-
ع
+

أيمن عبد الستار: ملخص كتاب (منهج العلم والفهم الديني) والملاحظات عليه (2)

 

   في الجزء الثاني من كتاب (منهج العلم والفهم الديني) يستعرض الكاتب يحيى محمد، العلاقة بين العلم، كما ورد في الجزء الأول، وبين الفهم (الديني).. يبدأ هذا الجزء بتمهيد للعلاقة بين النص (الديني) وبين العلم، وذلك من خلال العلم الجديد الذي أسماه " علم الطريقة "، والذي أشرنا إلى مفهومه في المقال السابق، ويقوم علم الطريقة على ملسمتين أساسيتين، الأولي تنص على أن الفهم غير النص، والثانية تنص على كون الفهم هو نتاج يشترك في تحصيله كل من النص وذات القارىء أو القبليات.. وأيضا العلم قائم على هاتين المسلمتين: المسلمة الأولي العلم غير الطبيعة، والمسملة الثانية هي أن العلم هو نتاج متأثر بكل من الطبيعة وذاتية العالم (بكسر الميم).. وقد أشار نيلز بور إلى ذلك حينما قال في سياق نقاشة مع آينشتاين بأن مهمة الفيزياء لا تتحدد بالكيفية التي تكون عليها الطبيعة، بل بما نستطيع قوله عنها، وأيضا كما قال هايزنبرج حول الذرة: "إن ما تعلمنا حوله، لم يكن الطبيعة نفسها، بل الطبيعة التي عرضت لطرق لاستنطاقاتنا"، وقد بينت براهين الاستحالة، كما يرى إليا بريغوجين وإيزابيلا استنجر، سواء في النسبية أم الكوانتم أم الثرموديناميك بأنه لا يمكن توصيف الطبيعة من الخارج كما لو تم ذلك عن طريق المشاهدة.

على ذلك، يخضع كل من علم الطبيعة والفهم الديني إلى آليات من التفكير القائم على القبليات.

يبدأ الفصل التاسع بمقارنة بين نظم العلم ونظم الفهم، ويستعرض الكاتب التشابه بين نظم العلم الثلاثة التي شرحها في الجزء الأول: النظام الاجرائي والنظام الافتراضي والنظام التخميني الميتافيزيقي، وبين نظم الفهم الديني، ويلقي نظرة على نظم الفهم الديني، ويقسمها إلى نظامين كل منهما يختلف عن الآخر، أحدهما اسمه النظام الوجودي ويحتضن دائرتين معرفيتين، هم الدائرة الفلسفية والدائرة العرفانية، أما النظام الآخر فهو النظام المعياري ويحتضن دائرتين معرفيتين، هما الدائرة البيانية النصية (كعلم الفقه وأصوله) والاخري هي الدائرة العقلية كما تتمثل في علم الكلام.

النظام الأول الوجودي (الفلسفي / العرفاني)،له وجود مستقل سبق الاسلام لقرون طويلة، وهو يتخذ من " الوجود العام "، موضوعا له، وقد أثر ذلك على تعامله مع النص الديني، إلى الحد الذي أصبح فيه النص الديني مرآة لاظهار الوجود وحتميته بما في ذلك مسألة التكليف نفسها..

أما النظام الاخر المعياري (الفقهي / الكلامي) فوجوده غير مستقل عن وجود النص الديني نفسه، فلعومه مبنية على النص، لذا اصطبغت هذه العلوم بالصبغة المعيارية.

سواء النظام الأول أوالثاني، كلاهما يحمل تشابهات مع النظم العلمية بشكل ما، فالنظام الأول يتشابه مع النظام القديم (الذي تم تناوله في الجزء الأول)، من حيث الحتمية وإسقاط الاعتقادات بشكل توكيدي ودوغمائي دون تردد، ودون أن يضعا في الحساب احتمال الخطأ،بل أن النظام العلمي القديم ناشىء عن النظام الفلسي الوجودي ذاته، فقد كانت الفلسفة تضم العلوم الطبيعية، وكان العلماء يمارسمون مبدأ " إنقاذ الظواهر "، الذي كان يجري على أرض العلم، بينما على أرض الفهم كان يجري نظام مماثل وهو التأويل.

أما النظام العلمي الأول (الاجرائي) فهو يشابه النظام البياني للفهم الديني، والنظام الثاني (الافتراضي) يشابه من وجوه النظام العقلي (علم الكلام)، وكما أن الخلاف يجري بين النظام الأول والثاني في العلم، يجري الخلاف أيضا بين الدائرتين البيانية والكلامية في الفهم الديني، فالدائرة البيانية (الفقهي مثلا) تري أن النص مكتف وواضح بذاته، بينما يرى الدائرة الثانىة (علم الكلام) أن النص به ثغرات تحتاج للفرضيات العقلية لإكمال عمليه الفهم.. فالدائرة البيانية لا تعترف بالفضول العلمي، شبيها بما صوره جون ستيوارت مل عن قوانين الطبيعة، أوذلك كما وصي به فرانسيس بيكون من قبل، بأن على رجل العلم أن يضع في رجليه نعلين من الرصاص. فالدائرة البيانية لا تسمح بما تقوم به الدائرة العقلية من إضافافت حاكمة على الفهم، وتشدد على أن تكون القراءة مستقاة من النص ذاته دون إضافات خارجية، وكما صرح الشافعي قائلا: " ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدي فيها ".. وعلي هذه الشاكلة تبرر النزعة التجريبية الاستقرائية للعلم طريقتها، وهي أن هدفها هو استنتاخ ما تبديه الطبيعة، كالمرآة دون إضافة شىء جديد، يعمل على تشويهها وطمس معالمها، فلا معنى للعقل سوي أن يكون أداة فهم واستنساخ وإدراك لما هو موجود بالطبيعة من دون أن يتدخل ويفترض من عنده أيه افتراضات.

نخلص إلى أن العقل سواء في الدائرة البيانية للفهم (كالفقه مثلا)، أو في حالة النزعة الاستقرائية للعلم، ليس له حق التدخل سوي الكشف المطابق والاستنساخ.

أما الدائرة العقلية (في علم الكلام) فتقبل جزئيا ما تقوم به الدائرة البيانية، لكنها تبقي على مساحة لا يسع الدائرة البيانية تسديدها أو علاجها، فهي تعرض جميع معطيات النص على العقل لتري ما يمكن قبوله وما يمكن تأويله نظرا لعدم قبول العقل له (كما في الأسماء والصفات مثلا)، فكما يقول الشيخ الطوسى: " الظواهر تبني على أدلة العقول، ولا تبني أدلة العقول على الظواهر"، وقال القاضي الهمدانى:" إن أدلة العقول بعيدة عن الاحتمال، والالفاظ معرضة لذلك من حيث تدخلها الحقيقة والمجاز "، وكذا ذهب الفخر الرازي، إلى أن الدليل اللفظي لا يفيد القطع واليقين بإطلاق، لكونه يتوقف على عشرة أمور ينبغي التيقن منها..."....

نلخص التشابه فيما يلي:

 الانظمة والدوائر في الفهم الدينى:

النظام الأول: الوجودي، ويشمل: الدائرة الفلسفية والدائرة العرفانية.

النظام الثاني: المعياري، ويشمل الدائرة البيانية (مثل الفقه) والدائرة العقلية (علم الكلام).

أما النظم العلمية فهي كالتالي:

النظام القديم، ويشبه النظام الوجودي في الفهم الديني، بدائرتيه الفلسفية والعرفانية.

النظام الأول الاجرائي، ويشبه الدائرة البانية في النظام الثاني من الفهم الديني.

النظام الثاني الافتراضي، ويشبه الدائرة العقلية الكلامية في النظام الثاني.

النظام الثالث التخميني الميتافزيقي، ويشبه الدائرة العرفانية من النظام الثاني من الفهم الديني.

ونلاحظ من التقسيم السابق، أن النظام العلمي الثالث يشبه النظام القديم من بعض النواحي، وهي الافتراضات الميتافيزيقية وانقاذ الظواهر (التأويل في الفهم الديني)، لكن الكاتب يحذرنا من أن هذه التشابهات لا ينبغي عليها أن تعمي أبصارنا عن الاختلافات العميقة بينهما، من ناحية أن النظام القديم كان نظاما مغلقا لا يقبل الاختلاف ويفرض أفكاره على الطبيعة والنصوص الدينية، ولا يقبل المراجعة، ولا يقوم إلا على أفكار الكتاب المقدس أولا، ثم أرسطو بعد ذلك، وأنه قاوم العلم الطبيعي الذي يخالف نظرته للكون، وأن النظام الثالث يقوم على أفكار لا تخالف القوانين العلمية وأنه مشبع بالنظرة العلمية وليس النظرة الدينية والفلسفية كما في النظام القديم، وهذه الاختلافات ليست بالهينة ولا يمكن التغاضي عنها.

يبقي أخيرا أنه مثلما في العلم ما يسمي بالحيل الرياضية، وقد أضاف الكاتب لها الحيل الخيالية أو الفيزيائية، فإنه ورد في الفهم الديني ما يناظر هذه الحيل، لاسيما في المجال الفقهي، مثل حيلة عدم دفع الزكاة مع اكتمال النصاب، بأن يهب الرجل ماله لزوجته قبل أن يحول الحول (السنة)، حت لو شرط عليها أن ترد عليه ماله بعد إتمام الحول بيوم أو أكثر.. نعود إلى الجزء الأول وفي الفصل الخامس حيث يستعرض الكاتب الحيل الرياضية والخيالية، ونكتفي هنا بالحيل الرياضية ولمن أراد أن يستزيد عليه أن يرجع للكتاب الأصلي..

 

الحيل الرياضية

-------------

   أحيانا تستخدم الرياضيات في وصف الطبيعة، وأحيانا أخري تستخدم لتأويل المفاهيم التي تم استنتاجها من الواقع، وأحيانا أخري تكون وسيلة لللعب والشعوذة، ولا يكون لها علاقة بالواقع، كما قد تكون الرياضيات حيلة مصرحا بها من أجل الوصول إلى حل مناسب للتعبير عن الظواهر، وما أكثر ما يقره الفيزائيون من حيل رياضية أو نماذج مصطنعة.. ويتناول الكاتب من كل تلك الأشكال الرياضية، الرياضيات المصطنعة التي تتضمن الحيل ونماذج اللعب دون أن تربطها بالحقيقة الفيزيائية معنى حقيقي.

   من تلك الرياضيات المصطنعة، ما أظهرته من سيناريو لكون يتمدد بسرعة هائلة حتى التمزق، فكما ذكر بول ديفيز بأنه اكتشف مع جون بارو، وفقا للرياضيات، بأن مستقبل الكون يؤول إلى التمدد اللانهائي، بحيث أن كل شىء يأخذ بالتمدد ومن ثم التمزق والتفجرمن المجرات شيئا فشيئا إلى أن يصل إلى الذرات وما فيها من جسيمات، فينتهي المكان والزمان عند الوصول إلى مرحلة المفردة الزمكانية، ومع ذلك فهذين الفيزيائيين أنفسيهما، لم يتخذا ما اكتشفاه على محمل الجد، لإن اكتشافهما مبنىي على نموذج رياضي مصطنع.

   ومن المعروف أن هناك صيغا رياضية يشير إليها العلماء أحيانا، لتسهيل الاختبار، كأن تصف جزء من الواقع وتهمل أجزاء أخري مهمة، فتكون بذلك سهلة الإختبار رياضيا، وفي نظرية الأوتار، كانت في البداية متسقة مع ستة وعشرين بعدا، ثم اتسقت بعد ذلك مع عشرة أبعاد، ثم ظهرت صورة أخري متسقة لا تتاطبق مع الواقع، فهي ممكن أن تكون متسقة كذلك في حالة بعدين، بل وحتي في بعدين دون الصفر.. وبحسب الفيزيائي ميكائيل غرين، فإن الكلام عن نظرية تعمل في عشرة أبعاد أو اربعة هو كلام تقريبي في واقع بنيته أعداد لانهائية.. وكثيرا ما تمارس نظرية الأوتار الفائقة، اللعب بالاشكال الهندسية، لما يعرف بأشكال (كالابي – ياو)، في رسم صورة للكون بحيث تتحول الأشكال من شكل إلى آخر، مثل تحول العجيبن إلى كيك أو خبز أو كعك.. فيقدر عدد الأكوان المنخفضة الطاقة بعدد ضخم لا يمكن تصوره، هو أكثر من (10500)، في حين أن عدد الذرات في الكون كله لا يزيد على (1060)، وان عدد فوتونات الكون كله هو (1087)، لذا لقيت هذه الفكرة عن الكون المتعدد اعتراضات عديدة حتى من قبل المنظرين لنظرية الأوتار.

   كما أنه من المعروف أن نظرية الكم مصابة بداء اللانهائيات، فهي مشكلة ثابته كما في معادلة شرودنجر، فعند البدء بهذه المعادلة تبدأ اللانهائيات في الكتلة والطاقة والشحنة، وكل ما أمكن فعله هو محاولة تطويعها عبر حيلة رياضية دون القدرة على القضاء عليها، وبالتالي ليس لهذه المعادلة حلول بسبب هذه المشكلة، وهو الحال ذاته في نظريات الكوانتم عموما.

   افترض هايزنبرغ وباولي وفينمان الجسيم على شكل نقطة، كي يتفادوا استحالة انتقال المعلومات بأسرع من الضوء، لكن هذا الافتراض يفضي إلى أن يكون حقله الكهربائي ذا طاقة لا نهائية،ومثل ذلك حقله الثقالي، فكلما صغر نصف قطر دائرة الجسيم، ذادت طاقته، والعكس بالعكس، وفي حالة الجسيم النقطة فإن نصف القطر يصبح صفرا والطاقة لانهائية... وبالمثل إذا كان الالكترون نقطة بلا جسم، فإن المسافة يمكمن أن تنخفض حتى الصفر، والقسمة على صفر تعطينا نتيجة لا نهائية، وقد تم التحايل على ذلك باستخدام ما يسمي إعادة التطبيع renormalization))، وفيها يحدث أن نقسم إحدي اللانهائيات على لانهائية أخري فنحصل على نتيجة معقولة، كما في النموذج المعياري والديناميكا الحرارية.

   ومع ذلك فقد تغلبت نظرية الأوتار على المشكلة السابقة، باستبعاد الجسيمة النقطة واستبدلتها بالوتر دون حاجة لتلك الحيلة المفتعلة.

   عموما اختلف الفيزيائيون حول تلك الحيل الرياضية، إذا ما كانت تعبر عن واقع حقيقي أما أنها افتراضات لا تمت للواقع بصلة.

***

   ينهي الكاتب هذا الفصل بعقد مقارنة بين النص والطبيعة، من حيث تشكل كل منهما من ثلاثة عناصر:فالنص يتكون من الظاهر والسياق والمجال (ويقصد بالمجال المعني الاجمالي)، ويتكون الكون من ثلاثة عناصر أيضا: الشىء والعلاقة والمجال، فهناك أشكال في الطبيعة يمكن الاشارة اليها مثل الشجر والحجر والالكترون والبروتون، ولهذه الاشياء علاقاتها المتشعبة، كما أن لها مجالاتها الخاصة بحيث لا يختلط بعضها ببعض، مثل عدم اختلاط قوانين الكوانتم للعالم الجسيمي الصغير، بقوانين العالم الجسمي الكبير، رغم أن الاخير قائم على الأول.

   يشرح الكاتب باختصار علاقات النص بالظاهر والسياق والمجال باختصار، لذا فلا يوجد فائدة من اختصار المختصر، وقد شرح الكاتب هذه علاقات النص هذه باستفاضة في كتابه منطق فهم النص، فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه.

***

في الفصل العاشر: تقدم العلم ودوران الفهم، يعقد الكاتب مقارنة بين العلم والفهم من حيث تقدم العلم إلى الأمام تاركا واراءه النظريات القديمة، بينما ينحي الفهم منحي عكسيا غالبا، إذ يدور على نفسه فيثير نفس القضايا المثارة قديما دون تجديد، وإن ظهر في الآونة الأخيرة تيارات تحاول أن تزيح الأفهام القديمة، وتحل محلها أفهام جديدة، لكنها لم تنل حظها من الشيوع والانتشار مثل نظم الفهم القديمة.

فمثلا تجاوز العلم التنجيم واعتبره خارج نطاق العلم، بينما لا نجد نفس الظاهرة في الفهم الديني، فلا شىء يموت، وبينما يعتمد العلم على فهم الاحياء ولا يركن كثيرا لفهم الاموات، نجد العكس في الفهم الديني، فهو يكاد يقدس فهم الأموات، ولا يعتد بالاحياء، إلا من حيث تقليدهم للقدماء، فالفهم هنا ينظر إليه على أنه مقدس كالنص تماما، بينما في العلم ينظر للتفسيرات على أنها مرحلة معينة وسوف تليها مراحل أخري أكثر تطورا في الفهم، والنتيجة أن العلم يكسب حظا من العالمية لا يدانيه غيره من المعارف، كالدين والفلسفة والسحر والتنجيم وغيرها.

لكن العصر الحديث أبدي تطلعات كبيرة لأفهام دينية جديدة بعد أن تبين أن الأفهام القديمة لم تصب كبد الحقيقة، أو أنها على الأقل أصبحت موضع استفهام.

هنا نصادف هاجس تحويل واقتراب الفهم الديني من العلم ومناهجه، ويتسائل الكاتب، إذا ما كان ممكنا خلق حالة من تطور الفهم (التحقيقي) كما يجري في الاطار العلمي، مع التغافل عن مشكلة (الاعتراف الجمعي كالذي يحظي به العلم) الذي يصعب تحقيقة في الفهم، حتى لدي دائرة المذهب الواحد؟ ويبدو أن هذا التساؤل هو لب الحافز الذي حدا بالكاتب إلى أن يكتب هذا الكتاب وأيضا كتبه الأخري، ويسعي في كتابة " علم الطريقة "، كعلم تحقيقي يستفيد من المناهج المعاصرة في العلم وذلك في فهم الدين.. في نهاية الفصل، يقترح الكاتب نظاما آخر للفهم يسمي الفهم الواقعي، لكنه لم يفصل فيه كثيرا في هذا الكتاب، ويبدو أنه فصل فيه في كتب أخري، وخلاصة هذا الفهم الواقعي، هو إدخال الواقع المتغير في صلب الفهم الديني.

***

في التمهيد للقسم الرابع، وتحت عنوان: " إشكالية العلم والفهم "، يورد الكاتب الرأي القائل بأن هناك تعارضاً بين العلم والدين، ويرى أن هذا الطرح لا يخلو من خلل، إذ أن العلم ليس هو الطبيعة، والفهم ليس هو الدين، وقد أجاب آينشتاين عن سؤال تعارض العلم مع الدين قائلا: " إن هذا لا يحدث في الحقيقة، لكن ذلك يتوقف بطبيعة الحال على آرائك الدينية "، وهذا ما لم يلتفت إليه معظم الباحثين، إذ ألبسوا الفهم بالدين والعلم بالحقيقة الموضوعية، فقبل أن يكون هناك تعارض بين العلم والدين، يصادف العلم الفهم قبل مصادفته الدين، وعلي هذا قد تكون المشكلة في العلم والفهم، دون الطبيعة والدين.

يرى يحيى محمد، أنه مثلما لا يصح الخلط بين فهم الدين والدين ذاته، كذلك لا يصح الخلط بين علم الطبيعة والطبيعىة ذاتها، فلكل من الطرفين رؤية تأويلية، قد تعارضها رؤي أخري مماثلة، وقد تباينت الآراء في طبيعة العلم وطبيعة الدين، وهناك من يقوم بتأويل النصوص الدينية لصالح العلم، وآخرون يقولون أن العلم وظيفته هي الكشف عن الواقع والحقائق الموضوعية، بينما الدين وظيفته التعامل مع سلوك الناس وأخلاقهم فحسب، مثلما قال الكاردينال المؤرخ بارونيوس (ن 1607): " إن مقصد الروح المقدسة هي أن يعلمنا كيف يسير الانسان إلى السماء، وليس كيف تسير السماء "، وقد استشهد جاليليو بقوله هذا لينكر كون الكتاب المقدس حجة في العلم، رغم أنه كاثوليكي مخلص في دينه، وهذا الرأي الأخير، هو عكس ما كان سائدا في الوسط المسيحي الغربي، حيث يقول القديس أوغسطين (ت 430 م): " إن سلطة الكتاب المقدس هي أكبر من جميع قوي العقل الانساني "، وتأتي سلطة أرسطو بعد الكتاب المقدس، حيث تكون مرجحة على العلم عند التعارض، ما لم تناقض العقيدة المسيحية، ثم أخيرا الحس العقل الطبيعىي مثل مبدأ السببية العامة، وهو أن لكل حادثة لا بد من سبب.

أما في الوسط الاسلامي، فقد بالغ جماعة في جعل النص القرآني دالا على العلوم البشرية كلها، مثلما قال الغزالي في كتابه جواهر القرآن، أذ اعتبر القرآن ميدانا لا ينضب في حمله لعلم الأولين والآخرين، فجميع العلوم مغترفة من بحر واحد، وأن أوائلها ليست خارجة عن القرآن، كذلك الحال مع عالم اللغات والقراءات ابن الفضل المرسي (ت 655 هـ).

سواء في العلم أو الفهم، هناك تأويلات كثيرة للعالم الخارجي، وم يقدم أحيانا من رؤي مرجعها النص والفهم السلفي لبعض القضايا العلمية مثل حركة الأرض وما إليها، إنما هي رؤي خاسرة، لاعتبارين، أحدهما أنها مجرد فهم دون أن تعبر عن جوهر النص، يضاف إلى ذلك أنها غير متسلحة بالأدوات العلمية الكاشفة عن الواقع الموضوعي.. فمن الناحية المنطقية إن الواقع الموضوعي شىء، والنص الديني شىء آخر قد يتفقان أو يختلفان، وإن الحقيقة التي نستكشفها من أحدهما لا تعني هي ذاتها لدي الآخر بالضرورة.. وكما يرى المؤلف، فإنه لا بد أن نأخذ الواقع بعين الاعتبار، لتبريرين مهمين: أحدهما أن النص ذاته، كان يستعين بالواقع باستمرار، أما الثاني فهو، كما يرى يحيى محمد: أن النص بحاجة إلى الواقع لحل دلالاته المتعارضة أحيانا، مثلما أنه بحاجة إليه في إثبات صدقه وحجيته، ففي كلا الحالتين النص بحاجة إلى الواقع، والعكس غير صحيح، فلو تعارض النص مع الواقع صراحة، دون إمكانية للجمع أو التأويل، فلا محالة من اللجوء إلى الواقع دون النص، لأن صدق الأخير لا يكون من غير الاعتماد على الأول أساسا.

 

أطروحة التطابق بين العلم والفهم

--------------------------------

يتحدث المؤلف هنا عن المطابقة بين الافكار التي يكونها العقل عن كل من الموضوعات الثلاثة: الفلسفة الاسلامية والفقه وعلم الكلام، وبين الدين، من ناحية، وبين الطبيعة والعلم من ناحية أخري، فيقول أن العلوم الدينية كانت تطابق بين المعرفة التي يكتسبها الذهن من النظر في تلك الموضوعات الثلاثة..

في الفلسفة يعتبر قانون السنخية هو الأصل الذي يتحدد بموجبه التشاكل بين ما يحصل في النفس من صور ذهنية، وبين ما يحمله العقل الفعال من صور جميع الموجودات، وهناك نوع من الاتحاد بين القارىء والمقروء،إذ تنتج المعاليل العقلية التي تصدر عن المبدأ الأول، بالنزول أبتداء من العقول المفارقة المعبر عنها بالصور الآلهية، حتى تنتهي إلى العقل الفعال الأخير المعبر عنه بواهب الصور لدي المشائين، أو العقول العرضية لدي الاشراقيين... وهكذا فالوجود كله عبارة عن عقل متفاوت الكمال، والعقل كله عبارة عن وجود، وهو عين النظام السببي، وبالتالي هما متطابقان، إذا ما من وجود إلا وهو عقل، وما من عقل إلا وهو وجود، وتتفاوت مراتب الوجود والعقل.. فالبنسبة إلى ابن سينا، يكون البرهان المنطقي صورة مستنسخة من الوجود.

هذا الحال من التطابق المزعوم نجده لدي القدماء من أصحاب الفهم الديني أيضا، ثم أخذت بعد ذلك فكرة التطابق بين الفهم والنص الديني تتزعزع مع تقادم الزمن شيئا فشيئا، وهو الحال الذي حدث مع العلم أيضا.. فعندما ظهر العجز واليأس من التطابق بين الفهم الديني مع النص، ظهرت فكرة الأصول العلمية، وتعتبر هذه الحالة أضعف الحالات الممكنة في الفهم الديني.. فكل ما يراد من هذه الأصول، هو إفراغ الذمة دون إعطاء معنى معين لفهم النص الديني، وعلي نفس الشاكلة هناك حالة أخري أظهر الفهم فيها عجزة عن معرفتها، كما في القضايا التي يتوقف فيها الفهم، للجهل أو عدم المعرفة.. وهاتان الحالتان هما آخر مراتب الفهم الديني، مثلما أن التخمين لدي العلم هو آخر مراتبه، لتعلقه بحافة العلم لا تخومة (مركزه)، ففي آخر مراتب الفهم ينقسم الموضوع إلى ما يدخل ضمن ما تحته عمل كالفقه، إلى ما لا يدخل تحته عمل، كالاعتقادات ونحوها..

   وفيما يخص المتكلمين، يلاحظ أن تفسيرهم للنص الديني لا يراد منه عادة الاثبات والتطابق، بل يكفي نفي ما يعارض المقتضيات العقلية، وهذا يختلف عن العلم، الذي يلجأ في حالة عجزه عن الوصول إلى نتائج متعلقة بالكشف عن كنه الطبيعة إلى قواعد برجماتيه (نفعية) مفترضة غير معنىة بالتطابق أو درجاته المقربة.. وهذا يختلف عن علم الكلام، حيث ما يهم علم الكلام هو ألا يتضارب الفهم مع القبليات العقلية، في حين أن ما يهم العلم هو أن تحظي النظرية بفائدة براغماتية..

   يبقي أن الاقرب فيما يناظر التخمين العلمي هو ذلك المتعقلق بأوصاف الجنة والنار والثواب والعقاب، وفضائل الأعمال.. وكما جاء عن عبد الرحمن بن مهدي قوله: إذا روينا في الثواب والعقاب وفضائل الأعمال تساهلنا في الإسناد.. وإذا روينا في الحلال والحرام الأحكام تشددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال، وكم قال ابراهيم النخعي أيضا: إن التابعين ما كانوا يأخذون من حديث أبي هريرة إلا ما كان حديث جنة أو نار.. فمثل هذه الأحاديث أعتبرت مقبولة وإن دلت على التخمين من دون تحقيق..

   وهكذا، فإن لكل من العلم والفهم حالة من التخمين، وقد صادف كل منهما الكثير من الأسطورة المتجاوزة للمألوف، أو حتى الحس الوجداني العام، ففي العلم تبرز الأسطورة لدي تطوارات نشأة الكون، أو حتى قبل ذلك، أما في الفهم الديني فهي واضحة لدي التخمينات التعلقة بالأوصاف المنقولة حول الجنة والنار وما إليهما، وكلا الطرفين (العلم والفهم) يتحدثان عن قضايا ميتافيزيقية، من الصعب إخضاعها للتحقيق.. وتعتبر ممارسات الفهم التأويلية مناظرة لمبدأ إنقاذ الظواهر لدي العلم.

   ظلت فكرة التطابق في العلم حاضرة حتى بداية القرن العشرين، ثم بعد ذلك بدأ الاهتزاز يصيب الثقة العلمية، وتطورت النظرة العلمية، فلم تعد فكرة التطابق حاضرة مثلما كانت في الماضي، إلى أن وصل الاعتقاد بأن الوصول للتطابق هو أمر مستحيل لاعتبارات بعضها علمية كالتي قدمتها نظرية الكوانتم، أو لاعتبارات نظرية مثل نظرية الشواش أو مبرهنة جودل، لذا لجأ العلم إلى مبادىء براغماتية وتمثلية عديدة، قد تعوض الخسارة التي منيت بها النظرة العلمية حول التطابق، ومن ذلك المبدأ الاصطلاحي لبوانكاريه، والتكافؤ وثنائيات نظرية الأوتار (الإزدواجات) والبساطة والجمال والاتساق، وتقبل النظريات التي تعاني من الشذوذ، وكلما كانت الظاهر المدروسة أكبر ابتعادا عن المباشرة كلما زاد العلم بتلك المبادىء دون الالتزام بفكرة التطابق واحتمالاتها التقريبية، كالذي تشهده الفيزياء المعاصرة اليوم.. فالعلم من هذه الناحية يتميز عن النظر الفلسفي، مثلما يتميز عن الفهم الديني في علاقته بالنص كما هو.

 

هل العلم وضعي أم براغماتى؟

----------------------------

ينهي يحيى محمد هذا الفصل بالبحث في الاتفاق أو الاختلاف بين العلم والفهم من الناحية النفعية (البراغماتية)، فيقول أن العلم اليوم اتخذ منحي لا يطابق فيه بين حقيقة الطبيعة على ما هي عليه وبين العلم، فما يهم العلم أساسا هو الجانب البراغماتي، وتوجد نزعتان بهذا الخصوص، الأولي تقول أن النظريات العلمية لا تتحدث عن الواقع كما هو، بل لا يوجد دليل يمكن تبريره للكشف عن الأشياء غير المشاهدة، مثل الدليل على وجود قطة خلف هذا الجدار – مثلا – وأيضا ما يتعلق بالجسيمات غير المرئية كالإلكترونات، فالرصد في هذه الحالة يكون رصدا غير مباشر، مثل رؤية نقطة سوداء على لوح فوتغرافي، أو سما ع قعقة صوتية لعداد جيجر، أو مشاهدة آثار الجسيم في غرف الفقاقيع لدي المسرعات أو المصادمات.. ويطلق على المذهب الذي يتيني هذه الطريق بالـ (Reductionism) ويسمي تلك الأشياء غير المرئية بالتركيبات المنطقية أو الكيانات النظرية (Theoretical entities) فليس ثمة دليل على وجودها، وإنما هي اختراعات ذهنية فحسب، ويمكن التعبير عن هذا الاتجاه بقول الفيلسوف الهولندي اسبينوزا: " العلم صادق لإنه ناجح، وليس ناجحا لإنه صادق ".

ويخالف هذه النزعة من يرى أن العلم يتحدث عن أشياء واقعية حقيقية، وإن لم تثبتها التجربة والمشاهدة، وهذه النظرة الوضعية تتحدث عن كيانات موجودة بوسع العلم إثباتها عندما تحين الأدوات المناسبة، مثل الخلية والفيرس والجزىء أو الذرة، وهي الأشياء التي كانت تعز على المشاهدة، ولكن مع بداية القرن العشرين أخذت النظرة العلمية تترسخ بأن العلم لا يعبر عن حقائق الأمور بقدر تعبيره عن الكيانات النظرية والنزعة الأداتية والاعتبارات النفعية.. وقد كان الفيزيائي أدنغتون يؤكد بأن العقل البشري هو من يصنع أفكار المكتشفات من غير رؤيتها، وقد طبق ذلك على اكتشاف رذرفورد للنواة، مع أنه لم يرها أحد، كذلك البوزيترون وأيضا النيترينو، الذي كان يشك في وجوده، وهو يرى أن التجريبين ليس لديهم البراعة الكافية لصنع النيوترنيوات..

وبالرغم من أن التعميمات لا يوجد دليل منطقي عليها، إلا أن العلم أصر على الأخذ بها لأهميتها حتى وإن وجدت بعض الشواهد تكذبها أو تتنافي معها.. عموما اعتبر البعض مثل كارنات أن النزعتين السابقتين بينهما خلاف لغوي فحسب.. لكن المسار الذي اتخذه العلم خلال القرن العشرين، أثبت أن النزعة البراغماتية والتمثلية للعلم كان لها السيادة التامة إذا قورنت بالنزعة الوضعية والواقعية..

أغلب التصورات في الفهم الديني تناظر ما عليه النزعة الواقعية في العلم، يعني أن مهمة الفهم هي البحث عما هو موجود في النص من معنى، ومع أنه ليس هناك من نزعة براغماتية مصرح بها في الفهم أساسا، مثلما الحال مع العلم وفلسفته، لكن قد نجد هذه النزعة من حيث التحليل، ففي حال بعض الجزيئات مثل الأخذ بالتخصيص أو النسخ، يترجح الأخذ بالتخصيص على النسخ، باعتبار أن النسخ رفع للحكم والتخصيص دفع له لا رفع، والدفع أهون من الرفع، أما التأثيرات الكلية للنزعة البراغماتية، فهي تلك التي تعطي تعميقا أو شمولا مطلقين وخارجين عن الزمان والمكان للنص، مثل اعتبار الشريعة مطلقة لا تحدد بزمان ولا مكان، وهذا التعميم يتخذ كقبلية أساسية متحدة مع الفهم، بالرغم من أن ذلك ليس عليه دليل كاف من النص ذاته، فهو أشبه بالتعميم العلمي المأخوذ به رغم أنه لا مبرر منطقي له.

أيضا نجد بعض الكليات النظرية في الفهم الديني، مثل الخيارات التي يطرحها المتكلمون حول تفسيرهم للنص، وإن كان ذلك لا علاقة له بالبراغماتية والحقيقة التطابقية، فهم يبحثون في تأويل النصوص دون أن يحددوا طبيعة ما عليه النص، بل ما يهمهم هو عدم التضارب مع القبليات العقلية، وبالتالي مثل هذه الخيارات هي كيانات نظرية لا يراد منها الوصول إلى حقيقة ما عليه النص كما هو في ذاته.

علي كل حال، لا يعير العلم الحالي أهمية للتطابق مع الحقيقة الموضوعية، وهو أمر يختلف فيه مع الفهم..

 

الفصل الحادي عشر: الشذوذ بين العلم والفهم

------------------------------------------

في المجال العملي قد تحظي النظرية بالقبول، رغم ما تحمله من شذوذ، فالعلماء – مثلا – لم يرفضوا نظرية نيوتن في الجاذبية، عندما وجدوا التقادير الأولية بشأن حالات كسوف القمر غير صحيحة.. وقد أثبتت التجارب أن التريث مع حالات الشذوذ الأساسية سلوك له ما يبرره، هكذا تمكن كليروت (عام 1705) من تبيان أن الخلل إنما يعزي إلى أخطاء في تطبيق الرياضيات، كذلك لم يرفض العلماء هذه النظرية رغم فشلها في تفسير حركة عطارد وشذوذة، وقد انقضت (85 سنة) استهلكت فيها كل التفاسير التي تعمل على انقاذ نظرية نيوتن في تفسير شذوذ عطارد، قبل أن يفسر آينشتاين هذه الشذوذ، تبعا لنظريتة النسبية العامة، إذ تفشل نظرية نيوتن عندما يكون المجال قويا، فبحسب نظرية نيوتن تكون الكتلة هي المسؤولة عن التأثير الثقالي كليا، في حين أنه بحسب آينشتاين، فإن للمجال الطاقوي دوره البارز في التأثير.. وبهذا اعتبر هذا شاهدا على تكذيب نظرية نيوتن، ولكن بعد 85 سنة من البحث واستهلاك التفاسير الكثيرة..

   وبالتالي، أصبح من المعروف أنه يمكن للنظرية العلمية أن تبقي موردا للقبول حتى لو ظهر دليل يكذبها، طالما لديها قوة تفسيرية كافية في نواح أخري أوسع، وقد يحتاج الأمر إلى عقود أو حتى قرون للتخلي عن النظرية، ومثلما يحدث في العلم الشذوذ عن القواعد والنظريات الكلية، فكذا يحصل في الفهم الديني الشذوذ الذي يعني خروج بعض الدلالات اللفظية الظاهرة عن القواعد والنظريات العامة، وفي الفهم الديني يعالج هذا الشذوذ من خلال التأويل، أو يعامل كمقيد للدليل الكلي ذاته، وبالتالي يؤخذ به كما يؤخذ بالكلي كالذي نجده لدي الممارسات الفقهية، كما قد يحسب على المتشابهات، وبالتالي يهمل المتشابه لصالح الكلي، كما فعل الشاطبي في نظرية المقاصد فقال: " إن الشريعة إذا كان فيها أصل مطرد في أكثرها مقرر واضح في معظمها، ثم جاء بعض المواضع فيها مما يقتضي ظاهره مخالفة ما اطرد فذلك من المعدود في المتشابهات التي يتقي اتباعها،... فإذا اعتمد على الأصول وأرجىء أمر النوادر، ووكلت إلى عالمها، أو ردت إلى أصولها، فلا ضرر على المكلف،المجتهد ولا تعارض في حقه "، ويوضح يحيى محمد، أنه عالج مثل هذه الموضوعات في كتاب آخر له، وهو " فهم الدين والواقع "، من خلال قضايا مثل الرق والعذاب الأبدي.. ففي قضية الرق نجد التعارض بين الحكم الشرعي والعقلي، لذا فإن حكم الرق يصبح أمرا شاذا، وطرح الكاتب ثلاثة فروض وانتهي إلى عدم معقولية الأول والثاني، لذا أخذ بالفرض الثالث وهو وجود أسباب خاصة منعت انخراط الجزئي تحت حكم الكلي، سواء كنا على علم بهذه الأسباب أم لم نعلم بها..

   أما في قضية العذاب الأبدي للمشركين والكفار، فهي تتعارض مع رحمه الله التي وسعت كل شىء، كما أن هناك تعارضاً بين الذنب المحدد الموقوت بمدة معينة، والعذاب الأبدي غير محدود المدة، لذا فقد اورد الكاتب قول المتصوف الكبير ابن عربي لو أن الله تعالى: " فوض أمر خلقه إلى أحد من عباده وقّدره ومكنّه من التصرف فيها، وكان خيّرا غنيّا، لأزال العذاب عنهم، وهذا الراحم هوأنا وأمثالي، وهو تعالي أرحم الراحمين " ويورد الكاتب أيضا قول الأشاعرة المخالف لهذه النظرة، والذي ينطلق من أن الله هو المالك المطلق وله حق التصرف في ملكه كما يشاء، ويجد لهذا الرأي بعض العذر، لكنه يجد أن النتيجة التي انتهي إليها (من حق الله في تعذيب المؤمن والمغفرة للكافر وحقه في العذاب الأبدي بدون سؤال من أحد) ليست مقنعة وفق الوجدان الانساني العام..

   ينتهي الكاتب إلى أن الشذوذ في العلم يختلف عن الفهم الديني، كون النظرية العلمية تظل مقبولة ما دام لا يوجد ما هو أفضل منها تفسيرا يضم الواقعة الشاذة بين جناحيه وهذا يختلف عما يجري في الفهم الديني.

 

المسكوت عنه في العلم والفهم

----------------------------

   لا يقصد بالمسكوت عنه، أنه سكوت مطلق، فقط يتعرض لهذه المسائل شخص هنا أو هناك، لكن المقصود عدم تركيز البحث والتحقق حولها من قبل المؤسسة الرسمية، سواء كانت علمية أن دينية، ويفرق الكاتب بين الشذوذ وبين المسكوت عته، فالمسكوت عنه هو نوع خاص من الشذوذ، خصوصيته أنه لايخضع للبحث بجدية خشية نسف الأساس المعتمد عليه، فقد لا يعلن عنه صراحة أو يمر مرور الكرام، نظرا لحساسيتته، وهو ما لا يحصل في الشذوذ العادي، وهناك من القضايا المسكوت عنها مثل اقتتال الصحابة وتكفير بعضهم البعض لدي أهل السنة، أو البحث المتعلق بتدوين الحديث النبوي أو قضية جمع القرآن الكريم واختلاف المصاحف والتي يبدو أنها أهم القضايا المسكوت عنها، وأيضا ما لدي الشيعة مثل عدم تركيزهم على مناقشة توثيق أصحاب أئمة أهل البيت المعتمد عليهم في الفهم، مع أنهم روي عنهم الكثير من الذم والمساوىء، ومثل ذلك ايضا عدم تعرضعهم لمناقشة شدة اختلاف أصحاب الإئمة المقربين حول معرفة كل إمام يصل إليه دور الإمامة، وعلي هذه الشاكلة قضية عصمة الأئمة واختلاف قدماء الشيعة وأصحاب الإئمة حولها..

   أما العلم، فقد أتهم أحيانا بالسكوت على بعض القضايا لأنها قد تنسف مبانيه، كالذي يذكره فيلسوف العلم فيرابند حول تطور بعض الأعراق الإنسانية الموغلة في القدم، مثل الإكتشاف المتعلق بأن إنسان العصر الحجري كانت له معارف فلكية متطورة إلى حد كبير، وأن أحجار الميغاليث

 (megalithc) الضخمة كانت بمثابة مراصد فلكية وحاسبات آلية للتنبؤ بالاحداث الفلكية كخسوف القمر... ومثل ذلك ما يشار إلى كون الكثير من المخلوقات الأولي متعددة الخلايا، لا ينسجم مع التنصنيف العلمي المعتمد عليه، فهي أقدم من الخلايا البسيطة، يضاف إلى ذلك تحفظ العلم، عن الدخول في القضايا الميتافيزيقية، التي لها علاقة بالمسلمات الدينية، ومنها البحث في النفخة الأولي للانفجار العظيم، بدعوي أنها قصة ميتافيزيقية لا تخضع للقوانين الفيزيائية، مع أن العلم أخذ يعالج الكثير من القضايا التي تدخل ضمن الإطار الميتافيزيقي،بل وألأسطوري أيضا.

 

الفصل الثالث عشر، تكافؤ النظريات بين العلم والفهم

--------------------------------------------------

في هذا الفصل يشرح الكاتب ظهور اتجاهات علمية تعبر عن إمكانية التعويل على نظرية قبال نظرية أخري تكافئها، أو على مفهوم يكافىء مفهوم آخر، كما في النظرية الاصطلاحية لبوانكاريه، والتي تتعلق باعتبارات الملائمة وليس التطابق ودرجات المعرفة، وبعد ذلك ظهرت نظرية آينشتاين حول الكتلتين العطالية والثقالية أو بين الثقالية والتسارع، وذلك لحساب مقدار الجاذبية من خلال التسارع، وأيضا التكافؤ بين ميكانيكا الموجات لشرودنجر وميكانيكا المصفوفات الجبرية لهايزنبرغ في علم الجسيمات المهجرية، وأخيرا الثنائيات أو الازدواجات لدي نظرية الأوتار الفائقة، أو كما صك إدوارد ويتن عليها مصطلح نظرية (M).

   طبّق بوانكاريه نظريته الاصطلاحية على الهندسة الكونية، ومن ثم على الميكانيكا، لكنه لم يطبقها على سائر مجالات الفيزياء، فقد اعتبر أنه لا فرق بين الهندسة الاقليدية واللاقليدية، فالاثنين من وجهه نظره ليستا من القبليات، ولا تستخلصان من التجربة، وكل ما في الأمر أن الذهن هو الذي يقوم بتعريف وافتراض الحالين، طبق بوانكاريه نظريته في مجال علم الميكانيكا لنيوتن، واعتبر أن قوانيها ليست سوي اصطلاحات يفترضها الذهن دون أن يكون لها علاقة بالقبليات ولا حتى بالتجربة.. وقد تعرض المبدأ الاصطلاحي لبوانكاريه إلى نقد أفضي إلى نشوء مدرستين من الاصطلاحية الثورية (revolutionary convntionalism)، وهما مدرسة البساطة لدوهيم، (1905) والمنهج التكذيبي لبوبر (1943).

 لكن هذا النقد يتلاشي عندما ندرك أن الخيار المشار إليه مسموح به في ظل التساوي بين المفاهيم أو النظريات دون ترجيح، خلافا لما عليه الواقع الموضوعي، كما في مبدأ آينشتاين بين التسارع والجاذبية، والذي يلعب دورا رأيسا في النظرية النسبية العامة، باعتبارها تتعلق بالتسارع خلافا للنسبية الخاصة، ومبدأ التسارع يعني عدم القدرة على التمييز بين الحركة المتسارعة والجاذبية، لكون كل منهما يضعط على الجسم، وبحسب وجهه نظر ماكيويجيو فالعلماء منذ عصر نيوتن كانوا يعرفون التكافؤ بين الكتلتين الثقالية والجاذبية، وقد استنتج آينشتاين من ذلك بوجود تكافؤ بين الثقالة والتسارع، ووفقا لنظريته فإن هذا التساوي لا يخلو من غرابة غير قابلة للتفسير، فهي محض اتفاق مستغرب، وإن كان بحسب آينشتاين ليست العطالة والثقالة مقبولة في التفسير لدي النسبية العامة، بل إن ما يؤثر هو المجال الزمكاني بفعل الكتل الموجودة فيه، ومن ثم فإن هذا الانحناء هو ما يؤثر على مسارات الأجرام وتحركها..

أيضا يظهر معنى التكافؤ حين يكون الحديث حول ميكانيكا شرودنجر وميكانيكا المصفوفة لهايزنبرغ، فقد قام شرودنجر بتحويل أفكار دي بروي حول التصور الموجي إلى صياغة رياضية متماسكة جعلت ميكانيكاه مكافئة لميكانيكا المصفوفة لهايزنبرج.. وقد اختار فيزيائيو العشرينات من القرن الماضي موجات شرودنجر الأكثر إلفا من المعادلات رغم أنها تعاني من مشكلة اللانهائيات والتي تم تخطيها عبر بعض الحيل الرياضية، فحين اعتبرت طريقة المصفوفات - حتى تلك التي طورها ماكس بورن ومعاونوه إثر هايزنبرج – خرقاء وأقل ملائمة، لكنها مع ذلك فعالة.

في النهاية يناقش الكاتب التكافؤ لدي نظرية الأوتار الفائقة، وقد لوحظ أن هذه النظرية تعاني من كثرة الأشكال، فليس هناك نظرية واحدة، بل هناك خمس نظريات أساسية متنوعة، وهي تتضمن أشكالا كثيرة للغاية، وكلها تعتمد على فكرة الأوتار، فلكل نظرية سمات مختلفة مثل ثابت الازدواج، والشكل الهندسي، وأطوال الابعاد الوترية والتجعد وما إليها.. وبالرغم من الازعاج الذي سببته كثرة النظريات، إلا أن الفيزيائي إدوارد ويتن ألقي محاضرة في المؤتمر المنعقد حوول الأوتار (عام 1995) أشعلت فتيل ما يسمي بالأوتار الثانية، فقد اقترح بأن النظريات الخمس المختلفة للاوتار ما هي إلا طرق مختلفة لوصف نفس الأساس الفيزيائي، فتكون بمثابة خمسة نوافذ للاطار النظري الواحد، وبتالي وجد أن هناك أدلة متزايدة بأن هذه النظريات الخمس للأوتار ما هي إلا ثنائيات، ورأي أن هناك نظرية سادسة، ستدخل ضمن هذا الهجين المختلط وهي نظرية الجاذبية الفائقة ذات الابعاد الأحدي عشر، ومعني الثنائية هو أن النماذج الرياضية التي تبدو متباينة، يمكن إثبات أنها بالضبط الفيزياء نفسها، فنظريات الأوتار واحدة،مثل الثلج والماء، فهما أوصاف ثنائية لجزيئات H2O والمسلك الازدواجي القوي لأية نظرية من النظريات الخمس له وصف ثنائي بمدلول مسلك الازدواج الضعيف لنظرية أخري، فعندما تكون إحدي النظريات ذات إزدواج ثابت قوي، فإنها تكون ذات ازدواج ثابت صغير في نظرية أخري، والعكس صحيح.. وبحسب هذه النظرية إذا كانت إحدي النظريتين ليس بإمكانها حل معضلة معينة، فإن بالامكان التعويض عنها بالاخري التي تساويها عندما يكون ثابت الازدواج فيها عكسيا، احدهما قوي والاخر ضعيف.

   وعلي هذه الشاكلة ظهر في السنوات الأخيرة أن للظواهر الفيزيائة توصيفات ثنائية، فمثلما يمكن اعتبار الجسيم يتحرك حول شىء ثابت، فكذا العكس صحيح أيضا، فيمكن اعتبار أن هذا الشىء يتحرك حول الجسيم، وبالتالي فإن الكوانتم يسمح بالسفر في الزمان في المجالات المجهرية.

***

   كان هذا ما يتعلق بالتكافؤ في العلم، أما في الفهم الديني، فعادة ما يتجلي الأمر لدي طريقة المتكلمين في تفسير ا لنص الديني، فهم لا يفترضون أن يكون معنى التفسير أو التأويل مطالقا للمراد عادة، بل يقدمون معان عديدة متكافئة لدلالة على المطلوب، شرط ألا تكون هذه المعاني المتكافئة تتعارض مع القبليات العقلية المسلم بها سلفا، في حين أنه وفي العلم لا يكون التكافؤ قائما على الدفاع عن مسلمات عقلية سابقة..

   اعتاد المتكلمون أن يطرحوا وجوها ممكنة للتفسير مثلما فعل الزمخشري في (الكشاف)، والشريف الرضي في (حقائق التأويل)، وقديما سأل الخياط جعفر بن بشر المعتزلي عن معنى قوله تعالى: " ويضل الله من يشاء ويهدي من يشاء "، عن الختم والطبع، فقال في جابه:" أنا مبادر إلى حاجة، لكني ألقي إليك جملة تعمل عليها، إعلم أنه لا يجوز على أحكم الحاكمين أن يأمر بمكرمة ثم يحول دونها، ولا أن ينهي عن قاذورة ثم يدخل فيها، وتأول الآيات بعد ذلك كيف شئت "، وواضح أن الغرض هنا ليس إثبات التأويل، بل يكفي نفي الظاهر المتعارض مع القبليات العقل المعياري، كما يسلم بها المتكلمون عادة، رغم التناقضات التي ينطوي عليها هذا العقل.

 

الفصل الرابع عشر: البساطة بين العلم والفهم

------------------------------------------

   تتحكم في النظريات العلمية مناهج كالبساطة والجمال والاقتصاد والاتساق،وعادة ما تُرد هذه المفاهيم إلى البساطة أو مماثل لها، فقد رأي الفيزيائيون أن للجمال مقوما تلاثة كما قال آينشتاين:" النظرية تكون أدعي إلى إثارة الاعجاب كلما كانت مقدماتها أبسط، والأشياء التي تربط بينها أشد اختلافا، وصلاحيتها للتطبيق أوسع نطاقا "، وعندما يذكر أن للجمال دورا أساسيا في الكشف العلمي، فإنه يُقصد بذلك البساطة، ومن ذللك ما ذكر مساعد آينشتاين بأن الأخير كان يستهدف البساطة والجمال وكان يرى الجمال في البساطة..

فالاعتبارات الجمالية دورها الذي لعبته عندما فضل جاليليو نظرية كوبرنيك بشأن المنظومة الشمسية على نظرية بطليموس، كما لعبت دورا عنما اكتشف آينشتاين الافكار التي أدت إلى النظرية النسبية، وقد ظلت النظرية النسبية مقبولة لأربعين عاما، رغم ضعف البرهان عليها، قبل أن يبدأ الرادار الحديث، وعلم الفلك الراداري يعطيان تأييدا جديدا ساطعا عليها، ومن ذلك أن الفيزيائيين تقبلوا نظرية الكهروضعيفة لاعبتاراتها الجمالية، قبل أن تفصح عن صحتها عبر التجارب، ويقال أن التجربة قد تخطأ، لكن الجمال قلما يخطىء، كما يقول أغروس وستانسيو، ويدلالان على ذلك بأنه إذا وجدت نظرية أنيقة للغاية، ولا تنسجم مع مجموعة من الحقائق، فهي لا محالة واجدة تطبيقا في مجال آخر.. وقد علق جيل مان على ذلك بقوله: "غالبا ما يطرح العالم النظري مقدارا كبيرا من البيانات على أساس أنها إذا كانت لا تنسجم مع خطة أنيقة، فهي غير صحيحة، وقد حدث معي هذا مرات عديدة، كما في نظرية التفاعلات الضعيفة، فإذا كانت لديك نظرية بسيطة، تتفق مع سائر القوانين الفيزيائية، ويبدو أنها تفسر ما يحدث فعلا، فلا عليك إذا وجدت كمية غير قليلة من البيانات التجريبية لا توائمها، فمن المؤكد تقريبا أن هذه البيانات غير صحيحة".

 

   مفهوم البساطة

 --------------

يعتبر مفهوم البساطة من المفاهيم المربكة فله معان متعددة، فقد تأتي بالمعني المألوف، مثلما يرى أغلب الناس أن الفيزياء الكلاسيكية أبسط من الفيزياء الحديثة، وهو مفهوم يجعل العلم رجعيا، لذا لا يمكن الأخذ به.. عادة ما يصادف العلماء كثرة نوعية في الطبيعة، قد تعارض مع ما يسلمون به من بساطة مفترضة، مثل جسيم الميون، فحياته قصيرة للغاية، ويضمحل إلى إلكترون ونيوترينو وضديد النيوترينو، ولو كانت الميونات غير موجودة، فإن خواص المادة العادية لا تتغير، لذلك فعندما تم اكتشاف هذا الجسيم في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، تلقي العالم الفيزيائي اسحاق رابي الخبر بفتور قائلا: " من الذي أمر بهذه الجسيمة ؟"، ومع ذلك يعتقد الكثيرمن الفيزيائيين بأن البساطة من سمات الطبيعة، وقد اشتهر عن نيوتن قوله:" الطبيعة تسرها البساطة "، وعبّر آينشتاين عن عقيدته بأن " الطبيعة هي إدراك لأبسط الافكار الرياضية التي يمكن تصورها "، وكذلك ما ما قاله ماكس بورن: " الفيزيائي الحقيقي يؤمن إيمانا راسخا ببساطة الطبيعة وبوحدتها رغم أي مظاهر معاكسة "..

   بعد ذلك يشرح يحيى محمد أن البساطة تأتي على نوعين: الشمول والاقتصاد، ويشرح الفرق بينهما،حيث يختلف المعني الشمولي عن المعني الاقتصادي، ففي المعني الشمولي تتحدد البساطة وفقا لتفسير الظواهر الكثيرة رغم اختلافها، بينما في المبدأ الاقتصادي لا يتحدد المعني بحسب النتائج والظواهر الخارجية، بل وفقا للاقتصاد في مقولات النظرية ومقوماتها، فتعتبر نظرية نيوتن اقتصادية مقارنه بنظرية آينشتاين، لأنها تتضمن ثلاث معادلات، بينما نظرية آينشتاين تتضمن أربعة عشر معادلة، وبالتالي فهي أبسط منها، لكن نظرية آينشتاين تعتبر شمولية مقارنه بنظرية نيوتن، لإنها تفسر ما لم تفسره الأخيرة، ومن ثم في أبسط منها، وفي هذا التعارض ترجح نظرية آينشتاين على نظرية نيوتن، وأيضا ما يتضمن الترجيح، التكافؤ في العطالة والثقالة لدي آينشتين، فيما يميز نيوتن بينهما، فآينشتاين يفسر الظاهرتين الثقالية والعطالية بتفسير واحد، بدلا من تفسيرين مختلفين كما لدي نيوتن، وأيضا التكافؤ لدي آينشتاين بين الثقالة والتسارع كما لدي النسبية العامة، يرجح النظرية من حيث البساطة.

   بالنسبة للمشكلات الفلسفية فيواجه مفهوم البساطة عددا من المشكلات، فمثلا يعد تفسير نشوء الكون بلا سبب، أبسط من ربطه بسبب محدد، لكن ذلك يتضارب مع مبدأ السببية، وهو من الضرورات الوجدانية، كذلك فإن نظام الكون يجعل الفارق المعرفي بين النظريتين عظيما جدا.

   أما بحسب المعني الشمولي للبساطة، فقد تطرح مشكلة تتعلق بالتفسير الفلسفي لظواهر الطبيعة، فمبدأ العلة المباشرة الذي تقول به نظرية الأشاعرة هو أبسط من أي نظرية تحاول تفسير تلك الظواهر وفق القوانين المعتادة، لكنك مع هذه البساطة، تفتقر إلى قوة التفسير، فهي لا تفسر لنا لماذا تتخذ الطبيعة شكك القوانين دون تجاوز ؟ فبساطة النظرية الأشعرية تظل بساطة ميتافيزيقية، بينما النظرية العلمية تقّوم ببساطتها على الدليل الاستقرائي فهي شمولية ايضا.

 

   البساطة والفهم الديني

   -------------------

   مثلما يجري في العلم على توحيد الظواهر الكونية، فكذا الحال في الفهم الديني، إذ يتقبل توحيد المظاهر اللفظية ضمن تفسير بسيط موحد ذاته، مثل انتزاع المقاصد العامة من القرائن المختلفة للنص، فكثرة الشواهد الدالة على محور مشترك تزيد من احتمالات التوافق، وهذا عكس تفسير جزيئات النص أو مقاطعة وجمله، بانفصال بعضها عن البعض الآخر.

   أما بساطة الفهم بالمعني الاقتصادي، فرغم من أنه لحد الان لم يرد ذكرإشارة إليه، إلا أنه يمكن التمثيل عليها بنظرية الحكمة في التشريع، بالرغم من أن الحكمة في نظر أغلب الفقهاء غير كافية للتعليل، لكونها غير منضبطة الوصف، وبالتالي يعتمد على التعليل في الاحكام ولا يعتمد على الحكمة.. لكن هناك أقلية من الفقهاء، مثل الفخر الرازي في كتابه (المحصول في علم الأصول)، الذي اعتمد على الحكمة أو المقصد كمنشأ للتعليل، ويمكن أن يطلق عليها الفهم القصدي مقابل الفهم التعبدي، فمثلا يمكن رد الخلاف الفقهي الدائر حول حكم التصوير والتماثيل إلى هاتين النظريتين، ومثل ذلك بشأن القضايا التي تبدو فيها مقاصد الأحكام واضحة، لذا فالنظرية القائمة على الحكمة والمقاصد هي أبسط من تلك التي تضيف إلى ما سبق عنصر التعبد، فالبساطة هنا هي بساطة اقتصادية.

 

الفصل الخامس عشر: النظام النسقي بين العلم والفهم

--------------------------------------------------

يواصل المؤلف مقارنته بين العم والفهم الديني، وفي هذا الفصل يوضح أن النظام النسقي في العلم قائم على الرياضيات التي هدفها الأساس هو حل بعض المشاكل الفيزيائية، كما يتمثل في نظرية الأوتار الفائقة، فظهرت اليوم اتجاهات مقبولة تعبر عن مجرج النظام النسقي، ولو لم يكن لها علاقة واضحة بالواقع، وهذا النسق المطروح هو رياضيات خالصة مفترضة، وكما يقال، فقد ظهر سوق للرياضيات يتوافد عليها الفيزيائيون ليدعموا بضاعتهم.. وتتضمن نظرية الأوتار الفائقة غني وافرا من الهندسة الرياضية، والتي حاولت من خلالها التوحيد بين النسبية والكوانتم، أو بين الثقالة وسائر القوي الجسمية، فأول ما يلاحظ هو أن تحديد الابعاد الإضافية فيزيائيا كان يعتمد على الرياضيات، فقد أظهرت النتائج بأن الذرة عندما تكون حاملة للبوزونات فقط فإنها ستحتاج إلى ستة وعشرين بعدا، وعندما تمتلك الذرة البوزونات والفريمونات معا، فإن عدد الأبعاد يتقلص إلى عشرة لا غير، وقد أضاف ويتن بعد ذلك بعدا جديدا فصارت أحد عشر بعدا، والنظرية مرنة من حيث عدد الأبعاد، وهي تري أن كثرة الأبعاد تفسر كثرة القوي الطبيعية، فإذا كانت الثقالة تحددها الأبعاد الزمكانية، فإن سائر القوي الطبيعية لا بد من أن تفسيرها أبعاد أخري مضافة، وفي جميع الاحوال، نحن ندرك باقي الأبعاد الأربعة الظاهرة للمكان والزمان، أما غيرها فتوصف بأنها مجعدة وملفوفة ضمن إمكانات من الطرق كثيرة جدا، وهي نقط ضعف النظرية الوترية، فلا يعلم لحد الآن أي من هذا الطرائق يقارب الواقع الحقيقي في الكون، إذ لماذا كان على الكون اتباع طريقة رياضية للف دون غيرها من الطرائق الطوبولوجية الممكنة ؟

علي كل حال، ما زالت النظرية تفتقر إلى الدليل التجريبي..

أما بالنسبة للنظام التراثي الديني، فلا يوجد ما يماثل الفكرة النسقية المعزولة عن النص، وليس هناك من يطرح فكرة الجمال النسقي المعتمدة في العلم، إلا أنه وفي هذه الأيام، ظهر نظام حديث يجاري في حداثته نظرية الأوتار، ويطلق عليه الكاتب يحيى محمد النظام النسقي، وهذا النظام يهتم بهذا النوع من الاتساق في فهمه للنص الديني، فمن الناحية المبدئية يرى هذا النظام أن القرآن الكريم منزل ومحفوظ بهذا الشكل الذي نقرأه دون زيادة حرف أو نقصان، ولا يوجد فيه ترادف، فكل كلمة لها معنى واحد لا يغني عنها غيرها، وأي تغيير ولو بسيط فإنه يضرب النسق كله ويؤدي إلى تغيير المعني، حتى الحروف والعلامات لها موقعها الخاص الذي يخصها، وبحسب هذا الاتجاه، فإن ماعني الالفاظ هي معان حقيقية ولا يوجد مجاز فيها...

وأبرز من يمثل هذا الاتجاه المهندس محمد شحرور من سوريا، والمرحوم المهندس عالم سبيط النيلي من العراق، وجمعية التجديد الثقافية الاجتماعية من البحرين.. وكما اتضح فإن هذا النظام النسقي يعتمد على التعميم، بمعني أن كل لفظ له معنى خاص في جميع الآيات، ولا ترادف،والترتيب مقصود، فالنص الذي يقول (المؤمنون والمؤمنات) غير الذي يقول (المؤمنات والمؤمنين) وعلي القارىء أن يجد علامة مهمة حول المعني المعتمد من هذا الترتيب بالذات..

فهذا النظام يناظر ما تسقطة نظرية الأوتار على الطبيعة، والفارق بينهما أن النظام النسقي في الفهم الديني يسهل محاكمته، باعتباره يطبق نظريته على الظواهر اللفظية، بينما في نظرية الأوتاريصعب ذلك، لأنها تدور حول المجالات الدفينة في عمق المادة الداخلية، فهي تتحدث عن أشياء بعيدة الغور لا يمكن الوصول إليها، وتكتفي بأنها تبحث عن حل للمشاكل التي تطرحها الفيزياء المعاصرة مثل اللانهائيات في العالم الجسيمي، لذا فهي يُعترف بها ولو على حساب التحقيق في علاقاتها بالواقع الموضوعي وأو حتى القرب منه..

عموما يرى الكاتب أن النظام النسقي في الفهم الديني ليس نظاما نسقيا، وذلك عبر عده اختبارات لأسس هذا النظام، الذي اضطر إلى التحايل وتوجيه النص في مواضع عدة، كي تتسق له نظريته، مع أنه يؤمن بأنه لا يوجد توجيه أو مجاز في النص القرآني، وذكر المؤلف عدة أمثلة لذلك سواء عند المهندس شحرور أو عند الجمعية الثقافية الاجتماعية، وهي موجودة في الكتاب الذي نلخصه، لمن أراد أن يرجع إليها..

***

قبل أن ينتقل الكاتب إلى القسم الخامس، يلخص أهم المسائل عند العلم والفهم الديني في جدول، ويصل إلى أن أهم فرق بينهما، أن العلم ليس معنىا بالكشف عن التطابق أو مقارباته، الأمر الذي يختلف فيه الحال مع الفهم الديني.

                

القسم الخامس: الكشف والتحقيق لدي العلم والفهم الديني

-----------------------------------------------------

الفصل السادس عشر: مسلمات العلم والفهم، مبدأ السببية والقصدية

يبدأ يحيى محمد هذا الفصل بتوضيح المسلمات التي يأخذ بها كل من العلم والفهم الديني في تفسير علمية الكشف والتبيان، فيعد مبدأ السببية في العلم من أهم المسلمات، ولولاه لما أمكن الكشف عن ظواهر الطبيعة وقوانينها، وكما قال كار بوبر إن مبدأ السببية مبدأ ميتافيزيقي، مثله مبدأ اضطراد االطبيعة وانتظامها، وهو الذي يؤمن به العلماء، برغم أنه لا يوجد وسيلة للبرهان على ذلك.. كما أن التسليم بوجود واقع موضوعي خارجي، يقام البحث عليه، يعد أيضا من المسلمات العلمية التي لا تخضع للبرهان، وقد اصبح التصور المعاصر للعلم الطبيعي كما يقول الباحث تريغ هو كالفهم الديني ينتابه الشك في اقترابه من الحقيقة الموضوعية، وكما ذكر الاستاذ دريس بأن التركيزعلي حقائق الواقع التي تتحدد بناء على العلم إنما تتم عبر صياغة ميتافيزيقية..

ويقابل مبدأ السببة في العلم، مبدأ القصدية في الفهم الديني، وهو من أهم مسلمات الفهم، فإذا لم يكن لصاحب النص قصدا ومعني فسوف يكون النص لغوا بلا قيمة، وبين المعاني والمقاصد عموم وخصوص، فإحداهما تتصمن الأخري وتزيد عليه، فتحديد المعني بالضرورة لا يفضي إلى تحديد القصد من النص، وهكذا إذا كانت المشكلة التي يواجهها العلم هي تحديد الاسباب للظاهرة الطبيعية، فإن المشكلة التي يواجهها الفهم الديني شىء مختلف، فالفهم لا يبحث عن الأسباب والعلل بل يبحث عن معنى النص ومقصده..

   وفي القبال، إن إنكار مبدأ القصدية يفضي إلى تقويض مبدأ التكليف، الذي يشكل جوهر الحقيقة الدينية، وهذا الانكار للقصدية هو ما يؤمن به المذهب الاشعري.. وتبقي هنا إشكالية حول معاني النص ومقاصده، فالهم القصدي يتجاوز حرفية النص وإطاره العام، فقد يستعين بوسائل عديدة إضافية للتعرف على مقاصده، ومن ذلك العقل والواقع.

 

لماذا وكيف بين العلم والفهم الديني

---------------------------------

إن البحث في الفهم هو كالبحث في العلم، ويتصف كلاهما بالصيغة الوصفية كيف ولماذا ؟ وإن وجد في الماضي من يشكك في تعليلية العلم واكتفي بعض العلماء بالوصف دون التعليل، فلا يوجد اليوم من يفعل ذلك، ومثل هذا الخلاف وقع في التراث الاسلامي، كالخلاف الكلامي الفسلفي، إذ كان في الوجود علل اقترانية مصاحبة ذات سمة دلالية وصفية كالذي عليه الأشاعرة، أو علل فاعلية كما يرى غيرهم من الفلاسفة والمتكليمن، الأمر الذي انعكس على قراءة النص الديني، فقد اعتبر الأشاعرة علل الشرع مجرد علامات دلالية أو وصفية محضة، حيث ارتباط الإقتران بالاشياء إنما هو ارتباط عادي لا ينجم عنه سبب ولا علة ولا حكمة ولا تاثير، وهذا الطرح الأشعري يفضي إلى التعبدية، ففهمهم للنص لا يختلف عن طريقتهم في تحليل الوجود، وبالرغم من أن المتأخرين منهم فصلوا بين الاثنين، ووقعوا في مفارقة لا تقبل الحل.. وقد أشار كالفن إلى شىئ من هذا عندما صرح بأن:" مقاصد الرب غير متيسرة، لإن قراراتته لا تتأثر بأعمال البشر ورغباتهم ومصالحهم"..

   وبالنسبة للفهم القصدي، نجد أن التمايز بين الفهمين التعبدي والقصدي، قد يطرح سؤالا في الفقه حول ما إذا كانت وسائل الفهم القصدي لا تعد من صلب الدين، إذ الاستغناء عنها بوسائل أخري يفي بالغرض، وبتالي يصبح الدين مقتصرا على التعبيديات المحضة.. وعلي ذلك ما يهم الباحث المتبني النظرية القصدية، عند حدوث التعارض بين الفهم القائم على التعبد، والفهم القائم على القصد، هو أن يحول مجالات التعبد إلى القصد دون العكس، لكن المشكلة هي أن بعض التعبديات يصعب تحويلها إلى قصديات، وقد تكون من القصديات إلا أن تباعد الزمن، وحجب الفقهاء جعلها تبدو من التعبديات، بمعني أن الأصل في هو القصد لا التعبد.

 

أشكال الفهم القصدى:

--------------------

-               القصد المنصوص، وهو الذي نص عليه النص صراحة، ومن ذلك الفطر في شهر رمضان، والضعفية في شهادة الرجل قبال المرأة، وكذا القصد من الحجاب للنساء..إلخ.

-               القصد الوجداني، وهو ما يصدق به الوجدان الفطري بسرعة، وهناك الكثير من القضايا الدينية التي ينطبق عليها هذا النوع من البحث، ويمكن الرجوع إليها في كتاب " فهم الدين "، لنفس المؤلف.

-               القصد الاجتهادي، وفيه أن القصد ليس منصوصا عليه، ولا مما يشهد الوجدان الفطري به مباشرة، بل يتم عبر الفكر والاجتهاد، وينقسم الاجتهاد عند يحيى محمد إلى اجتهاد محافظ ومغامر ومتهور، ويري الكاتب أن الاجتهاد المحافظ أستنفذ أغراضه، والاجتهاد المتهور يميل إلى القراءة الاستبطانية، ولا يحمل قيمة معرفة إبستمية، فيبقي الاجتهاد المغامر، ومما هو جدير بالذكر أن أنواع الاجتهاد الثلاثة تناظر ما هو موجود في العلم من النظام الاجرائي والافتراضي والتخميني الميتافيزيقي، على الترتيب..

نعود إلى الاجتهاد المغامر، فيوضح المؤلف أن هذا الاتجاه يرتبط بتغيير الأحكام القطيعة الواردة في القرآن الكريم، لاربتابطها بالمقاصد، مثلا شهادة المرأة وحجابها وإرثها والتعامل مع غير المسلم.. إلخ ويناقش الكاتب مسألة تحريم لحم الخنزير، ويحاول الوصول إلى القصد من تحريم أكل لحمه.. ثم يذكر أننا لو سلكنا هذا الدرب من الاجتهاد، لتحولت القضايا التعبدية إلى قضايا يفهم معناها طبقا للمعني القصدي، ويتقلص بذلك أمر التعبديات، ويتسع أمر المقاصد والمعنويات، وهو ما تتشوق إليه الكثير من النفوس لولا أن الخشية من أن الأمر سيفضي إلى ظنون لا تحمد عقباها ويتحول الدين شيئا فشيئا، إلى غيره، فلا يبقي منه سوي الأمور الكلية والمقاصد العامة.. فما من شىء وإلا يمكن استبداله بغيره من الاحكام..وقد يتعلق الدين بمسائل محدودة للغاية، كما قد يكون الغرض لا يتعدي رسالة أن لا إله إلا الله، مضافا إليها العمل الصالح ومكارم الاخلق، وعلي ذلك تكون المجتمعات معنىة بالغرض الديني أكثر مما هي معنىة بالنص وأحكامه المعهودة، فالغرض الديني ثابت لا يتغير،وهو الايمان بالله واليوم الآخر، وعمل الصالحات، ولو كان الدين لا يحمل غير هذا المعني من الايمان لكفي، في حين أنه لو كان يحمل الأحكام الشرعية المختلفة الغنية، دون الغرض المذكور، لكان ناقصا من دون وفاء، وقد يفسر هذا الأمر عدم اهتمام المشرع بجمع القرآن الكريم وضبطه، طالما أن المهمة الملقاه على عاتقه (من الغرض الديني) قد تم تأديتها تماما، لذا فمن وجهة النظر الدينية، أن موت النبي أو قتله قبل اتمام تنزيل القرآن، وإنهاء التشريع، لا يضر بالغرض المؤدي كما تدل الآيات التي عاتبت الصحابة إثر غزوة أحد..

 

      وبعبارة أخري يمثل الغرض الديني رسالة السماء الخالدة لكل الأديان، وهو مقدم على النص، مثلما هو مقدم على التشريع، وقد يعاد ترتيب الاشكالية القصدية إلى الحصيلة التي تري في الدين مرشدا وموجها أكثر منه مكونا، في حين أنه طبقا للفهم التعبدي فالأمر على خلاف ذلك، أي يؤخد الدين بكونه مكونا أكثر منه مرشدا وموجها، كما أنه طبقا لمبدأ القصدية، قد يصبح البحث عن مجالات المرونة في الاحكام مبررا، إذ تصبح الأخيرة وسائل لتحقيق غايات مطلوبة، فمن المرونة ما ورد في القرآت السبع، واختلاف صيغ التشهد، وغير ذلك مما يسميه الكاتب قاعدة التوسع أو الوساعة، وهو خلاف مام يتم تصوره بحسب يمبدأ الفهم التعبدي.

 

الفصل السابع عشر: قواعد الكشف الأساسية للعلم والفهم

-----------------------------------------------------

   بالرغم من اختلاف الطبيعة عن النص، إلا أنهما يشتركان في القابلية للقراءة والتفسير والفهم، وهذا يجعل من كلاهما قابلا للتأثير على الاخر، كما يجعل من الممكن توظيف عدد من المفاهيم توظيفا متبادلا، فمن المسلم به أن الطريقة القائمة على الإستقرائية والتجربة تستخدم في العلم كما في الفهم الديني، كما أن الاحتمالات التباينية تسختدم في كلاهما، والاحتمالات التباينية تعني وجود قيم احتمالاية غير متساوية، تبررها القرائن المختلفة الدالة على محور مشترك، وهي تستخدم في تكوين الفروض والنظريات العلمية، وتمثل العنصر الأساسي في بناء الدليل الاستقرائي منطقيا، وطبيعة هذه الاحتمالات هي أنها لا تقبل العد الحسابي، طبقا للاختلاف النوعي للقرائن التي تبرر عدم التسوية الاحتمالية، ولمزيد من التفصيل في هذه النقطة يمكن الرجوع لكتاب المؤلف يحيى محمد " الاستقراء والمنطق الذاتي "..

   وهناك أربع قضايا مختلفة أغلبها لها علاقة بالدليل الاستقرائي، وتسخدم في الفهم الديني والتفسير العلّي، كما يلى:

-               الدليل التعميمي، وفيه ينتقل الذهن مما هو خاص إلى ما هو عام، وأكثر ما يستخدم العلم هنا الدليل كمصادرة (مسلمة) مفترضة حول تعميمات القوانين الطبيعية، وما يعرف بقانون الاطراد.. ويقابل ذلك في الفهم الديني مشكلة التعميم الخاصة بالفهم القصدي لدي التعبديات، فالكثير من الاحكام الدينية تشير صراحة إلى مقاصد تتمثل بمصالح الانسان الدنيوية، وكلها قد تعمم على الاحكام التعبيدية، وكلما اكتشفنا ظهور مصلحة ما في الاحكام الاخيرة – كأن تكون المصحلة طبية مثلا – كلما زادت القيمة المعرفية لقاعدة التعميم.

-               الدليل التمثيلي، وفيه ينتقل الدليل من حالات جزئية محدودة للغاية إلى حالات أخري مماثلة، وهو مستخدم بكثرة في الأوساط العلمية، ومن ذلك تفسير الضغط الجوي كما في تجربة تورشلي، بلحاظ ضغط الماء، فبحر الهواء هو كبحر الماء، والضغط مثله، أو تفسير ظاهرة الضوء بالموجه، شبيها بموجات الماء والصوت، أو تفسير الحركة الجزئية للغازات بحركة البلياردو العشوائية... وهناك جملة شهيرة للمؤرخ العلمي مايكل كون:" إنك لن تر شيئا ما، ما لم تصل إلى التشبيه الصحيح الذي يجعلك تدركه ".. وعبر هذا النمط من الاستدلال تمكن العلم من أن يوحد بين القوتين الكهرومغناطيسية والنووية الضغيفة، ومن ثم التنؤ بوجود جسيمين مراسلين، كما اعتمد عليه أيضا في افتراض جسيم بروزون هيجز، ضمن مجال هيجز، تشبها بالمجال المغناطيسي للفوتون، ومثل ذلك افتراض جسيمة الغرافيتون للثفالة.. وفي الفهم الديني ينطبق هذا النوع من الديل على القياسات الفقهية، حيث يستدل بشواهد محدودة من الالفاظ لبعض الأحكام على حالات جديدة مشابهة، لهذا عرفت هذا الاحكام بالظنية، كما يستخدم هذا الدليل لدي المتكلمين بما يعرف بقياس الغائب على الشاهد، ضمن شروط معينة.

-               الدليل التفسيري، وفيه أن الديل يتضمن البحث عن إثبات الحالات الخاصة وتفسيرها، وهو ينتهي إلى تقرير معني بإثبات حالة خاصة، أو تفسير وجودها وفقا للقرائن المختلفة، وهو كثير الاستخدام في العلم، ومن ذلك تفسير القوي المتعلقة بالكتل الطبيعية وفقا للجاذبية، أما في الفهم الديني، فقد كان هذا الدليل القائم على الاستقراء فاعلا لدي العديد من المفكرين الاسلاميين، في توظيفه للكشف عن القضايا الدينية العامة، ومنها المقاصد الكلية كالذي دشته الشاطبي في كتابه الموافقات، ومن أبرز نتائج هذا الدليل ما يعول عليه في إثبات صحة صدورة الاخبار والأحاديث وتفسير المتون والمضامين المختلفة وفقا لكثرة القرائن الاحتمالية.

-               الدليل الحدسي، وفيه أن الدليل يتضمن التسليم بفرض معين ينشأ على نحو لا تقتضيه كامل ما سبق من العملية الاستدلالية، أي أنه يقفز بالذهن بدفعة واحدة كإلهام، نتيجة وجود قرائن قليلة محدودة، وقد تكون مدعومة بتصورات رياضية أو خيالية، كما قد تكون غامضة غير واضحة، وعادة ما يشترط في هذا الغرض كسائر ما سبقه هو أن تكون نتائجه قابلة للاختبار لتحدد مدي قوتهه في التأييد والتكذيب أو الاستبعاد، وهو يعد موضع اهتمام المنهجج العلمي في الغرب حاليا، وقد يختلط أمره بالأدلة السابقة..

ويقابله الفهم الديني، مما أطلق عليه الكاتب الاجتهاد المغامر، ومن نماذجه تفسير السيد محمد رشيد رضا للوضوء (علي أنه مبالغة في النظافة)، لكن مع أخذ الاعتبار أن الاجتهاد المغامر من الصعب عليه أن يكون منتجا، مثلما يعرف في القضايا العلمية، إذ يتعسر خضوعه لأفق الانتظار والتأييد والاستبعاد.

 

أهداف العلم والفهم

-----------------

   يتمثل هدف العلم تارة بتفسير الطبيعة، وثانية باكتشاف الحقائق، وثالثة بالتنبؤ بما هو جديد، كي تتتمثل غاية الفهم في تحقييق هذه المطالب الثلاثة أو أغلبها.

-               التفسر العلمي، وفيه يتم البحث عن القوانين والاسباب الخاصة التي يمكن من خلالها تفسير الظواهر الكونية، وأبرز الامثلة قانون الجاذبية الذي وضع لتفسير الحركات الفلكية وسقوط الأشياء.

-               الاكتشاف العلمي، وفيه يتم اكتشاف حقائق موضوعية لم تعرف من قبل، وهو لا يخضع لقواعد محددة، فقد يأتي عن طريق الرصد والاستقراء والتجارب كما قد يأتي من خلال التشبيه والتمثيل، أومن خلال التأملات الخيالية، أو عبر المنهج الرياضي أو من طريق الصدفة، أو حتى عبر الإلهامات والمنامات.

-               التنبؤ العلمي، وفيه يتم وضع فرضية ما لسيتهدي بها للتنبؤ ببضع الظواهر الطبيعية، وهو يعتمد على التفسير، إذا لا يمكن التنبؤ بشىء ما لم يسبقه فرضية ما للتفسير، يمكن ان يقال بأن الطريقة العلمية تتبع نظام الفروض (المؤقتة) في التفسير والتنبؤ، كما حدث مع العالم الفلكي هالي، الذي كان يعمل ضمن البرنامج النيوتني، فإراد أن يحسب امتداد مرور أحد المذنبات من الصيف الاهليليجي طبقا للمشاهدة، فرأي أنه سيعود بعد (72) سنة وحد نقطة رؤيته التي سيعود بها، وبالفعل حصل هذا التنبؤ بعد أن كان هالي ونويتن ميتين، وهو ما يدعم نظرية نيوتن في الجاذبية، أما في الفهم الديني فنلاحظ ما يلى:

-               التفسير الديني، وفيه يتم تحديد معنى النص وقصده، فإذا كان التفسير العلمي معنىا بالسبب والقانون، فإن التفسير الديني معني بالقصد والمعنى.

-               الاكتشاف الديني، وفيه يتم اكتشاف بعض الحقائق التي لم تكن معروقة من قبل، وكثيرا ما تحدث عمليات تفسير جديدة للنص ولكنها ليست مكتشفات، كالذي أراده رشيد رضا، وحسين النائيني، من اعتبار أن القرآن يحتوي على القضايا الدستورية، لكن من حيث التحقيق يظهر أنه تفسير وليس اكتشاف، أو كما أراد المهندس شحرور اكتشاف الفرق بين الصلاة والصلوة، أو بين النبوة والرسالة، أو كما يحاوله من يقوم بإثبات الاعجاز العددي أو العلمي وما إلى ذلك، لكن كل ذلك محاولات ضغيفة ولا ترقى للاكتشاف.

-               التنبؤ الديني: الاختلاف بين العلم والفهم يتعلق هنا بعنصر الأمن، إذ يشترط في التنبؤ العلمي وجود فاصل زمني بني النظرية والمتنبأ به، أما في الفهم الديني فليس هناك فاصل زمني كما في العلم، إذ ليس فيه حوادث مستقبلية لكونه يعتمد على ألفاظ وكلمات هي بمثابة الحوادث، لكنها حاضرة على الدوام وليس فيها ماضي أو مستقبل، خلافا لواقع الطبيعة، وبالتالي ليس هناك ما يكن أن نطلق ع ليه تنبؤ بالمعني الشامل للعلم.

 

الفصل الثامن عشر: علاقات العلم والفهم

----------------------------------------

   تتركب العلوم الطبيعية بعضها على بعض، حتى تنتهي إلى العلم المتعلق بالبديهيات والضرورات الأولية، والتي يهتم بها علم الفلسفة والمنطق، ويمكن تحديد علاقة العلوم ببعضها حسب المستويات التالية:

-               التوازي، وفيه أن العلوم تكافىء بعضها البعض الاخر، بعض النظرعن قابلية التأثير والتأثر فيما بينها.

-               الاعتماد، وفيها تتحدد العلاقة لدي جملة من العلوم وفقا لاعتماد بعضها على البعض الآخردون عكس، فلولا العلوم المعتمد عليها، ما كان للعلوم الأخري أن تكون لها قائمة، ومن ذلك علم البايولوجيا قائم على الكيمياء والفيزياء، والفقه قائم على القرآن والحديث واللغة.

-               الاختزال، هناك من يبالغ في رد وتفسير ما يرد في علم ضمن علم آخر، أومن ذلك اعتبار البايولوجيا نوع من الفيزياء.

-               التأثير الخطي، وفيه أن جملة من العلوم تؤثر على بعضها، وإن كان الغير غير قائم عليها كليا، ومن ذلك علوم الرياضيات في علاقاتها بالفيزياء والكيمياء، وكذلك تأثير علم الكلام والعلوم الحديثة على الفقه.

-               التأثير المتبادل، وفيه أن جملة من العلوم يؤثر بعضها على البعض الآخر بشكل متبادل، فمثلا أن علم الفيزياء يؤثر على علم الكيمياء، لذلك أمكن إنشاء علم الكيمياء الفيزيائية، وكذا الحال مع العلوم الإنسانية، حيث يؤثر الاقتصاد على السياسة، والعكس صحيح، وبالتالي هناك علم الاقتصاد السياسي، وتعد هذه العلوم من العلوم المتوازية.

-               التفسير، حيث أن بعض العلوم يمكنها تفسير غيرها وليس فقط التأثير فيها، فمثلا بالرغم من أن ا لكيمياء والفيزياء يؤثران على علم البايولوجيا، لكنهما لا يفسرانها، في حين أن الرياضييات تفسير الفيزياء وليس فقط تؤثر عليها.

-               التباعد، وفيه أنه لا علاقة للعلوم بعضها بالبعض الآخر مباشرة، كعلاقة الرياضيات بعلم النحو أو الكلام مثلا.

 

مستويات العلاقة بين العلم والفهم

-------------------------------

1ـ المضامين:

علي صعيد المضامين هناك أربعة مسارات للعلاقة بين العلم والفهم كالتالى:

-               المسار المختلف، وهذا يعني أن لكن من العلم والفهم مسار مختلف عن الآخر، أي لكن منهما نتائجة المستقلة دون أدني علاقة.

-               المسار التأييدي، وفيه يكون العلم أو الفهم مؤيدا للاخر، فمثلا أن الشائع لدي العلم هو القول بحدوث الكون دون قدمه، وهو ذاته الشائع في الفهم الديني.

-               المسار التعارضي، يعبر المسار عن تعارض بين العلم والفهم، ومنه التعارض المتعلق بهيئة الأرض إن كانت متحركة أو ساكنة، ومثل ذلك التعارض المتعلق بالمدة التي استغرق فيها خلق السماوات والأرض وما بينهما من مدة، فكما ذكر ابن كثير بأن للمفسرين قولين في معنى الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، فبعضهم ذهب إلى أنها كأيامنا هذه، وهو رأي الجمهور، في حين ذهب آخرون إلى القول بأن كل يوم من أيام الخلق يعادل ألف سنة مما نعرفها.. وعلي هذه الشاكلة جاء في سورة فصلت، ما يبدي لدي الفهم الديني بأن الزمن الذي خلق الله فيه السموات والأرض يفوق الزمن الذي خلق فيه السماوات السبع، كما ورد بأن خلق الأرض بما فيها من رواسي سابق لخلق السماوات، بالاضافة إلى أن هذه الآيات، تلوّح بوجود شياطين في السماء الدنيا، وهي عرضة للقذف بالشهب لدحرهم.. وكل ذلك ما لا يتفق مع التقديرات الفلكية والعلمية..

كما ورد أن عدد الشهور هو إثنا عشر شهرا للسنة منذ خلق الله السموات والأرض، وقد يعطي فهما بأن الشهر ثلاثين يوما أو قريبا من ذلك، وأن السنة (365يوما) أو ما يقاربها، لكن ثبت بالحساب العلمي بأن الأرض تتباطء، فوفقا للساعات الذرية، كل سنة تتباطء جزءا من الثانية، وأنه قبل ملايين السنين، كان معدل سرعة الأرض 400 يوم في السنة.

 ولو توغلنا أكثر لكان عدد أيام السنة أكثر فأكثر باضطراد، ولو حسبننا سرعة الأرض من تكونها قبل حوالي 4.5 مليار سنة، نجد أن السنة الواحدة كانت تعادل 144سنة، وأن حوالي 144 دورة للأرض حول الشمس، كانت تعادل دورة واحدة في الوقت الحالي، وتكون السنة حوالي 4370 شهرا، فكيف تكون السنة إثنا عشر شهرا وقت خلق السماوات والأرض؟ وبالتالي كان لا بد من اعتبار الشهر لا يساوي ثلاثين يوما أو ما يقاربه آنذاك، بل كان حوالي 364 يوما، فالشهر يقارب السنة مما نعد ونحسب !

-               التأثير، في قديم الزمن كان تأثير الفهم الديني على العلم ساحقا، واليوم نري أن تأثير العلم على الفهم الديني قويا، وهو ينعكس بدرجات مختلفة:

-               أصبح من المسلم به لدي الغالبية الدينية أن ما جائ به العلم صحيح، خلاف ما كان يعتقد به من قبل، مثل حركة الأرض حول الشمس.

-               هناك أمور علمية ظل يشوبها الشك لدي الغالبية الدينية، من قبيل نظرية دارون.

-               هناك أمور ما زالت مقبولة لدي الأوساط الدينية دون أن تصل إلى درجة القطع، مثل نظرية الإنفجار العظيم.

-               هناك قضايا يدعي فيها السبق الديني على العلم، وما من شىء سيصل إليه العلم إلا ونجد الدين قد سبقه فيه، مثل التفاسير العلمية والاعجاز القرآني وأحيانا الحديث النبوي، ولكن هل من الممكن أن يؤثر الفهم الديني على العلم ؟

إن من الاعتقادات الراسخة في الغرب اليوم هو أن الدين يظهر عندما تكون هناك ثغرات لم يتمكن العلم من تفسيرها، وبالتالي كلما تقلصت الثغرات تقلص الدين.. كما أن هناك فجوات في الدين يملؤها العلم، فكل ما ما هو مجمل في الدين يجد تفاصيله في العلم، وبالتالي هناك تأثير متبادل بين كليهما.

 

2- القواعد الاجرائية

يمكن أن نتسائل عما إذا كانت بين الفهم والعلم نوع من التقارب التأثير، أم أن لكل طريقته الخاصة المستقلة؟

 

الاشتراك في القواعد والمفاهيم

------------------------------

هناك قواعد مشتركة قد تم تحديدها في الغرب ضمن العلوم الطبيعية، وهي أيضا كانت محددة من قبل لدي المسلمين وطبقوها على النص، بما يعرف لدي الأصوليين بمسالك القياس ومن ذلك السبر والتقسيم والدوران وتخريج المناط...إلخ فمن الناحية المنهجية كان الأصوليون القدماء يطبقون حالات الكشف في القياس هي ذاتها، التي قد تم استخدامها في الكشف في المجال العلمي، كذلك فإن أهم القواعد المستخدمة في المنهج العلمي والفهم الديني، هي قاعدة الاستقراء، وقد كان الشاطبي من القلائل القدماء الذن أشادوا بهذه القاعدة وتطبيقها في الفهم.

 

إمكانية الإقتباس

----------------

يري الكاتب أن قواعد ومفاهيم مثل الفرض والبساطة والنماذج الإرشادية والاختبارات الشاقة، وغيرها، مما يعول عليه العلم في فلسفته، تصلح للاقتباس والتوظيف في الفهم الديني، لكن هل يحدث العكس ؟

 

ما الذي يمكن أن يقدمه الفهم الديني للعلم ؟

----------------------------------------

يري المفكر يحيى محمد، أن أعظم ما يمكن للفهم الديني أن يقدمه للعلم هو التفكير المقاصدي، ويمكن طرح السؤال التالى: هل للكواكب وجود صدفوي اتفاقي في علاقتها مع الأرض ؟ أم أن لها فوائد هامة على الكائنات الحية، بل والذكية أيضا، غير التوازن المعروف ؟ وبلا شك فإن هذه المسألة تمتلك جدوي للبحث لدي الباحث القصدي، تدفعه للتحقق من المعرفة، إن كانت هنااك أغراض للكواكب يمكن أن تقدمها للحياة والأرض أم لا ؟

وفي القبال لا يجد الباحث الاتفاقي دوافع مشجعة للبحث في الموضوع جملة وتفصيلا، طالما أنكر الأغراض والمقاصد الكونية وفقا لمنهج الاتفاق والصدفة، وهو من هذه الناحية يتصف بالكسل مقارنة بالباحث القصدي الذي يتميز بالنشاط...

ويلخص الكاتب وجهه نظره: ".. على ذلك يمكن تقرير أن العلم الحالي القائم على الاتفاق والمصادفة هو علم كسول محافظ ".

 

الفصل التاسع عشر:الافتراض الآخر بين العلم والفهم

-------------------------------------------------

   كل إنسان يمتلك منظومة من المعتقدات والمعارف، ويقابلها مجموعة أخري من المعتقدات والمعارف المخالفة، ولا يعتبر المرء عادة اعتقادات المخالفين أن لها أهمية، وكثيرا ما يصاب الإنسان بالعذاب حين يفقد معتقداته أو تتعرض للخطر، لذا نجد آلالاف المعتقدات والأراء، وكل فرد يألف ما لديه منها، ولا يعير بالا بالتضاربات بين عقائده وعقائد الاخرين، لكن مَن من هذه المعتقدات يعتبر صحيحا ؟ وما الأهمية التي يشكلها الإفتراض الآخر بالنسبة لنا ؟ وما المقصود بالافتراض الآخر ؟ وما هي مجالاته وحدوده ؟

   حول الأهمية، فقد سبق وأشرنا إلى أننا معنىون بقوة إلى البحث في الافتراض الآخر، وإن ما يبرر هذا البحث هو كثرة الاختلاف والتعارض بين الافتراض والآخر، والهدف من ذلك هو معرفة أي الإفتراضات تتصف بالصدق والصحة أو الاقتراب منها، فبدلا من أن نبرر لمعتقداتنا، نبرر معتقدات غيرنا، وعلي نحو الدقة: لنبرر للافتراض الآخر بغض النظر عن الغير أيا كان.. فهل هذا ممكن ؟ وهل له أهمية ؟

   من حيث الامكان فهو ممكن، رغم أن صعب التحقق، أما من حيث الاهمية فقد لا تجد النهضة والتطور مجالا ما لم تشع ثقافة التحقيق والمراجعة الفكرية باستمرار، ومن ثم البحث في الافتراض الاخر.

   ومن حيث التعريف ليس بالضرورة أن يتمثل الافتراض الآخر بما لدي الغير من معتقد ومعرفة، فقد يكون جديدا، وبمثابة (الطريق الثالث)..

   ويدخل ضمن هذا التعريف ما نطلق عليه الافتراض الكاذب، فقد يوظف هذا الافتراض لعلاج مشاكل جوهرية تستعصي على الحل بدونه، لذا يصبح جزء من المنظومة رغم هذه المفارقة، فمثلا اضطرت الاشعرية إلى الاعتقاد في صدق الكلام الالهي، وبقولها أنه يستحيل إجراء المعجزات على يد الكاذبين، بالرغم من أن هذه الإفتراضات تتتناقض مع أصولها المولدة، لكن بدونها ينهار الدين.

 

أصناف الافتراض الآخر

-----------------------

-               الافتراض المستحيل، مثل الافتراض المستند إلى نقض مبدأ عدم التناقض،إذ يترتب على ذلك فشل المعرفة، أو الافتراض المستند على نقض مبدأ السببية العامة، إذ يترتب على ذلك فشل إثبات أي واقع خارجي.

-               الافتراض الصعب أو المرجوح، مثل الافتراضات الكثيرة التي لجأ إليها علماء الفيزياء لحاجتهم إليها.

-               الافتراض السهل أو العادي، وهو الافتراض الذي يمكن الاخذ به دون مشاكل.

-               الافتراض غير المحدد، وميزته التردد بين افتراضين، كالمستحيل والصعب، وكثيرا ما يحدث في الفيزياء، كالافتراض المتعلق بالزمان العكسي مثل حالة السفر للماضي، فأحيانا يرى فيه الفيزيائيون نقضا لمبدأ السببية وأحيان أخري يضعون له سيناريوهات مختلفة لاتبعث على التناقض.

-               الافتراض الشرطي المنافي للواقع، وهو افتراض متعلق بالنتائج المترتبة على الامكانات التي لم تصادف الواقع، ومن ذلك الافتراضات البديلة، كما نفترض لو انتصر هتلر في الحرب العالمية الثانية، ماذا سيكون شكل العالم ؟ وقد يكون الافتراض الشرطي المنافي للواقع منتجا، كالذي حصل في دائرة التفكير الفيزيائي.

-               الافتراض المكافىء، وهو يكافىء غيره، لكن يؤخذ به لاعبتارات نفعية، كالذي يلجأ إليه علماء الفيزياء من أمثال بوانكاريه وملهود ولي روي ضمن ما يعرف بالمذهب الاصطلاحي، كذلك آينشتاين ونظرية الأوتار.

***

هذا على الصعيد الموضوعي، أما على الصعيد الذاتي فيمكن تقسيم الافتراض الآخر إلى:

-               افتراض سهل التقبل، وهو لا يمس معتقداتنا.

-               افتراض صعب التقبل، وهو يمس ما لدينا من مسلمات ومعتقدات.

-               افتراض وسطي، وهو يتخذ مرتبة وسطي ببن الافتراضين السابقين، ولو أن شخصا ما منتميا إلى فئة معينة ضمن مذهب ما، فالافتراض الصعب بالنسبة له، هو الافتراض السهل بالنسبة للمنتمي إلى الفئة الاخري في نفس المذهب، ففي المذهب الشيعي مثلا،إن الفرد الأصولي قد يرى في الاخبارية ما تمثل افتراضا صعبا، وكذا العكس صحيح، وفي المذهب السني قد يرى الحنبلي الاتجاهات الثلاثة الأخري تمثل افتراضا صعبا له، والعكس صحيح.. ويزداد الافتراض صعوبة إذا تعلق الأمر بدين آخر.

وغالبا ما يتأطر الافتراض الآخر للمعتقد الديني بالمجال الذاتي، في حين يتأطر الافتراض الآخر للمعتقد العلمي بالمجال الموضوعي، وفي الغالب، كلما كان الافتراض الآخر صعبا على الصعيد الذاتي، كلما كان سهلا على الافتراض الموضوعي، وكلما كان صعبا على الصعيد الموضوعي كان سهلا أو غير سهل على الافتراض الذاتي.

 

مجالات البحث في الافتراض الآخر

-----------------------------------

   تشمل مجالات البحث في الافتراض الآخر جميع القضايا المعرفية، وبالرغم من تعويلنا على معتقداتنا، إلا أننا قد نواجه مشاكل لا تحل إلا بالعلم وفقا للافتراض الآخر، مهما كان صعبا، وبالتالي فالعملية لا تخلو من الخسارة، لكنها ذات مكسب كبير، وأكثر ما ينطبق عليه هذا هو المجال العلمي.

 

المجال العلمي والافتراض الصعب

-------------------------------

   نظرا لما يلاقيه الباحثون في المجال العلمي من صعوبات، فإنهم أحيانا، لا يجدون حلا سوي تجاوز الحس الوجداني، وبعضهم يدعو إلى ضرورة تحرير الفلسفة العلمية من مفاهيم مثل الفطرة السليمة، مثلما هو حال الوضعيين المنطقيين وكذلك أصحاب نظرية الكوانتم، ويرز هذا النوع من الاضطرار المتعلق بالافتراض الصعب، لدي التحولات الكبيرة أوالمحطات العلمية الفاصلة، وأولها نشأة العلم الحديث، إذ لم يبدأ العلم إلا عبر طرح الافتراض الآخر، كالذي صرح به كوبرنك حول حركة الأرض حول الشمس مخالفا الاعتقاد البطليمي السائد قبله، ومخالف سلطة الارث العلمي الذي امتدت طوال ألف سنة.

   أيضا كان هناك محطات علمية آثر فيها العلم طرح الافتراض الآخر كبديل مناسب، مثل فكرة التخلي عن الأثير، وذلك على خلفية التجارب التي أجراها مايكلسون ومورلي، وعلي أساس هذه التجربة السلبية ذاتها، قرر علماء فيزيائيون آخرون على نحو رهيف، أن هذه التجربة السلبية من منظور نيوتن كانت تجربة إيجابية في منظومة آينشتاين.

   وعلي هذا المنوال أيضا الاضطرارات التي جعلت العلماء يتقبلون فكرة كموم الضوء، فقد كان من الصعب جدا تقبل فكرة كموم الضوء وإضافتها إلى الموجة، مما يوصف بأنه الارتباط غير منطقي، فإما أن يكون الضوء موجات أو جسيمات فحسب، وليس من المنطقي أن يتصف بكلا الوصفين معا، فيظهر في ظروف بأنه موجة فحسب، ويظهر في ظروف أخري بأنه جسيمات فحسب، حتى قال الفيزيائي الانكليزي وليم براغ مازحا (عام 1912): " نحن ندرس النظرية الموجية (للضوء) أيام الأثنين والأربعاء والجمعة، وندرس النظرية الجسيمية أيام الثلاثاء والخميس".. ومن الافتراضات الصعبة التي تم قبولها، تلك المتعلقة باكتشاف النيترينو واكتشاف المادة المضادة عبر اكتشاف البوزيترون، ومن ذلك أيضا مضامين نظرية الكوانتم والنسبية العامة، فكلها تتضمن افتراضات اضطر لها العلماء عندما لم يجدوا بديلا لتفسير الظواهر المرصودة، وإن كان ذلك مهد لافتراضات أخري بعيدة عن أن تنالها يد التأييد والتحقيق، كنظرية الأوتار.

 

الافتراض الشرطي المنافي للواقع:

---------------------------------

   يعد عالم الكونيات الانكليزي براندون كارتر أول فيزيائي ابتكر نوعا من الأسئلة التي يطلق عليها التحليل المنافي للواقع خلال الستنيات من القرن المنصرم، فقد سأل نفسه: " لو افترضانا أن القوانين كانت مختلفة قليلا عن الشكل الذي هي عليه بالفعل في هذا الجانب أو ذاك، ماذا ستكون عواقب ذلك ؟ "، فيمثل هذا الافتراض شرطا منافيا للواقع، وركز فيه على العلاقة التي تربط نتائج الافتراض بالحياة، ومنها الحياة العاقلة أو الذكية، فقد اقترحت افتراضاته أنه لو كانت القوانين مختلفه عما هي عليه ولو شيئا يسيرا، لنتج عن ذلك استحالة وجود الحياة، لذلك بدت قوانين الفيزياء بنظره مناسبة للحياة، وأطلق على هذا الضبط الدقيق اسم المبدأ الانساني، وهو ما أعطي انطباعا خاطئا بأنه يتعلق فقط بالبشر، مع أنه لم يقصد ذلك، وأطلقت هذه الورقة البحثية لكارتر شرارة ثورة حقيقة في التفكير العلمي.

   يطرح الكاتب فكرة أننا يمكن أن نطرح أسئلة على الشاكلة نفسها، أي الافتراض الشطري المنافي للواقع، فنقول دون أجابة:

كيف نتصور الحياة البشرية فيما لو لم يكن للأديان تأثير ووجود قط ؟

كيف نتصور طبيعة التعامل والأحكام التي يأتي بها النبي محمد فيما لو كان مرسلا إلينا حاليا ؟ أو إلى مجتمع غربي مثلا ؟

ومثل ذلك كيف نتصور رد فعل النبي إزاء الحكم السياسي فيما لو كان مرسلا إلى دولة موحدة يرأسها ملك عادل وليس إلى قبائل متعددة متناحرة ؟

 

الافتراض الصعب والخيار الأفضل

---------------------------------

   جميع المجالات الدينية والفلسفية والعلمية تواجه افتراضات يصعب على العقل تقبلها، وإن كان مضطرا إلى التسليم ببعضها، وبالتالي لابد من قبول الاختبار الذي تقل فيه هذه الصفة التي يستنبعدها العقل.

   فمن بين الافتراضات الفلسفية الصعبة، يكون التردد بين اعتبار الكون منتهيا أو غير منته، فلو قلنا أن الكون منته لكان من الصعب تصور ما هو خارج عنه، أما لو قلنا بأنه غير منته، فإن العقل لم يتعود على رؤية الأمور غير المنتهية، إلا لدي القضايا الاعتبارية.. كذلك مسألة أزلية الخلق أو إذا ما كان له بداية، فكلاهما يترتب عليه نتائج صعبة القبول بالنسبة للعقل، فالقول بأزلية الخلق قد يوهم بأنه أمر مستحيل، باعتبار الحاجة إلى تراجع غير منته، وفي القبال، القول ببداية محددة للخلق، يجعل العقل يواجه مشكلة كيفية اختار لحظة البدء دون غيرها من اللحظات، مع هذا، فمن الناحية العقلية الصرفة، قد يترجح الظن بأزلية الحدوث كخيار أفضل تبعا لعدد من المبررات، كما شرح ذلك يحيى محمد في كتابه " الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية ".

***

   هذا ما يخص الفلسفة، أما ما يخص الدين فقد نجد ترددا بين اختيارات صعبة، مثل الخلاف السني الشيعي حول مسألة الأمامة.. وأيضا أو افتراض آخر واجه المسلمون بعد وفاه النبي، هو الافتراض المتعلق بجمع القرآن، فلم يكن الجمع تلقائيا وسهلا، ولعل الصحابة كانوا يفكرون لو أن هذا الافتراض كان مطلوبا وملزما لفعله النبي بنفسه، أو على الأقل لوصي به أصحابه بعده.

   ومثل ذلك ما يتعلق بمشكلة الحديث، فالانشغال به قد يعتبر افتراضا آخر قبال التسليم به سلفا، وقد لجأ إليه أصحاب الصحاح وغيرهم، إذ رأوا فيه الخير بعكس ما أظهره كبار الصحابة والتابعون من كراهة ذلك.

   وعلي هذه الشاكلة ما يتعلق بالاجتهاد الفقهي، وما يترتب عليه من كثرة السؤال، فهو افتراض آخريقابل ما كان عليه الصحابة التابعين من قلة السؤال.

***

   كذلك الحال فيما يخص الاطار العلمي، فرغم محاولات التوفيق بين نظريتي النسبية والكوانتم،إلا أنها ما زالت لم تصل إلى نتيجة مرضية بعد، لذا تقبل العلماء على مضض النتائج المترتبة على كل من النظريتين، وسبق لآينشتاين أن ألقي محاضرة في برلين خلال العشرينات من القرن المنصرم، بين فيه الحاجة إلى تشكيل مركب من الأراء المتعارضة.

 

   الافتراض الآخر وتأثيره في المجالات الأخري

   --------------------------------------------

في البداية يطرح الكاتب سؤالا، حول ما إذا كان من الممكن أن يؤثر ما يطرح في مجال ما على المجالات الأخري ؟ ويجيب أنه لاشك أن هذا ما حدث فعلا، فما طرحه كوبرنك أثر تأثيرا بارزا في المجالين الديني والفلسفي، وأخذ بعدها العلم يؤثر في الفهم الديني فيما يتعلق بخلق الكون والأرض وكيفية خلق الإنسان ونشوئه.. وقد ظهر ذلك على الكنيسة شيئا فشيئا، وأخذ يغير من مجري الحياة بجميع أبعادها الفكرية والاجتماعية والتكنولوجية، واظطر ذلك المسيحيون إلى مطالبة الكنيسة بأن تتمثل روح العصر الجديدة وما تتطلبها من تغيرات فكرية واجتماعية.

   كما أن للتطورات العلمية الأخيرة تأثيرا على عدد من القضايا الفلسلفية التي كان ينظر لها على أنها من الثوابت، مثل ما كان يعتقده الفيلسوف ايمانويل كانت من أن الهندسة الاقليدية من الثوابت القبلية، فقد قلب آينشتاين هذه الفكرة رأسا على عقب، كذلك طرحت نظرية الكوانتم تساؤلات فلسفية تختلف عن تلك المسلم بها في السابق حول طبيعة العلاقة بين الأشياء وطبيعة السببية والزمان والمكان في العمق الجسيمي، وعلي العموم ما يسهل على العلم تقبله اليوم كافتراض آخر، يصعب على الفلسفة قبوله، ومن أبرزها ما تراه الفلسفة بأنه يشكل مسلمات للفطرة السليمة والحس المشترك العام كالسببية وعدم التناقض.

***

   أخيرا يسأل يحيى محمد، هل يكون باستطاعتنا تحويل الافتراض الآخر في قضايانا الدينية من صعيده الذاتي إلى الموضوعي، بحيث نتعامل مع هذه القضايا كتعاملنا الموضوعي مع الرموز المفترضة (س) و(ش)، دون أن يكون بمقدرنا أن نتحيز ذاتيا نحو (س) و(ش)، فكل منهما لا ينتسب إلينا بقرابة نسب ولا حسب، ولا نفع ولا ضر، لكنهما في الوقت ذاته السبيل الوحيد لوضع أقدامنا على الطريق الصحيح لبلوغ الحقيقة أو الاقتراب منها ؟ !! ومتى يكون بمقدورنا تقبل الافتراض الآخر الصعب في قضايانا الدينية، كالذي يمارسه العلم بطلاقة، وهو سر نجاحه وتقدمه دون أدني شكل ؟ فهل (س) أو (ش) تعني لك شيئا أيها القارىء الكريم ؟

***

وبهذا نكون قد انتهينا من تلخيص الجزء الثاني والأخير من كتاب (منهج العلم والفهم الديني)، ويبقي لنا المقالة الثالثة وعنوانها " المناقشة "، والتي نناقش فيها آراء الباحث والمفكر يحيى محمد، فإلى لقاء قريب..

 

أيمن عبد الستار، 27 /3/ 2015

comments powered by Disqus