-
ع
+

القوانين الحديثة وتغيّر الأحكام

يحيى محمد

لقد تغيّرت في العصر الحديث الكثير من الأحكام بما فيها المنصوصة، كالذي جرى مع القوانين المدنية والقضائية منذ أواخر العهد العثماني وإلى يومنا هذا. ففي أواخر العهد العثماني تمّ إلغاء عقوبة الرجم في الزنى وقطع اليد وإلغاء الردة. كما أُلغيت الجزية وتمّ فرض التجنيد الإجباري على الأقليات غير المسلمة اسوة بالمسلمين1. وأُعتبرت شهادة الذمي مساوية لشهادة المسلم أمام القانون؛ فواجهت لذلك ردود فعل عنيفة بين المسلمين، مثلما رفض النصارى مساواتهم باليهود2. كما تمّ وضع قانون الجنسية، والذي نصّ على أجنبية المسلم غير العثماني. وجميع هذه القوانين وغيرها مما عملت بها البلدان الإسلامية – فيما بعد وحتى يومنا هذا - هي قوانين تخالف ما كانت عليه أحكام النص، لذلك كان إقراراها أول الأمر يعد منكراً لدى المسلمين، لكنها ما لبثت أن أصبحت مألوفة بلا أدنى مضايقة.

ومن أبرز الإهتمامات التي شهدها العصر الحديث ظاهرة الأخذ والإستفادة من المذاهب الإسلامية المختلفة، بغية تسديد حاجات الواقع ولو بتجاوز الشروط التي إشترطها الفقهاء القدماء. فقد أجبرت هذه الحاجات الفقهاء والمقننين بأن يبحثوا عن الأحكام المناسبة، شعوراً منهم بأن ما يبديه المذهب الواحد من أحكام لا يسعه معاجة المشاكل الإجتماعية التي عجّ بها هذا العصر، خاصة في مجالي الأسرة والمرأة، كالزواج والطلاق والإرث وما إليها. فمثلاً تتصف بعض الأحكام بالعسر والضيق وكان لا بد من استبدالها بأحكام عائدة إلى مذاهب إسلامية أخرى. ومن ذلك ما صرح به أبو زهرة، وهو أن ‹‹تطبيق المذهب الحنفي وحده في مصر قد صحبه أمران ضج بالشكوى منهما ذوو الفكر في مصر››. أحدهما تقني وهو ‹‹أن القضاة كانوا يعتمدون في أقضيتهم على قانون غير مسطور لم تدون مواده، ولم تجمع فروعه تحت كليات جامعة، وترك للقضاة أن يبحثوا عن أرجح الأقوال في المذهب، وأرجح الأقوال منثور في بطون الكتب، ولم يجمع المصنفون على أرجحية الكثير منها››. أما العيب الآخر فهو موضوعي، حيث ‹‹ان العمل بمذهب أبي حنيفة قد كشف عن مسائل ليس في الأخذ بها ما يتفق مع روح العصر، وفي غيره من المذاهب ما يوافق روح العصر أكثر منه››. وتبعاً لهذين العيبين ‹‹اتجه المصلحون إلى العمل على تسطير قانون الأسرة، يستنبط من المذاهب الأربعة المشهورة، ويختار منها بحيث يؤخذ من كل مذهب ما يكون أصلح للناس وأقرب إلى روح العصر››3.

كذلك فقد اضطر المقننون للقيام بالبحث عن الآراء المختلفة حتى لو كانت معدودة في السابق من الشواذ المهملة أو المتروكة التي لا يصح العمل بها لضعف الدليل عليها، وكذا لو كانت منسوبة إلى صحابي أو فقيه مهجور من السلف، أو منسوبة إلى من يعدون من أصحاب البدع كالخوارج والشيعة ومن على شاكلتهم. ومثل ذلك البحث في النص لإعادة صياغة فهمه من جديد ومن ثم إضفاء الطابع الشرعي على ما يراد تقنينه وتقديمه. ومما ذكره أبو زهرة بهذا الصدد هو أنه ظهر في مصر إصلاح جريء وسط العلماء، فقد ‹‹أُلفت في اكتوبر (سنة 1926) لجنة مؤلفة من رجال ذوي جرأة جلّهم من تلاميذ محمد عبده، فوضعت اقتراحات لم تكن مقيدة بالمذاهب الأربعة.. بل تجاوزت ذلك إلى آراء فقهاء الإسلام عامة؛ تقتبس منها ما تراه أنفع للأسرة، بل تجاوزت ذلك وارتفعت إلى الكتاب والسنة تستنبط منهما ولو ناقضت في ذلك ما قاله السابقون، وبعض ما انتهت إليه مما كان الاستاذ الإمام محمد عبده يدعو إليه في دروسه، أو على التحقيق كان يدعو إلى التفكير فيه››4. فمن ذلك أنه تمّ تقييد رغبة الرجل في تعدد الزوجات والأخذ ببعض ما تشترطه المرأة في العقد، وأن للزوجة التي غاب زوجها سنة فأكثر حق طلب الطلاق بائناً. وبفعل هذه المقترحات قامت ضجة كبيرة كان من آثارها ‹‹أن نام المشروع في أضابير وزارة العدل إلى أن استيقظ في (سنة 1929)، فقد صدر المرسوم بقانون رقم 25 (لسنة 1929) واقتصر على ما جاء بالمذاهب الأربعة ولم يتجاوزه، فأخذ بالمقترحات السابقة مع بعض التعديل، إذ كانت مستقاة من هذه المذاهب وترك ما لم يكن في هذا النطاق إلا في الطلاق بلفظ الثلاث والطلاق المعلق، وطرحت فكرة منع تعدد الزوجات وما من شأنه أن يؤدي إليها، كما طرح الالزام بكل شرط تشترطه الزوجة لأن ذلك قد يؤدي إلى العبث بالحياة الزوجية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد لأن النفوس متطلعة إلى الإصلاح والسير في طريقه إلى أقصى مداه. ففي سنة 1936 التمست وزارة العدل تأليف لجنة من كبار العلماء لوضع قانون شامل لأحكام الاسرة.. ووافق مجلس الوزراء على تكوين هذه اللجنة››5. وبخصوص الطلاق المتعدد جاء القانون السابق (سنة 1929) ليؤكد بأن الطلاق لا يقع إلا واحدة، وهو مذهب طائفة من السلف، وجاء في المذكرة الإيضاحية ما نصه: ‹‹الطلاق المتعدد لفظاً أو إشارة لا يقع إلا واحدة، وهو رأي محمد إبن اسحاق، ونقل عن علي وإبن مسعود والزبير، ونقله المنذر عن أصحاب إبن عباس كعطاء وطاووس وعمر بن دينار، وقال إبن القيم: أنه رأي أكثر الصحابة››6.

وعلى هذه الشاكلة فقد ‹‹استأنس بما قرره عثمان البتي وإبن شبرمة وأبو بكر الأصم من أن زواج الصغار لا يصح، لأنه لا ولاية لأحد عليهم في الزواج، إذ الولاية في الزواج تثبت على المولى عليه لأجل حاجته، ولا حاجة عند الصغار، إذ هو عقد لا تظهر آثاره إلا بعد البلوغ››7. وقد أُدرج هذا الأمر ضمن القانون المرقم 56 (لسنة 1923م)، وجاء فيه أنه لا يجوز مباشرة عقد الزاواج عندما يكون الزوج أقلّ من ثماني عشرة سنة، أو تكون الزوجة أقلّ من ست عشرة سنة. لكن، كما ذكر أبو زهرة، أن هذا القانون ‹‹تلقاه الكثيرون بالنقد والتزييف، وقامت مساجلات قلمية فيها صخب ولجب، وفيها حجج وأدلة وهو لم يعتمد على رأي من آراء الأئمة أصحاب المذاهب››8. ومثل ذلك ما يتعلق بتوثيق عقد الزواج، فقد تقرر في مصر بأن دعوى الزواج لا تثبت (بعد آخر يوليو لسنة 1931م) إلا بوثيقة رسمية صادرة من موظف مختص بتوثيق عقود الزواج. وبني ذلك المنع ‹‹على ما لولي الأمر من حق تخصيص القضاء بالزمان والمكان والحادثة والشخص، كما جاء في المذكرة الإيضاحية››9.

كذلك فقد اضطر المقننون المحدثون إلى تجاوز آراء الفقهاء في بعض الأحكام ليضعوا الصيغة التي تتناسب والتحولات الحديثة للواقع. فقرروا بأن مدة الحمل ينبغي أن لا تتجاوز السنة، مع أن آراء المذاهب الأربعة تتجاوز هذه المدة، فبعض الفقهاء يراها عبارة عن سنتين كما لدى المذهب الحنفي، وبعضهم اربع سنين مثلما هو الحال عند الشافعي والحنابلة، بينما ذهب مالك إلى أنها خمس سنين. لكن التقنينات الحديثة تجاوزت هذه المدد لكونها مدعاة للإستغلال السيء من قبل المطلقة، إذ قد يكون بإمكانها أن تدعي بأن عدتها لم تكتمل رغم فوات أكثر من سنة عليها لتضمن نفقتها من مطلقها، كما لها الحق في أن تأخذ نصيبها من تركة الزوج إن مات وهي لم تزل في العدة المزعومة، لها ولوليدها الحامل به. فلمثل هذه المشاكل تقرر لدى القانون المصري أن لا تقبل دعوى المطلقة إن كان طلاقها قد فات مدة السنة، وهو رأي قريب من مذهب محمد بن عبد الحكم الذي يقول بأن أقصى مدة للحمل هو سنة قمرية واحدة10. فبحسب القانون المرقم 25 (لسنة 1929) يمنع سماع دعوى النسب لأي معتدة من وفاة أو طلاق، إن جاءت بالولد لأكثر من سنة شمسية (365 يوماً). وبني ذلك على تقرير الأطباء بأن الولد لا يمكث في بطن أمه أكثر من (365 يوماً)11.

كذلك هو الحال فيما اضطر إليه المحدثون من تجاوز الآراء الفقهية التقليدية حول المعتدة من طلاق. فقد كان الرأي التقليدي المأخوذ به في مصر، هو أن المعتدة من طلاق إذا اعتدت بالأقراء فلم تر الدم كلياً فإنها تستمر الإنتظار حتى سن اليأس ثم تستأنف العدة من جديد بالأشهر الثلاثة. فمثلاً لو انقطع حيض المعتدة في سن الثلاثين فإنها تنتظر معتدة إلى الخامسة والخمسين، حيث تستأنف بعدها العدة بالأشهر الثلاثة المتبقية. لكن أدرك الفقهاء المحدثون أن في ذلك إرهاقاً للزوج باستمرار النفقة على المعتدة، كما أن فيه قطع السبيل على المطلقة من أن تتزوج بآخر. يضاف إلى أن بعض المعتدات قد يكذبن فينكرن الحيض لأخذ النفقة على الدوام حتى سن اليأس. ولمنع مثل هذه التجاوزات فقد عولج الأمر على مرحلتين، الأولى سنة 1920م، إذ تمّ فيها اقتباس الفتوى من مذهب مالك، وخلاصة رأيه أن المعتدة إذا ادعت إنقطاع حيضها ومضى عليها سنة بيضاء انتهت عدتها، لكن لو رأت الدم مرة واحدة خلال هذه السنة فإنها تنتظر ويحق لها الإنتظار سنة كاملة لتنتهي العدة، أما لو رأت في السنة الثانية الدم مرة أخرى فإنها تنتظر لسنة جديدة حتى ترى الدم أو تكمل السنة الثالثة فتنتهي العدة، ويكون أقصى ما يمكن أن تستمر به المعتدة هو ثلاث سنوات. فهذا هو العلاج الأول لكنه لم يقطع السبيل على الكاذبات، إذ يمكن استدرار النفقة وابتزاز الزوج ثلاث سنوات كاملة بادعاء الحيض كل مرة في السنتين الأولتين، وإنكاره في الثالثة. لهذا جاءت المرحلة الثانية من العلاج، وهو منع سماع دعوى النفقة للمعتدة لأكثر من سنة كاملة، كالذي نصّ عليه قانون رقم 25 (لسنة 1929م)، وبني هذا القانون ‹‹على ما لولي الأمر من الحق في تخصيص القضاء، ولم يبن على رأي فقهي، لأن الآراء الفقهية عند جمهور الفقهاء مبنية كلها على أساس ألا ترى الدم في مدة العدة››12.

غني عن البيان أن كل ما سبق لا يتسق مع وجهة النظر التقليدية التي تضع شروطاً وحدوداً للرأي، مثل أن لا يتجاوز الرأي أصول المذهب الذي يدين به الفقيه، وأن لا يعمل بالآراء الشاذة، وكذا أن لا يمارس الإجتهاد في النص بما يخالف آراء المذاهب المعتبرة والسلف.

لهذا فعلى الرغم من أن صياغة مجلة الأحكام العدلية كانت لا تخرج في أغلبها عما هو مقرر داخل المذهب الحنفي، إلا أن عدداً من التعديلات القليلة التي أُعتمد فيها على غير هذا المذهب، كان كافياً لأن يمتنع شيخ الإسلام - كأعلى مرجع قضائي في السلطنة العثمانية - عن اصدار أي فتوى بشأنها، وأوجب ذلك على سائر المفتين التابعين له، كالذي أشار إليه رشيد رضا في معرض تشخيصه للمرض المتفشي في واقعنا الإسلامي من الجمود والتقليد13.

كذلك أن الأخذ عن النص أو الصحابي أو غيره ممن عرف بالشواذ والإهمال لا يصح هو الآخر ما لم يمارس الفقيه ذات الآليات الإجتهادية للوصول إلى المطلب، أي ما لم يكن مجتهداً غير متأثر بنوازع تبرير الواقع والانصياع تحت رحمة ضغوطه. فقد جرى البحث عن أي سند قريب يبرر ما يراد تقنينه من القرارات التي تتفق مع مطالب الحاجات الزمنية. لكن هذا العمل لا يفي بالغرض ولا يقنع الباحث على الصعيد المعرفي. فهو لا يفي بالغرض لكونه يقدّم حلولاً جزئية، رغم تفاقم المشاكل الإجتماعية، وبالتالي ستظل عملية البحث عن السند التراثي غير منتهية، أي أن الغطاء الشكلي الذي يتحرك خلفه المقننون سيظل قائماً.

أما أنه غير مقنع للباحث الابستمولوجي، فذلك لأن الفقهاء يلجأون إلى الحلول عند الإضطرار بمجارات الواقع من غير تنظير. فهم من الناحية النظرية لا يعترفون بدور الواقع في الممارسة الإجتهادية، لكنهم عملياً يتبعون خطواته الواحدة تلو الأخرى. وبالتالي فلا غنى عن البحث في الواقع وصلته بالتشريع كمبنى أصولي، أي العودة للنظر من جديد في العلاقة الجوهرية التي تربط الخطاب بالواقع لاستلهام التقنين منها.

تبقى الإشارة إلى أن التغيرات الفقهية الحديثة قد تأثرت بلوائح القوانين الغربية، وذلك بعد الإحساس بأن الفهم التقليدي لا يفي بمتطلبات الحياة العصرية، ولأسباب سياسية باتت مكشوفة. وسبق لقاسم أمين أن صرح بأن التحولات المنشودة في بلاد مصر وغيرها من البلدان الإسلامية لم تحدث نتيجة التفكير وإنما للتأثر بالبلدان الغربية، معتبراً جميع حالات التحسن التي ظهرت يوماً بعد آخر، كتخويل المرأة حق الطلاق ومنع تعدد الزوجات وغير ذلك، لم تأتِ عن روية ونظر، بل عن التأثر بمخالطة الغربيين14.

فقد غطت القوانين الغربية أغلب نواحي الفقه التشريعي، كالذي حدث في مصر والدولة العثمانية منذ القرن التاسع عشر، فأخذت التشريعات الغربية تنبسط على مختلف أبواب الفقه بالنسخ والتعديل والإضافة، كما هو حال القوانين التجارية والجنائية والإدارية، ولم يبق من التشريعات الإسلامية إلا المعاملات المدنية الأخرى التي دُوّنت لها مجلة الأحكام العدلية (عام 1876م)15. ومن بين الأعمال التي ظهر فيها التطعيم الغربي ما قام به السنهوري في وضعه للقانون المدني الجديد للعراق المشار إليه عام (1936م) والصادر (عام 1953م)، وهو مؤلف من مختلف المذاهب الفقهية ومطعم بأحكام القوانين الأوروبية. وهو الحال الذي شمل مختلف الدساتير المطروحة للبلدان الإسلامية.

وليس من سبب وجيه جعل الفقهاء المقننين يضطرون إلى التوفيق والتلفيق بين الآراء الفقهية، أو الاستنجاد بالقوانين الغربية، سوى عدم التمسك بمقاصد الشرع والتعويل على الواقع، وهو العنصر الذي أولاه الخطاب الديني جلّ اهتماهه.

1كمال السعيد حبيب: الأقليات والسياسة في الخبرة الإسلامية، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى، 2002م، ص438، عن الموقع الإلكتروني http://www.4shared.com

2اسماعيل احمد ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، مكتبة العبيكان، ص153ـ157، عن الموقع الإلكتروني http://www.4shared.com

3الأحوالالشخصية،ص8ـ9.

4الأحوالالشخصية،ص13.

5نفسالمصدرالسابق،ص13ـ15.

6المصدرالسابق،ص306.

7المصدرالسابق،ص124ـ125.

8المصدرالسابق،ص12.

9المصدرالسابق،ص273.

10المصدرالسابق، ص386 وما بعدها.

11المصدرالسابق،ص392.

12المصدرالسابق،ص379ـ380.

13حوراني: الفكرالعربيفيعصرالنهضة،ص282.

14قاسم أمين: الأعمال الكاملة، تحقيق محمد عمارة، دار الشروق، الطبعة الثانية، 1989م،ص516ـ517.

15طارقالبشري: المسألةالقانونيةبينالشريعةالإسلاميةوالقانونالوضعي،ندوةالتراثوتحدياتالعصر في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، 1987م، ص624ـ625. والفقهالإسلاميفيثوبهالجديد،ج1،ص213.

comments powered by Disqus