-
ع
+

أنماط التدين

يحيى محمد

للتدين انماط كثيرة تتمايز فيما بينها بحسب ما تؤديه من وظيفة او تعبد وفقاً لسيسيولوجيا المعرفة، ومن بين هذه الانماط ما يلي:

التدين التقليدي:

وهو قائم على محض التقليد كما هو حال أغلب الناس، وهو ذاته التدين الذي تتمسك به المذاهب والطوائف جيلاً بعد آخر. وقد تختلط معه الاعراف الاجتماعية والبدع المختلفة ويتعبد بها كدين من دون تمييز. وهو التدين الذي يتربى فيه الفرد منا منذ النشأة الأولى، وغالباً ما يستمر معه حتى الممات، وهو لا يصيب السواد العام من الناس فحسب، بل يتسع ليشمل العلماء غالباً، فيكون العالم وليد النشأة الأولى التي نشأ عليها، إن كان سنياً فسني، أو شيعياً فشيعي، أو مسيحياً فمسيحي، وهكذا..

 

التدين الخرافي:

ويترعرع هذا التدين وسط ما يرد من خرافات وأساطير وغلو، كالذي يكثر في الروايات لدى المذاهب الإسلامية ومنها الغلو في مراتب الأئمة والأولياء وعلومهم ومعاجزهم، فينبسط عند انبساطها، وينكفئ عند انحسارها وانقباضها. ويلعب المخيال الاسطوري دوراً مهماً في هذا النمط من التدين لدى الشعوب. وكثيراً ما يوظفه أصحاب القصص والحكايات لاثارة السامع أو القارئ، فتحصل لدى الأخير صورة وهمية لما يتلقاه من حكايات دينية تمتزج مع أساطير الروايات التاريخية عادة. فمثلاً يترعرع هذا النمط لدى الشيعة في محرم، كما في تصوير الخطباء للمشاهد التاريخية وكأنهم حاضرون وسط اجوائها، أو بالتركيز على البطولات الخارقة لأهل البيت، ومثل ذلك عندما يتحدثون عن القوة الخارقة للإمام علي، وعن القدرة اللامحدودة في غضب شهيد كربلاء أبي الفضل العباس أخي الحسين الشهيد، وهي قدرة تمتد بحسب المخيال الشعبي إلى يومنا هذا، حتى تجد ذلك واضحاً لدى تعامل الشيعي العراقي عندما يريد ان يؤدي القسَم، فهو يتحاشى ذكر أبي الفضل العباس للشياع بأنه شديد الغضب (وبحسب التعبير الشعبي العراقي يوصف العباس بانه أبو راس الحار). ويتذكر صاحب هذه الكلمات في زيارته للعراق قبل سنوات انه طلب منه أحدهم ان يقرأ ما سماها (فاتحة العباس) لتوكيد عهد تمنى تحقيقه مع صاحب السطور.. فأجابه الأخير للمزاح، ولِمَ لا نقرأ فاتحة أبيه الإمام علي فهو أولى منه!

ومثلما يعشعش هذا النمط من التدين لدى الأوساط الشعبية من الأميين وقليلي المعرفة عبر الحكايات والقصص والأساطير، فإنه يعشعش أيضاً وسط العلماء من خلال ظاهرة الغلو. ولدى المخيال الشعبي تلعب شخصيات تاريخية محددة دوراً سلطوياً إلوهياً في التأثير على جميع مفاصل حياتنا الشخصية المعاصرة.

 

التدين التراجيدي:

وهو تدين يركز المخيال فيه على المعاني المأساوية المرتبطة بالأحداث التاريخية الدينية، كالذي يبرز بوضوح لدى الشيعة أيام مناسبات وفيات أهل البيت، لا سيما لدى مناسبة عاشوراء، حيث تمتزج فيها معاني الحزن والمبالغة في التصوير إلى حد الأسطورة.

 

التدين العقلاني:

وهو ما يمارسه المثقفون الدينيون عادة، وذلك بالابتعاد عن الخرافة والأساطير، وجعل الدين مستساغاً من الناحية العقلية. وقد اهتم بهذا النمط من التدين رواد الاصلاح الحديث ومن على شاكلتهم إلى يومنا هذا.. وأحياناً يعبر عنهم بالمعتزلة الجدد، لكونهم يقومون بتأويل كل ما لا يتلاءم مع التطلعات العقلية الحديثة أو المعاصرة. وهو يخالف الانماط المعروضة السابقة ويقف على الضد بالخصوص من التدين الخرافي، إذ يجعل من الحاسة العقلية النقدية أساساً للتدين، فهو لا يتقبل كل ما ينسب إلى الدين إلا بعد عرضه على هذه الحاسة، فوظيفة هذا النمط من التدين هي عقلنة الدين.

 

التدين الحجاجي:

وهو التدين الذي يتعبد بكل ما يتعلق بالرد على الخصوم، وقد كان المتكلمون وأصحاب العقيدة - وما زالوا - يمارسون هذا النمط من التدين، حتى وكأن الدين لديهم ليس سوى ما يبطل رأي الآخر. ولا شك انه يترعرع وسط الخلافات المذهبية الشديدة، فترى بعضهم ينال من البعض الآخر، والكل يدعي بأن الدليل والبرهان معه، وان الآخر لا يمتلك الحجة والبرهان.. وتتكرر هذه النغمة لدى المتحاججين، وأحياناً تتخذ صورة المناظرات المباشرة عبر الاعلام المتنوع. فالكثير يعتبر ان الدخول في حلبة الصراع هو جزء من المهمة الدينية، وهي انه يقوم بدفع شبه أهل البدع والأهواء، وفيه ينشأ حال هذا النمط من التدين، والبعض يعبّر عن هذا الحال ضمن ما يعرف بقاعدة الولاء والبراء، فهي من أركان العقيدة والدين وأهمها لدى هذا الصنف.

 

التدين الايديولوجي:

وهو التدين الذي يعمل على جعل الدين مطية الأغراض الايديولوجية كالقضايا السياسية وما اليها، بمعنى ان للدين وفق هذا النمط وظيفة هامة لتحقيق أغراض معينة، وطنية أو قومية أو حزبية أو سلطوية أو نهضوية أو اصلاحية أو غيرها، كما هو حال ممارسات أصحاب الحركات الإسلامية السياسية والاصلاحية.

 

التدين النفعي والانتهازي:

وهو تدين يعمل على توظيف الدين لمنافع شخصية أو انتهازية، كالذي يقوم به ما يطلق عليهم وعاظ السلاطين، ومثلهم الذين يتاجرون بالدين، كذلك الذين يبحثون عن الحيل الشرعية لينتفعوا بها ولو على حساب القيم والمقاصد الشرعية. فمثلاً إن بعض الفقهاء فتح باب الحيلة أمام الذين لا يريدون دفع الزكاة خلافاً للمقاصد الشرعية، فبإمكان الشخص ان يهب ماله إلى زوجته مثلاً قبل انقضاء الحول بيوم أو أكثر، ولو مع الاشتراط عليها ان تعيده له بعد اتمام الحول بيوم أو أكثر، وبذلك تتم الحيلة، كالذي افتى به القاضي ابو يوسف.. فالدين وفق هذا النمط كالبضاعة التي تباع وتشترى للكسب والمنفعة. وكثيراً ما ينتمي إلى هذا النمط أصحاب السلطة السياسية من المتدينين.

 

التدين التبريري:

وهو تدين وظيفته تبرير القضايا الدينية بأي شكل من الاشكال لتبقى كما هي من دون فتح مجال للتغيير، وهو الذي يمارسه رجال الدين عادة، ومنهم أصحاب المقاصد الذين وضعوها لتبرير الأحكام دون البحث في جعلها أساساً للتشريع.

 

التدين التبعي:

وهو الذي يجعل من الدين تابعاً لمنظومات فكرية قائمة، كالتدين الفلسفي التقليدي والتدين العرفاني النظري.

 

التدين الروحي:

وهو الذي يترعرع في ظل القضايا الروحية للدين، كطريقة الزهاد وأصحاب الطرق الصوفية.

 

التدين الاجمالي:

وهو التدين الذي يميل إلى تفهم الدين بقدر ما يمكن من الموضوعية، فيقتصر على المطمئن والمقطوع فيه ليتدين به، ويترك ما تبقى معلقاً إن لم يثبت بطلانه. فهو ليس من النمط الحجاجي ولا المعقلن، كما انه ليس تقليدياً ولا خرافياً، بل يكتفي بما هو واضح ليتعبد به. أما غير ذلك فيخضع للتحقيق والترجيحات الاحتمالية المختلفة. ويرى ان ما يلزم به هو هذا النحو من الدين دون حاجة للمزيد أو كثرة الطلب والسؤال. ويعتبر هذا النمط من التدين نادراً للغاية، على الرغم من قوة الحجة التي يقدمها بهذا الصدد[1].

 

التدين الإنساني:

وهو التدين الذي يركز على فطرة الإنسان والقيم الاخلاقية المشتركة، وتهزه مشاعر الضمير من دون ان ينحاز إلى جماعة ومذهب ودين دون آخر إلا بالقيم والتقوى. وهو تدين يندر وجوده وسط رجال الدين، ويميل اليه المتصوفة عادة.

 

التدين العدواني:

وهو على نقيض التدين الإنساني، يعمل على تصنيف الناس ضمن قوائم محددة بحسب المعتقد، فيجعل المخالفين منطوين تحت خانتي الكفر والضلال، فيما يرى الموافقين من أهل الايمان والصلاح والنجاة. وهو الشائع بقوة لدى رجال الدين من مختلف الطوائف والمذاهب.

***

هذه جملة من أنماط التدين التي تختلف فيما بينها بحسب ما تمارسه من وظيفة وما تؤديه من تعبد. ولا شك ان بعضها قد يتداخل مع البعض الآخر، أو يجتمع معه لدى الشخصية الواحدة من دون تعارض، لكن منها ما يقف موقف الأضداد، فالتدين الإنساني مثلاً يقف على الضد من التدين العدواني؛ سواء عبّر الأخير عن التدين التضليلي أو التكفيري أو القاتل أو ما شاكل ذلك.

ويلاحظ انه ليس في هذه الأنماط ما يشكل خطورة على المجتمع مثل التدين العدواني، وفي القبال ليس فيها ما يشكل صلاحاً للمجتمع مثل التدين الإنساني.



[1]  للتفصيل انظر ما جاء في الفصل الأخير من كتاب فهم الدين والواقع.

comments powered by Disqus