-
ع
+

مجتمعنا وسؤال النهضة

 يحيى محمد

ظهرت منذ اكثر من قرن تساؤلات قوية لم تجد لها اجابة واضحة وحاسمة لحد الآن حول ما اصاب حضارتنا من ضمور وانحلال. وهذه التساؤلات كما انها ظهرت في اوساط المسلمين فإنها كانت حاضرة ايضاً في الاوساط الغربية المختصة. بل يمكن القول ان للتفكير لدى هذه الاوساط الاخيرة اهمية خاصة. فليس فقط لكونه يعد اعترافاً ضمنياً من «الاخر» بحق ما كانت تحمله الحضارة الاسلامية من امكانات التواصل والتطور والازدهار، بل الاهم من ذلك هو انها ادركت بالدليل القاطع ان السبب الاساس الذي جعل النهضة العلمية الغربية تبدأ شوطها هو ذاته كان مسبوقاً من قبل المسلمين، إن لم نقل ان ما حصل في النهضة العلمية الغربية انما كان مأخوذاً عن المسلمين انفسهم، بشكل او بآخر. ولست اقصد بذلك الترجمات الكثيرة لعلوم العرب والمسلمين التي بدأت منذ القرن الثاني عشر الميلادي فصاعداً، بل ما قصدته هو انه رغم ما اصبح من المسلمات العامة بأن النهضة العلمية الغربية قد بدأت بفعل الانقلاب الحاصل في علم الفلك خلال القرن السادس عشر الميلادي، والذي يؤرخ بأنه نقطة البداية للعلم الحديث، الا ان هذه النقطة كانت مسبوقة لدى المسلمين بأكثر من قرن ونصف من الزمان.

فقد تناول الكثير من المسلمين والمختصين الغربين البحث في علة ضمور وإنحلال الحضارة الإسلامية بعد اعتلائها عرش العلم والقوة والسيطرة كأعظم حضارة في العالم؛ إلى الدرجة التي كادت تبتلع فيه هذا العالم بأسره. الأمر الذي حيّر المفكرين منذ ما يزيد على قرن من الزمان، سواء المسلمون منهم أم ذوو الاختصاص من الغربيين. فمن أبرز من اهتم بهذا الشاغل من المسلمين عبد الرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان وابو الحسن الندوي وغيرهم.

أما الغربيون فالكثير منهم يعترف بأن هذه الحضارة كانت متقدمة على غيرها من الحضارات الأخرى في جميع المجالات العلمية والأدبية، كما ويعترف في مساهمتها بقيام النهضة الغربية الحديثة، وكونها توسطت بنقل الحضارة الاغريقية إلى الغربية. فقد استفاد الاوروبيون إفادة عظيمة لما بذلوه من جهود في ترجمة الكتب والنصوص العربية، مثلما استفادوا من التعرف على الحضارة الاغريقية عبر الترجمات العربية، ولولا ذلك ما كان لهم أن يعرفوا الكثير عن تلك الحضارة، بل ولا كان بإمكانهم أن يفعلوا شيئاً مهماً حول ما تمّ لهم من نهضة. وبالتالي ما الذي يجعل حضارة عظيمة بذلك القدر والقوة إلى أن تقع في الضعف والإنحلال؟

فهذا السؤال ما زال مطروحاً لدى الكثير من ذوي الاختصاص. وسبق للمستشرق (توبي هف) أن قارن في كتابه (فجر العلم الحديث) بين ثلاث حضارات عظيمة هي الحضارة الصينية والإسلامية والغربية، ورأى أن الصين رغم أنها كانت عظيمة لكنها لم تستطع الاستمرار والنمو لإعتبارات يتعلق بعضها بلغتها المعقدة وكونها منغلقة على نفسها. وهو أمر لا ينطبق عما حدث للحضارة الإسلامية، وظل اللغز محيراً لدى العديد من المفكرين المختصين، رغم ما يذكر من أسباب متعددة أدت بهذه الحضارة إلى أن تنكمش وتتحنط شيئاً فشيئاً. فالمحير لدى هؤلاء هو أن الحضارة الإسلامية وصلت في بعض مراحلها التاريخية إلى أن تكون حضارة عالمية لا تضاهى قوة وعلماً، سيما فيما يتعلق بالقوتين الإقتصادية والعسكرية كما يشير (برنارد لويس) إلى ذلك. وكذا فيما يتعلق بالقوة العلمية الهائلة كما يشير إليها (توبي هف).

وبالتالي كان العديد من المختصين الغربيين يتصورون بأن من المفترض أن تكون النهضة الحضارية الأعظم هي للحضارة الإسلامية لا الغربية، بإعتبار أن جميع شروط التقدم العلمي كانت متوفرة لدى هذه الحضارة، لكن الأمور مع ذلك أخذت مجرى آخر، مما جعل السؤال ملحاً حول علة توقف هذه الحضارة، بل وتراجعها مع أنها أمدّت أكسير الحياة إلى غيرها. وهو سؤال محير، لا سيما أن هذا التراجع قد اقترن بنهضة الغرب وتطوره.

ومع أن الغربيين كثيراً ما يوردون الأسباب الدينية والسياسية والقانونية كموانع لتواصل الحضارة الإسلامية وتطورها، لكنها عوامل غير كافية؛ سيما المتعلقة بالأسباب الدينية، إذ لو كانت هي نفسها عامل إعاقة؛ كيف نفسّر ما حدث من تطور كبير جعل الحضارة الإسلامية في وقتها أعظم وأقوى حضارة في العالم؟

فمثلاً أشار المستشرق (برنارد لويس) إلى جملة عوامل معيقة جعلت المسلمين يأخذون بالضعف شيئاً فشيئاً، من أهمها العامل السياسي، حيث الإنقسامات الداخلية ضمن الخلافة الإسلامية والتي طالت قروناً طويلة، وما أتبعها من حروب داخلية ألهت المسلمين عن عدوهم الخارجي المتربص وانهكت قواهم. فهذا هو السبب الرئيسي الذي أفضى إلى ضعف الخلافة الإسلامية وإضمحلالها. يضاف إلى ذلك هو أن المسلمين لم ينتبهوا إلى التطورات النامية التي حدثت في الغرب طيلة قرون عديدة بما في ذلك القرن السابع عشر الميلادي، والتي شكلت فيما بعد دوراً مهماً في القضاء على الخلافة وتقسيم البلاد الإسلامية وإضعافها أكثر فأكثر. فعندما فتح المسلمون بعض البلاد الاوروبية وجدوها غارقة في التخلف والهمجية. وبحسب وجهة نظر هذا المستشرق أن الخطأ الذي ارتكبه المسلمون هو أنهم لم يغيروا النظرة التي رأوا فيها الغرب بربرياً همجياً، فرغم تقادم الزمن بقرون طويلة ظل المسلمون ينظرون إلى الغرب بذات النظرة المسبقة دون إلتفات إلى ما تحقق فيه من تقدم وتطور، سيما خلال ذلك القرن الذهبي (السابع عشر)، إذ ظهرت فيه كتابات اوروبية غزيرة دون أن يترجم المسلمون منها شيئاً لعدم علمهم بها. وفي هذا القرن بالذات كان هناك عدد كبير من التجار الاوروبيين يفِدون الديار الإسلامية دون أن يدرك المسلمون خطورة دورهم تبعاً لتلك النظرة المسبقة عن الغرب، فقد كانوا يقدّمون لأوروبا كل ما تحتاجه من معلومات تتعلق بما يجري في الشرق، الأمر الذي سهّل على اوروبا غزو البلاد الإسلامية ومن ثم استعمارها. وأكثر من هذا أنه ظهرت لدى الغرب في ذلك القرن مهن وثروات كبيرة من غير علم المسلمين أيضاً. ولا شك أن كل ذلك قد ساعد اوروبا في أن تبني نفسها بمعزل عن المعوقات الخارجية، في الوقت الذي حرم المسلمين من الاستفادة من الإمكانات الغربية الجديدة، بل جعل منهم الفريسة التي تقاسمها الغرب فيما بعد[1].

فمنذ نهاية القرن السابع عشر فقدت الخلافة العثمانية الكثير من الأراضي بسبب الإنقسامات الداخلية، وأصبحت من الناحية العسكرية ضعيفة. وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين كان التفاوت بين الغرب والمسلمين كبيراً جداً، إذ انقلبت المعادلة فأصبح الضعيف المتخلف قوياً متقدماً، كما أصبح القوي المتقدم ضعيفاً متخلفاً. وبالرغم من الكثير من الصيحات والدعوات التي نادت بالإصلاح والنهضة في العالم الإسلامي، منذ أكثر من قرن وحتى يومنا هذا، فإنها جميعاً باءت بالفشل.

وبرأي برنارد لويس فإن المصلحين من المفكرين في العالم الإسلامي كانوا وما زالوا واقعين في الخطأ نفسه عند تحليلهم لما حدث لهذا العالم من ضعف وإضمحلال، فهم يضعون اللوم في ذلك على (الآخر)، ويتصورون أن مسؤولية التخلف وعدم القدرة على النهوض والتقدم إنما مبعثه هذا (الآخر)، شبيه بما يطلق عليه اليوم (منطق المؤامرة الخارجية). فالعرب كانوا يضعون اللائمة على الأتراك بسبب الحكم العثماني، والمسلمون يعدون مشكلتهم مع التخلف قد بدأت بفعل الغزو المغولي، وبعد ذلك بسبب مجيء المستعمر الغربي، وبعده اعتبروا المسؤولية ملقاة على اليهود، وأخيراً على أمريكا.

هكذا تقع اللائمة دائماً على الآخر، في حين أن القضية في رأي لويس معكوسة، وهي أن الاستعمار لم يتحقق إلا نتيجة ضعف المسلمين وتخلفهم، وليس سبباً لهما. فلولا الضعف والتخلف ما كان هناك استعمار قط. ورأى أن على المسلمين أن يكفوا عن إتهام (الآخر) لتفسير علة عجزهم وضعفهم، وأن يغيروا صيغة السؤال المطروح لديهم (أين الخطأ؟) ويستبدلوه بسؤال أكثر تحديداً، وهو:

ما الذي فعلناه خطأً؟

ويقترب الكاتب في هذا السؤال من مقالة مالك بن نبي حول الدور الذي تلعبه القابلية على الاستعمار لنفوذ هذا الأخير.

لكن النتيجة التي يخلص إليها هذا المستشرق كجواب عما تضمنه إسم كتابه من سؤال (أين الخطأ؟)، هو أنه اعتبر الدين، ومنه الدين الإسلامي، من أكبر المعوقات والمحددات للتطور، بإعتباره ليس مؤهلاً لإعطاء المزيد من الحرية مقارنة بما عليه قيم الحداثة. ورغم إعتراف هذا المستشرق بالتطور الذي حققه المسلمون في السابق، لكنه لا يرى ذلك كافياً، بدلالة أن المسلمين خلافاً للكثير من الأمم المتقدمة ليس بوسعهم النهضة والتقدم. والشاهد الحاضر عنده هو تقدم الغرب بفعل عزل الدين عن الشؤون العامة، حيث مهّد ذلك لإطلاق الحريات ومنها الحرية الفكرية والعلمية والإقتصادية والسياسية، الأمر الذي تشكلت منها الحضارة الغربية الحديثة بما لا نظير لها.

وبالتالي فالحل الذي يرجوه هذا المستشرق هو العمل بمثل ما قام به الغرب في فصله للدين عن السياسة وتبني مبدأ العلمانية، لتحرير العقل عن الدين وقيوده. مع أن شاهد تركيا الحديثة لا يؤيد مسعاه.

مهما يكن فما زال البحث جارياً لدى الباحثين المختصين حول علة التراجع الذي أصاب الحضارة الإسلامية، ومن المتوقع أن يزداد ضوء البحث على مجمل هذه الحضارة بعد أحداث 11 سبتمبر (ايلول)، سواء من حيث طبيعتها ومقوماتها الذاتية، أو من حيث علاقاتها الخارجية. فالسؤال الذي سيتجدد حولنا من قِبل «الآخر» هو ذلك الذي يبحث عن هويتنا، بكل ما تثيره هذه الكلمة من أبعاد موضوعية وقيمية :

فمَن نحن؟!

 

النهضة والتساؤلات المحمومة

أخيراً بقيت معنا التساؤلات المشبعة بالعاطفة «المحمومة»، إذ تضيق لها الصدور لما تثيره فينا من «هم وغم»، فما زال السؤال الشاغل الذي يهيمن على نفوسنا هو: لماذا تخلفت الحضارة الإسلامية وتقهقرت فعاشت مرحلة السبات والغيبوبة لعدة قرون؟ فهل أن ذلك يعود إلى نظامها المعياري بإعتبارها حضارة تكليف قد استنفدت طاقة النص والعقل بالكامل، فلم يبق لديها شيء آخر تتفاعل معه سوى أن تأكل نفسها بنفسها، كالذي حصل في مؤاكلة العقل للعقل ذاته، والإجتهاد للإجتهاد؟

فمن المعلوم أن حضارتنا الغائبة هي غير حضارة اليونان الممتثلة. فإذا كنّا لم نجد «صرخة» تطالب بإعادة تأسيس الحضارة اليونانية من جديد، لكونها قد امتثلت في حضارة أخرى هي الحضارة الغربية، أو لأنها ماتت وانتهت على أقل التقادير، مما يعني أن السكوت المتعمد بالمطالبة بتلك الدعوة يضع الحضارة اليونانية موضع «الشيء المهمل» الفاقد لمبرر قيامه توظيفاً وتشغيلاً.. فإذا كنّا لم نجد مثل تلك الصرخة مع الحضارة اليونانية، ومثلها الحضارات القديمة، فإن الأمر مع الحضارة الإسلامية يختلف كلياً. فمن جهة إن «الصرخة» للمطالبة بإعادتها ليست غائبة ولا ميتة كما هي الحال مع سابقاتها. كما إن هذه الحضارة - من جهة أخرى - ليست ممتثلة ولا فقدت روحها كالجثة الهامدة.

فروح الإجتهاد - على حدودها الشكلية - ما زالت عالقة بأوصالها، كما أن صرخة المطالبة بإعادتها لا زالت تتردد منذ الإصطدام بالحضارة الغربية والتوسع الاستعماري أوائل القرن التاسع عشر والى يومنا هذا.

والحقيقة إن هناك صرختين ظهرتا خلال هذه الفترة، تنفصلان أحياناً وتتحدان أخرى، إحداهما تدعو للنهضة القومية، سيما النهضة العربية، سواء من خلال الإلتحام بالتراث الإسلامي أو بالإنفصال عنه كما لدى الدعوات العلمانية. أما الأخرى فتدعو للنهضة الإسلامية بغض النظر عن الجانب القومي. وعلى الرغم من طول مدة ما أُطلق عليه «النهضة» على الصعيدين العربي والإسلامي، إلا أنه لم ينحسم المخاض بين النهوض والنكوص حتى يومنا هذا، رغم مخاض العقود الأخيرة لنهاية القرن العشرين التي شهدت تطورات ليس لها نظير في تاريخنا القديم والحديث.

إن التفكير في النهضة ومدتها يطرح في ذاته تساؤلاً «محموماً» حول ما إذا كان العجز متأصلاً في عروقنا، أم أن هناك عاملاً مغيّباً ينبغي تجهيزه كشرط مقوم للنهضة والوقوف على الأقدام؟

لقد صوّر لنا القوميون العرب مرارة ما شهدناه خلال القرن العشرين من تجربة قومية فاشلة لمشروع النهضة العربية. فالوعي النهضوي الذي بدأ منذ القرن التاسع عشر قد تحول منذ أواخر الخمسينات إلى وعي ثوري، لكنه ما لبث أن نكص وتراجع بعد هزيمة (1967)، فخيبة الأمل والشعور بالإحباط والفشل قد أعاد الأمر إلى ما كان عليه من قبل، ألا وهو الوعي النهضوي الذي ما زال يملأ وجدان الضمير العربي. ومن القوميين العرب من عبّر عن هذه الأزمة تعبيراً مشبعاً بالعاطفة وحمّة الوجدان، كما هو الحال مع الاستاذ شاكر مصطفى الذي تساءل في ندوة له: «لماذا تطلّب وفاق العرب مع العصر كل هذا الوقت الطويل، ودون جدوى؟» ثم أضاف قائلاً: «هذا السؤال المصيري، النازف كالجرح في ضمير كل عربي ملتزم، إذا كان ما يزال يأخذ يوماً بعد يوم أبعاداً مأساوية متزايدة فلأنه قد مضت على ارتطام هذه الأمة بالحضارة الحديثة وبمعطياتها وآلاتها سنون بعيدة بعيدة. كتلة الأقاليم العربية مضت عليها الفترة الزمنية الكافية لتكون في مستوى العصر وتكنولوجيته وفيضه الحضاري. معظمها على الأقل إنطلق قبل الصين التي بدأت منذ ربع قرن، بعضها قبل روسيا التي بدأت منذ سبعين سنة. ومع ذلك فهذه الأمم وصلت. كلها وصلت، بينما لم يصل أي اقليم عربي طليعي إلى شيء بعد. مأساوية السؤال إنما تنبع من إحتمالات الأجوبة عليه: فهل وصلت الأمة حقاً مرحلة الشيخوخة فهي إلى الإدبار والعقم الحضاري؟ أو أضاعت الطريق؟ وأنى الطريق؟ أم ثمة من الأمراض المعقدة في تكوينها العام، ما يشل المفاصل أن تسير السير الذي يقتضيه ايقاع العصر؟ تلك هي المسألة»[2].

ويأتي منظر قومي آخر هو الاستاذ محي الدين صبحي ليلاحظ أنه منذ القرن التاسع عشر - المدعو بعصر النهضة - وحتى يومنا هذا ومحاولات النهضة لا زالت تتكرر: «قامت مرة على يد محمد علي.. وفي مرة ثانية بدأت بين الحربين نهضة استهدفت التحديث حصلت خلالها أمور كثيرة: كان الغرب في عصر النهضة الصناعية الأولى، عصر البخار، فاجتاز تلك النهضة ودخل عصر الطاقة والكهرباء، ثم الثورة الإلكترونية، كما حدثت ثورات إجتماعية كثيرة أيضاً، بدأت بالثورة البلشفية وتلتها الثورة الصينية ومؤخراً الثورة الفيتنامية، ولم يستطع العرب أن ينجزوا أي نوع من أنواع الثورتين: العلمية أو الإجتماعية السياسية، ولم يستطيعوا أن يقيموا دولتهم القومية أو أن يقدموا الضمانات القانونية الضرورية لنشوء العمران». وأكثر من ذلك أن المسافة بين تخلف العرب وتقدم الغرب أخذت «تزداد ولا تنقص: في القرن التاسع عشر كانت المسافة بسيطة نسبياً بين المجتمع المصري والشامي وبين المجتمعات الغربية الصناعية.. كان العرب إلى حد ما على اطلاع بما يجري في العالم، وكانوا أكثر قدرة على محاكاته، أما الآن فالمسافة تتسع وتنظيم المجتمع يتعقد ومعطيات السياسة العالمية تتشابك، ويضيق على العرب شيئاً فشيئاً بحكم تصارع القوى»[3].

وهناك منظر عربي آخر عبّر عن مأساوية الوضع الذي نحن الآن فيه، وعن مخاوف المصير التي تهددنا، فكما يقول الاستاذ غالي شكري في مجلة (دراسات عربية، 1980): «ولعلنا نصاب بالهلع إذا تذكرنا أن المسافة الزمنية التي تفصل بين نهاية ازدهار الحضارة العربية الإسلامية الأولى وبداية النهضة الحديثة في القرن الماضي تبلغ حوالي ألف سنة، بما يثير تساؤلاً مروعاً هو ما إذا كنا قد دخلنا بالفعل مرحلة انحطاط جديدة ستدوم ألف سنة أخرى. ولكن الجواب الأكثر ترويعاً هو أنه إذا كان ممكناً لأسلافنا أن يناموا كأهل الكهف عشرة قرون، فإن العصر الجديد يخلو من الكهف ويستحيل فيه النوم الحضاري الطويل، بل هو يضعنا في مفترق طرق حاسم لا رجعة فيه: فإما التقدم وإما الإنقراض، ولا طريق ثالث أو وسط بينها»[4].

أما الدعوة إلى النهضة الإسلامية فقد اجتازت مرحلتها إلى التطبيق والثورة منذ الربع الأخير للقرن العشرين، لكن مع ذلك فلا زال المخاض لم يحسم الموقف لصالح النجاح أو الفشل.

إن هذه التجربة الجديدة جاءت على عقب تجربتين فاشلتين مرّ بهما العالم الإسلامي، إحداهما التجربة القومية العربية بعد منتصف القرن العشرين، والاخرى التجربة العلمانية التي مرت بها تركيا بعد إنتهاء الخلافة أوائل هذا القرن. الشيء الذي يعني أن هناك المزيد من المخاوف من الوقوع في نفس الفشل الذي لاح كلا التجربتين القومية والعلمانية، رغم أن التجربة الأخيرة أخذت – اليوم - تسير في الإتجاه الإصلاحي عبر تهذيب العلمنة اللائيكية.

وعادة ما تعاني التجارب الإسلامية من أزمة في الحقوق إزاء الآخر المختلف، وغالباً ما تتمثل بالطابع الديني والطائفي، وقد يصل الحال إلى التطرف والتكفير والقتل وسحق الحقوق الإنسانية. لكن مع التجربة الجديدة فيلاحظ أن أزمتها تتحدد بالطابع القومي العنصري، رغم أنها تمتلك مرونة كبيرة قد يجعلها تتجاوز مثل هذه الأزمة بترسيخ العدالة الإجتماعية والإصلاح.

وإذ لا نكتم الإعلان عن مخاوف الوقوع في الفشل وما يترتب عليه من آثار باهضة، فإنّا نراهن على أن حل مشكلة كهذه يرتبط أساساً بعلاج طبيعة التفكير الذي هيمن علينا مما له علاقة وثيقة بنمط الإشكالية التي تستحوذ على عقولنا. إن التعرف على هذه الطبيعة سيدلنا على إدراك العلة الأساسية وراء الجمود والسكون الذي اجترته حضارتنا طيلة قرون، بل أنه كذلك سيضيء لنا الطريق المناسب للتحرر والخلاص.



[1]   انظر:            Bernard Lewis, Waht Went Wrong, New York, OxfordUniversity Press, 2002.            والكتاب عبارة عن مجموعة محاضرات تعود إلى المؤرخ والمستشرق (برنارد لويس) الوالد في لندن، حيث القى الغالب منها خلال سنة  1999 في بعض جامعات فيينا، ومن ثم جمعت لتكوّن هذا السفر، مع بعض التعديلات التي الحقها المؤلف بعد احداث 11 سبتمبر (ايلول)، سيما ما يتعلق بالنتيجة التي اسفر عنها الكتاب. وبرنارد لويس هو استاذ للدراسات الشرقية في جامعة (برنكتن)، كما أن له عدداً من الكتب والدراسات حول الشرق الأوسط، بعضها تم ترجمته إلى اللغة العربية. ومن هذه الكتب: العرب في التاريخ، وقيام تركيا الحديثة، وفتح المسلمين لاوربا والشرق الأوسط.

[2]             عن: محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، الطبعة الأولى، 1989م، مركز دراسات الوحدة العربية، ص132.

[3]             مجلة شؤون عربية، عن الخطاب العربي المعاصر لمحمد عابد الجابري، دار الطليعة في بيروت، الطبعة الثالثة، 1988م، ص26ـ27.

[4]             المصدر السابق، ص27.

comments powered by Disqus