-
ع
+

الخواطر والإبداع

يحيى محمد

إن أغلب الأفكار والأحاسيس التي تخطر في ذهن الإنسان تُفرض عليه فرضاً دون ان يتقصد اظهارها. وقد تبرز الخواطر منذ البداية بلا وعي، كالذي يحصل باستمرار عند الغفوة بين اليقظة والنوم، فكثيراً ما تمر بالفرد أفكار لا يقصدها ولا يعرف سبب ظهورها، ومع هذا تظهر حتى لو كانت ترتبط بماضٍ مؤلم تثير فيه الأرق، وتسبب له إهتزاز المشاعر وفقدان الراحة والنوم. وقد تنشأ الخواطر خلال فترة ضئيلة من الزمن إلا أنها تنقطع فجأة مما تسبب حالة الشعور بالذات، وربما يحاول أن يتعرف في الحال على طبيعة هذه الأفكار ونوعيتها ومدة مرورها، ولكن دون جدوى، وكأن أشياءاً غريبة مرَّت به دون أن يتعرف عليها أو يشعر بها.

هكذا إن أغلب الأفكار التي تخطر في أذهاننا هي نتاج العقل الباطن من دون سلطة لنا عليها ولا وعي بها. وتعتبر الخلوة مجالاً خصباً لاطلاق هذا النتاج الزاخر بالحيوية. وكما يعبر بعض الباحثين بالقول: إن المرء حينما يكون في وسط الجماعة فإنه كثيراً ما يتوهم انه (يعمل)، بينما يكون في الحقيقة قد اكتفى بالاستسلام للمجتمع، فحمله تيار الحياة الجمعية فوق أمواجه الصاخبة العاتية. وأما في لحظات الوحدة فإن مجرد التحرر من نداءات الواقع، سرعان ما يرتد بالمرء إلى مركز وجوده، وعندئذ تنبعث من أعماق الموجود مئات من القوى المجهولة المعجزة التي تغير من صفحة العالم أمامه، وتسمح له بأن ينجو مصيره. وهكذا قد يكون في وسعنا ان نقول ان قيمة كل فرد منا انما تقاس بمدى قدرته على الإنطواء على نفسه.. ولهذا يقول لويس لافل: «ان كل قوتنا، وكل غبطتنا، وكل ثروتنا أيضاً، انما تنبعث جميعاً من الوحدة، ما دام شيء لا يمكن ان يكون ملكاً لنا حقاً، اللهم إلا اذا تبقى لنا حتى بعد ان نكون بمفردنا»[1].

وكثيراً ما يتحدث العرفاء الصوفيون عن الخواطر، وبعضهم يحصيها فيوصلها إلى خمسة أنواع ذات مراتب مختلفة للكشف، كالذي يفعله صدر المتألهين، وهو يحلل بعضها عبر الاعتقاد بوجود صراع بين الملائكة والشياطين المجتمعين في أعماق النفس الباطنية، فتظهر على أثر ذلك الخواطر المختلفة وفق مبدأ السنخية[2]. وهو الصراع المنعكس عن النزاع الوجودي بين الخير والشر، والذي يمثل عليه العرفاء بمظهري محمد وإبليس، وفق مقولتهم: «لا فتى إلا إثنين: أحمد وإبليس». والصراع النفسي الذي يتحدث عنه العرفاء، شبيه بما تذكره مدرسة التحليل النفسي من صراع داخلي لاشعوري، ضمن الهو الذي يكون مقسم الارادة بين غريزتي الحب (إيروس) والموت[3]، فالأولى هي ذاتها غريزة اللذة والجنس التي تدعو إلى الحفاظ على الذات والحياة، أما الثانية فتدعو في القبال إلى الهدم والعدوان. وكلا الغريزتين متعايشتان معاً رغم ما بينهما من صراع وتضاد.

وبحسب الغزالي فإن الكشف يفيض على أهل الأرباب من العرفاء، تارة على سبيل الإلهام بأن يخطر لهم بنحو الورود من حيث لا يعلمون، وأخرى على سبيل الرؤيا الصادقة، وثالثة في اليقظة على نحو «كشف المعاني بمشاهدة الأمثلة كما يكون في المنام، وهذا أعلى الدرجات، وهي من درجات النبوة العالية»[4]. وفي محل آخر اعتبر الغزالي أن ما يهجم على القلب من علم وكشف؛ منه ما لا يدري العبد كيف ومن أين حصل له هذا العلم، كما منه ما يطلع العبد معه على السبب الذي استفاد منه ذلك العلم. ويسمى القسم الأول إلهاماً ونفثاً في الروع، وهو ما يختص به الأولياء، بينما يسمى الثاني وحياً إذ يختص به الأنبياء[5].

وبلا شك ان الإنطواء على الذات يعمل على تخفيف مجاري المعطيات الخارجية والحسية، مما يهيء للنفس القابلية على إفاضة الخواطر والأفكار الخلاقة، فهي مخزونة في عالم العقل الباطني، وتحتاج إلى ما ينفّس عنها عند غلق منافذ الحواس. فالعلاقة بين العالمين الخارجي والداخلي للنفس متعاكسة، فكلما اتيحت الفرصة إلى العالم الخارجي بالإنفتاح كلما تمّ التضييق على النشاط الداخلي للنفس. كذلك فإن منع النشاط الخارجي من الفعل؛ يساعد على تهيئة النشاط الداخلي للقيام بدوره الخلاق، وهي الفرصة التي ينتهزها العرفاء الصوفيون. وكما يرى الغزالي بأن هناك طريقين للمعرفة التي تنساق إلى القلب، أحدهما كسبي إذ يأتي بواسطة أنهار الحواس والإعتبار بالمشاهدات الحسية حتى يمتلئ القلب علماً، أما الآخر فيأتي من خلال سد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصر ثم التوجه إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه، حتى تتفجر ينابيع العلم من داخله[6].

مع ان هناك خلافاً ضمن أجواء الفلاسفة والعرفاء. فالبعض منهم يرى ان الإبداع في كشف الحقائق يأتي بداية ولو لم تكن هناك سابقة للاستفادة بالكسب العلمي والإنفتاح على العالم الخارجي، وهناك تشكيك فيما يقدمه العقل من أدلة ونتائج كسبية. لذلك هاجموا المنطق الأرسطي ولم يتقبلوا التفكير العقلي عموماً، منذ ظهور العرفان وازدهاره في الحضارة اليونانية، وحتى الحضارة الإسلامية، كما يظهر لدى جابر بن حيان الكوفي وذي النون المصري وغيرهما ممن طعن بقدرة العقل على الوصول إلى الحقائق الماورائية. وقد ظلت هذه النظرة هي السائدة تقريباً لدى العرفاء. فالصوفية كما ذكر الغزالي لم يحرّضوا على تحصيل العلوم ودراستها للبحث عن حقائق الأمور، بل رجحوا على ذلك العمل بالمجاهدة في محو الصفات المذمومة والإقبال بكل الهمة إلى الله تعالى[7].

كذلك كان الأمر بعد الغزالي، إذ أنكر إبن عربي - مثلاً - وجود قيمة حقيقية للتفكير العقلي، ورأى أن ما ذكره الغزالي من أهمية للعقل في تحديد مدارات الكشف هو «زلة قدم» ما كان ينبغي له أن يقع فيها، وإن اعتبر ذلك تستراً له، إذ نبّه في مواضع أخرى على خلاف ما أثبته. وأصرّ إبن عربي على أن العلم الصحيح ليس نابعاً عن الفكر ولا عن العقلاء من حيث أفكارهم، وانما يتحقق في المكاشفات والأذواق، فهي بمنزلة الأدلة لأصحاب النظر في العلوم، وبالتالي فليس العلم إلا ذلك النور الإلهي الذي يقذفه الله في قلب العالم[8].

في حين ذهب آخرون إلى خلاف ما سبق، فاعتبروا ان من شروط الكشف والإبداع الحقيقي (العرفاني) هو التزود بالكسب العلمي والإنفتاح على العالم الخارجي. ويعتبر ابو حامد الاصفهاني التركة وصدر المتألهين الشيرازي من أبرز من ذهب إلى هذا التوجه. فالأول كان يرى المشاهدة الكشفية لا تصلح - عنده - إلا بعد سبق عملية الاستفادة من ملكة تلك العلوم الحاصلة عن طريق العقل أو الفكر النظري. كذلك رأى صدر المتألهين ان الكشف لا يستغني عن معرفة مقدمات القضايا، بل ورأى أنه يندر أن تكون هناك نفس قدسية لم يمسّها التعليم البشري[9]، فهو لا يسلّم بصحة الكشف ما لم يمر بمرحلة التعليم الكسبي إعتماداً على العقل وآلاته من الحواس. لذلك ذمّ طائفة من الصوفية لأنها لم تلتزم بهذا النوع من التعلم، ووضع فصلاً عنوانه (في أن من شرع في المجاهدة والرياضة، قبل إكمال المعرفة وإحكامها بالعبادات الشرعية فهو ضال مضل)، وقال فيه: «إن الذين نصبوا أنفسهم في هذا الزمان في مقام الإرشاد والخلافة جلّهم بل كلّهم حمقى جاهلون بأساليب المعرفة والرشاد واستكمال النفس وإستقامتها في السداد، وأكثرهم ذهبوا إلى منع الصور الإدراكية، وسد أبواب المعارف والعلوم التي هي الأمثلة للأعيان الخارجية، زعماً منهم أن هذا العمل من الطالب هو الذي يبعّده للتوجه نحو المبدأ الفياض. ولم يعلموا أيضاً أن عزل المدارك والقوى العقلية والوهمية والخيالية عن أفاعيلها وآثارها بالكلية محال. ولم يتفطنوا بأن عزلها عن تحصيل ما لها من الكمالات يوجب ركونها إلى صور مشوشة يخترعها الخيال، وذلك هو الظلم... وهم مع هذا يسمون ذلك معاينة ومكاشفة»[10].

هكذا بحسب الاتجاه الأخير يمثل الإنفتاح على العالم الخارجي في الكسب العلمي شرطاً ضرورياً للعرفان الصحيح والكشف عن الحقائق، حيث تحتفظ النفس بمخزونها العلمي المكتسب ليتهيأ لها الإنفتاح على الخواطر الملهمة والتحقيق بلا وعي، وأحياناً يحصل ذلك خلال الغفوات والأحلام.

إن عالم اللاشعور هو عالم التفكير والإبداع وإن لم نشعر بذلك، أو إننا ندرك بأننا لم نقم بأنفسنا في توليد النتائج المذهلة خلال لحظة حيوية مدهشة لا تقبل الوصف. وهو الأمر الذي يفسر لنا الكثير من الاكتشافات العلمية، حيث لم تأتِ إلا بعد جهد جهيد، وكان الرياضي الفرنسي هنري بوانكاريه يقول: «لا يكون هذا العمل اللاشعوري ممكناً ومنتجاً إلا اذا هيأه عمل شعوري، ولا تشرق هذه الالهامات السريعة على الإنسان إلا بعد جهود ارادية. العقل لا يستريح في الظاهر إلا ليعمل في الباطن، ولا تنبجس الحقيقة من هذا العمل اللاشعوري إلا اذا كان مسبوقاً بعمل ارادي. وعلى ذلك فإن الحياة اللاشعورية لا تقل خطورة عن الحياة الشاعرة»[11].

وقد سُئل نيوتن مرة عن كيفية اكتشافه لقوانين الجاذبية، فكان جوابه هو التفكير فيها دائماً.

ولعل التجربة الذاتية للعلماء والمفكرين والأدباء هي أكبر شاهد على ما يحصل من أسرار عظيمة في عالم الكشف، إذ تخرج الأفكار بذاتها من مسرح اللاشعور إلى الشعور بلا تفكير ولا استدلال. وربما كانت نظرية نيوتن في الجاذبية تستند إلى هذه التجربة إذا ما صح النقل بأنه توصل إلى اكتشافه بعد أن رأى تفاحة تسقط على الأرض وهو جالس في حديقة منزله يتأمل، فصاح: وجدتها.. وجدتها، كما سبقه في هذه الصرخة أرخميدس.

وكثيراً ما يحصل الإكتشاف بهذه الطريقة المفاجئة في عالم الرياضيات، وهناك قصص كثيرة يرويها العلماء عن أنفسهم وكيف أنهم رأوا الحل أمامهم كبريق خاطف من دون تفكير. بل ان بعض الأفراد لهم القدرة على توليد النتائج الحسابية المعقدة بطلاقة أو من دون نظر وتفكير، ومن هؤلاء من يتصف بالعوق العقلي[12].

يذكر المؤلف الموسيقي موزارت Mozart (خلال القرن الثامن عشر) تجربته بهذا الصدد ويقول: عندما أكون هانئ البال حسن المزاج، أو عندما أقوم بنزهة في العربة، أو على قدمي، بعد وجبة جيدة، أو في الليل حين لا استطيع النوم، تشق الأفكار طريقها في رأسي بالسهولة التي يمكن لأي إمرئ ان يتمناها، فيا ترى من أين تأتي وكيف؟ أنا لا أدري، وليس ثمة ما أفعله حيالها، فأحتفظ بما يعجبني منها في رأسي وأترنم به، أو هذا على الأقل ما قاله لي الآخرون بأني أفعله. وما ان تكون فكرة اللحن الأساسي جاهزة لدي حتى يخطر لي لحن آخر يربط نفسه بالأول وفقاً للقواعد التي يتطلبها التأليف بمجموعه.. وعندئذ تصبح روحي متأججة بالإلهام، فينمو العمل، واستمر في توسيعه، مع استيعابي له بصورة أوضح فأوضح إلى ان ينتهي من التأليف كله في مخيلتي على الرغم من انه قد يكون طويلاً. وحينذاك يلتقطه عقلي كلمح البصر.. فهو لا يأتيني متوالياً بمختلف أجزائه منجزة بالتفصيل كما ستكون فيما بعد، وانما يأتي كاملاً تُسمعني اياه مخيلتي[13].

فالحدس الكشفي مزود بطاقة حيوية كبيرة تشدّ نفوسنا للأخذ به، ومن يتعرّض له قد لا يحتاج لفحصه وإختباره من الخارج.

وتكثر هذه الحقيقة في حالات الخلوة والتفكير الدائم مع عدم تشتيت الذهن. ولعل أنسب فتراتها وقت السحر، ففيه يزداد توارد الأفكار وتأثر الشعور بعالم اللاشعور المجهول، وهو سرّ عظيم لم يستكشف منه شيء حتى الآن.

وإذا كان الإهتمام والممارسة التأملية يعدّان من العناصر الهامة والفعالة لتحقيق التجربة الحدسية، كما سبق أن أوصى بها الفلاسفة المتأخرون من المسلمين، فإن ما يُجنى من هذه التجربة يجب أن يُصاغ ضمن القوالب المنطقية التي تليق بالعلم المعنية به، كما نبّه على ذلك



[1]         زكريا إبراهيم: مشكلة الإنسان، ضمن سلسلة مشكلات فلسفية، طبع مكتبة مصر، ص24ـ31.

[2]      انظر حول الآثار التي خلفها مبدأ السنخية على التفكير الفلسفي والعرفاني واسقاطاتها على الفهم الديني كلاً من: مدخل إلى نظم التراث، ضمن سلسلة المنهج في فهم الإسلام (2). والنظام الوجودي، ضمن سلسلة المنهج في فهم الإسلام (3).

[3]     سيجمند فرويد: الأنا والهو، ترجمة محمد عثمان نجاتي، دار الشروق، الطبعة الرابعة، 1402هـ ـ 1982م، ص93، عن مكتبة الموقع الالكتروني: www.4shared.com.

[4]       الغزالي: إحياء علوم الدين، بهامشه كتاب تعريف الاحياء لعبد القادر باعلوي، وعوارض المعارف للسهروردي، ج1، ص62.

[5]       الإحياء، ج3، ص14.

[6]      الإحياء، ج3، ص16، ص470.

[7]     الغزالي: ميزان العمل، حققه وقدم له سليمان دنيا، دار المعارف في مصر، الطبعة الأولى، 1964م، ص221ـ222. والإحياء، ج3، ص15.

[8]     الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، جمع وتأليف محمود الغراب، دار الفكر بدمشق ، ص177.

[9]    صدر المتألهين الشيرازي: كسر أصنام الجاهلية، حققه وقدم له محمد تقي دانش بژوه، مطبعة جامعة طهران، 1340هـ ـ 1962م، ص15.

[10]   كسر أصنام الجاهلية، ص23ـ24.

[11]   علم النفس، ص165.

[12]   انظر الشواهد على ذلك مثلاً: بول ديفيز: التدبير الإلهي، ترجمة محمد الجورا، مراجعة جهاد ملحم، دار الحصاد، دمشق، الطبعة الأولى، 2009م، ص158 وما بعدها. وروجر بنروز: العقل والحاسوب وقوانين الفيزياء، تصدير مارتن غاردنر، ترجمة محمد وائل الأتاسي وبسام المعصراني، مراجعة محمد المراياتي، دار طلاس، دمشق، الطبعة الأولى، 1998م، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com، ص490 وما بعدها.

[13]          العقل والحاسوب وقوانين الفيزياء، ص495ـ496.

comments powered by Disqus