-
ع
+

حقائق اللاشعور

يحيى محمد 

يمتلك اللاشعور الكثير من الحقائق، ويمكن اجمال أبرزها عبر النقاط التالي:

أولاً: يعتبر اللاشعور -عموماً- حالة مرنة ونسبية، وهو يقبل الشدة والضعف، كما يقبل الزيادة والنقصان.

ثانياً: تختلف شدة اللاشعور ومرونته من فرد لآخر لدى الحالة الواحدة. فلكل فرد قابليته الخاصة فيما يتعرض إليه من حالات اللاشعور.

ثالثاً: ان الإنسان لا يشعر بكل ما يواجهه من الإحساس بالخارج، فهو يلتفت لبعض من ذلك دون البعض الآخر، رغم أنها تندس وتتسرب إلى عالم اللاشعور. كما لا يمكنه أيضاً ان يشعر بكل ما في نفسه من إدراكات، فالقسم الأعظم منها يبقى خفياً ومظلماً ضمن اللاشعور، وهو ما يجعل الوعي محدوداً ونسبياً. وعادة ما يستقطب الأخير كل شيء يثير اهتمام الفرد، أما خارج هذه الدائرة من أشياء فالفرد يمر بها مرّ الكرام، حيث تكون محجوبة باللاشعور، بمعنى أنها لا تندثر ولا تزول.

رابعاً: للاشعور حالات وصور عديدة، وقد يجتمع بعضها لإنتاج نمط محدد للسلوك. فقد يجتمع التطبع والإلفة والضغط الإجتماعي معاً لتكوين حالة سلوكية للفرد ذات خصائص معينة للاشعور.

خامساً: يطغى اللاشعور على أغلب حياتنا، فسلطته علينا أشد من سلطة الشعور وضغطه، فأعرافنا وعاداتنا وميولنا وأمزجتنا وتفكيرنا ومواقفنا وغير ذلك كلها تنطوي على نسبة أعظم لهذا العالم مقارنة بالشعور.

وجاء في الحديث: الناسُ نِيام فإذا ماتوا انتبهوا .. وقال تعالى: ((لَّقَد كُنتَ فِي غَفلَةٍ مِّن هَذا فَكَشَفنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليَومَ حَدِيدٌ))[1]. وتتحدث الآية الكريمة عن بعض الناس يوم القيامة كيف أنهم يتنبهون للحقائق التي غفلوا عنها في الدنيا. وتبدي الآية أن الحقائق شديدة الوضوح إلى الدرجة التي تجعل بصر الإنسان في غاية الحدة.

وبحسب ما يراه يونغ فان الوعي يشكل ظاهرة ثانوية تشيّد على الفعالية النفسية الأساسية التي تدعو اللاوعي إلى تأدية وظيفته، واننا نقضي الجزء الأكبر من حياتنا في اللاوعي: ننام أو نحلم أحلام يقظة.. ولا يليق بنا ان ننكر ان وعينا يعتمد على اللاوعي في كل وضع هام من أوضاع حياتنا. بل حتى من الناحية التاريخية فان اللاوعي يعود إلى زمن أقدم بكثير من الوعي، انه المعلومات أو المعطيات البدئية التي تؤدي إلى نشأة الوعي من جديد[2].

وهناك من يقرّب المعنى الذي يمكن ان تفعله حياتنا اللاواعية عبر وجود معرفة واعية لاشعورية، حيث يمكن ان تعبر عن نفسها بما يلي:

«أتحقق واعترف ان هناك عاملاً نفسياً فاعلاً في داخلي، يمكنه أن يضع في رأسي أكثر الأفكار غرابة، على الرغم من تمكنه من الافلات من ارادتي وحضوري الواعي بصورة لا تصدق، يستثير فيّ الأمزجة والوجدانات المفاجئة، ويدفعني إلى أفعال مفاجئة لا أستطيع تحمل مسؤوليتها، ويعكّر علاقتي مع الآخرين بصورة مزعجة. أشعر أني عاجزة في مواجهة هذا المعطى الذي دفعني ويحركني، والخطورة القصوى أني مأخوذة به مما يجعلني في دفاعي السيء عن نفسي أمامه لا أمتنع عن الاعجاب به»[3]. ولدى يونغ ان المشاعر تعمل بشكل مستقل بذاتها «وتنبثق من اللاوعي متى شاءت، ولما كانت لا متمايزة وجزءاً لا يتجزأ من اللاوعي، فانها تُعرف بصفتها الناشئة أو الطفولية البدائية، الغريزية والبدئية. ويفسر هذا الأمر السبب الذي يجعلنا نشاهد الأفعال المتصفة بالمزاج المتقلب، والبدئية، والمندفعة في الأفراد الذين يبدون وكأنهم غرباء كلياً عن طبيعتهم كما نعرفها»[4].

سادساً: تمثل حياة الإنسان صورة من التفاعل بين الشعور واللاشعور، فكلاهما ضروري للحياة، وغالباً ما يجتمعان في موضوع واحد معاً، ولكن تختلف الجهة التي يتعلقان بها. وتتحدد هذه العلاقة التفاعلية بكون كل منهما يمهِّد لظهور الآخر، فعند ضعف أحدهما يقوى الآخر ويتسلط، وهو ما يفسر لماذا تظهر أحلامنا كثيرة عندما يضعف تركيز الوعي لدينا بسبب المرض والتعب الشديد، فعند تعب الوعي ينبجس اللاوعي.

سابعاً: انه سواء في العقل الظاهر للوعي، أو اللاوعي الباطني، فإن لكل منهما طبقات بعضها عميقة الجذور خلافاً للبعض الآخر. ففي العقل الظاهر تقف القضايا الأساسية للإدراك المنطقي كأقصى حالات الوعي العميقة، رغم انها تمارس دورها وفق العقل الباطن، ويظهر أثرها لدى الاستدلالات المنطقية. لذا فمن الأخطاء الدارجة الاعتقاد بأن العقل الباطن هو غير منطقي خلافاً للعقل الظاهر. وقد يُستدل على ذلك بظاهرة نصادفها كثيراً في الأحلام والغفوات، وهي ان المعاني الواردة فيها غير متسقة حقيقة، ومثلها أن اللغة الدائرة فيها تبدي أحياناً ليس لها معنى، بل مجرد لغو، رغم أننا خلال الأحلام والغفوات نشعر باتساق المعاني ومعنى اللغة بلا خلل. وبالتالي نجد الإختلاف واضحاً بين الوعي المنطقي لليقظة واللاوعي اللامنطقي للحلم.

وهو أمر مؤكد، لكن للعقل الباطن علاقة أخرى منطقية، إذ لو كان هذا العقل غير منطقي دائماً لما أمكن تفسير كيف يمكن للبشر أن يمارسوا الاستدلال الصحيح حدساً من دون وعي بالخطوات المنطقية التي يتم فيها هذا الاستدلال.

وفيما يخص جذور اللاوعي الباطني فهي تمتد إلى مناطق غائرة كتلك المتمثلة بالدوافع اللاشعورية التي يصعب تحديد علتها، ومثلها الخواطر النفسية التي لا يعرف لها سبب محدد.

ثامناً: ينقسم اللاشعور إلى ثلاث مساحات أو عوالم مختلفة، هي: الفعل والإنفعال والتعتيم، كالذي عالجناه في مقالة مستقلة (انظر: العناصر الأساسية للاشعور)

تاسعاً: يسبق اللاشعور وجود الشعور. فالمراحل الأولية لحياة الإنسان تبدو على هيئة تصرفات لاشعورية. فالإدراك المقصود عندها مفقود وغائب. فرغم وجود الإدراك من التصورات البسيطة، إلا انها تفتقر إلى حالة الوعي، فيخرج السلوك اعتباطاً ويعبر عن إستجابة لمنبِّه مادِّي أو كونه إستجابة لمنبِّه غريزي.

ثم بعد ذلك ينشأ الشعور والوعي ويتنامى شيئاً فشيئاً. وتتخذ عملية النمو والتطور شكلين مختلفين؛ أحدهما كمي، والآخر كيفي. فالشكل الكمي للشعور يقتضي القوة والضعف، بمعنى أن الشعور يبتدأ ضعيفاً ثم يتطور فيصبح إحساساً شديد القوة. أما الشكل الكيفي فيعني خلق مجالات جديدة للشعور تبتدئ بشكل ضعيف ثم تتنامى بالشدة والوضوح وفقاً للتطور الكمي.

ومن أبرز حالات اللاشعور لدى الطفل ما يظهر لديه من الكلام المسترسل اللاواعي مع نفسه عندما يلهو مع ألعابه.

عاشراً: تنطبع لدى الإنسان في بداية نشأته جملة من الاعتقادات اللاشعورية نتيجة التأثر بعدد من العوامل، كالعادة والمؤثرات الخارجية الشديدة الوقع على النفس، فهي تنشأ بشكل إنطباعات نفسية تشمل حتى المعارف القبلية أو العقلية كالذي فصلنا الحديث عنها في دراسة مستقلة (انظر: المعرفة العقلية والانطباعات النفسية للطفل).

 


[1]           سورة ق / آية 22.

[2]           علم النفس اليونغي.

[3]           كارل يونغ: جدلية الانا واللاوعي.

[4]           علم النفس اليونغي.

comments powered by Disqus