-
ع
+

نور الدين أبو لحية: قراءة نقدية لمقال: (عذاب الآخرة والحفر في الصخر!) ليحي محمد

عذاب الآخرة بين القرآن والوجدان

قراءة نقدية لمقال: (عذاب الآخرة والحفر في الصخر!) 

د. نور الدين أبو لحية[1]

كتب العلامة المحقق يحي محمد مقالا بعنوان (عذاب الآخرة والحفر في الصخر!)، أراد منه أن يكون مثالا على (تنافس وتزاحم المعايير المعتمدة في الفهم الديني وفقاً لعلم الطريقة)

وقد بدأ مقاله هذا بتحديد أهم المعايير المعتمدة في الفهم، وهي بحسب رأيه واستقرائه ثلاثة: (المنطق الاستقرائي، والبداهة الوجدانية، والواقع)

وحدد كذلك مراتب القوة في هذه المعايير، وكيفية التعامل معها عند التعارض، فذكر أنه إذا حصل (بين الطرفين شيء من التعارض والتزاحم، فلا بد من ترجيح الأخيرين (أي البداهة الوجدانية، والواقع) على الأول إذا ما اتصفا بالقطع)

واستدل لذلك بأن المنطق الاستقرائي كاشف عن معنى النص، وأنه حتى (لو افترضنا أنه يحقق أعلى المراتب وأنه يعارض في الوقت ذاته البداهة الوجدانية أو حقائق الواقع، من دون امكانية لأي توجيه، فسيكون ذلك على حساب مصداقية النص)

وعلل هذا بأن (القطعية الواردة في الطرفين مختلفة، فهي في الطرف الاول تعبر عن حقائق موضوعية هي الاصل المعتمد عليه لدى سائر المعارف والحقائق. أما القطعية الواردة في النص فهي كاشفة عن معنى النص دون أن تكشف بالضرورة عن الحقائق الموضوعية الخارجية. لهذا كان التعارض المستقطب بينهما ممكناً من الناحية النظرية، ونتيجته تفضي الى إسقاط مصداقية النص دون الطرف المقابل)

وكل ما ذكره من هذه المعاني صحيح، فالمعايير صحيحة، والأدلة قوية، والمثال الذي ذكره كبرهان واقعي على هذا الأمر صحيح، فالحفاظ على الواقع والوجدان حفاظ على النص نفسه (فعندما تعارضت نصوص الكتاب المقدس (الانجيل والتوراة) مع بعض الحقائق العلمية المؤكدة فقد أفضى الأمر إلى التشكيك بمصداقية النص دون الحقائق الواقعية. وعلى الأقل ظهرت محاولات لتأويل النص لينسجم مع تلك الحقائق)

هذه خلاصة المعايير التي ذكرها شيخ علم الطريقة يحي محمد، ونحن لا نجادله فيها، ولكن نجادله في المصاديق التي حاول أن يطبق عليها هذه المعايير، فالإشكال في أكثر الأحيان لا يقع في المفاهيم بقدر ما يقع في المصاديق.

ولهذا نحاول في هذا المقال أن نستبعد أولا ما أطلق عليه يحي محمد اسم (الواقع)، ذلك أن الواقع غيب، والغرض هو البحث عنه انطلاقا مما أتيح لنا من أدلة، ولهذا سنكتفي بالبحث في الموضوع من خلال المصدرين التاليين:

1 ــ النص المقدس، ونقصد به القرآن الكريم، باعتباره الكتاب القطعي الوحيد الذي تسلم له الأمة جميعا، بل يستند ثبوته في حد ذاته إلى الأسس العقلية المنطقية التي لا يمكن تخلفها، فالبراهين كلها تثبت أنه رسالة الله الأخيرة إلى البشرية.

ونريد أن نستبعد هنا التفسيرات المختلفة، فهي لا ترقى لمستوى القرآن الكريم، فالقرآن يفسر نفسه بنفسه، أو يفسره القطعي الصحيح من السنة المطهرة، أما العقول البيانية والعرفانية والكلامية والفلسفية، فهي لا تعدو أن تكون تلميذا بسيطا يحاول أن يفهم القرآن، ولكن القرآن الكريم بعظمته أعلى وأقدس من أن يتقيد بقيودها أو يتحمل أخطاءها.

وقيمة القرآن الكريم في هذه الناحية هو أنه يصف الواقع الفعلي الحقيقي، لأن الذي يتكلم فيه هو الله نفسه يخبر عن نفسه وعن عباده وعن مصيرهم وعن التكاليف التي شرعها لهم .. وهكذا .. فهو ينبئ عن إرادة الله الكونية وإرادته التشريعية، ويصف الوجود وما حدث وما يحدث فيه بدقة متناهية.

ولذلك كان هو المرجع الأعلى في التعرف على حقائق الأمور.. ولذلك فإنه إذا تعارض أصغر أمر فيه، وكله كبير، مع أي شيء آخر قدم القرآن.

وهنا نذكر بأن تلك التعارضات التي تدعى بين القرآن والعقل أو القرآن والواقع لا تتعلق بالقرآن القطعي الواضح، وإنما تتعلق ببعض العقول الانتقائية التي تريد أن تبرز ناحية من القرآن وتعطل ناحية أخرى، مثل الذي وقع من بعض الاتجاهات السلفية التي حاولت أن تزج بالقرآن في أتون عقلها المتخلف، فتصورت أنه يتناقض مع العلم الحديث، ثم تصورت أنه قدمته على العلم، فأساءت إليه أعظم إساءة.

في نفس الوقت الذي نجد فيه المحققين من العلماء من مختلف مجالات المعرفة يستنبطون من القرآن نفسه حقائق العلوم في تخصصاتهم المختلفة، بما فيها تلك المجالات التي وقع فيها أولئك الانتقائيون.

ولهذا، فإن الخطر ليس في النص، وإنما في التعامل مع النص بانتقائية وجزئية وتأويل، وتحميله من الفهوم البعيدة ما لا يحتمل.

2 ــ الوجدان: ونريد به كل المعاني والقيم والمفاهيم التي نجدها في ذواتنا، وباعتبارنا لسنا شيئا واحدا، فمنا البدوي البسيط، ومنا الفيلسوف الذي يقدس العقل، ومنا المفسر الذي يقدس النقل، ومنا المتكلم الذي يحاول أن يجمع بينهما، ومنا العارف الذي يحاول بمرآة قلبه أن يستكشف أسرار الحقائق.. فإنه لا يمكن أن نعتبر الوجدان شيئا واحدا حتى نستدل به.

بل المنهج العلمي يفرض علينا أن نلجأ إلى هؤلاء جميعا لنستفسرهم عن مواقفهم المختلفة انطلاقا من الوجدان الذي يحملونه.

بناء على هذا سنحاول هنا أن نبدأ بتطبيق هذه الموازين على هذه المسألة الخطيرة، مسألة عذاب الآخرة عبر مرحلتين.

في المرحلة الأولى، نحاول التعرف على مقتضيات الوجدان، ودرء التعارض بينها وبين القرآن.

وفي المرحلة الثانية، نحاول الجمع بين القرآن والوجدان.

أولا - درء التعارض بين القرآن والوجدان

ذكرنا عند تحديد الموازين التي سنلجأ إليها عند دراسة هذه المسألة أن الوجدانات تختلف بحسب التوجه والمدرسة الفكرية، والخوض في تفاصيل ذلك يحتاج منا إلى بحث أطول، ولهذا سنكتفي هنا ببيان الوجدان الذي اعتمد عليه يحي محمد ومناقشته، ومناقشة التوجيهات التي اعتمد عليها للجمع بين النص والوجدان.

ذكر يحي محمد عند تطبيقه للمعايير الآنفة الذكر على هذه المسألة أننا (نواجه أحياناً تعارضاً بين تلك المعايير عند التطبيق على الفهم الديني، أبرزها التعارض بين النصوص الكاشفة عن شدة عذاب الآخرة وطول مدته كما يدل عليها الاستقراء النصي من جهة، وبين العدالة الالهية كما تقرها البداهة الوجدانية وتدعمها النصوص؛ بل وتشير إلى أكثر منها بتمام الرحمة من جهة ثانية)

ورأى أن سر هذا التعارض يكمن في (أن لعذاب الآخرة أشكالاً متنوعة ومريعة بالفعل ويجمعها الخلود في النار، ونحن كبشر حينما نقارنها بحجم الجريمة لا نجد بينهما تناسباً، سواء من حيث نوع العذاب أو طول مدته)

وقد حاول لأجل هذا أن يدرأ التعارض بين الوجدان والقرآن بضروب من التوجيه نختصرها فيما يلي:

1 – التفريق بين المفاهيم والمصاديق، فقد اعتبر بأن ما ورد من نصوص (يراد منها ذات المفاهيم التي نتصورها ونتخيلها من صور العذاب المريعة)، ولكن هذه المفاهيم لا تحمل الأدلة الكافية على أنها ستقع، يقول في بيان ذلك: (هل من الضروري ان يكون المقصود من هذه المفاهيم هو حكاية الواقع الفعلي، ام أن دلالاتها المفهومية لا تتضمن المصداق المطابق. فمثلما ان العلاقة المفهومية تحتاج الى دليل، فكذا هو الحال مع العلاقة المصداقية)

2 – اعتباره أن الغرض مما ورد في النصوص المقدسة من ذكر أنواع العذاب وشدته ومدته هو التهديد وهو لا يقتضي حصوله فعلا لأن الغرض منه هو (زرع صورة خيالية للعقوبة والعذاب .. بغية الحفاظ عليه ودفع المكروه عنه دون أي غرض آخر)

يقول في توضيح ذلك: (لذلك هناك غرض محدد وقصد ثابت للتهديدات الالهية، وهو الارتداع، ولولاه لفعل الناس كل ما يهوونه ويشتهونه سراً وعلانية. فهنا ما زلنا في حدود المفهوم والاشارة، اما المصداق الواقعي لهذا المفهوم او الايضاح فنفترض فيه عدم المطابقة لأسباب وجدانية وقرآنية ودينية)

3 – حاول أن يواجه أخطر مشكلة في هذا التوجيه وهي (مشكلة الكذب)، ذلك أنه (عندما يكون المصداق الواقعي حول العذاب الشديد مخالفاً للمفهوم الالهي، فإننا سنقع في محذور هذه المشكلة لجريان المفهوم خلاف الواقع. فالكذب هو الإخبار بخلاف حقيقة الامر، وبالتالي كيف نتصور بان الله تعالى يكذب علينا بمثل هذا الخداع والايهام مهما عظمت الغاية؟)

وقد حاول أن يجيب على هذا الإشكال الكبير ببيان أن (الكذب يأتي بمعنيين: أحدهما قصد الإخبار بخلاف حقيقة الامر، وهو المعنى الذي يسود حالياً، والاخر بمعنى الخطأ في تصوير الواقع من غير قصد لهذا الايهام)

وذكر أن المعنى الأول للكذب، اي ذلك المتضمن للقصد والايهام ليس مذموما دائما، ذلك أنه (قد يتوجب استعماله احياناً دون ادنى خلاف بين البشر. فلو توقف انقاذ نفس بريئة من القتل على الكذب المتعمد لتوجب ولاصبح الصدق مذموماً)

4 - حاول أن ينفي مصطلح الكذب نفسه عن هذا النوع، فقال: ( ولو اردنا توجيه المعنى لقلنا انه صادق، اي صادق النية في الانقاذ من القتل مثلاً. فهو كتوجيه المثل الجاهلي لمقولة (انصر اخاك ظالماً او مظلوماً) وهو ان نصره في حالة ظلمه انما يكون على نفسه الظالمة، فبحسب الحديث ان هذا المثل لم يلغه النبي الاكرم، بل ابقاه ووجهه الوجهة المناسبة لينسجم مع الوجدان والدين)

واستدل لهذا ببعض ما ورد في النصوص من نفي الكذب عن الكذب في حالات عديدة، منها ما رواه البخاري عن رسول الله – صلى الله عليه وآله-: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيراً أو يقول خيراً)[2] 

5 – حاول أن يضع مصطلحا بديلا للكذب وهو (الإيهام) بناء على تقصير المواضعة اللفظية في هذا الباب، لأنها لو (جعلت للمعنى الايجابي لفظاً بعيداً عن المتعارف عليه؛ لسهل تقريب العديد من المفاهيم للاذهان. فاللغة تقترن بالصور النفسية، وكثيراً ما تكون خادعة كالتي يجيد استخدامها الخطباء والسياسيون وذوي المواهب الادبية والبلاغية، وقد تكون اداة طيعة للتغطية على الجهل وضحالة العلم والمعرفة. فكثيراً ما تمارس لايهام السامع وخداعه عبر طنين الكلمات ورطانة الالفاظ)

وقد استدل لهذا بتوظيف القرآن الكريم ألفاظاً لها معان تنسب لله تعالى رغم انها تستخدم لدى الناس – عرفاً - على النحو السلبي، مثل لفظ الاستهزاء والخداع والمكر، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]، وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142]، وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]

6 -  حاول أن يثبت أن القرآن الكريم استخدم صورا للإيهام، كما هو حال ما يطلق عليه المتشابهات، فهي (قد اوهمت الكثير من العلماء، كالذي يدل عليه كثرة اختلافاتهم حول تفسيرها. حتى اعتبر بعض العلماء ان الله تعمد الاتيان بالمتشابهات ليكون ذلك داعياً إلى البحث والنظر وصارفاً عن الجهل والتقليد)

وقد ربط هذه المتشابهات بهذا الموضوع من كوننا نجد حول عذاب الاخرة النصوص (كثيراً ما تبدي التشابه إما لتعارضها مع نصوص اخرى، وقد تكون اساسية محكمة لا تقبل التأويل، او لكونها تواجه بعض الايات التي توحي ان الحال ليس كما نتصوره ونتخيله من نسق العذاب، وهو ما يستدعي اعادة النظر في فهمها)

هذه خلاصة لما ذكر العلامة يحي محمد حول توجيه ما ورد في النصوص القرآنية من ذكر مفصل للعذاب الطويل والشديد الذي يلاقيه العصاة والكفار في المراحل المختلفة من النشأة الآخرة.

ونحن لن نلجأ هنا إلى المناقشة التفصيلية لكل جزئية ذكرها، فنحن نتفق معه في أكثر ما طرحه من معايير، ولكنا نختلف فقط في المصداق، فهل تنطبق تلك المعايير على هذا المصداق أم لا؟

نجيب على هذا ببيان أربعة نقاط مترابطة، أي أن الجواب لا يكمن في مفرداتها بل في مجموعها، وهي:

أولا – دلالة القرآن على عدالة الله ورحمته جميعا:

القارئ للقرآن الكريم لا يصعب عليه أن يرى الأمرين جميعا عدالة الله ورحمته بمنتهى القطعية، فالله عدل وهو رحيم في نفس الوقت، وقد جمع بينهما في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} [الحجر: 49، 50]، وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المائدة: 98]

ولا يصح أن نقبل طرفا في القضية ونلغي الطرف الآخر بحجة أن وجداننا الذي استساغ الرحمة التي لا تتناسب مع المجهود المبذول منا لا يستسيغ العقوبة، فمن قبل زيادة المغنم عليه أن يقبل أيضا زيادة المغرم، كما قال تعالى في شأن نساء النبي - صلى الله عليه وآله - {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)} [الأحزاب: 30-31]

ولهذا فإن ما نقله يحي محمد عن ابن عربي من أن الله تعالى لو (فوّض أمر خلقه إلى أحد من عباده وقدّره ومكّنه من التصرف فيهم، وكان خيّراً غنياً، لأزال العذاب عنهم، وهذا الراحم انا وامثالي، وهو تعالى ارحم الراحمين)

ومثل ذلك ما نقله من الأبيات التي تتنافى مع المضامين القرآنية الدالة على العذاب الشديد[3] ، والألم العظيم الذي يصيب أهل جهنم إلى درجة أنهم يودون الخروج منها، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)} [الزخرف: 74 - 78]، فهل يتصور ممن يستعذب العذاب ويتنعم به أن يتمنى الخروج.

بل ذكر القرآن الكريم أمرا أخطر من ذلك وهو حرمانهم من الحديث مع الله، وهو ما يتنافى تماما مع ما أشار إليه ابن عربي، قال تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون:103 - 108]

بل ذكر ما هو أخطر من ذلك جميعا، وهو الحجاب عن الله، وهو ما يتنافى تماما مع الرؤية العرفانية التي تحدث عنها ابن عربي، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)} [المطففين: 15 - 17]

ولهذا فإنا نتعجب أن يطلق لقب العرفان والمعرفة على هذه المعارضات الواضحة للنصوص القطعية من القرآن الكريم، ومثلها من السنة المطهرة الواردة عن طريق التواتر، فأيهما أكثر عرفانا ابن عربي وأمثاله أم رسول الله - صلى الله عليه وآله – الذي نص على أنه أعرف العارفين بالله، فقال: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي)[4]

ومثله أخبر الله تعالى عن إخوانه من الأنبياء عليهم السلام بأنهم { الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ} [الأحزاب:29]، بل أخبر عن الملائكة بأنهم { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [النحل:50].

ولسنا ندري بعد هذا من هم العارفون هل هم الذين وصفهم الله بالخشية والخوف وتوقي عذاب الله أم الذين يتصورون أن الأمر خلاف ذلك تماما، قال تعالى في وصف العارفين من عباده: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16].وقال تعالى: { إنَّ الَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبّهِمْ راجِعُونَ }ِ [المؤمنون:57-60]، وقال عند ذكره لحديث أهل الجنة بعضهم لبعض: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)} [الطور: 25 - 27]

بينما وصف الجاحدين والعصاة إما بتكذيب العذاب أو التهوين من شأنه، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) } [السجدة: 20]، وقال: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)} [المطففين: 14 - 17]

ثانيا: بيان النصوص لغاية العذاب:

لقد ورد في النصوص القرآنية الكثيرة الإخبار بأن الغاية من كل ما شرعه الله تعالى من العقوبات أو أخبر عنه مما سيحصل في النشأة الآخرة هو لتهذيب النفوس وتصفيتها من الشر الذي فيها، ولحصول مصلحة الزجر والاتعاظ وفطما للنفوس عن المعاودة.

ولهذا ورد في القرآن الكريم أن الغرض من دخول النار هو التطهير والتطييب، لأن الجنة لا يدخلها إلا الطيبون، كما قال تعالى: { طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } (الزمر: من الآية73)

وقد ورد في الحديث قوله - صلى الله عليه وآله -:( يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة) [5]

وفي الحديث الموقوف عن أبي أمامة  قال:( لا يدخل الجنة مؤمن حتى ينزع اللّه ما في صدره من غل حتى ينزع منه مثل السبع الضاري)

وهذا يدل على أن في العذاب المعد لأهل جهنم خاصية تطهير الروح وتطييبها، وأن المكث في جهنم بحسب استعداد الروح للطيبة والتطهير.

وربما نستشف هذا المعنى من الحديث الذي قال فيه - صلى الله عليه وآله -: ( إن عبداً في جهنم لينادي ألف سنة: يا حنان يا منان، فيقول اللّه عزَّ وجلَّ لجبريل اذهب فأتني بعبدي هذا، فينطلق جبريل، فيجد أهل النار مكبين يبكون، فيرجع إلى ربه عزَّ وجلَّ فيخبره، فيقول اللّه عزَّ وجلَّ: ائتني به فإنه في مكان كذا وكذا، فيجيء به، فيوقفه على ربه عزَّ وجلَّ، فيقول له: يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك؟ فيقول: يا رب شر مكان وشر مقيل، فيقول اللّه عزَّ وجلَّ: ردوا عبدي، فيقول: يا رب ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها، فيقول اللّه عزَّ وجلَّ: دعوا عبدي) [6]

ففي هذا الحديث إشارة جليلة إلى أن هذا العبد قد تطيبت روحه وتطهرت وحسن ظنه بربه، فاستحق بذلك أن يخرج من العذاب.

وفي حديث آخر قريب من هذا قال رسول اللّه - صلى الله عليه وآله -:( إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة، يؤتى برجل فيقول: نحّوا عنه كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت يوم كذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا، كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئاً، فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة، فيقول: يا رب عملت أشياء لا أراها ههنا)، قال: فضحك رسول اللّه - صلى الله عليه وآله - حتى بدت نواجذه[7].

فهذا الحديث يشير إلى أن هذا الرجل قد هذب وأدب إلى أن صار يعترف بذنوبه وينبه إلينا.

ولو وضعنا في أذهاننا صورة ذلك الرجل الذي كان يجادل الله والملائكة وجميع الشهود ويحاول أن يخدعهم إلى أن نطقت جوارحه، وطبقناه على هذا الذي هذب بنيران العقوبة، فصار يعترف وحده لرأينا مدى الحكمة التي ينطوي عليها العذاب الذي قدره الله في جهنم.

ثالثا – بيان النصوص لتأثير البلاء في تطهير الفطرة وتقويمها:

لقد ورد في النصوص الكثيرة ما يدل على تأثير البلاء في تطهير الفطرة وتقويمها، كما قال تعالى:{ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (السجدة:21)، فأخبر تعالى أنه يعذبهم رحمة بهم ليردهم العذاب إليه كما يعذب الأب الشفيق ولده إذا فر منه إلى عدوه ليرجع إلى بره وكرامته.

وبين الله تعالى سنته في ذلك بقوله تعالى:{ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} (النساء:147)

وهذه الآية ـ التي جمعت قانون الله في الثواب والعقاب ـ دليل على أن الحكمة تقتضي كون العذاب مصلحة مؤقتة تقتضيها الرحمة المقترنة بالحكمة.

ومن النصوص الدالة على هذا المعنى كذلك قوله تعالى:{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (التوبة: من الآية120)، فقد أخبر تعالى أن يكتب لهم بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرهم، وإنما هي ناشئة عن أفعالهم أعمالاً صالحة وثواباً جزيلاً.

ومنها قوله تعالى:{ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (آل عمران:141)، فأخبر تعالى أن ألم القتل والجراح في سبيله تمحيص وتطهير وتصفية للمؤمنين.

ومن الحديث روي أنه لما نزل قوله تعالى:{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} (النساء:123) شق ذلك على كثير من الصحابة ، حتى أن أحدهم  قال: يا رسول اللّه كيف الفلاح بعد هذه الآية { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} (النساء:123)، فكل سوء عملناه جُزيناه به)، فقال النبي - صلى الله عليه وآله -:( غفر اللّه لك ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تصيبك اللأواء؟)، قال:( بلى)، قال:( فهو مما تجزون به)[8] 

فهذا الحديث يدل على أن القصد من كل ذلك البلاء الذي قد يتوهم أنه شر هو محو آثار الخطيئة من النفس، ومن سجلات الملائكة.

وينص على هذا المعنى قوله تعالى:{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى:30)، وفي هذا تبشير وتحذير، تبشير بالتطهير من الذنوب بالمصائب، وتحذير بالمصائب من المعاصي، فالعدل يقتضي الجزاء، والرحمة تقتضي التطهير.

ولهذا ورد في النصوص الإخبار بأن من عوقب عن ذنب في الدنيا بأنه لا يعاقب عليه في الآخرة، كما ورد في الحديث الشريف عن علي ع قال:( ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثني بها رسول الله - صلى الله عليه وآله -: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى:30) قال لي رسول الله - صلى الله عليه وآله -:( سأفسرها لك يا علي، ما أصابكم في الدنيا من بلاء أو مرض أو عقوبة فالله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم)، وفي لفظ:( أجل من أن يعود بعد عفوه) [9]

وفي حديث آخر قال - صلى الله عليه وآله -:( من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب به فالله أعدل أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستر الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه) [10]

ويستوي في هذا العقوبات التشريعية والقدرية، ولهذا قال - صلى الله عليه وآله - في العقوبات التشريعية:( من أصاب منكم ذنبا مما نهى الله عنه فأقيم عليه حده فهو كفارة ذنبه)[11]، وقال - صلى الله عليه وآله -:( أيما عبد أصاب شيئا مما نهى الله عنه ثم أقيم عليه[حده] كفر عنه ذلك الذنب) [12]

وقال - صلى الله عليه وآله - عن العقوبات القدرية:( ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه) [13]، وقال - صلى الله عليه وآله -:( لا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة) [14]، وأخبر - صلى الله عليه وآله -  أن الحمى تنفي الذنوب كما ينفي الكير الخبيث الحديد[15]، وفي حديث آخر قال - صلى الله عليه وآله -:( لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم) [16]

وسر هذا أن هذا البلاء النازل يكسر سورة النفس وكبرياءها، ويجعلها أهلا لتنزل الرحمة الإلهية، ولهذا ورد في الحديث ما يشير إلى هذا المعنى، بل يكاد يصرح به، حيث قال - صلى الله عليه وآله - في الحديث القدسي:( إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني؟ قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين! قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني؟ قال: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه! أما علمت لو أنك أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني؟ قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي) [17]

ففي هذا الحديث إشارة، بل تصريح إلى أن الله تعالى عند المبتلى رحمة منه له وخيرا وقربا منه لانكسار قلبه بالمرض، فإنه عند المنكسرة قلوبهم.

ووجه الاستدلال بهذه النصوص واضح، وهو أن قانون العقوبات أو التمحيص الإلهي واحد في الدنيا والآخرة، ورب الدنيا والآخرة واحد، وحكمته ورحمته موجودة في الدنيا والآخرة، بل إن النصوص تخبر بأن رحمته في الآخرة أكثر ظهورا من رحمته في الدنيا.

ولهذا، فإن بقاء الخلق في النار مؤمنهم وغير مؤمنهم تابع لنوع ما في نفوسهم من أوزار وذنوب، وهي مختلفة اختلافا شديدا، وتبعا لاختلافها يكون استمرار بقائهم في النار.

ولهذا ورد في النصوص الإخبار بأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، كما قال تعالى:{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} (النساء:145) قال ابن عباس: أي في أسفل النار.

وسر ذلك أن نفوسهم المطاطة المرنة المتحولة يصعب عليها أن تنتقل من حالة الانحراف إلى حالة الاستقامة إلا بعد تطهير طويل عميق.

رابعا ــ سر العذاب وطوله:

قد يقال هنا: فلماذا لا يغفر لهم مباشرة، ويدخلون الجنة من غير مقاساة للعذاب، فتغلب الرحمة الغضب؟

أو كما قال العلامة يحي محمد في بحثه: (ونقرأ احياناً من يقول بانه لا بد من هذا العذاب العظيم لتتطهر به النفوس.. وهو جواب ينطوي على الاقرار ضمناً بانه ليس لله قدرة وسعة ليفعل شيئاً غير هذه الوسيلة للتطهير، مما يتنافى مع المسلمات الدينية والوجدانية)

والجواب عن هذا: إن العدل الإلهي يقتضي المجازاة، كما أن الرحمة الإلهية تقتضي الإحسان، فكان الجمع بينهما، وهو الاسم المركب منهما يقتضي إصلاح هذه النفوس لتصلح للرحمة الإلهية.

قد يقال: كيف يكون الجزاء عادلا، والعباد يجازون على أعمال فانية بجزاء غير فان.. فكيف تتحكم الثواني المعدودة من عمر الزمن الممتد في جزاء لا ينتهي أمده؟

والجواب على هذا هو أن القرآن الكريم يخبرنا عن الارتباط الوثيق بين العدل بالرحمة في جميع أنواع الجزاء، فلذلك تضاعف الحسنات، ولا تجازى السيئات إلا بمثلها، قال تعالى عن جزاء الحسنات:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:40)

وقال تعالى عن جزاء السيئات:{ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (يونس:27)

وقال جامعا بينهما:{ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (الأنعام:160)

أما الكافرون، فإن التصور الخطير الذي يحملونه عن الكون كاف في تخليدهم في العذاب، وإلا لتساوى الكافر مع المؤمن، وهو ما لا تقتضيه العدالة.

وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (فاطر:36)، فقد علل تعالى خلودهم فيها بكفرهم سواء بذكر وصفهم، أو بذكر القانون الإلهي الذي حكم عليهم بذلك.

يقول النورسي معللا سر خلود الكفار في العذاب:( أيها الانسانُ! اِنّ فيك جهتين: جهةُ الايجاد والوجودِ والخير والايجابية والفعل، والاخرى جهةُ التخريب والعدم والشر والسلبية والانفعال.

فعلى اعتبار الجهة الاولى (جهة الايجاد) فانك أقلُّ شأناً من النحلة والعصفور وأضعفُ من الذبابة والعنكبوت. أما على اعتبار الجهة الثانية (جهة التخريب) فباستطاعتك ان تتجاوز الأرضَ والجبال والسموات، وبوسعِكَ ان تحمل على عاتقك ما أشفقن منه فتكسبَ دائرةً أوسعَ ومجالاً أفسح؛ لأنك عندما تقوم بالخير والايجاد فانك تعمل على سعةِ طاقتك وبقدر جهدك وبمدى قوتك، أما اذا قمتَ بالإساءةِ والتخريب، فإن اساءتكَ تتجاوز وتستشري، وان تخريبَك يعم وينتشر)[18] 

ويضرب المثل على ذلك من الواقع بأن الانسان يستطيع هدمَ بيتٍ في يوم واحد الاّ أنه لا يستطيع أن يشيّده في مائة يوم.

ومثل ذلك الكفر، فهو سيئة واحدة، ولكنها ( تُفضي الى تحقير جميع الكائنات وازدرائها واستهجانها، وتتضمن أيضاً تزييف جميع الاسماء الإلهية الحسنى وإنكارها. وتتمخّض كذلك عن إهانة الانسانية وترذيلها؛ ذلك لأن لهذه الموجودات مقاماً عالياً رفيعاً، ووظيفةً ذات مغزى، حيث انها مكاتيب ربانية، ومرايا سبحانية، وموظفات مأمورات إلهية. فالكفر فضـلاً عن إسقاطهِ تلك الموجودات من مرتبة التوظيف ومنزلة التسخير ومهمة العبودية، فانه كذلك يُرديها الى درك العَبَث والمصادفة ولا يرى لها قيمةً ووزناً بما يعتريها من زوالٍ وفراق يبدّلان ويفسّخان بتخريبهما وأضرارهما الموجودات الى مواد فــانيـة تافهة عـقيــمة لا أهمية لها ولا جدوى منها)[19] 

ولذلك كان هذا التخريب العظيم لكل حقائق الكون مقتضيا للخلود في العذاب، يقول النورسي:( فالذين لايعرفون هذا الرحمن الرحيم ولايسعون بالعبودية لحبّه، بل يضلون الى الانكار فيضمرون نوعاً من العداء تجاهه.. هؤلاء ليسوا الاّ شياطين في صور أناسي، وفي حكم نماردة صغار وفراعنة صُغر. ولاشك أنهم يستحقون عذاباً خالداً لانهاية له)[20]

هذا جواب النورسي وهو من القائلين بالديمومة المطلقة للعذاب، أما على القول بفناء العذاب بعد الأحقاب الطويلة، والذي قد يستدعي التساؤل عن سره وكونه يتنافى مع الوجدان ومع الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء.

والجواب عن هذا من جهتين:

الأول: إن تلك الأحقاب الطويلة التي ذكرناها لا تساوي شيئا أمام الأبد، بل إنها بالتعبير الرياضي تؤول إلى الصفر بالمقارنة مع اللانهاية، فلذلك لا ينشغل بالزمن إلا المقيد بقيود الزمن، أما أفعال الله، فهي خارجة عن هذه القيود، ولذلك تحتار عقولنا المحدودة عندما نسمع بتلك الأيام الطويلة للآخرة.

ولذلك عبر تعالى عن قرب القيامة بأنه أتى، كما قال تعالى:{ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (النحل:1) أو بأنه قريب، كما قال تعالى:{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} (الانبياء:1)

وقد ورد في الحديث الشريف أن رسول اللّه - صلى الله عليه وآله - خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلا سف يسير فقال:( والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه وما نرى من الشمس إلا يسيراً) [21]، بل قال - صلى الله عليه وآله -:(  بعثت أنا والساعة هكذا)، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى[22]، وفي لفظ آخر:( بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقني) وجمع الأعمش بين السبابة والوسطى[23].

ومع ذلك، فقد مر على هذا الكلام أكثر من أربعة عشر قرنا، ولعل أجل الآخرة لا يزال ممتدا قرونا أخرى.

وقد أجاب النورسي عن شبهة القول باقتراب الساعة مع عدم وقوعها بعد كل تلك السنين بقوله:( نفهم من هذا أن القرب المذكور في الآية الكريمة لا يناقضه مرور ألف سنة ونيف، اذ الساعة اجل الدنيا. وما نسبة ألف سنة أو ألفين من السنين الى عمر الدنيا الاّ كنسبة يومٍ أو يومين أو دقيقة ودقيقتين الى سني العمر، وكذلك ينبغي ألا يغيب عن بالنا أن يوم القيامة ليس أجل الانسانية فحسب حتى يقاس قربه وبعده بمقياس عمرها، بل هو أجل الكائنات والسماوات والارض ذات الاعمار المهولة التي تندّ عن القياس والحساب) [24]

والثاني: أن قوانين الحكمة الإلهية في عالم المادة تتطلب ـ أحيانا ـ ملايين السنين، بل ملايير السنين لتحقق شيء ما، فالكون الذي نراه بصورته الحالية هو نتيجة تطور دام ملايير السنين، ولهذا، فإن القيامة تقوم على الكون، وهو في أوج كماله، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى:{ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس:24)

فالآية الكريمة أشارت إلى أن الحياة الدنيا باكتمالها تبدأ النشأة الأخرى، فكمال النشأة الأولى مقدمة النشأة الثانية، كما أن كمال مرحلة الصبا يكون بداية لمرحلة البلوغ.

وقوانين المادة تذكر السنين الطويلة لتشكيل الذرة، ثم مثلها لتشكيل الجزيئات، ثم المركبات، ثم الحياة بالصورة البدائية، ثم الحياة بالصورة المتطورة.

فلا يبعد أن تكون قوانين الحكمة الإلهية في عالم المادة هي نفس قوانين عالم الروح مع اختلاف ما تحتاجه الروح عما تحتاجه.

ومما يقوي هذا أن الله تعالى ربط مصير الكفار في جهنم بعمر السموات والأرض، كما قال تعالى:{  فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (هود:107)

ثانيا - الجمع بين النص والوجدان

بعد هذه المناقشة لأستاذنا الجليل أحب أن أدلي هنا بما أراه في المسألة، مما يمكن الجمع بين النص والوجدان جميعا، وأنقل في هذا ملخصا لبحث لي كنت قد كتبته قبل فترة طويلة في كتابي (أسرار الأقدار)، فقد رأيت فيه أن الرحمة الإلهية هي التي ستنتهي إليها جميع المقادير، ولكن بعد أن تؤدي العدالة والحكمة الإلهية أدوارها في التعامل مع الجاحدين والمارقين وغيرهم.

وقد بدأت بحثي هذا بعد شعوري بأن في النصوص القرآنية ما يسمح لعقولنا ومواجيدنا بالولوج في هذا الباب الخطير، وهذا الإذن الشرعي هو الذي يسمح لهذه المسألة أن تطرح، ولولاه ما جاز الحديث عنها، ولتركت لإرادة الله ومشيئته المطلقة.

وورود هذا الاحتمال ـ كما نتصور ـ ليس إذنا للحديث في هذه المسألة فقط، بل نرى أن حقائق القرآن الكريم يجب بثها، ولو كانت من باب الإشارة إن ظهر ما يؤيدها، أما الخوف من آثار البث فلا مبرر له، لأن الله تعالى لو أراد أن لا نبحث في المسألة لما ترك أي احتمال يدل عليها.

وقد استدللت لهذا بنوعين من الأدلة:

الدليل الأول: الإشارات القرآنية بانتهاء العذاب:

وقد اعتمدت في بيان هذه الإشارات على أكثر الناس تشبثا بالظاهر القرآني، وهم أصحاب الاتجاه السلفي، وخصوصا ابن القيم وشيخه ابن تيمية، فقد طرقا المسألة وانتصرا فيها للقول بفناء العذاب، وهذا ما يبين قيمة التجاوز المذهبي في معالجة القضايا المختلفة:

الإشارة الأولى:

أن القرآن الكريم إذا ذكر جزاء أهل رحمته وأهل غضبه معا فرق بين جزاء أهل الرحمة وجزاء أهل الغضب.

ومن ذلك بأن يذكر خلود المؤمنين في الجنة ولا يذكر خلود الكافرين، كما قال تعالى في الكافرين:{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (آل عمران:106) ثم قال بعدها في المؤمنين:{ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آل عمران:107)

أو أن يذكر خلود الكفار مطلقا، ويذكر خلود المؤمنين مؤبدا، كما قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (البينة:6) وفي المقابل قال عن جزاء المؤمنين:{ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة:8)

أو أن يذكر خلود الكفار مع الاستثناء والإخبار عن إرادة الله، كما قال تعالى:{  فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (هود:107)بينما يعبر عن عدم انقطاع نعيم أهل الجنة، كما قال تعالى:{ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود:108)

وقد يقال هنا: ولكن في مقابل ذلك قد ورد في النصوص الجمع بينهما في الذكر، والقضاء لهم بالخلود جميعا، كقوله تعالى:{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (النساء:13)، وقوله بعدها عن العصاة:{ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (النساء:14)

والجواب عن هذا ـ كما يذكر ابن القيم ـ أن مجرد ذكر الخلود والتأبيد لا يقتضي عدم النهاية، لأن الخلود هو المكث الطويل، كقولهم قيد مخلد.

زيادة على أن تأبيد كل شيء بحسبه، فقد يكون التأبيد لمدة الحياة، وقد يكون لمدة الدنيا، كما قال تعالى عن اليهود:{  وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (البقرة:95) مع العلم أنهم يتمنون الموت في النار حيث يقولون:{ يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} (الزخرف:77)

زيادة على هذا، فإن الله تعالى ذكر خلود بعض أهل المعاصي في النار مع إجماع العلماء على أن الموحدين يخرجون منها، كما مر سابقا.

ومن ذلك قوله تعالى:{ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (النساء:14)،، وقوله تعالى:{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} (التوبة:63)

وهذان النصان قد يؤولان بالكفار، إلا أن قوله تعالى:{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء:93) لا يمكن تأويله، فالآية السابقة تتحدث عن قتل المؤمن للمؤمن، كما قال تعالى:{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء:92)

وقد روي في النصوص ما يؤيد هذا، كما روى سالم بن أبي الجعد قال: كنا عند ابن عباس بعدما كُفَّ بصره فأتاه رجل فناداه: يا عبد اللّه بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً؟ فقال: جزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً، قال: أفرأيت إن تاب وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى؟ والذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم - صلى الله عليه وآله - يقول: ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمداً، جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني، وإيم الذي نفس عبد اللّه بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم - صلى الله عليه وآله - وما نزل بعدها من برهان)[25]  

فهذه النصوص مع ما تواترت به الأحاديث عن رسول اللّه - صلى الله عليه وآله - من أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان يدل على أن الخلود لا يعني بالضرورة الأبد.

فنحن بهذا: بين أن نقول بخلود عصاة الموحدين في النار، وبين أن نعتبر أن لفظ ( الخلود) لا يدل بالضرورة على الأبد الذي لا نهاية له، والقول الثاني أهون من القول الأول.

قد يقال هنا: فأهل الجنة كأهل النار إذن، فلا خلود للطرفين، ما دامت النصوص الدالة على الخلود واحدة.

والجواب عن هذا أن الله تعالى خص أهل الجنة بما يدل على الخلود الحقيقي الذي هو الأبد الذي لا نهاية له، ومن ذلك قوله تعالى:{ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} (صّ:54)، وقوله تعالى عن نعيم الجنة:{ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود: من الآية108)، وقوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (فصلت:8)، وقوله تعالى:{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (الانشقاق:25) أي غير مقطوع، بخلاف أهل النار، فإنه لم يرد فيهم مثل هذا.

وقد ذكر ابن القيم وجوها كثيرة لتميز الجنة عن النار تقتضي خلود الجنة دون النار، ومنها[26]:

1.     أنه تعالى أخبر بما يدل على انتهاء عذاب أهل النار في عدة آيات، ولم يخبر بما يدل على انتهاء نعيم أهل الجنة، ولهذا احتاج القائلون بالتأبيد الذي لا انقطاع له إلى تأويل تلك الآيات، ولم يجيء في نعيم أهل الجنة ما يحتاجونه إلى تخصيصه بالتأويل.  

2.     أن الأحاديث التي جاءت في انتهاء عذاب النار لم يأت شيء منها في انتهاء نعيم الجنة.  

3.     أن الصحابة والتابعين  إنما ذكروا انقطاع العذاب، ولم يذكر أحد منهم انقطاع النعيم.    

4.     أنه قد ثبت أن الله تعالى يدخل الجنة بلا عمل أصلا بخلاف النار.  

5.     أنه تعالى ينشئ في الجنة خلقا يمتعهم فيها، ولا ينشئ في النار خلقا يعذبهم بها.  

6.     أن الجنة دار فضله، والنار دار عدله، وفضله يغلب عدله. 

7.     أن النار دار استيفاء حقه الذي له، والجنة دار وفاء حقه الذي أحقه هو على نفسه، وهو سبحانه يترك حقه ولا يترك الحق الذي أحقه على نفسه.  

الإشارة الثانية:

أن القرآن الكريم يستثني بعد ذكر الخلود، فيرجع الأمر إلى المشيئة، وذلك كقوله تعالى:{  فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (هود:107)، بينما ذكر أهل الجنة بعد الاستثناء بأن عطاءهم غير مجذوذ، كما قال تعالى:{  وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود:108)

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:( أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال تعالى:{ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود:108)، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار)[27] 

ومثل ذلك ما ورد من الاستثناء، بل رد الأمر إلى حكمة الله وعلمه في قوله تعالى:{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام:128) وقال ابن عباس معلقا على هذه الآية:( إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارا)

وقد ذكر ابن القيم وجوها لاستبعاد ارتباط الاستثناء في هذه الآية بغير الكفار، ومنها[28]:

1.     استكبارهم منهم أي من إغوائهم وإضلالهم وإنما استكبروا من الكفار.

2.     أنه عبر عنهم بأنهم أولياؤهم، وأوليائهم هم الكفار، كما قال تعالى:{ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} (لأعراف: من الآية27)، فحزب الشيطان هم أولياؤه.

3.     أنهم شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين، ومع هذا قال:{ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ }، ثم ختم الآية بقوله تعالى:{  إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }، فتعذيبهم متعلق بعلمه وحكمته، وكذلك الاستثناء صادر عن علم وحكمة، فهو عليم بما يفعل بهم حكيم في ذلك.

الإشارة الثالثة:

أن القرآن الكريم قيد لبث الكفار في جهنم بعدد محدود تعرفه العرب، وهو (الأحقاب) في قوله تعالى:{ لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً } (النبأ:23)، فهذا اللفظ يدل على مدة مقدرة يحصرها العدد، كما تقدم من النصوص الدالة على ذلك.

ولهذا تهرب المخالفون إلى التأويل، فتأول الزجاج الآية على أن الأحقاب تقييد لقوله تعالى:{ لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً } (النبأ:24)، وأما مدة مكثهم فيها فلا يتقدر بالأحقاب.

وقد استبعد ابن القيم هذا التأويل بحجة أنه يقتضي أن يكونوا بعد الأحقاب ذائقين للبرد والشراب.

ونحن مع كلا الحالين الظاهر منهما والمؤول، فكلاهما يقتضي نهاية العذاب سواء بالخروج من النار، أو بالبقاء فيها مع انتهاء العذاب.

أما القول بأن الآية منسوخة بالنصوص الدالة على الخلود، فغير صحيح، لأن النسخ لا يدخل في الخبر إلا إذا كان بمعنى الطلب، فإن أرادوا بالنسخ البيان فهو صحيح، وهو إنما يدل على أن عذابهم دائم مستمر ما دامت باقية فهم فيها خالدون، وما هم بمخرجين.

وفرارا من هذه التأويلات استدل بعضهم على أن ذكر الأحقاب لا يدل على النهاية بعدم تقديرها بالعدد، فإنه لم يقل عشرة ولا مائة، ولو قدرت بالعدد لم يدل على النهاية إلا بالمفهوم، فكيف إذا لم يقدر، ونصوا على أنه كلما مضى حقب تبعه حقب لا إلى نهاية.

والرد على هذا هو أن أهل النار يختلف مكثهم فيها أو عذابهم بها ـ كما سنرى ـ بحسب استعدادهم، فلذلك لا يمكن تحديد مكثهم فيها بأحقاب معينة.

وقد رد ابن القيم على استدلالهم بأنه لو أريد بالآية بيان عدم انتهاء مدة العذاب لم يقيد بالأحقاب، فإن ما لا نهاية له لا يقال هو باق أحقابا ودهورا وأعصارا أو نحو ذلك، ولهذا لا يقال ذلك في نعيم أهل الجنة، ولا يقال للأبدي الذي لا يزول هو باق أحقابا أو آلافا من السنين.

زيادة على أن الصحابة ، وهم أفهم لمعاني القرآن فهموا منها خلاف ذلك، وقد قال ابن مسعود :( ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا)[29]

الدليل الثاني: المعارف الإلهية

وهي من الأمور التي استند إليها العلامة يحي محمد عند بيانه لتعارض العذاب مع الوجدان، وهو صحيح، ذلك أن بناء المقادير جميعا قائم على أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، فلا يشذ شيء عن هذه الأسماء.

ولكن المعرفة الأسمائية الكاملة هي التي تعطي لكل اسم حقه وتأثيره الخاص به، فلا ينسخ اسم اسما، ولا يستبعد اسم اسما، وإلا شكلنا بأهوائنا إلها على مزاجنا.

ولهذا فإن القول بوجود العذاب ثم انتهائه بعد أداء دوره أكمل في هذه الناحية من القول بعدم تحققه إطلاقا.

وهذا المعنى من تحقق تأثير جميع الأسماء الحسنى هو ما تدل عليه النصوص القرآنية الكثيرة، ذلك أن الله تعالى تسمى بالغفور الرحيم، ولم يتسم بالمعذب ولا بالمعاقب، بل جعل العذاب والعقاب في أفعاله، فهو فعل لا وصف.

وهذا التفريق واضح في القرآن الكريم، ومنه قوله تعالى:{ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الحجر:49) ثم قال بعدها:{ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} (الحجر:50)

ومثل ذلك قوله تعالى:{ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيم} (الأنعام: من الآية165)

ومثله قوله تعالى:{ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (الأنعام:147)

ومثله قوله تعالى:{ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} (البروج:12) ثم قوله بعدها:{ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} (البروج:14)

ومثله قوله تعالى:{  غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (غافر:3)

ثم إنه تعالى يتمدح  في أسمائه الحسنى بالعفو والمغفرة والرحمة والكرم والحلم، ويتسمى بها، ولم يتمدح بأنه المعاقب ولا الغضبان ولا المعذب ولا المسقم[30].

ثم إن الله تعالى قد كتب على نفسه كتابا بأن رحمته سبقت غضبه، وهذا الكتاب لا يخلف ولا يبدل.

بل إنه تعالى رحم أهل النار، وسبقت رحمته غضبه في كل شؤونهم: رحمهم في حال شركهم بإقامة الحجة عليهم، وبدعوتهم إليه بعد أن أغضبوه وآذوا رسله وكذبوهم، وأمهلهم ولم يعاجلهم، بل وسعتهم رحمته فرحمته غلبت غضبه.

ثم إن الرسول - صلى الله عليه وآله - أخبر في حديث الشفاعة عن قول أولي العزم من الرسل:( إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) [31]، وهو تصريح بأن هذا الغضب العظيم لا يدوم.

وبما أن أهل النار إنما دخلوها بما استوجبوه من ذلك الغضب، فلذلك لو دام ذلك الغضب لدام عذابهم، إذ هو موجب ذلك الغضب، فإذا رضي الله تعالى وزال ذلك الغضب زال موجبه.

ومثل ذلك ما ورد في النصوص من أن عقوبات الدنيا العامة آثار غضب الله، فإذا استمر غضبه استمر ذلك البلاء، فإذا رضي وزال غضبه زال البلاء وخلفته الرحمة.   

ثم إن النصوص أخبرت بأن رضى الله أحب إليه من غضبه، وعفوه أحب إليه من عقوبته، ورحمته أحب إليه من عذابه، وعطاءه أحب إليه من منعه.

بل أخبرت أن الأصل هو الرضى والعفو والرحمة والعطاء، وإنما يقع ما يضادها بأسباب تناقص موجب تلك الصفات والأسماء[32].

قد يقال هنا: بأن من أسماء الله ما يقتضي خلودهم في العذاب، فالعذاب صادر عن عزته وحكمته وعدله، وكل هذه أسماء حسنى، فكيف تقدم الرحمة عليها؟

والجواب عن هذا مرتبط بما يمكن تسميته (أحكام أسماء الله المركبة)، فإذا أراد الله تعالى أن يرحم عبدا غفر له، فتكون المغفرة مقدمة للرحمة، ووسيلة لها، فلذلك كان من أسماء الله الحسنى اسم ( الغفور الرحيم)، فكذلك عزة الله وحكمته وعدله قد تقترن برحمته وجوده ومغفرته، فتكون ( عزة مقرونة برحمة، وحكمة مقرونة بجود وإحسان وعفو وصفح، فالعزة والحكمة لم يزالا ولم ينقص بل صدر جميع ما خلقه ويخلقه وأمر به ويأمر به عن عزته وحكمته) [33]

ثم إن الله تعالى بحكمته ورحمته – كما عرفنا سابقا - لم يجعل العذاب مقصودا لذاته، بخلاف الرحمة والإحسان والنعيم فقد جعل مقصودة لنفسها، فالإحسان غاية والعذاب والألم وسيلة، فلا يصح قياس أحدهما على الآخر.

ثم إنه تعالى أخبر أن رحمته وسعت كل شيء، كما قال تعالى:{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} (غافر: من الآية7)، وقال تعالى:{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (لأعراف: من الآية156)

وهذه الرحمة الواسعة التي شملت كل شيء لا يستحيل أن تشمل هؤلاء المعذبين بعد انقضاء فترة طويلة على حسب ما يوجبه العدل والحكمة، وقد ورد في الحديث عن جندب بن عبد اللّه البجلي قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته، ثم عقلها ثم صلى خلف رسول اللّه - صلى الله عليه وآله - فلما صلى رسول - صلى الله عليه وآله -  أتى راحلته، فأطلق عقالها، ثم ركبها، ثم نادى:( اللهم ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً)، فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وآله -:( أتقولون هذا أضل أم بعيره، ألم تسمعوا ما قال؟)، قالوا:( بلى)، قال:( لقد حظرت رحمة واسعة، إن اللّه عزَّ وجلَّ خلق مائة رحمة، فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وإنسها وبهائمها، وأخرّ عنده تسعاً وتسعين رحمة، أتقولون هو أضل أم بعيره؟)[34]

قد يقال هنا: إن الله تعالى أخبر بعد ذكره سعة رحمته أنه يكتبها للمؤمنين الذين ذكر مواصفاتهم في قوله تعالى عقب ذكر سعة رحمته:{ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} (لأعراف: من الآية156)، وهي بذلك رحمة خاصة بالمؤمنين لا تتسع لغيرهم.

والجواب عن هذا: إن الرحمة المكتوبة في هذه الآية هي الرحمة الخالصة، فلذلك يدخل هؤلاء المستظلون بظل هذه الرحمة إلى الجنة مباشرة من غير عقاب، أما الرحمة المقترنة بعدل أو بحكمة، فلم تنفها الآية عن غيرهم، بدليل ما تواتر من النصوص من دخول من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان الجنة مع كونه ليس منصوصا عليه في هذه الآية.

وذكر الرحمة الخاصة بعد الرحمة العامة ليس غريبا في النظم الققرآني الذي قد يستطرد من الخاص إلى العام أو العكس حسبما يقتضيه المقام.

ومن ذلك قوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (لأعراف:189)، فهذا استطراد من ذكر الأبوين إلى ذكر الذرية.

الإحالات



[1]
                  ([1]) أستاذ بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الإسلامية ــ جامعة باتنة ــ الجزائر.

[2]
                  ([2]) رواه أحمد وغيره.

[3]
    ([3]) وهي قوله:    فلم يبق الا صادق الوعد وحده                 وما لوعيد الحق عين تعاين    وان دخلوا دار الشقـاء فانـهم                   على لذة فيها نعيم مباين    نعيم جنان الخلد فالامر واحد                   وبينهما عند التجلي تباين    يسمى عذاباً من عذوبة طعمه                  وذاك له كالقشر والقشر صاين

[4]
                  ([4]) رواه البخاري ومسلم.

[5]
        [5])  رواه أحمد والبخاري.

[6]
        [6])  رواه أحمد.

[7]
        [7])  رواه مسلم.

[8]
                  ([8])  مسند أحمد (1/11).

[9]
        [9])  رواه أحمد أبو يعلى، وفيه أزهر بن راشد وهو ضعيف.

[10]
        [10])  رواه أحمد وابن جرير وصححه.

[11]
        [11])  رواه الحسن بن سفيان وأبو نعيم عن خزيمة بن ثابت.

[12]
        [12])  رواه ابن حبان.

[13]
        [13])  رواه البخاري ومسلم.

[14]
        [14])  رواه أحمد والنسائي وابن ماجة..

[15]
        [15])  رواه الطبراني في الكبير.

[16]
        [16])  رواه البخاري في الأدب المفرد.

[17]
        [17])  رواه مسلم وغيره.

[18]
        ([18])  الكلمة الثالثة والعشرون، النورسي.

[19]
        ([19])  الكلمة الثالثة والعشرون، النورسي.

[20]
        ([20])  الكلمة الثالثة والعشرون، النورسي.

[21]
        [21])  رواه أحمد والترمذي والحاكم.

[22]
        [22])  رواه البخاري ومسلم.

[23]
        [23])  رواه أحمد.

[24]
        [24])  الكلمة الرابعة والعشرون، النورسي.

[25]
                  ([25]) رواه النسائي.

[26]
                  ([26])  شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (25/ 15)

[27]
                  ([27]) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (25/ 19)

[28]
                  ([28]) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (25/ 4)

[29]
                  ([29]) انظر الأقوال الكثيرة في تفسير الأحقاب في: تفسير ابن كثير / دار طيبة (8/ 306)

[30]
        [30])  إلا في الحديث الذي فيه تعديد الأسماء الحسنى ولم يثبت.

[31]
        [31])  رواه البخاري ومسلم.

[32]
        [32])  شفاء العليل: 264.

[33]
        [33])  شفاء العليل: 263.

[34]
        [34])  رواه أحمد وأبو داود.

comments powered by Disqus