

[2]           نهاية الدراية، ص99. وقد نصّ الحر العاملي على كون الشهيد الثاني قد ذهب إلى عدم وجود خبر متواتر اذا ما روعيت شرائطه، وهو كحال الشيخ ابن الصلاح من أهل السنة (لاحظ: الفوائد الطوسية، الفائدة 59، ص256).

[3]           الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث، ص28.

comments powered by Disqus