-
ع
+

المعرفة العقلية والانطباعات النفسية للطفل

يحيى محمد

تنطبع لدى الإنسان في بداية نشأته جملة من الاعتقادات اللاشعورية نتيجة التأثر بعدد من العوامل، كالعادة والمؤثرات الخارجية الشديدة الوقع على النفس، فهي تنشأ بشكل إنطباعات نفسية تشمل حتى المعارف القبلية أو العقلية، كمبدأ عدم التناقض والعلية ومبادئ الحسابات الرياضية وغيرها[1].

فالأعمال اللاشعورية للطفل، والتي تجري اعتباطاً في علاقاتها مع المصاديق الخارجية، تكون خالية من الإحساس بوجود معارف عقلية. فهو لا يصاب بصدمة ذهنية فيما لو فرضنا ان الواقع يخالف هذه المعارف. بمعنى انه يتعامل مع الأشياء تلقائياً من غير الاعتماد على المعارف القبلية، فمثلاً إنه يشعر بوجود الأشياء الخارجية من غير اعتبار لتلك المبادئ، بدليل انه لو افترضنا بأن هذه الأشياء لا تخضع في علاقاتها ووجودها للمبادئ العقلية لما كان هذا يشكل صدمة ذهنية في نفس الطفل. وبالتالي فإحساسه بوجود الأشياء الخارجية يسبق وعيه بواقع المعارف العقلية.

وينتج هذا الإحساس عن الإنطباعات النفسية، وهي قد تكون ناشئة بسبب المؤثرات الخارجية ذات الوقع الشديد على النفس. فالطفل حين يلتسع بالنار لمرة واحدة فقط؛ فذلك يكفيه أن يتجنبها دائماً، استناداً إلى الإنطباع النفسي وتأثيره على معتقده.

وقد تكون الإنطباعات ناتجة عن عوامل تربوية وإجتماعية مختلفة، فقد يتعلم الطفل من البيئة الكثير من الاعتقادات، سواء كانت خرافية أو صحيحة عبر التلقين وتكرار الشيء وتوكيده، كالذي يمارس لدى الاعلانات التلفزيونية، فتكرارها يخلق حالة مألوفة من الإنطباع اللاشعوري الراسخ في النفس، ومثل ذلك ما يمارسه الخطباء والسياسيون لذات الغرض من التلقين اللاشعوري عبر التكرار والتوكيد، فهم لا يفضلون اللجوء إلى العقل الواعي عبر البراهين والأدلة كي لا تثار الشكوك والشبهات ضده. كذلك قد يستخدم الفرد اسلوب التكرار في نفسه لما يريد؛ لترسيخه في اللاشعور، فيصبح فيما بعد حاجة ملحة لا بد من تنفيذها.

وعادة ما تؤثر الإنطباعات النفسية على نفس الإنسان حتى وقت الكبر، فالكثير من الناس يعتقدون بأشياء لا دليل لها ولا برهان عليها سوى أنها ذات أثر بليغ في نفوسهم، فهي لا تتعدى الإنطباعات النفسية.

كما قد تكون ناشئة بسبب العادة، فأغلب معارفنا القائمة على الإنطباعات إنما تنشأ بسببها، وهي تشكل الأساس الذي تتولد من خلاله معارف الطفل بما فيها العقلية منها.

فالطفل يرى الأشياء على ما هي عليه بشكل ثابت، وانها تتغير ضمن أسباب معينة، فيتشكل في ذهنه الاعتقاد بالسببية لاشعوراً استناداً إلى الإنطباع الناتج عن العادة.

فالعادة لدى الطفل هي أساس معارفه لا المنطق، وهو لا يميز من الناحية الذهنية بين ما تفعله المبادئ العقلية وغيرها من المعارف، فكلها تأتي وفق الإنطباعات، وكل معرفة تتزود بالإنطباع الأقوى تكون أكثر وضوحاً وتأثيراً عليه من الناحية الاعتقادية. ويظل هذا الحال حتى يصل إلى مرحلة التمييز المنطقي للقضايا، فيبدأ تمايز المبادئ العقلية عندها بالوضوح والضرورة، وهي المرحلة التي يحددها بياجيه عند سن معينة، فحينذاك تتشكل المعارف بشكل مستقل عن الإنطباعات النفسية. ولكن مع هذا تظل هناك معارف ترتبط بالإنطباعات النفسية في أي مرحلة من مراحل عمر الإنسان، خاصة بالنسبة لتلك الناتجة عن التأثير الإجتماعي وضغوطاته، ومثلها الناتجة بسبب العوامل ذات الآثار النفسية الحادة. الأمر الذي يفسر قوة العقيدة لدى الناس عند الكبر، اذ تعود جذورها الراسخة إلى الطفولة بفعل التلقين اللاشعوري القائم على التوكيد والتكرار.

وعموماً ان التصديق بالقضايا العقلية يمر بمرحلتين، أولاهما واقعية والأخرى منطقية. حيث تبدأ المرحلة الواقعية عند الصغر، فتنشأ لدينا بفعل العادة إنطباعات نفسية لمختلف المعارف العقلية والحسية. فالطفل منا يولد وهو يرى الأشياء على وتيرة ثابتة ما لم تتغير لأسباب خارجية، وهذا الحال يطبع في ذهنه – بلا وعي - الإعتقاد بأن كل شيء على حاله ما لم يغيره شيء آخر، وان كل ما يتغير إنما يتغير طبقاً لسبب.. وبهذا ينشأ الإنطباع النفسي لحالة السببية لدى الطفل. وبه يتضح ان المعارف العقلية تنشأ في البداية على شكل إنطباعات نفسية شبيهة بالمصادرات من وجه، حيث أنها ليست قائمة على الدليل، ولا على الوضوح العقلي وضرورته المنطقية، بل حتى الإستدلال في البداية ينشأ على سبيل الإنطباع والعادة، وليس على الأحكام المنطقية.

إذاً تتصف هذه المرحلة بالمواصفات التالية:

1 ـ تنشأ المعرفة في بدايتها على شكل إنطباعات نفسية لاشعورية، وهي شبيهة بالمصادرات من وجه.

2 ـ يعود سبب هذه الإنطباعات إلى عوامل معينة؛ هي العادة والتأثير الإجتماعي والمؤثرات الخارجية ذات الأثر الحاد على نفس الإنسان.

3 ـ ان المعرفة (الإنطباعية) بالمبادئ العقلية تأتي متأخرة عن المعرفة بوجود الأشياء أو الشعور بها.

أما المرحلة الأخرى فتتصف بما للفرد من قدرة على التصور التجريدي والمنطقي للقضايا، فيدرك فكرة الضرورة وارتباط القضايا في توقف بعضها على البعض الآخر. وهنا باستطاعته إدراك ان المعرفة لا تتم لها قائمة من غير التسليم ببعض القضايا الأولية كمبدأ عدم التناقض.

على ذلك ليس من الصحيح ما ذهب إليه بياجيه في إعتبار القضايا المنطقية - كالرياضيات مثلاً - بأنها ليست قبلية ولا تجريبية، وربط تفسيرها بالجذور النفسية والبايولوجية[2]. فكل ما فعله هذا العالم الفرنسي هو التركيز على الجانب الواقعي لنشأة الفرد ضمن تفسيره البنائي.. لكنه عجز عن أن يوضح لنا كيف تتصف المبادئ العقلية بالأحكام الضرورية خلافاً لغيرها من القضايا؟ رغم أن المجموعتين تخضعان إلى الجذور النفسية والبايولجية، ومنها التأثير الإنطباعي الذي تحدثنا عنه، كما سبق إليه ديفيد هيوم..

وهنا يمكن أن نلقي ضوءاً على الخلاف العميق بين المذهبين العقلي والتجريبي حول مصدر المعرفة البشرية.

فالمذهب العقلي يرى أن هناك معرفة عقلية سابقة على كل تجربة، وتتمثل هذه المعرفة بالمبادئ الأولية كالعلية وعدم التناقض. أما المذهب التجريبي فيرى جميع المعارف - بما فيها المبادئ التي يعتبرها العقليون عقلية وأولية - صادرة عن التجربة والإستقراء.

والواقع إن كلا المذهبين نظر إلى مصدر المعرفة من زاوية تختلف عن الزاوية التي نظر إليها الآخر. فرؤية المذهب العقلي قائمة على الاعتبارات المنطقية، فهو لا يدعي أن المبادئ العقلية واضحة لدى كل إنسان، وإنما يرى إن كل من يتصور هذه المبادئ بأطرافها ونسبها فهو يصدِّق بها دون حاجة للتجربة. فالمسألة على هذا منطقية لأنها تنطوي على الإفتراض لا الواقع.

أما رؤية المذهب التجريبي فهي قائمة على الاعتبارات الواقعية، أي إنه يأخذ بنظر الإعتبار مصادر المعرفة لدى الإنسان خلال مراحل حياته كلها، كالتي يشير إليها علم النفس التكويني.

والحقيقة إنه إذا نظرنا إلى مصدر المعرفة من الناحية المنطقية يتضح لنا صواب المذهب العقلي، لأنه حقاً إذا تصور أحدنا المبادئ الآنفة الذكر فإنه يصدِّق بها حتماً دون حاجة إلى التجربة. أما إذا نظرنا إليها من الناحية الواقعية فهذا يعني أن نتعرف على الركائز المعرفية لدى جميع الناس، وحالها يتبيَّن أن أغلبهم يدركون الحقائق الثابتة والمبادئ المعرفية الواضحة، وهذا تطبيق للزاوية المنطقية التي يتذرع بها المذهب العقلي. أما الأطفال وذوو العاهات الذهنية والمجانين فلا يدركون ذلك؛ لأن تصوراتهم المعرفية غير مكتملة.

ومن هنا إذا أردنا أن نسلِّم بالمذهب التجريبي الذي بنى رؤيته انطلاقاً من الواقع الحسي؛ فعلينا أن نأخذ بالإعتبارين التاليين:

 1- أن نعتبر العوامل التي تكوِّن الإنطباعات النفسية لدى الإنسان كالعادة مثلاً؛ بمثابة التجربة والإستقراء، وفي ذلك نوع من التجاوز، لأن العادة وبقية العوامل الأخرى لا تمثل التجربة أو الإستقراء، وكذلك لأن التجربة أو الإستقراء تمدنا بأدلة قائمة على أسس منطقية هي التقديرات الاحتمالية، بينما لا تعطينا تلك العوامل أي أدلة منطقية وإنما تصيغ معرفتنا وفق الأطر الإنطباعية والنفسية.

 2- أن لا نصبغ على المعرفة حكم الحقيقة المثبتة، وإنما نعتبرها إنطباعات شبيهة بالمصادرات كما اتضح لنا في السابق، حيث عرفنا أن الوصول إلى الحقيقة يعتمد على إدراك القضايا الضرورية التي تأتي في مرحلة متأخرة عن مرحلة المعرفة الإنطباعية.

هذا فيما لو سلمنا بالمذهب التجريبي، وخير من فعل ذلك الفيلسوف الحسِّي ديفيد هيوم الذي اعتبر معارف الإنسان تمثل من حيث الأساس إنطباعات نفسية لا تنطوي على قيمة أو حقيقة موضوعية.

وهناك مدرسة تجريبية تأثرت بفلسفة ديفيد هيوم هي الوضعية المنطقية التي أكدت على احتمالية المعرفة البشرية من دون حقائق ثابتة سوى تلك التي تتصف بالقضايا التحليلية أو التكرارية.

من هنا فإذا أراد المذهب التجريبي أن يبرر إمكانية إثبات الحقيقة المعرفية؛ فلا بد أن يعتبر بعض الحقائق واضحة كما فعل المذهب العقلي. وبدون هذا الإعتبار فإن من المستحيل على المذهب التجريبي أن يثبت الحقيقة المعرفية كما نبهت عليه الوضعية المنطقية.

مع هذا فالمذهب الوضعي المنطقي وقع في بعض الإشكالات المعرفية. فهو يعتبر إن إنتاج المعارف - التي يراها إحتمالية دائماً- يعتمد على مبادئ الاحتمال وحساباته المنطقية. ولكن الإشكال الذي يرد بهذا الصدد هو أن ذلك يعني أن تلك المبادئ والحسابات تصبح غير منبعثة عن الإستقراء، باعتبارها أساس الأخير، وهذا يقتضي إسقاط المذهب الوضعي في أحضان العقلية التي يرفضها. ولهذا جرت محاولة تبرير الموقف كما نجده عند الفيلسوف الوضعي (هانز ريشنباخ) الذي يرى أن نفس تلك المبادئ والحسابات هي الأخرى ليست مؤكدة، وإنما هي مصادرات مؤقتة حصلنا عليها بالإستقراء من خلال الحوادث الماضية[3]. وكما يقول: «فالأحكام الإحتمالية تعبِّر عن ترددات تحسب بوصفها نسبة مئوية من مجموع. وهي تستمد من ترددات لوحظت في الماضي، وتنطوي على إفتراض أن نفس الترددات سوف تسري تقريباً في المستقبل. وهي تتكون عن طريق إستدلال إستقرائي».

لكن إذا كانت الأحكام الإحتمالية تنشأ عن طريق إستدلال إستقرائي، فمعنى ذلك أنها مسبوقة بغيرها من المعرفة، وستحتاج الأخيرة إلى ما يدل عليها. وقد حاول ريشنباخ أن يتخلص من هذه المشكلة اعتماداً على الرأي القائل بأن المعرفة ليس لها بداية، فكل معرفة تعتمد على وجود معرفة إحتمالية قبلها إلى غير نهاية.

والواقع هو أنه لو كانت المعارف لا تستند إلى بداية لأفضت العملية إلى عدم الوثوق العلمي والوقوع في تنازل المعرفة الاحتمالية إلى ما يقارب درجة الصفر[4]. وبالتالي لا بد للمعرفة الإستدلالية من بداية، كتلك المتمثلة بالقضايا العقلية الضرورية مثل مبدأ عدم التناقض والعلية والأحكام الرياضية وغيرها. فهذه المبادئ تمتلك من الوضوح والمنطقية والضرورة ما يكفي ان تستند إليها المعرفة برمتها، دون ان يضطرنا الحال للتعويل على مبررات الوضعية.

إذن إن الرأي الصحيح في مصدر المعرفة البشرية هو أنها تبتدأ بشكل إنطباعات نفسية عبر اللاشعور. ثم بعدها يتحول الحال إلى طور التمنطق والتمييز بين المعارف، وذلك عند الوصول إلى التمكن من التصور المنطقي والتجريدي لتلك الأشكال، أي حين يدرك الإنسان فكرة الضرورة التي تنطوي عليها بعض القضايا القبلية، وإن بصورة لاشعورية. وفي هذه المرحلة تبتدئ المعرفة الإستدلالية بالشكل المنطقي للقضايا. وعادة ما يجري العمل في الاستدلال اعتماداً على الضرورات الوجدانية والتنمية الاحتمالية وفق المنطق اللاشعوري. فالآلية التي يعمل بها الذهن البشري هي آلية تعتمد لاشعوراً على النشاط الباطني التلقائي للتنمية الاحتمالية. ويتصف هذا النشاط التوليدي بالمنطقية والتنظيم، وفي بعض الدراسات أطلقنا عليه (نظام التوليد اللاشعوري)[5]. وسمة النظام فيه واضحة وفقاً لما يمتاز به من العمل الآلي المخطط تبعاً للأصول المقررة. فنظام المعرفة لدى البشر يجري وفق قواعد وقوانين عامة مشتركة، وهي وإن لم تكن موضع إلتفات لدى أغلب الناس بمن فيهم أصحاب الإختصاصات المعرفية المختلفة، وكذلك رغم كونها محدودة العدد؛ إلا أنها ذات آليات فاعلة في الوعي الباطن أو اللاشعور، حيث يوظفها كل منّا في نتاجه المعرفي غير المحدود، ولولاها ما كان للبشر أن يمتلك القدرة والحرية على النتاج المفتوح، بل لكانت المعرفة لديه لا تخرج عن كونها انعكاسات مباشرة ومحددة للبيئة. في حين إن وجود هذا النظام الشامل، يجعل القدرة على التفكير وتوليد المعرفة غير متناهية، حيث تتم آليات الإستدلال والاستنتاج وإن كنّا غير واعين بها. بمعنى أننا نفكر بها وإن لم نفكر فيها. والمهم هو أنها تنطلق من مبادئ وآليات صحيحة يشترك في توظيفها المختص وغيره، سواء كان ذلك بوعي أو بغير وعي. فمثلاً يطبق الناس – جميعاً - آليات القياس المنطقي والإستقرائي بفهم ودراية دون عناء، رغم أنهم لا يعون قواعد هذه الآليات وضوابطها المنطقية. فأغلب معارف الإنسان قائمة على هذا النحو.

وإذا كان الكثير يتصور ان النشاط اللاشعوري تغلب عليه الممارسات غير المنطقية؛ فإن واقع الأمر هو العكس تماماً، فأغلب نشاطه هو من النوع المنطقي المنظم، واليه يعود الفضل في كون تفكيرنا وسلوكنا يتميزان عادة بطابع الاتساق. وعليه فالعلاقة بين المنطق واللاشعور ليست كما هي متصورة لدى علماء النفس بأنها منقطعة دائماً.

وعموماً ان القضايا القبلية عندما تتصف بالمبادئ العامة المطلقة تكون ضرورية، وهي السمة المميزة لها بضرورتها، خلافاً لسائر القبليات التي تفتقر إلى سمة الضرورة والشمول والإطلاق.

وطبقاً لما سبق يتضح ان المذهب التجريبي بجميع مدارسه ليس صائباً لعدم ايمانه بالمعرفة العقلية. فلو لم نرتكز على بعض المبادئ العقلية لأصبحت جميع معارفنا مصادرات لا دليل عليها، أي أنها معارف محتملة وليست يقينة، لأن مسلماتها الأساسية محتملة وغير مؤكدة، وهذا ما وصل إليه المذهب الوضعي كما عرفنا.

كذلك فإن المشكلة مع المذهب العقلي تتحدد في نقطتين أساسيتين:-

الأولى: إنه يعتبر جميع معارف الإنسان تقوم على أساس المبادئ القبلية الواضحة بذاتها - كمبدأ عدم التناقض مثلاً -. فكما عرفنا أن هذه المبادئ مع جملة من المعارف الخارجية يكتسبها الإنسان بلا وعي عن طريق الإنطباعات النفسية، ولهذا لا يصحّ إعتقاد المذهب العقلي إلا في حالة توجيهه، بأن يكون مقصده ليس جميع المعارف وإنما فقط المعارف الإستدلالية المنطقية، حيث تقوم على أساس تلك المبادئ. وفي هذه الحدود يصبح هذا الإعتقاد صحيحاً.

الثانية: إننا نعتبر القضايا القبلية على أقسام، فبعضها يتصف بالضرورة، والبعض الآخر يتصف بالوضوح وان لم يكن من الضرورات، وسبب اعتبارها قبلية رغم انها ليست من الضرورات هو لأنها واضحة وغير قابلة للاستدلال عليها من الخارج. كما ان القضايا الضرورية على أقسام مختلفة مثلما تطرقنا إليها في دراسة مستقلة[6]. وكل ذلك ما لا يشير إليه المذهب العقلي. يضاف إلى أنه يدرج ضمن هذه القضايا معارف لا تتعلق بها. ومن ذلك المبدأ القائل إن الصدفة لا تتكرر باستمرار، وكذلك قضية الواقع المحسوس... فهذه المعارف اعتبرها عقلية رغم كونها ليست من الضرورات ولا الأوليات، إذ من الممكن أن تتكرر الصدفة باستمرار ضمن حدود وشروط. كما يمكن ان يكون الواقع الجزئي المحسوس وهماً أو حلماً، وكل ما يجعلنا نعتقد بحقيقته انما يعود إلى الدليل الاستقرائي، لذا فمصدر هذه المعارف ليس العقل، وإنما الإستقراء (والعادة). فبالإستقراء نعرف أن الصدفة لا تتكرر أكثرياً ودائمياً، كما أن به نعرف واقعية الشيء الجزئي المحسوس. وكل ذلك يستدعي نفي عقلية هذه القضايا، في حين ليس من وسيلة للاستدلال على القضايا العقلية، خاصة تلك التي تتصف بالضرورة.

فمثلاً هناك محاولة لإثبات مبدأ العلِّية (وغيره من المبادئ عدا عدم التناقض ومبادئ الإحتمالات) بطريقة إستقرائية عن طريق حساب الإحتمالات[7]. ولكن هذه الطريقة لا تصح إلا بحدود إثبات الصورة الموضوعية لهذا المبدأ، أما ضرورته فيستحيل إثباتها، كالذي كشفنا عنه في (الاستقراء والمنطق الذاتي).

 


[1]     أعتبرت هذه المبادئ عقلية أو قبلية باعتبار أن التصديق بها لا يتوقف على التجربة، بل يكفي للعقل أن يصدق بها بمجرد تصور أطرافها والنسب بينها؛ كإن نتصور معنى الوجود ومعنى العدم ومعنى إجتماع الوجود بالعدم؛ فنصدق من خلال هذه التصورات أن إجتماع الوجود بالعدم مستحيل. فإما أن يكون الشيء موجوداً أو معدوماً، ولا يمكن أن يكون موجوداً ومعدوماً في نفس الوقت، لذا فاعتقادنا بعدم إجتماع النقيضين يعتبر عقلياً لأنه لا يتوقف على التجربة كما هو واضح.

[2]       محمد وقيدي: الابستمولوجيا التكوينية للعلوم، دار افريقيا الشرق، المغرب، 2010م، ص86ـ88.           

[3]     ريشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا، الطبعة الثانية، ص207 – 208.

[4]     للتفصيل انظر: يحيى محمد: الاستقراء والمنطق الذاتي، دار افريقيا الشرق، الطبعة الثانية.

[5]     انظر: علم الطريقة.

[6]     انظر: الإستقراء والمنطق الذاتي.

[7]     محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، مع تعليقات يحيى محمد، دار العارف، بيروت، 2008م، فقرة بعنوان: التطبيق الثاني، ص237ـ240.

comments powered by Disqus