-
ع
+

تصورات خاطئة (4) علة تحفّظ الصحابة من تدوين الحديث

يتصور الكثير خطأً أن سبب تحفظ الصحابة والتابعين من التدويل العام لكتابة الحديث هو لكي لا يختلط بالقرآن الكريم، ولكي لا يُتكل على الكتاب، أو لأن الكثير منهم لا يعرف الكتابة ولا يحتاجون إليها لسعة حفظهم..

والحال ان من قال بذلك – في الوسط السني - وردده إلى يومنا هذا لم يقدّم روايات صريحة عن الصحابة أو التابعين تدعم هذه الفكرة بدلالة واضحة لا ريب فيها، وهي علاوة على ذلك قليلة جداً. والعبرة فيما ذُكر من أسباب هو ان لا يختلط الحديث بالقرآن، لأن باقي الأسباب المذكورة ليس لها أهمية من الناحية الدينية، لا سيما في العصر الأول حيث لم يظهر التزوير والدس في الكتب كي يخشى منه.

فقد استمر حال التحفظ من التدويل العام للكتابة طيلة قرن من الزمان أو أكثر قليلاً. وذكر الحفّاظ أكثر من تفسير لما حدث من منع كتابة الحديث أو الأمر بمحوها وازالتها. ومن ذلك احتمل ابن الصلاح أمرين، أحدهما هو ان النبي (ص) أذن في الكتابة عنه لمن خشي عليه النسيان، ونهى عنها لمن وثق بحفظه مخافة الاتكال على الكتاب. والآخر هو أنه نهى عن الكتابة خوفاً من ان يختلط الحديث بصحف القرآن، ومن ثم أذن في كتابته حين أمن من ذلك.

وعلى هذه الشاكلة علل ابن حجر العسقلاني في (مقدمة فتح الباري) نهي النبي عن تدوين آثاره، وكذا استمرار ذلك في عصر الصحابة والتابعين، بأمرين: أحدهما خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن، وثانيهما لسعة حفظ هؤلاء وسيلان أذهانهم ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة. وذكر الرامهرمزي بأن علة كراهة الكتابة من قبل الصدر الأول للصحابة هو لقرب العهد وتقارب الإسناد ولئلا يعتمد على ذلك الكاتب فيهمل الحفظ ولا يعمل به. كما قدّر مصطفى الزرقاء من المعاصرين بأنه لما عمّ القرآن وشاع حفظاً وكتابة لم يبق لهذا الخوف من معنى، بل أصبحت كتابة السنة واجبة لصيانتها من الضياع.

بيد أن هذا التقدير وكذا القول بأن سبب النهي يعود إلى  الخوف من ان يختلط الحديث بالقرآن، ليس عليه دليل بحسب ما روي عن سيرة الصحابة والتابعين وأقوالهم. فما روي بهذا الشأن يتعلق بالخشية من الكذب على النبي (ص)، وكذلك كي لا يكون هناك إنشغال بالحديث على حساب القرآن..

وبعبارة ثانية، ثمة عدة أسباب دعت إلى كراهة تدوين الحديث والإنشغال به، أبرزها ان لا يُتخذ الحديث كتاباً يضاهي ما عليه القرآن، كما هو عادة الناس، والسيرة الفعلية للصحابة والتابعين تؤكد هذا المعنى. وقريب منه ما أشار اليه الحافظ أبو عمر بن عبد البر في ذكره للوجه الأول من علة كراهة الكتابة، حيث ذكر وجهين بهذا الخصوص: هما ألا يُتخذ مع القرآن كتاب يضاهى به، ولئلا يتكل الكاتب على ما كتب فلا يحفظ فيقل الحفظ. ويؤيد هذا المعنى ان الكراهة لم تقتصر على كتابة الحديث، بل امتدت إلى كراهة الإكثار منه، فالإكثار يفضي إلى الإنشغال به والإشتغال فيه، كما يفضي إلى الكذب على النبي، حيث تكثر احتمالات تحوير كلامه أو التقول عليه بشكل أو بآخر، ومن ثم يؤدي الأمر إلى احلال دين بدين، كالذي حلّ في الأديان السماوية السابقة للإسلام.

من هنا أخذ الكثير من الصحابة والتابعين إزالة ما كتبوه من أحاديث قبل وفاتهم، مع التحفظ في تدوينها والإكثار من روايتها، بل وظهر التثبت في سماعها والرغبة في احالتها أحياناً إلى من هو دون النبي (ص) خشية الكذب عليه، وذلك لما نُقل عنه توعده بالنار لكل من كذب عليه. ومن المثير انه روي عنهم ما قد يصل إلى المئات من من الشواهد الدالة على مثل هذه الأعمال ذات المغزى الخاص.

لكن ما حدث فيما بعد هو ظهور عصر جديد يحمل معاني الانقلاب على ما سلكه كبار الصحابة والتابعون ازاء التعامل مع الحديث، وهو عصر الصحاح والجوامع الحديثية التي برزت فيه سمات جديدة هي على الضد من تلك التي شهدها العصر الأول. ويمكن اجمال الفروق الجوهرية بينهما بالنقاط التالية:

1ـ كان العصر الأول للصحابة يمنع تدوين الحديث وتدويله، في حين كان عصر الصحاح والجوامع الحديثية يشجع عليه.

2ـ كان العصر الأول يقل من الرواية، في حين كان العصر الأخير يكثر منها.

3ـ كان العصر الأول يتهم المكثرين للرواية ويتجنبهم، في حين كان العصر الأخير يعتمد عليهم.

4ـ كان العصر الأول يبدي تحفظاً من ان ينسب الحديث إلى النبي، في حين كان العصر الأخير لا يتحفظ من ذلك.

5ـ كان العصر الأول يتثبت من الحديث غير المعروف؛ بالقسم أو بطلب شاهد ثان رغم قرب العهد بالنبي، في حين كان العصر الأخير لا يعمل بمثل هذا التثبت.

6ـ كان العصر الأول لا يدقق في بحث الرجال والإسناد، في حين كان العصر الأخير يدقق في ذلك.

7ـ أخيراً كان العصر الأول يكره الإنشغال بالحديث والإشتغال فيه؛ خشية ان يتبدل الدين إلى دين آخر كالذي حصل مع أهل الكتاب. في حين كان العصر الأخير يشجع على الإنشغال بالحديث والإشتغال فيه، ولا يخشى ان يتبدل الدين ازاء فعله المستحدث. وهو ما يعبّر عن الانقلاب على ما كان عليه الاسلام في عصره الأول.

comments powered by Disqus