-
ع
+

مسلم عبداللله المسافر: فقه الواقع عند المفكر يحيى محمد

 

للمفكر الاسلامي العراقي يحيى محمد كتابان يمكن ان نضعهما تحت عنوان (فقه الواقع)، هما [جدلية الخطاب والواقع] و[فهم الدين والواقع]. ويمثل كتاب [جدلية الخطاب والواقع ] الحلقة الاولى من حلقات (النظام الواقعي وفهم الاسلام)، وهو يهتم بتأسيس المحددات المنهجية لهذا الفهم، وكان من ابرز ما عرضه بهذا الصدد: الاتجاهات الحديثة في توظيف الواقع، والعلاقة الجدلية بين كل من النص والعقل والواقع، كذلك علاقة المقاصد بالتلاقح الجدلي الثلاثي الانف الذكر، والتأصيل للتفكير الوقائعي الديناميكي المتحرك؛ في قبال التفكير الماهوي الاستاتيكي الساكن والمتجذر في تراثنا منذ الف واربعمائة سنة، يضاف الى الكشف عن حاجة النص للدلالة الواقعية، ومثل ذلك ظاهرة نسح الاحكام وما تثبته من علاقة الواقع بالنص. وجاء في الكتاب ايضاً مواضيع هامة متعددة، مثل موضوع  التشريع الديني وتغايراته، والتغيير الفقهي وانماطه. وقد كانت خاتمة الكتاب عبارة عن تحليل موفق لاشكالية تغيير الاحكام، تعرّض فيها لمناقشة خمس شبهات قد يثيرها الخوف من الاستجابة لدور الواقع في تغيير الاحكام.

وقد قسّم كتابه هذا الى ثلاثة اقسام تتضمن تسعة فصول، جاء القسم الاول بعنوان: تحديدات منهجية، واحتوى على ثلاثة فصول هي: الاتجاهات الحديثة وتوظيف الواقع\ النص.. الواقع.. العقل\ بين التفكير الماهوي والوقائعي.

وجاء القسم الثاني تحت عنوان: الواقع وفهم الخطاب، واشتمل على فصلين هما: البعد الحضاري وفهم النص\ التعارضات الاطلاقية وفهم النص.

في حين جاء القسم الثالث تحت عنوان: ظاهرة نسخ الاحكام وتغييرها، وتضمن اربعة فصول هي: النسخ في الخطاب\ التشريع الديني وتغايراته\ التغيير الفقهي وانماطه\ اشكالية تغيير الاحكام.

اما كتاب [فهم الدين والواقع] فهو يمثل الحلقة الثانية من حلقات (النظام الواقعي وفهم الاسلام). وهو يدور حول العلاقة التي تربط مقاصد التشريع بالواقع، وذلك كتتمة لما بدأه في كتابه [جدلية الخطاب والواقع].

وتدور بحوث الكتاب - كما يؤكد الكاتب - على جملة من القضايا التي لها علاقة بفهم النص الديني، وتمتاز بأنها تقع ضمن نسيج عضوي موحد؛ بعضها يدعو الى البعض الاخر ويكامله. واهتم فيه الكاتب بابراز علاقة مقاصد الاحكام بالواقع، فبحث فيه المقاصد بحثاً جديداً ردّ فيه الاعتبار للطوفي بتبنيه لتأسيسية المقاصد لا التعامل معها بوصفها تبريرات للاحكام دون أي وظيفة منتجة، مما جعله يخلص الى تنظيره للفهم المجمل للاحكام المبني على المقاصد الفاعلة العقلية، بخلاف الفهم التفصيلي السائد حتى يومنا هذا، وهو الغارق في النص كما يختلقه مروجو الروايات الواهية والضعيفة والموضوعة لدى كل المذاهب التراثية بعد اضفاء طابع الصحة عليها، لهذا فانها لا تصمد امام معايير البحث العلمي. فمن خلال ذلك توصل يحيى محمد الى مفهوم نمذجة الاحكام لا مركزيتها كما هو سائد في التعامل التراثي حتى اليوم.

فهذه القضايا وسواها هي مما تناوله في كتابه  المشار اليه، وهي باختصار عبارة عن كل من العقل والواقع والمقاصد والفهم المجمل. وقد ادرج البحث فيها ضمن فصول خمسة عناوينها كما يلي:

1ــ العقل والاجتهاد

2ــ المصلحة ودورها في التشريع

3ــ نظرية المقاصد ونقدها

4ــ مصاديق لأثر الواقع على التشريع

5ــ منهج الفهم المجمل والمقاصد

ولا شك ان الكتابين المشار اليهما متكاملان، فالاول يمثل حلقة التأسيس المنهجي الفكري والتأصيل الشرعي، مع ما تتضمنه من ادلة واقعية وعقلية وشرعية. اما الكتاب الثاني فيمثل حلقة تتناول مفردات القضايا الشرعية وعلاقتها بالمقاصد والعقل والواقع، مع الاكثار من الامثلة التطبيقية لتقريبها من اذهان الدارسين والرد على الشبهات المحتملة عليها.

والقارئ للكتابين يكتشف منذ الوهلة الاولى التطبيق العملي لنظرية التجاوز المذهبي التي يدعو اليها هذا الفيلسوف. فعلى صفحات الكتابين يظهر بوضوح تام التعامل المنهجي مع اطروحات المذاهب الاسلامية بدون تحيز ايديولوجي طائفي، بل بروح علمية ابستيمولوجية، فهو يفسح مساحات واسعة للتحاور مع مختلف المصادر التراثية على اساس منهجي لا يشم فيه القارئ رائحة الانحياز الا للحقيقة العلمية وبتواضع وانصاف.

ويتميز الكتابان بوفرة المصادر وحسن التعامل معها والترتيب المنطقي في العرض، ولولا ان الاستاذ الكاتب اشار اكثر من مرة في مختلف لقاءاته انه بصدد طباعة مشروعه الخماسي والكتابان داخلان فيه؛ لكنا اشرنا عليه بطباعتهما تحت عنوان واحد هو ما ذكره [النظام الواقعي وفهم الاسلام]، حيث يتكون من جزئين لا ككتابين منفصلين، ولعل ما دعاه الى ذلك ظروف النشر المعروفة لكل من يتعاطى هذا الشأن.

وبلا شك ان هذين الكتابين غير قابلين للقراءة السريعة، بل يحتاجان الى دراسة عميقة، اذ يمثلان انقلاباً في النظرة التراثية لفهم النص الديني. ومع ان كلاً منهما يحتاج الى عرض خاص، لكن هذه الاطلالة السريعة نراها كافية تقريباً للولوج فيما قصدناه من كتابة هذا المقال.

يطرح يحيى محمد في كلا الكتابين علاقة الواقع بفهم الدين - أي بالعلوم الاسلامية ككل -. وبمقارنة سريعة بين ما قدمه الاول وما يقدمه بعض الفقهاء المعاصرين من انصار تيار الوسطية  تحت عنوان (فقه الوقع) نستطيع ان نتبين مجموعة من نقاط الاختلاف الجوهرية التي هي في نهاية التحليل تصب في صالح ما يقدمه هذا الفيلسوف من طرح.

1- فاولى نقاط الاختلاف تظهر بوضوح في مدى اتساع دائرة هذا الفقه، ففي حين ان فقهاء الوسطية يتحركون ضمن دائرة علاقة الواقع بالفتوى، اى انهم يقومون بمجرد تطبيق قاعدة فقهائنا القدامى (تتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والاشخاص والاحوال) نجد ان يحيى محمد وسع دائرة تعاطي الواقع لا مع الفتوى فقط باعتبارها اجتهاداً بشرياً في فهم النصوص الدينية يحتمل الصواب والخطأ، والصواب فيه معرض للتجاوز لتغيرات الواقع، بل اسس ونظّر لتعاطي الواقع مع النصوص نفسها، مستلهماً اجتهادات الصحابة انفسهم، بل ومستلهماً النص نفسه في ظواهر كالنسخ الذي لا يمكن تفسيره الا بمشروعية تعاطي الواقع مع النص الديني.

2- والاختلاف الثاني انه في حين ان فقهاء الوسطية يقصرون تعاطي الواقع في مجال الفقه بمعناه الاصطلاحي، نجد يحيى محمد يتوسع في اثر الواقع ليشمل سائر العلوم الاسلامية المكونة للفهم الديني، فيشمل العقيدة والتفسير والحديث وسائر العلوم الاسلامية. وهذا هو الاتساق المنهجي المنضبط بمعايير البحث العلمي، لان الاقتصار على افساح المجال لتاثير الواقع على الفقه وانكار تاثيره في بقية العلوم الاسلامية المكونة للفهم الديني هو تحكم بلا موجب كما يقال، فإما ان نعترف بصدقية معيار الواقع الموضوعي فنفسح له المجال في التعاطي مع سائر العلوم الاسلامية، او نثبت كذب معيارية الواقع (وهو المستحيل بعينه)، فلا نحكّمه لا في الفقه ولا في غيره، أي ان الاختلاف هنا في مدى اتساع دائرة تأثير الواقع وتوظيفه.

3- وفي حين ان فقهاء الوسطية، كما هو معروف اثناء تنظيرهم لفقه الواقع وتطبيقاتهم له، لم يلتفتوا للتأسيس المنهجي للمسألة، نجد يحيى محمد في الكتابين المشار اليهما سلفاً وفي بعض كتبه الاخرى ومقالاته المتعددة قام بالتأسيس المنهجي الكافي للمسألة، فهو قد تعرض لاقسام الواقع ومتى يخضع الواقع لحكم مقاصد النص؟ واي واقع نعنيه؟ ومتى يكون الواقع حاكماً لفهمنا للنص الديني؟ فلدى يحيى محمد تفريق منهجي حاسم بين الواقع الموضوعي والواقع الاعتباري، وان هذا التأسيس المنهجي لا نجد له اى اثارة من علم عند فقهاء الوسطية المعاصرين.

4- وفي حين ان فقهاء تيار الوسطية يعولون في فهمهم للاحكام الشرعية وفقه الواقع على المسلك التفصيلي، نرى بالمقابل ان ابحاث يحيى محمد في الفهم الديني وفقه الواقع قائمة على مسلك الفهم الاجمالي للنص.

5- واهم ما يمكن ان نذكره من اختلاف بين طبيعة ما يقوم به فقهاء الوسطية وما يقوم به يحيى محمد هو ان عمل الاولين قائم على فكرة الاجتهاد في النص كإمتداد  لعمل الفقهاء ككل على مر التاريخ الاسلامي، رغم محاولتهم تطعيمه بمراعاة الواقع عند الفتوى. في حين ان فكرة الاجتهاد لدى يحيى محمد قائمة في الاساس على الواقع دون النص، وهو قلب لمفهوم الاجتهاد ورجوع به الى ما كان عليه فهم الصحابة وتطبيقاتهم قبل ظهور الفقهاء، ومن باب اولى قبل التنظير الاصولي لمعنى الاجتهاد كما دشنه الشافعي بحصره للاستدلال بالنص او بالقياس عليه.

وباختصار وبكل ادب وتواضع نقول ان ما يقدمه فقهاؤنا الاجلاء الوسطيون تحت عنوان (فقه الواقع) لا ينتمي لهذا التحديد ولهذه العنونة بصلة، فهو فقه قائم على الاجتهاد في النص لا على الاجتهاد في الواقع، كما يوحي به العنوان، وهو ايضا فقه قائم على مسلك تفصيلي كشف عن تناقضاته المفكر المشار اليه. ويمكن تلخيص ما قدمه بهذا الصدد من تفريقات بين المسلكين الاجمالي والتفصيلي كما يلي:

اولاً: ان الفهمين السابقين يفترقان بحسب علاقتهما بالمقاصد. فالفهم المجمل يتسق معها من غير معارضة، في حين يعمق الفهم المفصل حالة الإنفصال والتعارض معها. وهذه النقطة هي من أهم الإشكالات التي تواجه الفهم الاخير، فهو لا يدع مجالاً للأخذ بالمقاصد؛ طالما ان الأخذ بأحدهما يفضي إلى التعارض مع الاخر.

ثانياً: كما انهما يفترقان من حيث المنزلة المعرفية التي يحتلها النص عندهما. فالنص لدى المسلك المجمل له صفة توجيه الفكر، ولدى المسلك المفصل له صفة تكوين الفكر. أي ان الأول يتعامل مع النص بوصفه موجهاً أكثر منه مكوناً، على خلاف الآخر الذي يتعامل معه بوصفه مكوناً أكثر منه موجهاً. 

ثالثاً: كما انهما يفترقان بحسب التخفيف من حالات الخلاف المعرفي والعلمي. فالخلاف المعرفي بحسب الفهم المفصل يكاد يكون كما هو من غير تناقص، بل غالباً ما يزداد كلما كثر الرجوع إلى التدقيقات اللغوية وإحتمالاتها، وليس الأمر كذلك مع الفهم المجمل، إذ الرجوع إلى الواقع وإن كان لا يقضي على الخلاف عادة، الا أنه يمكن تخفيفه وربما ازالته عبر امتداد الزمن.

 رابعاً: إن الفهمين السابقين يفترقان بحسب اضفاء القداسة على نتائجهما الإجتهادية. فالنتاج عند الفهم المجمل يجعل القداسة تلوح المجملات المستلهمة من النصوص ولا يولي للمفصلات الظنية مثل هذا الاعتبار. وهو خلاف ما يقوم به الفهم المفصل من جعل القداسة مبسوطة على المجملات المعلومة والمفصلات الظنية بلا فارق جذري بين المجموعتين.

خامساً: كذلك فبقدر ما يضيّق الفهم المجمل حدود دائرة النص وما يترتب عليها من قداسة؛ بقدر ما ينفتح على الواقع بهدي المقاصد. وعلى العكس منه يعمل الفهم المفصل، إذ بقدر ما ينفتح على النص ويستلهم منه القداسة حتى في المفصلات الظنية؛ بقدر ما يبتعد عن الواقع واعتباراته. فالإجتهاد لدى الفهم المفصل هو إجتهاد في النص. بينما الإجتهاد في الفهم المجمل هو إجتهاد في الواقع المفتوح.

سادساً: ان الفهمين السابقين يفترقان بحسب علاقتهما بالامة المسلمة. فالمسلك المجمل هو مسلك توحيدي خلافاً للمسلك المفصل الذي يعمل على التفريق والتنازع لإرتباطه بالمقدس حتى على مستوى الظنون المنبعثة عن المفصلات. الأمر الذي تتعارض فيه المقدسات الظنية، فيتولد الخلاف والصراع للإرتباط بهذه المدعيات.

سابعاً: يميل المسلك المجمل إلى التخفيف والتقليل، خلافاً للمسلك المفصل الذي يتجه صوب التشديد والتوسيع. وقد اعتبر بعض المفكرين ان توسيع الفقهاء لدائرة الأحكام أدى إلى تضييق الدين على المسلمين تضييقاً أوقع الأمة في ارتباك عظيم، بحيث جعل المسلم لا يكاد يستطيع أن يعدّ نفسه مسلماً ناجياً لتعذر تطبيق جميع عباداته ومعاملاته تبعاً لطلبات الفقهاء المتشددين الآخذين بالعزائم.

وهكذا يرى هذا المفكر ان القول بالفهم المجمل يجعلنا نعيد صياغة الإجتهاد إن كان يُعد - في الأساس - إجتهاداً في النص أو الواقع؟

فاذا ما اتفقنا على أن المجمل بيّن؛ فإن المشكلة تظل دائرة حول المفصل الذي هو محل التشابه والإحتمال، وبالتالي فعلاج هذا المفصل إما ان يتم عبر النظر في النص ذاته كما هو مسلك الفقهاء، أو عبر النظر في الواقع وهدي المقاصد. فهذا الطرح الجديد هو ما يستحق ان يسمى فقه الواقع.

 واذا نظرنا مثلاً كيف يرى يحيى محمد علاقة الواقع بالفتوى مقارنة بما هو موجود؛ نجده ينادي بضرورة اعادة النظر في هذه العلاقة كأهم ما يحتاج اليه الأصولي والفقيه اليوم. فما زال هناك عدد كبير من الفتاوى لم يُراعَ فيها حق الواقع وشروطه، بل استلّها الفقهاء من مجرد النص أو مما أدى اليه إجتهاد السلف. وما زالت هناك قضايا أخرى تحتاج إلى فحص الواقع كمرجع يناط به الكشف عما هو حقيقة وغير حقيقة، أو ممكن وغير ممكن، أو متسق وغير متسق، أو مقيد وغير مقيد... وغير ذلك من الصور التي يمكن للواقع الكشف عنها، سواء كان حاضراً أو ماضياً أو استشرافاً أو عاماً ومطلقاً. بل وما زالت افهام الفقهاء للنصوص تحتاج لهذا الفحص.

 إذ تتخذ علاقة الواقع بالفتوى وفهم النص صوراً عديدة تستوجب النظر والتحقيق لحل المشاكل الفقهية والقضاء على حالات المعارضة والصدام. ويتخذ الواقع في أغلب هذه الصور دور الضابط لتلك العلاقة.

ومن هذه الصور التي يستعرضها مفكرنا انه يمكن للواقع أن يُبطل الفتوى التي يرد تعليلها بما يتنافى وحقائقه الخاصة. وللبعد التاريخي دور في الكشف عن حقيقة الفتوى، وللتطور التاريخي أثر في الكشف عن بطلان الفتوى. بل للواقع أثر معارض للفتوى؛ إلى حد يمنعها من التنفيذ والتطبيق. وللواقع سعة في تقييد إطلاق الفتوى، وله أثر على تجريد الفتوى من شروطها، إما بتبيان عدم جدوى هذه الشروط، أو لكونها غير قابلة للتطبيق الدائم. وللواقع أثر في الكشف عن المشاكل الاجتماعية التي تنجم عن الفتوى والحكم، مثل الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية كما واجهها المقننون المحدثون. كما للواقع قدرة على الكشف عن نسبية الفتوى وتبيان ظرفيتها الزمانية. كما له سعة في تأييد الفتوى، مثل تأييده للفتاوى والأحكام التي تتحقق من خلالها المصالح والحقوق. وهناك العديد من القواعد الفقهية التي تجد مجالها الرحب في الاتساق مع متطلبات الواقع وتسديد حاجاته، مثل قاعدة لا ضرر ولا ضرار. كما للواقع سعة في أن يتقدم على الحكم والفتوى، ويأتي هذا التقدم باعتبار ما له من إمكانية الكشف عن الحالات الموضوعية التي يناط بها الحكم أو الفتوى، عبر الفحص والاختبار، فهو من هذه الجهة مقدم على الاعتبارات الشرعية التي تتوسل بالطرق الظنية في الكشف عن تلك الحالات. كما للواقع قدرة على التحقق من الحالات الموضوعية التي يشترطها الفقهاء للفتوى، إن كانت صادقة أم كاذبة. وله سعة ايضاً في ترجيح الفتوى على نظيرتها بالإستناد إلى حجم الموافقة معه.

هكذا يتبين أثر الواقع ودوره في تحديد ما تحمله الفتوى من صور الصدق والموافقة والاتساق أو معارضاتها، كإن يثبت الفحص الواقعي بأن الفتوى نسبية تتلائم مع بعض الظروف، أو هي باطلة لا أصل لها، أو أنها ليست سليمة ما لم تتضمن بعض الشروط من المخصصات أو المقيدات... الخ. هذا بالإضافة إلى أهمية الواقع في مجال إدراك الأحكام وتجديد النظر فيها أو تغييرها استناداً إلى هدي المقاصد الشرعية.

وعليه يخلص يحيى محمد الى أن للدلالة الواقعية أهميتها في الكشف عن مقاصد الأحكام وتغييرها. الأمر الذي يفضي إلى اتخاذ الواقع معياراً لإختبار الأحكام طبقاً للموافقة والمخالفة. وبالتالي فلا بد - كما يؤكد هذا المفكر - من توظيف الدراسات الإنسانية الحديثة للكشف عن حقائق الواقع وسننه وحاجاته، ومن ثم الاستفادة منها ليكون التشريع والإجتهاد عقلانيين لا كما هو سائد الان.

وفي الحقيقة سنظلم الكتابين ان اكتفينا بهذه الكلمات السريعة، فهما يقدمان حلولاً موفقة للاشكاليات المزمنة التي يعانيها الفكر الاسلامي ككل، ولا يغني في حلها ما يقدمه السادة الفقهاء الاجلاء اصحاب تيار الوسطية تحت عنوان (فقه الواقع).

ولكل من يهتم بفقه الواقع (اشكالات وحلول)، سواء من السادة الفقهاء او من غيرهم من المهتمين بالشأن الاسلامي، ادعوه دعوة مخلصة لدراسة هذين الكتابين، ومناقشة الاطروحات التي وردت فيهما، بل ومحاورة الكاتب في ذلك اخذاً ورداً، فعهدنا باستاذنا انه يتعاطي مع النقد بجانبيه الايجابي والسلبي، وصفحات موقعه على شبكة الانترنت حاضرة وهي تشهد له بسعة الصدر في نشر كل ما يتعلق بدراساته من البحوث النقدية والتعريفية.

comments powered by Disqus