-
ع
+

صدر المتألهين والمعاد الصوري الجسماني

يحيى محمد

وفقاً لرأي صدر المتألهين فان هناك انواعاً متعددة من المعاد للممكنات الوجودية حسب مراتبها؛ تصل الى ستة انواع1. وتتصف اغلب هذه المعادات بأنها صورية وقائمة بحسب اعتبارات نظرية الاتحاد، فكل شيء يتحد بما يناسبه. ومن بين هذه المعادات هناك المعاد الخاص بالانسان والذي بدوره يشتمل على عدد من المعادات بحسب مقاماته ومراتبه. ويعترف هذا الفيلسوف العارف بان من ضمن هذه المعادات المعاد الجسماني، لكنه صوري يخلو من العنصر الطبيعي المادي، وبالتالي فان له وجوداً متوسطاً بين عالمنا المادي والعالم العقلي المجرد، فلا هو من هذا العالم، ولا انه من ذاك، بل وسط او بين بين.

والمعادات الستة هي كالتالي:2

1ـ عالم الروحانيات المحضة، وهي الارواح العالية والعقول القدسية والصور المفارقة والمثل الالهية والارباب النورية، حيث معادها الى الذات الأحدية.

2ـ عالم النفوس الفلكية.

3ـ عالم الاجرام العظيمة، حيث معادها بحسب قواها، فمن حيث قوتها الخيالية فالى عالم النفوس والامثال، ومن حيث قوتها الهيولية فالى دار البوار ومهوى الاشرار ومنزل الكفار، ومن حيث طبيعتها المتجددة في كل حين وزمان فالى ما اليه تميل وتستحيل من الصور المثالية المتماثلة المتصلة لا المتضادة المتخالفة المتفاضلة.

4ـ عالم الصور المتضادة والعناصر المتفاسدة، حيث معادها يكون باعتبارين، احدهما باعتبار التصالح والجمع والوحدة فيما بينها، فاول معادها الى هيئة الجماد ومنه الى النبات ثم الى الحيوان. أما الاعتبار الاخر فمعادها الى ما هو ضدها حيناً والى ما يماثلها حيناً اخر.

5ـ عالم الهيوليات، ومعاد كل منها الى البوار والهلاك.

6ـ عالم الانسان، حيث له عدة معادات بحسب نشآته العديدة الحاصلة له من تركيب جسده وطبعه وروحه ونفسه وعقله. فله بحسب كل نشأة بعث وحشر ومعاد. مما يعني ان هناك خمسة منازل ومقامات في البعث للانسان: فالاول عبارة عن بعث قالبه الجسدي من قبر الارض بحسب غلبة الارضية عليه، والثاني عبارة عن بعث قلبه من قبر قالبه، والثالث هو بعث روحه من قبر قلبه، والرابع هو بعث نفسه من قبر روحه، والخامس هو بعث عقله من قبر نفسه3. وبحسب هذا التعدد في المعاد فان صدر المتألهين لجأ الى تأويل بعض الايات، كقوله تعالى: {كما بدأكم تعودون}4، فاعتبرها تعني كما بدأكم في الاول من العقل ثم النفس فالجسد، فستعودودن على العكس من الاكثف حتى الالطف فالالطف.5.

ويستفاد من ذلك بان المعاد النهائي لاغلب الانواع التي مرّت معنا هو الصورة او الادراك على انواعه المختلفة. وتبعاً لنظرية صدر المتألهين يمكن القول بوجود نوعين من المعاد للنفوس البشرية، احدهما هو الذي تتحد فيه النفوس بالعقل الفعال كلياً6، على شاكلة ما لجأ اليه ابن رشد في نظريته المشائية، اما الاخر فهو الذي تكون فيه النفوس على شكل صور مثالية عينية معلقة ومنفصلة عن بعضها، حيث اثبت مفارقة قوة النفس الخيالية التي كان الفلاسفة يظنون انها قوة مادية تفنى بفناء البدن.

ويعتبر صدر المتألهين ابرز القائلين بتعدد انواع المعاد تبعاً لاعتقاده بتعدد انواع البشر. فوفقاً لرأيه ان الانسان وإن كان نوعاً واحداً في الظاهر بحسب ما تخرج مادته الجسمانية من القوة الى الفعل، لكنه متخالف الماهية في الباطن، بحسب ما يخرج عقله الهيولاني من القوة الى الفعل7. فعند خروج النفوس من القوة الهيولانية تصير انواعاً متخالفة بحسب غلبة الصفات ورسوخ الملكات، فكل نوع من جنس ما يغلب عليه من صفات بهيمية او سبعية او شيطانية او ملائكية8، وكل فرد من الانسان يعود الى مبدئه الذي انشأه، فالبعض يكون الحق علة وجوده ومباشر تكوينه بيديه، فيكون معاده اليه، وبعض اخر يكون مبدأ وجوده القريب هو اخر مراتب العقول المفارقة، لذا فمعاده يكون اليه، كما ان هناك بعضاً ثالثاً يكون وجوده بمدخلية بعض الشياطين الذين هم عمّار عالم الشر، لذلك فمعاده الى النار التي هي اصل وجوده حيث يتألف منها الشيطان، وهكذا..9

مهما يكن فالصورة التي رسمها صدر المتألهين للمعاد الانساني هي ايضاً لم تعبّر عن ظاهر النص. صحيح انه صرح بوجود جسم صوري عيني، لكنه نفى - من الناحية المبدئية - ان يكون للجسم الطبيعي وجود في هذا العالم، معتبراً ان النشأة الاخرة ادراكية علمية، ففيها ابدان صورية ونفوس غير متناهية، اذ لا يمتنع اجتماع هذه الاعداد في غير الوضعيات المادية لعدم التزاحم والتصادم ونفي التركيب الوضعي والعلي. 10

على ان اعتقاد صدر المتألهين بجسم صوري عيني جاء كطريقة تتوسط بين النص الديني وما عليه قبليات النزعة الوجودية تبعاً لمنطق السنخية11. فقد خالف المشائين في نفيهم للمعاد الجسماني، كما خالف الاشراقيين الذين عولوا على المثل الخارجية، لكنه لم يقل بالبدن العنصري الطبيعي كالذي تبديه ظواهر النصوص الدينية12، بل كان بدناً صورياً وشبحاً ظلياً وقالباً مثالياً لازماً للجوهر النفساني المفارق من دون ان يكون فيه استعدادات ومواد وحركات، فنشأة الابدان في الاخرة لا تكون من الجهات القابلية كما هو الحال في الدنيا، بل تصدر من الجهات الفاعلية بابداع الحق اياها كاظلال مثالية وصور فعلية للنفوس، فهي بهذا ليست مادية باعتبار ان المادة زائلة بتحولاتها الدائمة؛ بخلاف ما عليه الصورة التي تتصف بالثبات والفعلية والبقاء13.

والملاحظ ان صدر المتألهين رغم انه يسلم مبدئياً بضرورة الابدان الصورية في النشأة الاخرى، الا ان موقفه بشأن ابدان النفوس الشقية امر يختلف، اذ يعترف بان لها ابداناً طبيعية عنصرية، الامر الذي يلزم عنه بعض التناقضات. بل لدى هذا الفيلسوف بعض الترددات والمفارقات التي تخص الفوارق النوعية بين طبيعة اهل السعادة واهل الشقاء.

فحول النفوس السعيدة من اهل الجنة رأى هذا العارف ان تمتعها يكون بما لديها من صور محسوسة تتضاعف بلا مزاحمة ولا تضايق، فليس من المحال ان تجتمع صور غير متناهية دفعة، فلا يجري عليها براهين الامتناع، اذ لا ترتيب فيها14. وبالتالي فان لأهل الجنة عالماً صورياً يتناسب مع كمالهم، فلا يجري عليهم تجدد واستحالة وتغير، بل ان حركاتهم وافاعيلهم تكون من نوع آخر ليس فيها نصب ولا لغوب15، وان السماوات ودوراتها مطوية في حقهم، فلهم مقام في الزمان وفي المكان، وزمانهم هو زمان يجتمع فيه الماضي والمستقبل في لحظة وآن، وان مكانهم هو مجلس يحضر فيه جميع ما تسع له السماوات والارض، وان نعيمهم من الجنة لا يمكن ان يكون من جملة المحسوسات الطبيعية، انما هو من المحسوسات الصرفة المجردة عن عالم الطبيعة والهيولى، مثلما يراه الانسان في نومه من المحسوسات غير الطبيعية، والنوم جزء من اجزاء النبوة، ونشأته مثال النشأة الاخرة.

أما رأي هذا العارف حول اهل النار ففيه تردد واضح، فهو تارة لا يفرق في شكل المعاد بين اهل النفوس السعيدة والشقية، فكلاهما عبارة عن صورة بلا مادة، وفعل بلا قوة16، وانهما معاً يلزم عنهما الابدان الظلية والقوالب الشبحية المثالية، مثلما يلزم الظل عن الضوء17. لكنه تارة اخرى يرى ان ابدان النفوس الشقية هي من جنس عالم الطبيعة والمادة فيحدث لها التجدد والتبدل والاستحالة وتتقلب من صورة الى صورة، لان طبائعها من القوى الجسمانية المادية، وان دار الجحيم هي من جنس هذه الدار، وحيث ان افاعيل القوى المادية وانفعالاتها متناهية فلا بد فيها من انقطاع وتبدل، وبالتالي لا بد من تبدل الابدان واستحالة المواد من حركة دورية صادرة عن اجسام سماوية محيطة باجسام ذوات جهات متباينة كائنة فاسدة. 18

وتنطوي هذه الرؤية على تناقض صارخ، اذ كيف يمكن الجمع بين الابدان المتغيرة المتجددة مع كون نفوسها عبارة عن صورة بلا مادة وفعل بلا قوة؟ فحالة التأثير بينهما تجعلهما من ذات السنخ، فإما ان يكونا متجددين ومتغيرين معاً، او انهما تامان بالفعل سواء كان تمامهما بنحو السعادة ام الشقاء، والا ما علاقة احدهما بالاخر؟! وكدلالة اخرى على تناقض ما قدمه صدر المتألهين، هو ان التسليم بوجود الاجسام الطبيعية لاهل الشقاء في الدار الاخرى؛ يعني التسليم بوجود اعداد غير متناهية من مثل هذه الاجسام المادية، وهو امر قد احاله هذا العارف ليثبت به الوجود الصوري للاجسام.

مهما يكن فهذه النظرية ذات التفريق النوعي للابدان بين اهل الشقاء واهل السعادة؛ هي مما لا تساعد عليها النصوص القرآنية، مثلما ان القول بوجود الجسم الصوري غير الطبيعي هو ايضاً مما لا تساعد عليه تلك النصوص.

ان عدم التوافق بين ما عليه ظاهر النصوص من جهة، وبين ما عليه الرؤية الوجودية لصدر المتألهين من جهة اخرى، تثير لدى القارئ تلك الاشكالية التي طرحها هذا العارف حول الجهل بطبيعة المعاد، والتي حكم فيها على كل من جهل المعاد وتصوره على غير حقيقته الفعلية بانه واقع في العذاب لا محالة. فهل يصح ان يقال ان نظرية صدر المتألهين لا تختلف عن سائر النظريات الاخرى التي لم تصور المعاد على صورته الحقيقية، او على الاقل انها قد ابتعدت عن ظاهر النصوص القرآنية، وبالتالي فانها محكومة بنفس ذلك الحكم؟ او يقال على العكس، وهو ان كل من آمن بالمعاد بالشكل الذي يخالف فيه نظرية هذا العارف فانه ممن يصيبه العذاب، كالذي صرح به في (المبدأ والمعاد)، معتبراً هذا الامر من الكفر والخذلان والعصيان19. علماً بانه في كتابه (الاسفار) صرح بان اغلب المسلمين لم يعرفوا حقيقة المعاد وإن اقروا به لساناً، وبذلك جرى عليهم حكم المسلمين20. وبالتالي هل يمكن القول ان اغلب المسلمين هم ممن يصدق عليهم ذلك الحكم من الكفر والخذلان؟!

مع هذا فهو في (كسر اصنام الجاهلية) اعتبر كسائر الفلاسفة ان الخطأ والجهل في الاصول الاساسية للاعتقاد، كوجود الله وصفاته وافعاله وكتبه ورسله واليوم الاخر، يفضيان الى الهلاك وسوء العاقبة، وان الرسوخ عليها يورث العذاب المؤبد، مستثنياً من ذلك البلّه وكل من آمن بتلك العقائد ايماناً مجملاً ساذجاً وراسخاً جازماً ممن لم يخض في البحث والنظر، وكذلك كل من اقتدى بالصلحاء وقلدهم في نظرهم الصحيح، وما عدا اولئك فليس بآمن من خطر سوء العاقبة ولو كان من اهل الصلاح والزهد، اذ لا ينجي بنظره الا الاعتقاد الحق الراسخ21.

1 هناك من يرى وجود اثنتي عشرة قيامة، صورية ومعنوية، بحكم التطبيق بين عالمي الافاق والانفس، كالذي يذهب اليه حيدر الاملي في رسالته: المعاد في رجوع العباد (تصدير عام لكتاب الاملي: جامع الاسرار، ص4).

2 مفاتيحالغيب،ص600-601.

3 مفاتيحالغيب،ص612-613.

4 الاعراف/29.

5 مفاتيحالغيب،ص663.

6 بهذا الصدد يقول صدر المتألهين: ‹‹وليس بواجب في كل فرد من الانسان ان يحشر مع بدن من الابدان، بل الكاملون في العلوم انما يحشرون الى الله، مفارقين عن الاجسام بالكلية، منخرطين في سلك الملائكة المقربين›› (تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج8، ص86).

7 تفسيرصدرالمتألهين،مصدرسابق،ج8،ص130.

8 تفسيرصدرالمتألهين،مصدرسابق،ج7،ص393.

9 تفسيرصدرالمتألهين،مصدرسابق،ج8،ص55-56.

10 مفاتيحالغيب،ص600.

11 يقول صدر المتألهينبهذا الصدد: ان أمور الآخرة ‹‹موجودات خارجية وثابتات عينية.. وليست انها بحيث يمكن ان ترى بهذه الابصار الفانية البالية كما ذهب اليه الظاهريون، ولا انها امور خيالية وموجودات مثالية لا وجود لها في العين، كما يراه الاشراقيون وتبعهم آخرون. ولا انها مجرد امور عقلية او مفهومات ذهنية، وليس بأشكال وهيآت مقدارية وصور جسمانية كما يراه جمهور المتفلسفين من اتباع المشائين. بل انها صور عينية جوهرية موجودة في الخارج لا في هذا العالم الهيولاني، بل في عالم الآخرة، وعالم الآخرة جنس لعوالم كثيرة كل منها اعظم من مجموع هذا العالم بما لا نسبة بينهما، ولكل نفس من الأخيار عالم عظيم الفسحة ومملكة أعظم مما في السماوات والارض بعدة اضعاف›› (المبدأ والمعاد، ص427).

12 ومن ذلك ما تلوّح اليه النصوص القرآنية التالية: {انى يحيي هذه الله بعد موتها فاماته الله مائة عام ثم بعثه..} البقرة/ 259 ، {واذ قال ابراهيم رب ارني كيف تحيي الموتى، قال اولم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، قال فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزئاً ثم ادعهن يأتينك سعياً، واعلم ان الله عزيز حكيم} البقرة/ 260، {والله انبتكم من الارض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم اخراجاً} نوح/ 17، {واذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت واخرت} الانفطار/ 4، {ايحسب الانسان ان لن نجمع عظامه، بلى قادرين على ان نسوي بنانه} القيامة/ 3-4، {وقالوا ءاذا كنا عظاماً ورفاتاً ءانّا لمبعوثون خلقاً جديداً، او لم يروا ان الله الذي خلق السماوات والارض قادر على ان يخلق مثلهم} الاسراء/ 98-99، {قل يحييها الذي انشأها اول مرة} يس/ 79.

13 صدر المتألهين: المبدأ والمعاد، ص375-376 و395-397 و406-407. والاسفار، ج9، ص18-19 و32.

14 الاسفار،ج9،ص379.

15 ربما يستلهم صدر المتألهين - هنا - ويوظف ما سبق اليه افلوطين من تفسير الحركة في العالم العلوي.

16 الاسفار،ج9،ص18.

17 تفسيرصدرالمتألهين،طبعةدارالتعارف،ج6،ص407.

18 مفاتيح الغيب، ص682. والاسفار، ج9، ص381-382ـ.

19 صدر المتألهين: المبدأ والمعاد، ص3953. وتفسير صدر المتألهين، مصدر سابق، ج8، ص86.

20 الاسفار،ج9،ص180.

21 صدر المتألهين: كسر أصنام الجاهلية، حققه وقدم له محمد تقي دانش بژوه، مطبعة جامعة طهران، 1340هـ.ش. ـ 1962م، ص7 و60-61.

comments powered by Disqus