-
ع
+

موقف الخطاب الديني من غير المسلمين (2): الجزية والصِغار

 

يحيى محمد

لقد كشف لنا النموذج السابق (موقف الخطاب من المشركين) عن عدم تماسك النهج الماهوي في مواقفه من النصوص المتعارضة والتوفيق بينها. أما النموذج التالي الذي سنقدمه فسيكون خلواً من الإضطراب وعدم التماسك السابق. فما سنطرحه يشهد انسجاماً من حيث المبدأ، وإن اختلفت الأنظار واضطربت في تفاصيل فهمه، لكن دون الإخلال بالإتفاق العام حول أصل الموضوع. مع هذا فسنعرف أن الطرح الماهوي لهذا النموذج متناقض ومتصادم مع مقاصد التشريع وقيمه العامة. ومن الأمثلة عليه ما يتعلق بمسألة فرض الجزية والصغار على أهل الكتاب، وذلك كالتالي:

تعتبر آية الجزية من أواخر الآيات التي نزلت بشأن أهل الكتاب، وذُكر بأنها نزلت حين أمر النبي (ص) أصحابه بغزوة تبوك مع الروم[1]، إذ يقول تعالى: ((قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أُوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون))[2]. ولا ريب أن نص الآية يفيد وجوب دفع الجزية وجوباً لازماً.

مع هذا فالسؤال الذي يرد بهذا الصدد: هل أن الوجوب المشار إليه يفيد الإطلاق أم لا؟ وهو سؤال يمكن تقسيمه إلى جانبين، أحدهما من حيث ظهور النص، والآخر من حيث الحقيقة. فمن حيث الظهور يمكن التوقف عند حرف الجر (من) الوارد في النص، فهل دلالته بحسب السياق تفيد البيان الجنسي أم التبعيض؟ فلو قلنا أنها تفيد التبعيض لانتفى الإطلاق، واعتبرنا ظاهر النص يريد الحكم على جماعة من أهل الكتاب وليس كلهم. وعلى العكس لو قلنا أنها تفيد البيان الجنسي، إذ يكون ظاهر النص بصدد جميع أهل الكتاب وليس فئة منهم[3].

والذي اعتبره المفسرون هو أن دلالة (من) تفيد البيان الجنسي لا التبعيض. وكما قال الآلوسي بأن (من) هي ‹‹بيانية لا تبعيضية حتى يكون بعضهم على خلاف ما نعت..››[4]. وذكر القرطبي أن معنى ((من الذين أُوتوا الكتاب)) هو ‹‹تأكيد للحجة لأنهم كانوا يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والانجيل››[5].

لكن ربما يقال بأن الحكم في الآية جاء معلقاً على من وصفهم الله تعالى بأنهم ((لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق))، فهل يُقصد منه إرادة جميع أهل الكتاب لعدم إيمانهم الصحيح بالله واليوم الآخر فضلاً عن عدم تحريمهم ما حرمه الله ورسوله، وكذا ديانتهم بدين الحق.. أو أن المراد جماعة منهم تنطبق عليهم كل تلك المواصفات، لتمييزهم عن غيرهم ممن لم يصدق عليهم جميعها وإنْ صدق البعض منها؟

قد يقال أن أقرب الإحتمالين هو الإفادة الأولى، لا سيما وأن واقع السيرة يشهد على عدم وجود تمايز يذكر بهذا الشأن حول معاملة أهل الكتاب، إذ كانت المعاملة بالجزية والصغار شاملة للجميع بلا تمايز قائم على العقيدة وما شاكلها من المواصفات الأخرى المذكورة في النص. وبهذا يفيد ظاهر النص الإطلاق.

مع هذا قد يكون التشديد الوارد في النص لا علاقة له بالإعتقاد الصرف أو المجرد، بدلالة ما ورد من نصوص أخرى تبدي تسامحاً في هذا الأمر؛ مثل آية الإكراه أو الرشد، مما قد يجعل فهم النص مشروطاً بأخذ إعتبار الظرف الذي نزلت في ظله الآية مورد البحث، حيث انها، وكما أشرنا، نزلت في سياق الظرف المتعلق بغزوة تبوك مع الروم، وهم الذين اتصفوا بالعداء والكيد خلافاً لما نصّ عليه دينهم من السلام والتسامح وعدم مشروعية القتال.

يظل الجانب الأهم من الموضوع هو البحث عن دلالة الإطلاق في الوجوب من حيث الحقيقة. ويمكن صياغة السؤال الخاص بهذا الجانب على النحو التالي:

هل الوجوب المشار إليه يفيد الإطلاق على نحو الحقيقة مثلما هو ظاهر النص؛ بحيث كلما وجدت المصاديق من أهل الكتاب لزم مطالبتهم بالجزية مع الصغار؟ وذلك طبقاً للقياس المنطقي المستفاد من النهج الماهوي. إذ تتخذ صورة هذا القياس الشكل التالي:

إن فرض الجزية والصغار واجب على الكتابيين.

إن هؤلاء الجماعة من أهل الكتاب.

إذاً يجب أن يدفعوا الجزية مع الصغار.

تلك هي الصورة القياسية المحددة تبعاً للنهج الماهوي كما تبنتها الدائرة البيانية للنظام المعياري كأصل أساس. ففرض الجزية لدى هذا النظام هو قانون يتحكم في مصير أهل الذمة تحكماً صارماً لا يدفعه إلا بعض الاستثناءات المستندة بدورها إلى بعض الصور البيانية المعارضة. لكن رغم اتفاق العلماء على هذا القانون إلا أنهم اختلفوا حول من تؤخذ منهم. فقد جاء أن أبا حنيفة يرى أن الجزية تؤخذ من جميع الأعاجم سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب. ونقل الشوكاني الزيدي أن هذا الرأي هو رأي عترة أهل البيت أيضاً. إلا أن الماوردي صاحب (الأحكام السلطانية) نقل بأن أبا حنيفة رفض أخذ الجزية من العرب ‹‹لئلا يجرى عليهم صغار››، وربما قصد بذلك المشركين منهم لا غير. أما الشافعي فيرى أن لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب أو من هم على شاكلتهم كالمجوس، سواء كانوا عرباً أو أعاجم، ونُقل أن هذا هو رأي إبن حنبل أيضاً. في حين نُقل عن الإمام مالك قوله: يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابي ومجوسي ووثني وغير ذلك إلا المرتد[6]. وعند الإمامية الإثنى عشرية ـ باستثناء من شذ منهم ـ فإن الجزية لا تؤخذ إلا من الفرق الثلاث اليهود والنصارى والمجوس، أما غيرهم فيخيرون بين السيف أو الإسلام، بلا فرق سواء كانوا عرباً أو أعاجم[7].

وكذا فإن صورة القياس المنطقي التي مرت معنا تنطبق على مبدأ الصغار لدى الدائرة البيانية وعموم النظام المعياري. إذ يُعتبر الصغار الوارد في الآية واجباً كالجزية بنص صريح القرآن. فالحكم في الآية دالّ على أن الدافعين لضريبة الجزية يجب أن يكونوا ‹‹صاغرين›› أو ذليلين.

مع هذا فقد ذكر العلماء بأن الناس اختلفوا في معنى الصغار المفروض على أهل الذمة وقت أداء الجزية، فقال عكرمة أن يدفعها الذمي وهو قائم، ويكون الآخذ جالساً. وقالت طائفة أن يأتي بها الذمي ماشياً لا راكباً، ويطال وقوفه عند إتيانه بها، ويجرّ إلى الموضع الذي تؤخذ منه بالعنف، ثم تجرّ يده ويمتهن[8]. كما نقل صاحب (التذكرة) عن الشافعي قوله: ‹‹هو أن يطأطأ رأسه عند التسليم فيأخذ المستوفي بلحيته ويضربه في لهازمه، وهو واجب في أحد قوليه، حتى لو وكّل مسلماً بالأداء لم يجز، وإنْ ضَمُن المسلم الجزية لم يصح، لكن يجوز إسقاط هذه الإهانة مع اسم الجزية عند المصلحة بتضعيف الصدقة››[9].

كما ذكر إبن كثير أن معنى صاغرين هو ذليلون حقيرون مهانون، فرتّب على ذلك حكمه بأنْ ‹‹لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء›› وعزز ذلك ببعض الأحاديث، كما عن أبي هريرة في صحيح مسلم عن النبي (ص) أنه قال: ‹‹لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه››[10]. وأيد إبن كثير موقفه السابق تعويلاً على ما جاء في قوله تعالى: ((ضُربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس))[11].

ونجد هذا المعنى ذاته مقرراً من قبل الكثير من علماء الإمامية. فقد ذكر المحقق الحلي في (شرائع الإسلام) بأنه يجب على أهل الذمة وهم في دولة الإسلام أن ‹‹لا يضربوا ناقوساً، ولا يطلوا بناءً ويعزرون لو خالفوا..››. كما قال: ‹‹لا يجوز استئناف البيع والكنائس في بلاد الإسلام، ولو استجدت وجب ازالتها، سواء كان ذلك البلد مما استحدثه المسلمون أو فتح عنوة أو صلحاً، على أن تكون الأرض للمسلمين. ولا بأس بما كان قبل الفتح وبما استحدثوه في أرض فتحت صلحاً على أن تكون الأرض لهم.. وكل ما يستجده الذمي لا يجوز أن يعلو به على المسلمين من مجاوريه ويجوز مساواته على الأشبه››[12]. وأضاف: ‹‹ويكره أن يبدأ المسلم الذمي بالسلام ويستحب أن يضطره إلى أضيق الطرق››. وقد سار على هذا المنوال العديد من العلماء[13].

فهذا هو الموقف الغالب لدى المفسرين والفقهاء. وقد أورد الماوردي خمسة أقوال في تفسير الصغار، هي كالتالي:

الأول: أنْ يكونوا قياماً والآخذ لها جالساً، قاله عكرمة.

الثاني: أنْ يمشوا بها وهم كارهون، قاله إبن عباس.

الثالث: أنْ يكونوا اذلاء مقهورين، قاله الطبري.

الرابع: إنّ دفعها هو الصغار بعينه.

الخامس: إنّ الصغار أن تجري عليهم أحكام الإسلام، قاله الشافعي[14].

وهو في محل آخر ذكر بأن هناك تفسيرين لآية الصغار: ((وهم صاغرون))، أحدهما أنهم أذلاء مستكينين، والثاني أن تجري عليهم أحكام الإسلام[15].

على أن بعض الأقوال الآنفة الذكر تتنافى مع التفسير الذي يشير إلى لزوم إجهاد أهل الذمة وتعذيبهم. ونفى إبن القيم أن يكون هناك نقل عن النبي وأصحابه يدل على فعل مثل هذا الإجهاد والتعذيب. وفسّر الصغار ‹‹هو إلتزامهم لجريان أحكام الملة عليهم واعطاء الجزية، فإن إلتزام ذلك هو الصغار››. وهذا التفسير للصغار هو الذي نقله الشافعي في (الأم) عن عدد من أهل العلم، حيث قال: ‹‹سمعت عدداً من أهل العلم يقولون الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام››[16]. وهو الرأي الذي تبناه بعض رجال الإمامية، كالشيخ الطوسي، إذ نقله عن بعض الناس وارتضاه[17]، وهو نفس المعنى الذي سبق إليه إبن الجنيد على ما نقله صاحب (التذكرة)[18].

لكن التفسير عند إبن القيم، وربما عند غيره ممن نقلنا، لا ينفي معنى إرادة ‹‹الإستخفاف بهم وإذلالهم››، فالصغار ليس منفكاً عن الإذلال[19]. رغم أن هذا الإذلال لا يصح عنده بالضرب أو التعذيب أو غير ذلك من الممارسات التي فُسّرت بها آية الصغار كما عرفنا. لذا فهو يرى الجزية مجعولة للصغار والإذلال للكفار وليست أجرة عن سكنى الدار كما يقول بذلك أصحاب الشافعي[20]. الأمر الذي يماثل ما اعتبرته أغلب المذاهب الإسلامية من أن الجزية من باب العقوبات، ولم تُجعل كرامة لأهل الكتاب.

وقد استدل إبن القيم على رأيه بأنه لو كانت الجزية أجرة لوجبت على النساء والصبيان والزمنى والعميان، ولو كانت أجرة لما أنفت منها العرب من نصارى بني تغلب وغيرهم، والتزموا ضعف ما يؤخذ من المسلمين من زكاة أموالهم. ولو كانت أجرة لكانت مقدّرة المدة كسائر الإجارات. ولو كانت أجرة لما وجبت بوصف الإذلال والصغار. ولو كانت أجرة لكانت مقدّرة بحسب المنفعة... وما إلى ذلك[21].

هكذا فمن منطق ‹‹العقوبة›› إتخذ إبن القيم وأغلب الفقهاء موقفاً متشدداً إزاء الحرية الشخصية والدينية لأهل الكتاب، ففرضوا المغايرة ببعض الممارسات الحياتية كالملبس والتنقل[22]، كما حددوا ممارساتهم العبادية، واعتمدوا في ذلك على ما روي من الشروط التي كتبها عمر بن الخطاب في هذا الشأن. فقد إشترط عمر بحسب هذه الوثيقة ضرورة وجود مغايرة بين أهل الذمة وأهل الإسلام في كثير من القضايا التي تمس الحريات الشخصية والدينية، فألزم الغيار على أهل الذمة في المركب والملبس والتسمية والتكنية والتكلم باللغة، كما فرض عليهم ربط الكستيجات ـ وهي الزنانير العريضة المدورة ـ في أوساطهم وأمر بختم أعناقهم[23]، ومنعهم من لبس بعض الألبسة الخاصة بالعرب ومن بعض الممارسات[24]. وثمة رواية تقول أن عمر قد أمر عمرو بن العاص أن يختم في رقاب أهل الذمة في مصر بالرصاص، وفرض عليهم بعض القيود الخاصة في الملابس والمظهر لغرض تمييزهم[25].

والواقع أن أغلب الفقهاء فهموا الصغار بالشكل المحدد حسب الوثيقة العمرية، دون الأخذ بالصورة الوصفية الواردة في الآية؛ كإن يكون دفعها هو الصغار على ما رآه البعض. وبالتالي أصبحت هذه الوثيقة أهم تطبيق للمنطق الماهوي كما لجأ إليه الفقهاء وهم يحددون معنى الصغار وموقفهم العام من أهل الذمة. فللوثيقة تأثيرها الكبير على القرارات الفقهية التي انتهجها الفقهاء. وهي أيضاً كانت سلكاً يتسلك بها الملوك والسلاطين بين الحين والآخر؛ كلما رأوا الحاجة الزمنية تبعث على ذلك.

فمن خلال هذه الوثيقة بنى الفقهاء شروطاً في عقد الذمة قُسمت إلى صنفين أطلق عليهما المستحق والمستحب. فالمستحق ستة شروط كالتالي:

 1ـ أنْ لا يذكروا كتاب الله بطعن فيه ولا تحريف.

 2ـ أنْ لا يذكروا رسول الله (ص) بتكذيب له ولا ازدراء.

 3ـ أنْ لا يذكروا دين الإسلام بذم له ولا قدح.

 4ـ أنْ لا يصيبوا مسلمة بزنا ولا بإسم نكاح.

 5ـ أنْ لا يفتنوا مسلماً عن دينه ولا يتعرضوا لماله ولا دينه.

 6ـ أنْ لا يعينوا أهل الحرب ولا يودّوا أغنياءهم.

فهذه الشروط الستة هي ما يجب أن يُلزم بها أهل الذمة بلا قيد. وهي تشترط عليهم لأجل الإشعار والتأكيد بتغليظ العهد عليهم بحيث أن تجاوزها يعد نقضاً لعهدهم.

وأما الصنف المستحب فهو ستة أشياء أيضاً كالتالي:

 1ـ تغيير هيئاتهم بلبس الغيار وشد الزنار.

 2ـ أنْ لا يعلوا على المسلمين في الأبنية ويكونوا - إنْ لم ينقصوا - مساوين لهم.

 3ـ أنْ لا يسمعوهم أصوات نواقيسهم ولا تلاوة كتبهم ولا قولهم في عزير والمسيح.

 4ـ أنْ لا يجاهروهم بشرب خمورهم ولا بإظهار صلبانهم وخنازيرهم.

 5ـ أنْ يخفوا دفن موتاهم ولا يجاهروا بندب عليهم ولا نياحة.

 6ـ أنْ يُمنعوا من ركوب الخيل عناقاً وهجاناً ولا يُمنعوا من ركوب البغال والحمير.

وتعد هذه الأمور الستة غير ملزمة في عقد الذمة، ولا يكون تجاوزها بعد الإشراط (المستحب) نقضاً لعهدهم، لكن يؤخذون بها إجباراً ويؤدبون عليها زجراً إن تمّ الإشراط بها[26].

 

ملاحظات نقدية

نخلص مما سبق إلى وجود فهم ممطلق جرى تثبيته حول الموقف من أهل الكتاب، بلا تمايز، ودون لحاظ السياق الظرفي للنص وملابساته. مع أن هناك ثلاث حقائق تتعارض مع النتائج المتولدة عن ذلك الفهم ومنطقه الماهوي، وهي كالتالي:

 

أولاً:

إن النتائج المتولدة عن الفهم الماهوي للصغار - كما لدى الغالبية - وكذا بعض الشروط (المستحبة) التي سطرها الفقهاء؛ هي نتائج وشروط تتصادم مع أخلاقيات الإسلام ولا تتفق مع ما يتسم به من العدل والرحمة. ولكونها ذات صبغة إطلاقية أو ماهوية فقد وُظفت من قبل الملوك والسلاطين لتلعب دوراً في الحياة السياسية والإجتماعية بين الحين والآخر، مداً وجزراً. فكلما كان الذميون يستعلون على المسلمين أو يضاروهم أو يغترون بملبسهم ومركبهم أو غير ذلك؛ فانهم يقابلون بمرسوم صادر من قبل السلطة تلزمهم بنوع من الغيار يجد تبريره في الوثيقة العمرية. إذ كان تجديد المراسيم الخاصة في الغيار اسلوباً متبعاً، تارة يظهر المرسوم وبعد مدة تختفي آثاره أو تخف، وذلك بحسب الأوضاع التي عليها البلاد الإسلامية. وأغلب الظن أن وضع الغيار في بادئ الأمر كان لمجرد التمييز بين الذمي والمسلم، تسهيلاً لعملية جلب الجزية من جانب، ولحفظ النظام من جانب آخر. إلا أنه مع تقلبات الحياة السياسية والإجتماعية أخذ الغيار يُفرض كعقوبة رادعة تستخدم وقت الحاجة[27]. فقد كانت العادة جارية بإعطاء براءة لمن يدفع الجزية، وفي العصور السيئة كانت تُعلّق على رقاب الذميين علامة البراءة، وتختم أيديهم[28] .

مع هذا فإن فتاوى الفقهاء بشأن أهل الذمة لم يكن لها ذلك الأثر الحاسم أو الغالب في الحياة السياسية والإجتماعية للبلاد الإسلامية، لا سيما وأنهم لم يتولوا مناصب الحكم والسلطة. كما أن التاريخ الإسلامي لا يحدثنا عن وجود ظاهرة عامة للمعاملة السيئة لأهل الذمة، ولا عن كبت يمس حرياتهم الدينية الخاصة. بل على العكس فإن الوضع الذمي لم يمنع من نفوذهم داخل السلطة السياسية وتقليدهم أرقى المناصب في عدد من الأجهزة الحكومية، لا سيما جهازي الادارة والمالية، مثلما هو واضح من العهود التي مرت بها مصر على وجه الخصوص. الأمر الذي أثار حفيظة الفقهاء[29]، حتى كثرت المؤلفات التي كُتبت حول الشكوى من الذميين، ومن ذلك كتاب (المذمة في إستعمال أهل الذمة) لأبي إمامة محمد بن علي النقاش (المتوفى سنة 773هـ)، وكتاب (الكلمات المهمة في مباشرة أهل الذمة) لجمال الدين أبي محمد عبد الرحيم الأسنوي (المتوفى سنة 772هـ)، وكتاب (شروط النصارى) للشيخ أبي محمد عبد الله بن زين القاضي، وغيرها. فقد عبّر هؤلاء عن موقفهم الرافض لاستخدام الذميين في الوظائف العامة من خلال حشد الآيات والأحاديث وما هو مأثور عن السلف مما له دلالة على رفض إستعمالهم والإستعانة بهم[30].

وما يهمنا من ذلك مبدئياً هو أنه ليس من المقبول تأسيس النظرية الفقهية على أصل مصادم لروح القرآن وأخلاقه، أو لمبادئه ومقاصده، تبعاً للتمسك بالنهج الماهوي. فحسب النهج الوقائعي إن من الممكن أن تكون بعض المواقف حازمة وشديدة كردّ على ما يبادره المقابل من فعل عدائي، دون أن تتخذ الشكل المبدئي الدائم استناداً للنهج الماهوي.

وبعبارة أخرى، إن إعتبار الأحكام مفتوحة نسبياً بعيداً عن الإطلاق والإغلاق؛ لا يعني تجاوزها لمبادئ القيم ومقاصد التشريع، وعلى رأسها مبدأ العدل الذي هو الأصل المتفق عليه في جميع العقود، ومنه عقد الذمة. فتبعاً لهذا الأصل الذي قامت به السماوات والأرض وأُنزلت لأجله الكتب السماوية؛ لا يمكن تقبل ما يتحدث عنه النظام المعياري من تعذيب أهل الذمة وتعريضهم للإرهاق والإهانات الجسدية والنفسية. فعلى الأقل كان الأولى بهذا النظام أن يتحفظ ويحتاط من أن يفتي بخلاف ما عليه العدل ومقصود الشرع، كإن يعتبر بعض ما ورد من الأحاديث الدالة على جواز تعذيب أهل الذمة أو ظلمهم بأنه إما أن يخصّ جماعات معينة نصبت العداء والأذى على الدوام، أو أنه من المتشابه الذي لا يقف معارضاً لأصل العدل أو يزاحمه، بل يُترك أمره لله تعالى ويُعمل بما هو محكم وبيّن، وهي طريقة تتفق – من حيث المبدأ - مع ما يراه الشاطبي من أن الشاذ لا يقف معارضاً لما هو مطرد وإنما يُحسب من المتشابه الذي لا يعلم أمره إلا الله تعالى[31]. وعليه فلو اكتفينا بهذه الدلالة لكان وضع الأحكام السابقة المسطّرة من قبل الطريقة التقليدية في غير محلها.

 

ثانياً:

يلاحظ أن ما آل إليه الموقف الفقهي من أهل الذمة بحسب النهج الماهوي هو السقوط في المفارقة والتناقض. فهو من جانب يلتزم بالشروط العمرية أو ما يشاكلها بحسب فهم الغالبية للصغار، لكنه من جانب آخر يسوق ما بوسعه من الأحاديث التي تأمر بعدم ايذاء الذميين وظلمهم. ومن ذلك ما ذكره الفقهاء من النصوص الكثيرة عن النبي وصحابته الموصية بالمعاملة بأهل الذمة خيراً، كتلك التي نقلها أبو يوسف وإبن سلام وغيرهما؛ مثل قول النبي (ص): ‹‹من ظلم معاهداً.. فأنا حجيجه››[32]، وقوله أيضاً: ‹‹ملعون من ضارّ مسلماً أو غيره››[33]. ونُقل عن عمر (رض) أنه قال ‹‹اوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم››. كما كتب هذا الخليفة إلى أبي عبيدة يأمره أن يمنع المسلمين من ظلم أحد من أهل الذمة[34]. ومثل هذا ما جاء عن الإمام علي في كلمة له مضيئة يقول فيها: ‹‹واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق››[35]. ونُقل عنه قوله أيضاً: ‹‹إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا››[36].

لكن مع كل ما ذُكر نرى الفقهاء لا يمانعون من اخضاعهم تحت بند الإعتبارات الأخرى المضادة، كتلك المسماة بالوثيقة العمرية. فمثلاً أن بعض الفقهاء القدماء كأبي يوسف يذكر الكثير من النصوص التي توصي بعدم ظلمهم، لكنه يستدرك بعد اطالته الذكر ويرى رغم ذلك أنه ينبغي أن يعاملوا طبقاً لما جاء في تلك الوثيقة من ختم الرقاب والغيار وغيرها. وكأن ما جاء في تلك النصوص لا يناقض الوثيقة المزعومة على ما فيها من غلظة وعدم تسامح يبعثان على الشك في صدورها. وربما دفعاً للشعور بالتناقض والمفارقة قد يحتج البعض بما نُقل عن عمر أنه قال في حق أهل الذمة: أهينوهم ولا تظلموهم[37]، وبالتالي يصبح كل ما جاء في الوثيقة من فظاعة يمكن طيّه في ملف الإهانة لا الظلم[38].

 

ثالثاً:

لنغضَّ الطرف عما آل إليه النظام المعياري في مثل تلك النتائج التي لا تتفق مع روح الإسلام وأخلاقه، ونتجه صوب القضية المحورية من الكشف عن صحة المسلك الوقائعي في فهمه للخطاب، بدلالات مستمدة من الخطاب وشرعه، فسنجد قرائن عديدة تشير إلى ما نحن بصدده كالآتي:

 1ـ هناك بعض الإطلاقات المعارضة كالتي نصّت عليها جملة من الآيات القرآنية؛ من قبيل قوله تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين))[39]. إذ يمكن أن يقال بأن الشطر الأخير من هذا النص لا يتسق مع ما جاء في آية الجزية من الأمر المطلق بقتال أهل الكتاب أو دفع الجزية مع الصغار، لا سيما إذا ما حملنا معنى الصغار على الإذلال كما هو موقف النظام المعياري في الغالب. إذ كيف يمكن التوفيق بين الأمر بالبر والقسط من جهة، وبين قتالهم أو إذلالهم من جهة أخرى؟!

فلو قيل إن آية الجزية نسخت ما قبلها؛ لقلنا أن النسخ لا يلوح دلالات المبادئ والمقاصد، بل ولا يتحقق اعتباطاً من غير تغاير للواقع والأحوال، الأمر الذي يتسق مع ما عليه النهج الوقائعي من جعل الأحكام بحسب ما يبديه الواقع من تغايرات.

 2ـ هناك بدائل مختلفة ومفتوحة قد مارسها النبي الأكرم (ص) وأصحابه دون الإلتزام بصرامة الإطلاق الظاهر في نص آية الجزية، مما يتسق تماماً مع النهج الوقائعي. فقد ورد عن النبي (ص) أنه كان يأخذ من بعض الذميين الجزية ويصالح البعض الآخر بعد أن شُرّعت في السنة الثامنة أو التاسعة من الهجرة على قولين، حيث نزلت الآية كأول نص يأمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، ومع ذلك فقد صالح بعضهم من دونها، كمصالحته لأهل نجران، إذ فُتحت نجران سنة عشر، وصالح النبي أهلها على الفيء وعلى أن يقاسموا العُشر ونصف العشر[40]. وكتب رسول الله (ص) بهذا الصدد قائلاً: ‹‹ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير››[41]. مع ذلك فقد قيل بأن أهل نجران هم أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب[42]. ولو صح هذا الأمر لكان حكم الآية لم ينفذ إلا بعد أن فتحت هذه البلاد، وذلك بعد سنة أو سنتين من نزولها، وهو أمر يستبعد حدوثه، كما أنه على فرض ذلك تكون المصالحة عقدت بعد تنفيذ حكم الجزية. كما ونُسب إلى النبي (ص) كتاب بعثه إلى كل من يهود حنين وخيبر أعفاهم فيه من الجزية وأبدى لهم معاملة حسنة[43].

ومثل ذلك ما فعله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في مصالحته لبني تغلب من النصارى وغيرهم، فبدل أن يأخذ منهم الجزية ضاعف عليهم الصدقة وأعفاهم عنها، وقد جاء هذا الأمر في ظرف يكشف عنه قول النعمان لعمر: يا أمير المؤمنين أن بني تغلب قوم عرب، يأنفون من الجزية، وليست لهم أموال، إنما هم أصحاب حروش ومواش، ولهم نكاية في العدو، فلا تعن عدوك عليك بهم. فصالحهم عمر وضاعف عليهم الصدقة[44]. كما نُقل أن هذا الخليفة أعفى يهودياً من اعطاء الجزية كمكافأة على حسن مشورته في تحسين الوضع الإقتصادي. ففي عام المجاعة المسمى بعام الرمادة أشار يهودي من أهل مصر إلى قناة تربط نهر النيل بالبحر الأحمر، فتمكن الوالي عمرو بن العاص من ارسال السفن مشحونة بالميرة من مصر إلى أقرب مرفأ من المدينة، وسُرّ بذلك عمر وكافأه على مشورته هذه بإعفائه من الجزية[45].

وشبيه ما حدث مع الجزية في عدم الإلتزام النبوي بالتطبيق الشامل؛ ما نجده حول التخميس. فرغم أن مفاد آية الخمس هو الإطلاق؛ إلا أن النبي الأكرم (ص) لم يطبق هذا الحد في عدد من المواقف، كما في غزوات حنين وخيبر وبني النضير وغيرها. وكذا فعل الخليفة عمر بن الخطاب في أراضي سواد العراق ومصر. الأمر الذي يجعل من مثل هذه المسائل مفتوحة غير مغلقة خلافاً لما تصوره لنا الدائرة البيانية للنظام المعياري ونهجها الماهوي.

 3ـ من ناحية أخرى، لم يكن مقدار الجزية محدداً بقدر معين، حتى نقل إبن القيم وغيره بعض الحوادث الدالة على أن الجزية غير مقدرة في الشرع تقديراً لا يقبل الزيادة والنقصان، كما أنها غير معينة بالجنس، بل يعود أمر ذلك إلى المصلحة وإجتهاد ولي الأمر، كما هو رأي العديد من السلف، الأمر الذي يفسر علة ما سلكه عمر بن الخطاب من جعل الجزية على ثلاث طبقات مختلفة؛ هم الأغنياء والمتوسطون والفقراء. ولم يكن هذا التصنيف حادثاً، لا في عهد النبي ولا في عهد صاحبه أبي بكر[46]. كما نُقل أن التقسيم الثلاثي للجزية تكرر فعله على يد الإمام علي أيام خلافته، بل ذُكر أن ما فعله عمر (رض) إنما كان باستشارته عليه السلام[47].

لذلك اختلف الفقهاء في تقدير الجزية، بل لجأ العديد منهم إلى تحديدها تحديداً ممطلقاً طبقاً للنهج الماهوي. فذهب أبو حنيفة إلى تصنيف الذميين إلى ثلاثة أصناف: اغنياء يؤخذ منهم ثمانية وأربعون درهماً، وأواسط يؤخذ منهم أربعة وعشرون درهماً، وفقراء يؤخذ منهم إثنا عشر درهماً، فجعلها مقدرة الأقل والأكثر، ومنع من إجتهاد الولاة فيها. وخالفه في ذلك مالك الذي لم يُجز تقديرها، وإنما أوكلها إلى إجتهاد ولاة الأمر لتحديد الأقل والأكثر. في حين ذهب الشافعي إلى أنها تُقدّر بدينار فما فوق دون أقلّ منه، لكنه منع تقدير الأكثر واعتبر ذلك راجعاً إلى إجتهاد الوالي ليرى رأيه في التسوية بين الجميع أو التفضيل فيما بينهم بحسب الحال، ولو اجتهد رأيه في عقدها على مراضاة أُولي الأمر من أهل الذمة فإنها تصير لازمة لجميعهم ولأعقابهم قرناً بعد قرن، ولا يجوز لوال بعده أن يغير ذلك إلى نقصان أو زيادة، فإن صولحوا على مضاعفة الصدقة عليهم؛ ضوعفت كما ضاعف عمر بن الخطاب مع تنوخ وبهراء وبني تغلب بالشام[48].

 4ـ إن المستفاد من معاملة النبي الأكرم وخلفائه الراشدين لأهل الذمة هو أن ما فُرض عليهم من جزية إنما كان كضريبة بدل النصرة والحماية التي توفرها الدولة لهم. فهي لم تُفرض على العجزة والنساء والشيوخ والأطفال والمرضى ورجال الدين عندما لا تكون لهم خلطة مع الناس[49]. بل وكانت تلغى فيما لو تطوع الذمي في الجيش الإسلامي. فمثلاً في معاهدة سراقة بن عمرو مع ارمينيا (سنة 22هـ) إشترط عمر على أهلها الاشتراك في الجهاد نظير اعفائهم من الجزية[50]، كما جاء في صلح آخر له مع الجراجمة كالسابق[51]. وجاء في صلح خالد بن الوليد مع صلوبا بن نسطونا صاحب قس الناطف في منطقة الحيرة قوله: ‹‹إني عاهدت على الجزية والمنعة.. فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا حتى نمنعكم››[52]. وجاء أن أبا عبيدة بن الجراح عندما أعلمه نوابه على مدن الشام بتجمع الروم كتب اليهم: ردوا الجزية على من أخذتموها منه. وأمرهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع وأنكم إشترطتم علينا أن نمنعكم وأنّا لا نقدر على ذلك وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم[53]. كما جاء في كتاب سويد بن مقرن أحد قواد عمر بن الخطاب لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان: ‹‹إن لكم الذمة، وعلينا المنعة على أن عليكم الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم، على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضاً عن جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وشرائعهم ولا يغير شيء من ذلك››[54]. ومثل ذلك ما جاء في بعض كتب حبيب بن مسلمة وغيره من قواد الخلافة الراشدة[55].

لهذا حكى إبن حزم في مراتب الإجماع أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله (ص)، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة. واعتبر أن في ذلك إجماع الأمة[56]. كما ذكر إبن قدامة في (المغني) بأنه ‹‹إذا سبي المشركون من يؤدي إلينا الجزية ثم قُدر عليهم؛ رُدوا إلى ما كانوا عليه ولم يسترقوا، وما أخذه العدو منهم من مال أو رقيق رُد اليهم››. واعتبر ذلك قول عامة أهل العلم، ومنهم الشعبي ومالك والليث والأوزاعي والشافعي واسحاق وغيرهم مما لا يعلم لهم مخالف[57].

وأقرب المذاهب الفقهية في تفسير الجزية طبقاً لمبدأ النصرة والحماية هو المذهب الحنفي، رغم أنه أضاف جهة أخرى متممة لتفسيرها. فللجزية عند الحنفية جهتان، فهي من جانب تعد بدلاً عن حقن دم أهل الذمة، وبالنسبة للمسلمين فإنها بدل عن نصرتهم لدار الإسلام. فعلى رأيهم أن الذميين لما صاروا من أهل دار الإسلام بقبولهم عقد الذمة، ولهذه الدار دار معادية؛ وجب عليهم القيام بنصرتها، لكن لما كانت أبدانهم لا تصلح لهذه النصرة لأنهم يميلون ظاهراً إلى أهل الدار المعادية لإتحادهم في الإعتقاد لذا أوجب الشرع عليهم الجزية لتؤخذ منهم وتصرف على المقاتلين المسلمين فتكون خلفاً عن النصرة، لهذا قال إبن همام الحنفي: ‹‹إن الجزية إنما وجبت بدلاً عن القتل حتى لا تجب على من لا يجوز قتله بسبب الكفر كالذراري والنسوان.. ولأنه وجب نصرة للمقاتلة فتجب على التفاوت››[58]. كما ذكر السرخسي بأن الجزية في حق المسلمين هي خلف عن النصرة[59]. وكذا جاء عن بعض العلماء أنها كانت بدلاً عن النصرة بالجهاد واختاره القاضي أبو زيد كما ذكر إبن العربي في (أحكام القرآن). في حين أن المذاهب الفقهية الأخرى لا تعدها بدلاً عن النصرة والحماية. فهي عند المالكية والزيدية إنما وجبت بدلاً عن القتل بسبب الكفر، وعند الشافعية والحنابلة والشيعة الإمامية وجبت بدلاً عن القتل والإقامة في دار الإسلام[60]. وقال المفيد من الإمامية بهذا الصدد: إن وجوب الجزية عقوبة من الله تعالى للكافرين لكفرهم وعنادهم، وقد جعلها الحق حقناً لدمائهم ومنعاً لاسترقاقهم ووقاية لما عداها من أموالهم[61].

***

بعد هذا الإستعراض ندرك أننا أمام صيغ شرعية مختلفة لأساليب التعامل مع أهل الذمة، سواء من حيث الإعتبارات المعنوية، أو من حيث الجزية كضريبة مادية. إذ نقف أمام تعارض بين ما رأيناه من الإطلاق اللفظي للنص والذي يبدي وجوب الإلتزام بدفع الجزية مع الصغار، وبين ما شهدناه من سيرة مغايرة تثبت حقيقة عدم الإطلاق. وهو أمر إنْ دلّ على شيء فإنما يدل على الأثر العميق الذي تحدثه تمايزات الواقع من نتائج وأحكام مختلفة. وعليه لا يمكن فهم الخطاب الديني فهماً صحيحاً ومتسقاً ما لم يتم الأخذ بإعتبارات النهج الوقائعي، وهو النهج الكاشف عن أثر الدلالات الواقعية التي تعمل على فك الإطلاق اللفظي للنص وتحويله إلى نمط من الإجراء النسبي. مما يؤكد خطأ النهج الذي تبنّته الدائرة البيانية للنظام المعياري، فما صوّرته هذه الدائرة من تحنيط قضايا الأحكام لا يدل عليه نهج الخطاب وممارسته أبداً.

نعم يمكن أن يقال بهذا الصدد أن ما شهدته السيرة النبوية من تنويعات هي حالات مقررة لا تعارض الأصل العام من الجزية والصغار، كما يحصل في حالات التخصيص والتقييد. الأمر الذي يبعث على التوقف عند دائرة ما شهدته السيرة وما نطقت به النصوص كما هو لازم النهج الماهوي.

لكن حقيقة الأمر أنه لولا تجددات الواقع وتغايراته ما ظهر التنويع والمغايرة للأحكام المخالفة للأصل المعتمد كالجزية والصغار. فلولا مثل هذه التجددات ما كنّا نرى تنويعاً ولا مغايرة للأحكام.

والقاعدة العامة المستمدة من هذا المبدأ هي أنه يجب أن يكون الواقع أساس بناء الأحكام وتنويعها، لا سيما عند حدوث تحولات جوهرية ينقلب فيها الحال من حضارة إلى أخرى، لكن شريطة أن يتم ذلك تحت مظلة المقاصد العامة للتشريع.

وعليه نتسائل: كيف يُسند الحكم ويستصحب من حضارة إلى أخرى مغايرة؛ كالذي يتبناه النهج الماهوي؟! فعلى سبيل الفرض، لو قُدّر للنبي (ص) أن يعيش بيننا اليوم، فهل سيحافظ على نفس الأحكام المنزلة قبل أكثر من (1400 سنة)، رغم عمق التطور الحضاري؟ وهل أن تغيرات الأحكام التي حدثت خلال عصر النص لا علاقة لها بأثر الواقع؟ وإذا كان الأمر هكذا فما هو مبرر التغاير والعمل بالأحكام المعارضة ونسخها أو تأجيلها؟

ونعتقد بأن هذه التساؤلات لا تملك إجابة شافية لدى الدائرة البيانية أو النظام المعياري. فأقصى ما يمكن أن يجاب عليه هو التركيز على النهج التعبدي، ولو بمصادرة الواقع وإلغاء كل من العقل والوجدان.

ونحن إذا ما عوّلنا على ما سلّم به العديد من العلماء طبقاً لما نصّ عليه إبن حجر العسقلاني في (فتح الباري) من أن الحكمة في وضع الجزية تكمن في ‹‹أن الذل الذي يلحقهم يحملهم على الدخول في الإسلام مع ما في مخالطة المسلمين من الاطلاع على محاسن الإسلام››[62]، فإذا ما عوّلنا على ذلك الإعتبار من الحكمة والقصد؛ يصبح من الجلي أن المسلك الذي تحدث عنه العسقلاني ليس مسلكاً ثابتاً يحقق من خلاله الحكمة المذكورة. إذ لا يمكن الإدعاء والطمأنينة بأن وضع الجزية وما يلحق أهل الذمة من الذل سوف يحملهم على الدخول في الإسلام بشكل دائم مهما كانت الظروف. فإذا ما كان هذا الدواء ينفع في سياقات تاريخية معينة؛ فإنه لا ينفع في ظروف أخرى؛ كحياتنا المعاصرة. وبالتالي كيف يصح الإطلاق وتعميم الوسائل على حالات الواقع المتجدد والمتغاير بلا نهاية أو حدود؟! فمثلاً ماذا نتوقع أن تكون النتيجة فيما لو أُجري مثل هذا التمايز بين المسلمين وأهل الذمة في أوطاننا الحالية، مع شيوع فكرة الأوطان والمساواة والحريات العامة وأخذ سائر الظروف الإجتماعية والسياسية بعين الإعتبار؟!

بقي أن نقول بأن فكرة التمايز طبقاً للحدود العقائدية هي فكرة مبررة تماماً في زمن الرسالة وما قبلها وبعدها. فهي إحدى الأساليب الإجرائية التي حافظت على تماسك الجماعة وديمومتها، لكنها ليست الاسلوب الوحيد للتعامل والتطبيق. فمثلاً كان التمايز القبلي هو التمايز الشائع في الوسط العربي وعدد من الأوساط قبل عصر الرسالة. وحالياً نجد فكرة الأوطان بحدودها الجغرافية هي الاسلوب المتبع للحفاظ على وحدة الجماعة. وهو اسلوب لا بد أن يقوم بدوره على التمايز في الحقوق والواجبات بين ذلك الذي ينتمي إلى البلد وغيره من الغرباء الوافدين. مع هذا فليس بوسعنا الادعاء بأن هذا الاسلوب أو ما سبقه هو أفضل الأساليب المتبعة، فذلك يتوقف على الإعتبارات التاريخية وما يلزمها من إمكانات وقدرات. وكما هو ملاحظ فإن مثل هذه الأساليب تظل تمايزية ليس بمقدورها إنهاء التغاير والقضاء عليه. وحتى لو قدرنا إمكانية أن تكون هناك وحدة بشرية تتجاوز فكرة الأوطان كما يتمناها الكثير منّا؛ فلا بد من أن تحصل جملة من التمايزات تفرضها تغايرات الظروف والإعتبارات الثقافية من منطقة لأخرى.

مع هذا فقد عرفنا بأن الخطاب الديني لم يتخذ أساليب (ممطلقة) للتمايز. فالممارسة المطروحة، كما في الجزية والصغار، وجدتْ لها خرقاً من ذات التشريع، وذلك عند لحاظ الولاء وعدم العداء من الطوائف الدينية الأخرى، مثلما دلّت عليه حالات انخراط الذميين في صفوف الجيش الإسلامي. فهي ظاهرة دالة على الولاء والنصرة والمودة، لذلك قوبلت برفع الجزية والصغار.

وتشير هذه الدلالة إلى أنه من غير الممكن إتخاذ حكم الجزية والصغار بمعزل عن فهم الواقع. بمعنى أن هذين الحكمين قد تشكلا بفعل طبيعة ما كان عليه السياق الظرفي أو التاريخي. وبالتالي فلا ضرورة تقتضي الحفاظ عليهما أو على الجمع بينهما. فلا مانع - إذاً - من أن يُكتفى بالجزية كضريبة قبال الحماية من غير صغار؛ إن قدّرنا معنى الأخير بأنه شكل من الإذلال كما هو الظاهر، وذلك عند ضمان الولاء وعدم العدوان.

وبعبارة أخرى، أننا لو اعتبرنا الجزية تفرض تبعاً للحماية التي تقوم بها الدولة الإسلامية لرعاياها من الذميين كما اتضح لنا من قبل؛ فإن الأمر مع الصغار شيء مختلف. إذ ورد الحكم الأخير كردّ على ما بدأه أهل الكتاب من محاربة وتربص وعداء، كالذي تشير إليه العديد من نصوص الخطاب فضلاً عن السيرة.

فقد نزلت الآية في الظرف الخاص بغزوة تبوك مع الروم، وهم الذين رفعوا شعار المسيحية من غير الإلتزام بها. صحيح أنه ورد في الآية تنديد بالصفات العقائدية التي التزم بها أهل الكتاب، لكن من الواضح أنه لا يراد من ذلك ذات العقائد، بدلالة أن أهل الشرك أخس حالاً منهم ومع هذا فإن مقاتلتهم كانت لأغراض وقائية أو دفاعية كما عرفنا، فكيف الحال مع أهل الكتاب الذين تربطهم بالمؤمنين وشائج عقائدية من الإيمان بالتوحيد – إجمالاً - والرسل واليوم الآخر؟

لهذا قدّم المفسرون وجهين من الجواب عن علة كون الآية وصفتهم بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، كما يطلعنا على ذلك الماوردي: أحدهما هو أنهم وإن أقروا بالله وباليوم الآخر إلا أنهم لم يقروا بحقوقه، فكانوا كمن لم يقر به. والآخر هو لأجل الكفر بنعمته تعالى فوصفهم بذلك[63]. أما وصفهم بأنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ففيه وجهان كما أشار الماوردي: أحدهما ما أمر الله تعالى بنسخه من شرائعهم. والآخر ما أحله لهم وحرمه عليهم بحسب ما جاء في كتبهم. وكذا فإن وصفهم بأنهم لا يدينون دين الحق، والمقصود بالحق هنا هو الله، ففي الآية وجهان: الأول العمل بما في التوراة والانجيل، والثاني الدخول في دين الإسلام[64].

فقد يفهم مما سبق، أن الآية كانت بصدد إظهار تناقض ما عليه أهل الكتاب، أي التناقض بين إعتقاداتهم التوحيدية من جانب، وبين ممارساتهم السلوكية من جانب آخر. فقد يُقصد بعدم الإيمان بالله واليوم الآخر هو الإيمان الذي يمنعهم من العدوان والإعتداء تبعاً للخوف من حسابه وعقابه. وكذا حيث وصفتهم الآية بأنهم لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله، وهو أنهم لم يحرموا الإعتداء بمثل ما عليه المسيحية من الصفاء؛ كإتخاذها مبدأ (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الايسر)، وليس القتال مشروعاً في ملتهم. كما أن الآية وصفتهم بأنهم لا يدينون بدين الحق، وذلك بإعتبارهم لا يدينون بدين الله من الإستقامة والإعتدال وعدم الإعتداء كالذي سلكته الديانات التوحيدية. لذا فالاية بصدد الكشف عن عورة أولئك الذين ادعوا الإيمان بالمسيحية وهم غارقون بالوثنية والجاهلية، فحالهم حال أحفادهم من الصليبيين الذين رفعوا شعار الحرب المقدسة ظلماً وزوراً، خلافاً لوصايا دينهم. أما ما يخص اليهود فالأمر أوضح من أن يدوّن في مقال، لشدة ما ظهر منهم من عداء ونكث وتولي للمشركين، فكانوا بذلك على خلاف ما جاء عندهم في التوراة، كما أشارت إليه الكثير من الآيات فضلاً عن السيرة النبوية[65].

لهذا ظهرت بعض الآثار من النصوص تحذر من توليهم والتودد اليهم، كما هو الحال في قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين، فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين))[66]، وقوله: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين))[67]، وقوله: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون اليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم..))[68].

ولا شك أن هذا التحذير يدل على مواصفات الشر التي أبدتها جماعات أهل الكتاب والمشركين ضد دين الحق وأهله، كالذي يشير إليه ما جاء من ذكر لأسباب نزول تلك الآيات على ما نقلته التفاسير الإسلامية[69]. لهذا فهو لا يعد حكماً مطلقاً غير قابل للإنفتاح كما حاول النظام المعياري تصويره، وذلك بتحويل ظاهر الإطلاق اللفظي للنص إلى شكل مغلق من المعنى بحسب النهج الماهوي، كالذي ذكره القرافي محاولاً الجمع بين ما ورد من النص في منعه للموالاة والمودة للكافرين، ومنهم أهل الكتاب، وبين ما دلّ عليه نص آخر يأمر ببرّهم، مثل قوله تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم)).. وقال النبي: استوصوا بأهل الذمة خيراً. واعتبر أن الجمع بين مثل هذه النصوص هو أن الإحسان لأهل الذمة مطلوب، وأن التودد والموالاة منهي عنهما، أي أن نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره دالاً على مودة القلوب[70].

وهو أمر غير حاسم لدى علماء السلف، إذ جاء في قوله تعالى: ((لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم))[71]، وقيل فيه ثلاثة أوجه: أحدها من حارب الله ورسوله، كما قاله قتادة والفراء. والثاني من خالف الله ورسوله كما قاله الكلبي. والثالث من عادى الله ورسوله كما قاله مقاتل[72]. كما ورد في آية الممتحنة قوله تعالى: ((عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة))[73]، أي يجعل محبة بعد البغضة، ومودة بعد النفرة، وإلفة بعد الفرقة[74]، وورد أن المقصود بهم قولان: أحدهما أهل مكة حين أسلموا عام الفتح فكانت هي المودة التي صارت بينهم وبين المسلمين، كما قاله إبن زيد. والثاني أنه إسلام أبي سفيان. وفي مودته التي صارت منه قولان: أحدهما تزويج النبي (ص) بأم حبيبة بنت أبي سفيان فكانت هذه مودة بينه وبين أبي سفيان، كما قاله مقاتل. والثاني أن النبي (ص) استعمل أبا سفيان على بعض اليمن فلما قبض رسول الله أقبل فلقى ذا الحمار مرتداً، فقاتله فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين، فكانت هذه المودة، كما قاله الزهري[75].

فكما نلاحظ أن هذا الخلاف في التفسير يجعل من الحكم الخاص بعدم المودة لأهل الكتاب والمشركين أمراً غير حاسم[76]. مع أن بعض الآيات لا تبدي عتاباً أو نهياً للحب الذي يكنه المؤمنون لبعض الكافرين والمنافقين رغم كيدهم وبغضهم، ومن ذلك قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بِطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً، ودّوا ما عنتم. قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفى صدورهم أكبر، قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. هاءَنتم أُولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله، وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور))[77]، وهي من الآيات التي ذكر العديد من المفسرين أنها نزلت في اليهود المجاورين للمسلمين في الحجاز[78]. فأي عظمة وتسامح أبلغ من هذا؟!

بل ماذا نقول فيما تصرح به آية (آل عمران/ 67) من حب الله للمتقين وهي بصدد الحديث عن أمانة بعض من أهل الكتاب، حيث يقول عزّ من قائل: ((ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار يؤده اليك ومنهم من أن تأمنه بدينار لا يؤده اليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين))[79]؟! وماذا نقول في تحليل القرآن للزواج من الكتابيات كما في قوله تعالى: ((اليوم أحلّ لكم الطّيّبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهنّ أجورهنّ محصنين غير مسافحين ولا متّخذي أخدان))[80]، مع أن من شأن الزواج أن تسود فيه المودة والرحمة بصريح قوله تعالى: ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون))[81]؟!

هكذا يتضح مما سبق بأن مورد النفرة التي دلت عليها بعض النصوص كان بصدد ما جاء من جحود وعداء ومحاربة للمسلمين من قبل المشركين وأهل الكتاب، وهو أمر يختلف فيه الحال من وضع إلى آخر، ومن واقع إلى غيره.

ونفس الأمر ينطبق على الموالاة. فلعل من الواضح أن ما تنهى عنه الآيات السابقة من الموالاة إنما هو لإعتبارات العداء لا لمجرد الإعتقاد، بدلالة ما ورد من نص بعد آية البرّ، وذلك بقوله تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين... إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تَوَّالوهم، ومن تولَّهم فأولئك هم الظالمون))[82]. فالأمر بعدم الموالاة جاء مخصوصاً بالفئة الثانية دون الأولى. أما من حيث السيرة فمن المسلّم به أن النبي قد اعتمد على بعض من المشركين الموثوقين في نقل الأخبار، لذلك أجاز بعض العلماء، ومنهم إبن القيم، الإستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد عند الحاجة، لأن فيه من المصلحة بكونه اقرب إلى الإختلاط بالعدو، وأخذ أخبارهم[83].

أخيراً نتساءل: هل يُعقل وجداناً القول بعدم جواز الإستعانة ببعض من أهل الكتاب عند الشروع بإزالة حاكم طاغية مسلم، إذا ما احتيج اليهم وأبدوا أمانتهم وصدقهم في الإعانة؟! كما هل يعقل أن يقال أنه لا يجوز اللجوء والإحتماء بفريق من أهل الكتاب رغم مسيس الحاجة لإنقاذ جماعة مؤمنة من بطش سلطان مسلم جائر[84]؟!

***

ننتهي مما سبق إلى عدد من النتائج كالتالي:

 1ـ إن قانون الجزية ليس إلزامياً، حيث أنه في عصر النص لم يكن ملزماً فكيف الحال بما بعده من العصور.

 2ـ لو كان فهمنا للجزية هي أنها ضريبة بدل النصرة والحماية، فإن قوانين المواطنة الحالية التي تقرها الدول يمكن أن تكون عوضاً عنها.

 3ـ إن التمايز بحسب الإعتبارات الدينية في المجتمعات وقت عصر النص كان عرفاً سائداً تترتب عليه الكثير من النتائج، في حين أصبح التمايز في الوقت الحاضر قائماً على المواطنة، حيث يترتب عليها هي الأخرى الكثير من النتائج، وبحسب الإعتبارات الحالية يصبح التعويل على التمايز الديني اسلوباً لا يتسق وطبيعة التطورات التي أفرزها الواقع الحديث، فهو يلقي بكثير من المشاكل الإجتماعية والسياسية ولا يخدم الفكرة الدينية ومقاصدها. وربما أول قرار بهذا الشأن هو قانون الجنسية العثماني (عام 1869م)، والذي ينصّ على أن المسلم غير العثماني يعد أجنبياً وفق للبعد الوطني.

 4ـ إن ما يفسر حكم الجزية والصغار، مع غيره من الأحكام المعارضة، هو تمايزات الواقع وما يتحكم بها من مقاصد الشرع وعلى رأسها مبدأ العدل. وبالتالي تتمثل المحاور الرئيسية للتعامل مع الأحكام بكل من النص والواقع والمقاصد، وهو الأمر الذي يستهدفه النهج الوقائعي خلافاً لنظيره الماهوي. فرغم تعدد الفهم الذي تقيمه الدائرة البيانية حول التعامل مع أهل الكتاب طبقاً لقانون الجزية ومبدأ الصغار؛ إلا أنها غارقة في المعنى الماهوي الذي يجعل من دلالة النص مغلقة ومطلقة لا تقبل الفك ولا الإنفتاح. فليس في الأفق ما يعوّل عليه من دلالة أخرى، كتلك المستمدة من الواقع مثلاً.

مع هذا فقد تجاوز العصر الحديث تلك الأحكام المتبناة من قبل النظام المعياري أو الدائرة البيانية، لضغط الحاجات الزمنية والواقع، بل أخذت التصورات الحديثة تشيد بالمواطنة والمساواة بين المسلم وغيره، لا سيما وقد أصبح المجتمع ليس دينياً خالصاً كما في السابق، فلروح العصر أثرها في التفكير كما أشرنا من قبل، الأمر الذي جعل الكثير يتحرك نحو إعادة النظر والتخفيف من الحدة التي رسمها ذلك النظام، والتي أصبحت اليوم من أعظم المعيقات التي تواجه حركة البناء الإجتماعي.

وسبق للآلوسي أن ذكر الآراء الفقهية حول الصغار ورآها تؤكد على الإذلال والإهانة، ثم قال بالحرف الواحد: ‹‹وكل الأقوال لم نر اليوم لها أثراً، لأن أهل الذمة فيه قد امتازوا على المسلمين والأمر لله عز وجل. حتى أنه قبل منهم ارسال الجزية على يد نائب منهم، وأصح الروايات أنه لا يقبل ذلك منهم، بل يكلفون أن يأتوا بها بأنفسهم مشاة غير راكبين، وكل ذلك من ضعف الإسلام...››[85].

كما سبق للحكومة العثمانية أن سحبت قرارها حول عقد الذمة وإيجاب الجزية، خلافاً لصراحة النص القرآني وقطعيته. ففي (عام 1839م) اصدر السلطان عبد الحميد أول بيان للتسوية بين جميع الخاضعين إلى حكم السلطنة من أتباع الأديان، وفي أثناء حرب القرم (عام 1856م) أصدر السلطان بياناً إضافياً أكد فيه عزمه على تحقيق السعادة لأجل الجميع بتكريس الضمانات الممنوحة بموجب القرارات السابقة وجميع الامتيازات الروحية للطوائف غير المسلمة. لذلك منع التفرقة والتمايز في الدين واللغة والعرق لكل من: توزيع وظائف الدولة والالتحاق بالمدارس والخدمة العسكرية ودفع الضرائب[86]. وقد نحت مختلف دساتير الدول الإسلامية في عصرنا الحالي إلى الإقرار بهذه المساواة طبقاً لمفهوم المواطنة التي حلّت محل التمايزات الدينية، بما فيها تلك التي سعت إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، مثل ايران والسودان.

وظهرت الكثير من الكتابات التي تبرر لهذا المنطق الجديد، رغم خلوها من التنظير الخاص بعلاقة الخطاب بالواقع. وأصبح من الطبيعي أن يتخلى المحدثون عن منطق (الصغار) المتضمن للإهانة والتحقير كما تنص علية آية الجزية وتمسك به السلف طيلة القرون الماضية. كما من الطبيعي أن نجد جملة من المفكرين يبحثون عن المبررات التي تلغي التمايز بين المسلمين وغيرهم. فبعض المفكرين يبحث عن الوثائق التي تثبت المساواة والمواطنة بين المسلم وغيره من أهل الكتاب[87]، وبعض آخر يرى أن عدم المساواة بين المسلم وغيره في حقوق المواطنة ليست من جوهر الدين وضروراته، بل هي مسألة إجتهادية[88]. كما يرى بعض ثالث أن الجزية مجرد مقدار من المال يصالح عليها أهل الكتاب في بلدهم، فهي بالتالي ليست أكثر من ضريبة المواطنة يؤدونها معترفين بسيادة المسلمين وبدخولهم تحت سلطة دولة الإسلام[89]. كما يشيد بعض رابع بالمواطنة والمساواة في الحقوق مع المسيحيين في الوقت الحاضر[90].

ومن المفسرين المعاصرين من سعى إلى توظيف بعض المعاني اللغوية للصغار ليخرج بنتيجة ليس فيها ما يقتضي الإذلال والتحقير، كالذي لجأ إليه العلامة الطباطبائي في (الميزان)؛ خدمة للحاضر وتبريراً للواقع الحديث، وذلك على خلاف ما استقر عليه علماء كل من الإتجاهين السني والشيعي. فقد قام بتفسير آية الصغار ((وهم صاغرون)) طبقاً للمعنى اللغوي وبعيداً عن السياق الدلالي، فنقل ما يقوله الراغب الاصفهاني: يقال صِغَر صِغراً يعني فيما هو ضد الكبير، لكن صَغَر صغاراً فإن له معنى في الذلة. من هنا اعتبر الطباطبائي أن ظاهر الآية هو المعنى الأول ‹‹لا أهانتهم والسخرية بهم من جانب المسلمين أو أولياء الحكومة الدينية، فإن هذا مما لا يحتمله السكينة والوقار الإسلامي››. وبالتالي فمعنى صغار أهل الذمة هو ‹‹خضوعهم للسنة الإسلامية .. فلا يكافؤوا المسلمين ولا يبارزوهم بشخصية مستقلة حرة..››[91]. وقريب من ذلك ما رآه الشيخ المنتظري، حيث اعتبر أن ما مذكور من فتاوى وتفاسير تتضمن الإهانة لأهل الذمة هو مما لا يناسب ثقافة الإسلام، ولا كان معروفاً عن النبي والأئمة[92].

ويلاحظ أن ما أورده الطباطبائي يقترب من المعنى الذي أراده إبن القيم كما عرفنا، سوى أن إبن القيم فسّر الصغار بما لا يخرج عن معنى الإذلال والإستخفاف، والذي تجاهله المرحوم صبحي الصالح في مقدمته وتعليقه مكتفياً بما نصّ عليه إبن القيم من معنى لا يفضي إلى امتهان كرامة الذمي. فمثلا أنه علّق على كلام إبن القيم الذي سبق ذكره فقال: ‹‹رحم الله إبن القيم، فقد أدرك بثاقب فكره وفهمه الصحيح للإسلام، أن امتهان الذمي ينافي سماحة هذا الدين؛ فلم يفسّر الصغار إلا بإلتزام أحكام الله، وصرح بأن كثيراً من أقوال الناس في تفسير الصغار هو مما لا دليل عليه››[93].

مع ذلك فمثلما لا يمكن أن نستصحب حكم النظام المعياري وهو يحاول أن ينزع على الخطاب الديني طابعاً ‹‹منطقياً›› صارماً بحسب النهج الماهوي؛ فكذلك لسنا على استعداد لأن ننجر نحو التبريرات التي أفرزتها الظروف الحالية والتي تضيف هي الأخرى أحكاماً مطلقة في قبال الأحكام المطلقة للنظام المعياري. فلا يمكن فهم الموقف إلا بفهم الخطاب والواقع معاً. فتقصير النظام المعياري يتمثل بتجاهله لإعتبارات الواقع ودلالات المقاصد التي تحيط بالنص عموماً وخصوصاً، هنا وهناك. بينما تقصير أغلب التيارات الجديدة التي أفرزها التطور الحضاري الحديث هو أنها لم تنشغل بفهم الخطاب من ذاته، إذ لجأت بحكم تأثرها بالواقع المعاش إلى إسقاط التبريرات وفق ما صادفته من حاجات زمنية ملحة.

 5ـ تبعاً لما مرّ معنا يعتبر الكفر، من حيث كونه ماهية كلية، مصدراً قد قصده الشرع بالمحاربة المطلقة. لكن حيث أنه يتحد ويتلبس بعناوين أخرى على أرض الواقع، لذا تلونت المعاملة الشرعية معه وتباينت تبعاً لعناوين الإتحاد. فقد يتلبس بالعدوان والتحريض، أو بعدمهما، كما قد يتحد بالنسوة والشيخوخة، أو الأبوة والأُمومة، وكل ذلك يبعث على مغايرة التعامل، كالذي لجأ إليه الخطاب الديني، ومن ذلك قوله تعالى: ((وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً))[94].

ويمكن أن يقال الأمر نفسه في التمييز بين الكفر المتلبس بالإستغلال والفساد وسائر ضروب الظلم، وبين ذلك الساكن الذي لا يؤدي مثل هذا الدور، فشتان بين رؤوس الكفر من الطغاة الجبابرة، وبين غيرهم من المستضعفين من الناس. هكذا يلاحظ أن تعامل الخطاب مع الماهيات المجردة هو تعامل ثابت لا يتغير، لكنه في الوقت ذاته يراعي ملابساتها الخارجية، فوقائع الماهيات او المصاديق ليست معزولة عن الوقائع الأخرى التي تتحد معها وتجعلها مورداً للمواقف المختلفة بحسب ما عليها من تغايرات. وهو ما نعنيه بالظاهرة النسبية لتعامل الخطاب الديني، مما يؤكد خطأ التصور التقليدي الذي ‹‹يمطلق›› الظرف ليطبّق عليه ظاهرة القياس أو ‹‹الإستصحاب›› التي تثبت عين الحكم بإطلاقه وإغلاقه.

 

 



[1]           فتح القدير، ج2، ص352

[2]           التوبة /29.

[3]           ذكر بعض المفسرين أن حرف (من) قد جاء في القرآن الكريم على ثمانية أوجه:             1ـ أن تكون صلة: ((ربي قد آتيتني من الملك)).. ((وما كان معه من إله)).. ((قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)).             2ـ بمعنى الباء: ((يحفظونه من أمر الله)).. ((يلقي الروح من أمره)).             3ـ بمعنى في: ((فآتوهن من حيث أمركم الله)).             4ـ بمعنى على: ((ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا)).             5ـ بمعنى التبعيض: ((انفقوا من طيبات..)).             6ـ بمعنى عن: ((اذهبوا فتحسسوا من يوسف واخيه)).. ((ذلك ما كنت منه تحيد)).            7ـ لبيان الجنس: ((من بقلها وقثائها)).. ((وننزل من القرآن ما هو شفاء..)).. ((شرع لكم من الدين...)).             8ـ بمعنى الظرف: ((وانزلنا من المعصرات...)).            (ابن الجوزي: نزهة الأعين، دراسة وتحقيق محمد عبد الكريم الراضي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1405هـ ـ 1985م، ص567ـ587).

[4]           روح المعاني، ج10، ص87.

[5]           الجامع للقرطبي، ج8، ص110.

[6]           انظر: تفسير إبن كثير، ج2، ص301. والجامع للقرطبي، ج8، ص110. وأحكام أهل الذمة، ج1، ص3. والام، ج4، ص182ـ183. ونيل المرام، ص402ـ 403. ونيل الأوطار، ج8، ص53 و214. وتفسير أبي سعود العمادي، دار الفكر، ج2، ص400. والماوردي: الأحكام السلطانية والولايات الدينية، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ ـ 1985م، ص143. وجواهر الكلام، ج21، ص234.

[7]           المفيد: المقنعة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم، الطبعة الثانية، 1410هـ، ص207. وأبو جعفر الطوسي: تهذيب الأحكام، حققه وعلق عليه حسن الموسوي الخرسان، دار الكتب الإسلامية، طهران، ج4، ص113، وج6، ص158ـ159. والمبسوط للطوسي، ج2، ص36. وجواهر الكلام، ج21، ص234.

[8]           أحكام أهل الذمة، ج1، ص23. كذلك: السيوطي: الاكليل في استنباط الدليل، دار الكتب العلمية، بيروت، ص117. وتفسير أبي سعود، ج2، ص400.

[9]           حسين علي منتظري: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية. نشر المركز العالمي للدراسات الإسلامية، ايران، الطبعة الثانية، 1409هـ، ج3، ص469.

[10]          تفسير إبن كثير،ج2، ص301. وأحكام أهل الذمة ج1، ص191ـ 192. والزمخشري: الكشاف، دار المعرفة ببيروت، ج2، ص184.

[11]          إذ قال في تفسير الآية: ‹‹اي ألزمهم الله الذلة والصغار اينما كانوا فلا يؤمنون (الا بحبل من الله)، أي بذمة من الله وهو عقد الذمة لهم، وضرب الجزية عليهم والزمهم أحكام الملة، (وحبل من الناس) أي أمان منهم لهم كما في المهان والمعاهد والاسير إذا أمنه واحد من المسلمين ولو امرأة، وكذا عبد على أحد قولي العلماء، قال إبن عباس (الا بحبل من الله وحبل من الناس) أي بعهد من الله وعهد من الناس، وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي والربيع بن انس. وقوله (وباؤا بغضب من الله) أي الزموا. فالتزموا بغضب من الله وهم يستحقونه، (وضربت عليهم المسكنة) أي الزموها قدراً وشرعاً، ولهذا قال (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق) أي إنما حملهم على ذلك الكبر والبغي والحسد فأعقبهم ذلك الذلة والصغار والمسكنة أبداً متصلاً بذلة الآخرة›› (تفسير إبن كثير، ج1، ص36). وحديثاً حاول المرحوم عبد الله دراز (المتوفى سنة 1958) أن يجعل من آية ضرب الذلة على أهل الكتاب وما شاكلها تفيد معنى الاندحار والتشرذم والمقهورية إلى الابد، فخصصها باليهود تبعاً لسياق بعض الآيات ومنها الآية التي نحن بصددها، مع أن قيام الدولة الصهيونية هو خلاف ما صوّره من مثل تلك الصفات الإطلاقية، لا سيما بعد هزيمة حزيران (عام 1967) وما آل إليه الامر حتى يومنا هذا. فهو يقول: ‹‹فيا عجباً لهذه الآيات! هل كانت مؤلفة من حروف وكلمات؟ أم كانت اغلالاً وضعت في اعناقهم إلى الابد، واصفاداً شدت بها ايديهم فلا فكاك؟ ألا تراهم منذ صدرت عليهم هذه الأحكام اشتاتاً في كل واد، اذلاء في كل ناد لم تقم لهم في عصر من العصور دولة ولم تجمعهم قط بلدة. وهم اليوم على الرغم من تضخم ثروتهم المالية إلى ما يقرب من نصف الثروة العالمية لا يزالون مشردين ممزقين عاجزين عن أن يقيموا لأنفسهم دويلة كأصغر الدويلات. بل تراهم في بلاد الغرب المسيحية يسامون انواع الخسف والنكال، ثم تكون عاقبتهم الجلاء عنها مطرودين. وبلاد الإسلام التي هي ارحب أرض الله صدراً إنما تقبلهم رعية محكومين لا سادة حاكمين. وهل أتاك آخر انبائهم؟ لقد زينت الان لهم احلامهم أن يتخذوا من (الأرض المقدسة) وطنا قومياً تأوي إليه جالياتهم من أقطار الأرض، حتى إذا ما تألف منهم هنالك شعب ملتئم الشمل وطال عليهم الامد فلم يزعجهم احد، سعوا إلى رفع هذا العار التاريخي عنهم باعادة ملكهم القديم في تلك البلاد. وعلى برق هذا الأمل أخذ افواج منهم يهاجرون إليها زرافات ووحداناً، وينزلون بها خفافاً أو ثقالاً فهل استطاعوا أن يتقدموا..؟ كلا.. أما ظنهم الذي يظنون وهو أنهم بمزاحمتهم للسكان في أرضهم وديارهم يمهدون لما يحلمون به من مزاحمتهم بعد في ملكهم وسلطانهم فذلك مما دونه خرط القتاد. يريدون أن يبدلوا كلام الله، ولا مبدل لكلماته ((أم لهم نصيب من الملك؟ فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً)) النساء/53، والله من ورائهم محيط. فانظر إلى عجيب شأن النبوءات القرآنية كيف تقتحم حجب المستقبل قريباً وبعيداً، وتتحكم في طبيعة الحوادث توقيتاً وتأبيداً، وكيف يكون الدهر مصداقاً لها فيما قلّ وكثر، وفيما قرب وبعد؟›› (محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم، دار القلم، الكويت، الطبعة الخامسة، 1400هـ ـ 1980م، ص52ـ53).

[12]          يلاحظ أنه على الرغم من أن أغلب فتاوى الفقهاء تمنع من انشاء الكنائس والمعابد في المناطق الإسلامية، لا سيما المفتوحة بالقوة، إلا أن التاريخ الإسلامي يشهد على إحداث الكثير منها منذ القرن الأول الهجري وما بعده من القرون، مثلما ذكر المؤرخ المقريزي العديد منها في كتابه الخطط (انظر: المقريزي: الخطط، مطبعة النيل، مصر، 1326هـ، ج4، ص395 وما بعدها. وانظر أيضاً: توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، ترجمة وتعلق حسن ابراهيم حسين وعبد المجيد عابدين واسماعيل النحراوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1957م، ص84 وما بعدها). لكن عُرف عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يعامل أمر الكنائس معاملة متغايرة بحسب المصلحة. فقد روي أنه كتب إلى نائبه عن اليمن أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين فهدمها بصنعاء وغيرها، وروي عنه أيضاً أنه كتب إلى عماله بأن لا يهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار. وهو الرأي الذي استقر عليه إبن القيم من حيث أن الامر يعود إلى ولي الأمر بحسب ما تقتضيه المصلحة (أحكام أهل الذمة، ج2، ص685 و690 و698).

[13]          نجم الدين الحلي: شرائع الإسلام، مطبعة الاداب، النجف، الطبعة الأولى، 1389هـ ـ 1969م، ج1، ص330 و331ـ332. وانظر مثل ذلك: المبسوط، ج2، ص44 وما بعدها. والجواهر، ج21، ص247 و207 و297.

[14]          تفسير الماوردي، ج2، ص128ـ129.

[15]          الأحكام السلطانية، ص182.

[16]          الام، ج4، ص186.

[17]          المبسوط، ج2، ص38. والجواهر، ج21، ص247.

[18]          دراسات في ولاية الفقيه، ج3، ص469.

[19]          أحكام أهل الذمة، ج1، ص23. وجامع البيان، ج10، ص109. وأحكام القرآن للهراسي، ج3ـ4، ص190. وفتح القدير، ج2، ص352. وجواهر الكلام، ج21، ص247.

[20]          أحكام أهل الذمة ج1، ص23ـ25.

[21]          أحكام أهل الذمة، ج1، ص17و25.

[22]          مثلاً يقول إبن القيم حول علة فرض الغيار على أهل الذمة في اللباس: ‹‹لباس أهل الذمة نوعان: نوع منعوا منه لشرفه، ونوع منعوا منه ليتميزوا عن المسلمين›› (أحكام أهل الذمة، ص674).

[23]          يعود تاريخ الغيار إلى عصر الاشوريين، حيث ‹‹كانوا يعلقون في رقاب العبيد قطعة من الفخار اسطوانية مكتوباً عليها اسم العبد واسم سيده. وكان اليهود في عهد التلمود يعلّمون عبيدهم بالختم على الرقبة أو الثوب. وفي عام (500م) كان حاكم مدينة الرها يعلق إلى رقبة الفقراء الذين يأخدون رطل خبز كل يوم قطعة من الرصاص مختومة››. (آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، تعريب محمد عبد الهادي أبو ريدة، الدار التونسية للنشر، 1405هـ ـ 1986م، ص91). كما من المعلوم أن البيزنطيين هم الذين إبتدعوا اجراء ختم الرقاب (قاسم عبده قاسم: أهل الذمة في مصر العصور الوسطى، دار المعارف، الطبعة الثانية، 1997م، ص33).

[24]          ومن ذلك ما ذكره إبن القيم من منع أهل الذمة من لبس العمائم لأنها تيجان العرب، ومنعهم من لبس القلنسوة لأن لبسها لم يزل عادة الأكابر من العلماء والفقهاء والأشراف، ومنعهم من إطلاق لحاهم لأن التلحي من آباد الدهر زي العرب الغر الميامين (أحكام أهل الذمة، ص378 وما بعدها. كذلك: الخراج، ص130. ومجموع فتاوى إبن تيمية، ج28، ص652).

[25]          أهل الذمة في مصر العصور الوسطى، ص33.

[26]          الأحكام السلطانية، ص145.

[27]          فمثلاً في سنة (700هـ ـ1301م) اصدر السلطان الناصر محمد (خلال سلطنته الثانية) مرسومه الشهير الذي جدده السلطان الصالح سنة (755هـ)، وقد حفظ القلقشندي هذه الوثيقة التي الزمت جميع طوائف اليهود والنصارى والسامرة بالديار المصرية والبلاد الإسلامية بحكم عمر بن الخطاب في الغيار. إذ جاء في هذه الوثيقة أن السبب في اصدار المرسوم هو أن أهل الذمة ـ يهوداً ونصارى ـ ‹‹لما طال عليهم الأمر، تمادوا على الاغترار وتعادوا إلى الضر والاضرار، وتدرجوا بالكبر والاستكبار إلى أن أظهروا التزين أعظم إظهار وخرجوا عن المعهود في تحسين الزنار والشعار، وعتوا في البلاد والأقطار، وأتوا من الفساد بأمور لا تطاق كبار...››، وأكد المقريزي ذلك بقوله أنهم ‹‹قد تزايد ترفهم بالقاهرة ومصر وتفننوا في ركوب الخيل المسومة، والبغلات الرائعة بالحلى الفاخرة، ولبسوا الثياب السرية، وولوا الأعمال الجليلة...›› مما أثار حنق المعاصرين في مجتمع طبقي ربط مظهر الفرد بالطبقة التي ينتمي إليها. وقد صدر المرسوم بعد أن تمّ الحصول على فتاوى الفقهاء، ونفذت الأوامر الواردة فيه فاكتسب ‹‹شهرة واسعة النطاق رغم أنه لم يكن الوحيد من نوعه، كما أنه لم يكن أسوأ تلك المراسيم التي كانت لهجتها دائماً أقوى من تطبيقاتها ومن ثم كانت تختفي تدريجياً في زوايا النسيان بدليل ما ورد في كتابات المعاصرين من أنها لم تكن ملتزمة في أحيان كثيرة. وفي سنة (709هـ ـ1310م) خلال سلطنة الناصر محمد الثالثة، حاول الوزير إبن الخليلي تخفيف القيود التي فرضها مرسوم سنة (700هـ) لقاء مبلغ من المال التزم به أهل الذمة للديوان علاوة على الجوالي، ولكن معارضة الشيخ تقي الدين بن تيمية حالت دون ذلك›› (اهل الذمة في مصر العصور الوسطى، ص57ـ67).

[28]          فمثلاً يقول البطريق ديونيسيون: إنه كان من التجارب المؤلمة لحصر أهل الذمة ومعرفة عددهم أن يرسل مع عمال الضرائب ختامون يختمون كل واحد باسم بلده واسم قريته، فكانوا يطبعون على يده اليمنى اسم البلد وعلى اليسرى اسم العراق، ويعلقون على رقبة كل رجل حلقتين على إحداهما اسم البلد وعلى الأخرى اسم القسم، وكانوا يقيدون اسم الشخص واوصافه الجسمية ومسكنه. وكان ينشأ عن هذا إضطراب كبير، لأنه كان يؤدي إلى القبض على كثير من الغرباء، فيذكرون اسماء مساكن لهم، فتقيد، ولا تكون لهم هذه المساكن في الحقيقة. ولو أن هذا النظام اتبع إلى آخر ما يؤدي إليه لأحدث من الفساد أكثر من كل ما تقدمه من الأنظمة، وإذا وجد العامل أن ما لديه من عمل لا يكفيه فإنه يذهب إلى أي جهة تصادفه، ويقبض على الغادين والرائحين، وقد يطوف بالمكان الواحد أكثر من عشرين مرة، ولا يهدأ له بال حتى يصل إلى تقييد جميع السكان بحيث لا يفلت منهم أحد (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ج1، ص91ـ92).

[29]          لذلك يعجب البعض ويأسف من استخدام أهل الذمة فيقول: ‹‹.. العجيب أنه لا يعرف في اقليم من الاقاليم من الشرق إلى الغرب توليتهم إلا في اقليم مصر خاصة، فيا لله العجب ما بال هذا الاقليم دون سائر الاقاليم مع أنه أعظم اقاليم الإسلام واوسعها عالماً واكثرها علماً...›› (اهل الذمة في مصر، ص84). كما يقول المستشرق آدم متز بدوره: ‹‹ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال، وكان قدمهم راسخاً في الصنائع التي تدر الارباح الوافرة، فكانوا صيارفة وتجاراً وأصحاب ضياع واطباء. بل أن أهل الذمة نظموا أنفسهم، بحيث كان معظم الصيارفة الجهابذة في الشام مثلاً يهوداً. على حين كان أكثر الاطباء والكتبة نصارى..››. ويتابع قوله: ‹‹من الأمور التي نعجب لها كثرة عدد العمال والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية، فكان النصارى هم الذين يحكمون المسلمين في بلاد الإسلام، والشكوى من تحكيم أهل الذمة في ابشار المسلمين واموالهم شكوى قديمة...›› (الحضارة الإسلامية، ج1، ص80 و97).

[30]          أهل الذمة في مصر، ص85. وقد وردت أبيات من الشعر في بعض العهود تعبر عن مدى الشكوى والانزعاج الذين عجّا بالناس نتيجة تغلغل اليهود والنصارى في مختلف مرافق الحياة السياسية. فمن هذه الأبيات نذكر:            يهود هذا الزمان قد بلغوا                   غاية آمالهم وما ملكوا            العز فيهم والملك عندهم                    ومنهم المستشار والملك            يا أهل مصر إني نصحت لكم تهودوا قد تهود الفلك            وكتب شاعر آخر:            إذا حكم النصارى في الفروج وغالوا بالبغال وبالسروج            وذلت دولة الإسلام طرا                   وصار الأمر في أيدي العلوج            فقل للأعور الدجال هذا                    زمانك إن عزمت على الخروج            (أهل الذمة في مصر، ص53).

[31]          الموافقات، ج4، ص230.

[32]          جاء عن النبي (ص) أنه ولى عبد الله بن ارقم على جزية أهل الذمة فلما ولى من عنده ناداه فقال ‹‹الا من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة››.

[33]          وجاء عن سعيد بن زيد أنه مر على قوم وقد اقيموا في الشمس في بعض أرض الشام، فقال: ما شأن هؤلاء ؟ فقيل له: اقيموا في الشمس في الجزية، فكره ذلك ودخل على أميرهم وقال: إني سمعت رسول الله (ص) يقول ‹‹من عذب الناس عذبه الله››. وعن هشام بن حكيم بن حزام أنه وجد عياض بن غنم قد أقام أهل الذمة في الشمس في الجزية، فقال: يا عياض ما هذا؟ فإن رسول الله (ص) قال ‹‹إن الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبون في الآخرة››. وجاء أن عمر بن الخطاب مر بطريق الشام وهو راجع في مسيره من الشام على قوم اقيموا في الشمس يصب على رؤسهم الزيت، فقال: ما بال هؤلاء؟ فقالوا عليهم الجزية لم يؤدوها، فهم يعذبون حتى يؤدوها. فقال عمر: فما يقولون هم وما يعتذرون به في الجزية ؟ قالوا: يقولون لا نجد، قال: فدعوهم، لا تكلفوهم مالا يطيقون، فاني سمعت رسول الله (ص) يقول ‹‹لا تعذبوا الناس فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبهم الله يوم القيامة›› وأمر بهم فخلي سبيلهم.

[34]          وجاء أن عمر بن الخطاب مر بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما الجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل. ثم ارسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه إنْ أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم ((إنما الصدقات للفقراء والمساكين)) والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه. وجاء عن سويد بن غفلة أنه قال: حضرت عمر بن الخطاب وقد اجتمع إليه عماله فقال: يا هؤلاء، أنه بلغني أنكم تأخذون في الجزية الميتة والخنزير والخمر. فقال بلال اجل أنهم يفعلون ذلك. فقال عمر: فلا تفعلوا، ولكن ولوا اربابها بيعها، ثم خذوا الثمن منهم. وجاء عن أبي ظبيان أنه قال: كنا مع سلمان الفارسي في غزاة، فمر رجل وقد جنى فاكهة فجعل يقسمها بين أصحابه، فمر بسلمان فسبّه فرد على سلمان وهو لا يعرفه. فقيل له: هذا سلمان. قال: فرجع فجعل يعتذر إليه ثم قال له الرجل: ما يجعل لنا من أهل الذمة يا ابا عبد الله؟ قال: ثلاث: من عماك إلى هداك، ومن فقرك إلى غناك، وإذا صحبت الصاحب منهم تأكل من طعامه ويأكل من طعامك ويركب دابتك وتركب دابته وأن لا تصرفه عن وجه يريده (اعتمدنا في جميع النصوص التي ذكرناها على كل من: الخراج لأبي يوسف، ص102 و128ـ129. والخراج ليحيى بن ادم القرشي، صححه وشرحه ووضع فهارسه أحمد محمد شاكر، دار المعرفة، بيروت، ضمن موسوعة الخراج، 1997م، ص74ـ77. والأموال، ص97. كذلك: البلاذري: فتوح البلدان، مراجعة وتعليق رضوان محمد رضوان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ ـ 1983م، ص167).

[35]          نهج البلاغة، ضبط نصّه وإبتكر فهارسه صبحي الصالح، منشورات دار الهجرة في قم، الطبعة الخامسة، 1412هـ، الكتاب 54، ص427.

[36]          إبن قدامة: المغني، ج8، ص445. وإبن عابدين: رد المختار على الدر المختار، ج3 ص344. وبخصوص هذا الحديث ذكر الزحيلي أن الأثر المروي عن علي غريب، وأخرجه الدارقطني عن علي بلفظ: ‹‹من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا›› (وهبه الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثانية، 1405هـ ـ 1985م، ج6، ص445).

[37]          القرافي: الفروق، نشر عالم الكتب، بيروت، ج3، ص16. ومجموع فتاوى إبن تيمية، ج28، ص653.

[38]          نعم ورد عن بعض الفقهاء كلمات مفعمة بالنبل والإنسانية إزاء أهل الذمة. فالقرافي يقول: ‹‹إن عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم، لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسول الله (ص) ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم أو نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك فقد ضيع ذمة الله تعالى ورسوله (ص) وذمة دين الإسلام›› (الفروق، ج3 ص14. كذلك: إبن الأزرق: بدائع السلك في طبائع الملك، تحقيق علي سامي النشار، منشورات وزارة الاعلام، بغداد، 1977م، ج2، ص183). لكن لا ننسى رغم ذلك أن مثل هذه الكلمات لا ترفع المفارقة وإنما تزيدها عمقاً، حيث أن أصحابها لا ينكرون في القبال الواجب المفترض عليهم إلتزامه إزاء أهل الذمة من الصغار وعدم جواز المودة، كما سيمر علينا موقف القرافي حول ذلك فيما بعد.

[39]          الممتحنة/8.

[40]          ياقوت الحموي: معجم البلدان، دار بيروت ـ دار صادر، 1957م، ج5، مادة (نجران)، ص268. كذلك: الأموال، ص85ـ86. وأحكام أهل الذمة، ج1، ص30، وج2، ص698. ونيل الأوطار، ج8، ص215.

[41]          الخراج لأبي يوسف، ص57.

[42]          فتح القدير، ج2، ص352. وعبد الحي الكتاني: نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية، دار الكتاب العربي، بيروت، ج1، ص392.

[43]          ومحمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، دار النفائس، بيروت، الطبعة السادسة، 1987م، ص121ـ122.

[44]          الخراج لأبي يوسف، ص123. والخراج للقرشي، ص66. والأموال، ص20. وأحكام أهل الذمة، ج1، ص777. وفتوح البلدان، ص185ـ186. وجواهر الكلام، ج21، ص232ـ233.

[45]          مقدمة محمد حميد الله لأحكام أهل الذمة، ص91ـ 92.

[46]          أحكام أهل الذمة، ج1، ص31 و33. وأحكام القرآن لابن العربي، ج2، ص920. وانظر أيضاً: المقنعة، ص227. وجواهر الكلام، ج21، ص245.

[47]          المقنعة، ص227.

[48]          الأحكام السلطانية، ص144.

[49]          فابن القيم يذكر أن الرهبان إذا خالطوا الناس في مساكنهم ومعايشهم فعليهم الجزية باتفاق المسلمين، أما إذا انقطعوا في الصوامع والديارات ففي الأمر قولان أو خلاف (أحكام أهل الذمة، ج1 ص49ـ50. انظر أيضاً: الأحكام السلطانية، ص144. وجواهر الكلام، ج21، ص236ـ237).

[50]          تاريخ الطبري، مؤسسة الاعلمي، بيروت، ج3، ص236ـ237.

[51]          فتوح البلدان، ص164.

[52]          عبد الكريم زيدان: أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام، مؤسسة الرسالة، بغداد، الطبعة الثانية، 1396هـ ـ 1967م، ص154

[53]          الخراج لأبي يوسف، ص141.

[54]          تاريخ الطبري، ج3، ص233.

[55]          الأموال، ص93. وفتوح البلدان، ص203ـ 204.

[56]          الفروق، ج3، ص14. كذلك: تهذيب الفروق، ج3، ص26. وبدائع السلك في طبائع الملك، ج2، ص183. وجاء عن النبي (ص) أنه قال: ‹‹اطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني ـ الاسير ـ››. وعلق أبو عبيدة على ذلك فقال: وكذلك أهل الذمة يجاهد من دونهم، ويفك عناتهم ـ أي يحرر اسراهم ـ، فإذا استنقذوا رجعوا إلى ذمتهم وعهدهم احراراً. وعن سفيان بن مغيرة عن ابراهيم: في ناس من أهل الذمة سباهم العدو فاستنقذهم المسلمون؛ قال: لا يسترقون. وعن مساور الوراق قال: سألت الشعبي عن امرأة من أهل الذمة سباها العدو، فصارت لرجل من المسلمين في سهمه. قال: ارى أن ترد إلى عهدها وذمتها. وعن عمر بن عبد العزيز أنه أعطى رجلاً مالاً يخرج به لفداء الاسارى. فقال الرجل: يا امير المؤمنين، انا سنجد ناساً فروا إلى العدو طوعاً. افنفديهم ؟ قال: نعم. قال: وعبيداً فروا طوعاً واماءً؟ فقال: افدوهم، قال: ولم يذكر له صنف من الناس من جند المسلمين يومئد إلا أمر بفدائهم. وعن عطاء: في حرّ اسّره العدو، فاشتراه رجل من المسلمين، قال: يسعى له في ثمنه، ولا يسترقه. قال: وكذلك أهل الذمة (الأموال، ص62).

[57]          المغني، مكتبة الرياض الحديثة، السعودية، ج8، ص444.

[58]          إبن الهمام: فتح القدير، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الأولى، 1389هـ ـ 1907م، ج6، ص46ـ47.

[59]          السرخسي: المبسوط، مطبعة السعادة، مصر، 1324هـ، ج10، ص87ـ97.

[60]          انظر حول ما سبق المصادر التالية: أحكام القرآن لابن العربي، ج2، ص923ـ924. والجامع للقرطبي، ج8، ص113. وأحكام الذميين، ص143ـ144. وجواهر الكلام، ج21، ص227.

[61]          المقنعة، ص269.

[62]          محمد بن عبد الرحمن الحطاب: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1398هـ ـ 1987م، ج3، ص380. ونيل الأوطار، ج8، ص215.

[63]          تفسير الماوردي، ج2، ص350.

[64]          تفسير الماوردي، ج2، ص350ـ351. والأحكام السلطانية، ص182.

[65]          لاحظ بهذا الصدد: عبد المتعال الصعيدي: رأي في آية من آيات القتال، رسالة الإسلام، مؤسسة الطبع والنشر في الاستانة الرضوية، 1411هـ ـ 1991م، ج9، ص189 وما بعدها، وص304 وما بعدها.

[66]          المائدة/51ـ52.

[67]          المائدة/57.

[68]          الممتحنة/1.

[69]          انظر مثلاً: تفسير الماوردي، ج2، ص46، وج5، ص516. وتفسير إبن كثير، ج2، ص82، وج4، ص364. ومجمع البيان، ج3، ص354، وج9، ص445.

[70]          الفروق، ج3، ص14ـ16.

[71]          المجادلة/22.

[72]          أُختلف فيمن نزل فيه الشطر الأخير من الآية على ثلاثة أقاويل: أحدها ما قاله إبن شوذب من أنها نزلت في أبي عبيدة بن الجراح الذي قتل أباه الجراح يوم بدر، إذ تصدى له هذا الأخير وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله. وروى سعيد بن عبد العزيز عن عمر بن الخطاب أنه قال: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته، قال سعيد: وفيه نزلت هذه الآية (تفسير الماوردي ج4، ص204. كذلك: تفسير إبن كثير، ج4، ص329).

[73]          الممتحنة/7.

[74]          تفسير إبن كثير، ج4، ص348.

[75]          تفسير الماوردي، ج4، ص222.

[76]          بل يمكن القول أننا لو سلمنا بعدم جواز التودد لغير المسلم على إطلاق كما يرى القرافي؛ لكان لا يسعنا أن نأخذ ببعض النصوص من قبيل ما ورد عن الإمام علي في وصيته لمالك الأشتر كما سبق ذكره: ‹‹واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم.. فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق››.

[77]          آل عمران/118ـ119.

[78]          جاء عن إبن جرير قوله: ‹‹في هذه الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين، أعني المؤمنين والكافرين، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أولئك وغلظتهم على أهل الإيمان، كما حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة: قوله ((هاءَنتم أُولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله))، فوالله أن المؤمن ليحب المنافق ويأوي إليه ويرحمه›› (تفسير المنار، ج4، ص90).

[79]          آل عمران/75ـ76.

[80]          المائدة/5.

[81]          الروم/21.

[82]          الممتحنة/8ـ9.

[83]          زاد المعاد، ج3، ص301.

[84]          يقول المرحوم محمد رشيد رضا بهذا الصدد: ‹‹يزعم الذين يقولون في الدين بغير علم، ويفسرون القرآن بالهوى في الرأي، أن آية آل عمران وما في معناها من النهي العام والخاص كقوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء)) يدل على أنه لا يجوز للمسلمين أن يحالفوا أو يتفقوا مع غيرهم، وأن كان الحلف أو الاتفاق لمصلحتهم، وفاتهم أن النبي (ص) كان محالفاً لخزاعة وهم على شركهم، بل يزعم بعض المتحمسين في الدين على جهل أنه لا يجوز للمسلم أن يحسن معاملة غير المسلم أو معاشرته أو يثق به في أمر من الأمور، وقد جاءتنا ونحن نكتب في هذه المسألة إحدى الصحف فرأينا في أخبارها البرقية أن الأفغانيين المتعصبين ساخطون على أميرهم أن عاشر الانجليز في الهند وواكلهم ولبس زي الافرنج، وأنهم عقدوا إجتماعاً حكموا فيه بكفره ووجوب خلعه من الإمارة، فأرسلت الجنود لتفريق شملهم. فأمثال هؤلاء المتحمسين الجاهلين أضر الخلق بالإسلام والمسلمين، بل أبعد عن حقيقته من سائر العالمين، وماذا فهم أمثال أولئك الأفغانيين من القرآن على عجمتهم وجهلهم بأساليبه وبعمل الصدر الأول به›› (تفسير المنار، ج3، ص277ـ278).

[85]          روح المعاني، ج10، ص79.

[86]          الحوراني: الفكر العربي في عصر النهضة، ص65 و67.

[87]          لاحظ: ورقة عمل عبد العزيز الدوري (ملاحظات حول الحوار القومي الديني)، ص46. وورقة عمل محمد عابد الجابري (حول الحوار القومي ـ الديني) ص70، ضمن ندوة الحوار القومي ـ الديني، نشر مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، الطبعة الأولى، 1989م.

[88]          لاحظ ورقة عمل الجابري السابقة، ص70.

[89]          لاحظ ورقة عمل طارق البشري (حول العروبة والإسلام)، المصدر السابق، ص41. كذلك مقدمة صبحي الصالح لكتاب أحكام أهل الذمة.

[90]          محمد الغزالي: تطبيق الشريعة حل لأزمة الاستعمار التشريعي في بلادنا، مجلة منبر الحوار، العدد 13، 1410هـ ـ 1989م، ص19.

[91]          الميزان، ج9، ص242.

[92]          دراسات في ولاية الفقيه، ج3، ص470.

[93]          أحكام أهل الذمة، هامش، ص24.

[94]          لقمان/15.

comments powered by Disqus