-
ع
+

نظريات الإحتمال لدى الغربيين (2): النظريات الموضوعية

يحيى محمد

للنظريات الموضوعية علاقة بالمفهوم التكراري للإحتمال. وترتبط النظرية التكرارية بعدد من المفكرين بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، واخذت تثبّت اقدامها شيئاً فشيئاً حتى تهيء لتطبيقاتها ان تدخل ضمن المجال العلمي1. ففي الاربعينات من القرن التاسع عشر طرح أليس في عدد من الصفحات الفكرة الخاصة بهذه النظرية، ومثل ذلك ما فعله كورنو Cournot في كتابه (حساب نظرية المصادفات والإحتمالات) سنة 1843، وهو ممن نقد لابلاس حول احتواء نظريته على البعد الذاتي وقسّم الإحتمال إلى نوعين؛ أحدهما رياضي والآخر فلسفي، كما يحلو له ان يسميه، وهو التقسيم الذي ورد ايضاً لدى كل من ابلت Aplet في كتابه (نظرية الإستقراء) سنة 1854، واستاذ الأخير فريز Fries في كتابه (نظام المنطق) سنة 1811، وجميعهم إعتبروا الإحتمال الرياضي يقاس بحسب الصرامة والدقة الفيزيائية بخلاف الإحتمال الفلسفي. فالإحتمال الرياضي له وظيفة القياس للامكانية الفيزيائية، وهو يعبّر عن قانون تُسند إليه الظواهر الخارجية التي تمتاز بكونها مصادفات عشوائية ذات طبيعة موضوعية لا تتوقف على إدراك العقل البشري2. ثم جاء جون فِن فقام بتطوير النظرية في بحثه المعنون (منطق المصادفة) سنة 1866. كذلك جاء بعدهم بيرس Peirce الذي بحث الموضوع ذاته فاضفى عليه بعض الابعاد الجديدة3، واخذت النظرية تتطور أخيراً لدى كل من ميزس وريشنباخ وغيرهما خلال القرن العشرين، الأمر الذي جعلها أكثر دقة وقبولاً.

وقد جاءت هذه النظرية كرد فعل على الإعتقاد ‹‹القبلي›› للإحتمال كما ارساه لابلاس في مبدئه القائل بتساوي الحالات الممكنة، حيث رفضت مبدأ عدم التمييز الذي عدته عديم الفائدة في الكشف عن القيم الإحتمالية، خصوصاً وانه يقع في المشكلة المسماة ‹‹تناقض برتراند››. وبحسب هذه النظرية ليس هناك إلا طريق واحد يجيب عن تلك المشكلة، وهو الطريق الذي يتحدد بتأسيس الإحتمال على التجربة، فعوضاً عن أن يكون تساوي الإمكان هو الذي يؤسس فكرة تساوي الإحتمال، كما تلجأ إليه النظرية السابقة، أصبح تساوي التردد والتكرار هو مصدر القول بتساوي ذلك الإحتمال4. وهذه النتيجة لا تتضمن مفهوم الإحتمال سلفاً، ولا مغالطة المصادرة على المطلوب.

وعلى رأي العديد من الباحثين ان جون فِن هو أول من اشار إلى التصور التكراري للإحتمال بشكل واضح ومنظم خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر5، وانه من الاوائل الذين قاموا بنقد النظرية التقليدية حول ما تتضمنه من القبلية في فكرتها عن التساوي في الإحتمالات، وكونها لا تتحدث عن الإحتمال بوصفه يعبّر عن تصور للحوادث وعلاقاتها الخارجية وصفاتها الخاصة، وبالتالي فقد خلص فِن من أنه لا بد من التمييز بين التساوي في الحساب الإحتمالي لإعتقادنا الشخصي كما تعبر عنه النظرية التقليدية، وبين التساوي في الحساب في تكرارات الحدوث للحادثة، وإعتبر ان التصور الأخير هو الصحيح دون الأول6.

وطبقاً لكارناب فإن اصحاب النظرية التكرارية لم يعلنوا رفضهم للتفسير التقليدي للإحتمال وابداله بمفهومهم الجديد، بل حسبوا تصورهم للإحتمال هو ذات التصور الذي حمله الكتّاب الاوائل، وبالتالي فانهم يعدون انفسهم قد ساهموا في صياغة المفهوم بمزيد من الدقة والضبط، وجعلوه أكثر سعة وشمولاً مما كان عليه. لذا فسروا لفظة الإحتمال عند لابلاس لا بمعناه المنطقي، وإنما بالمعنى الاحصائي، لكن جوهر اعتراضهم قد انصب على مبدأ عدم التمييز الذي هجروه كلياً7.

وعلى العموم هناك مذهبان لهذه النظرية، أحدهما يكتفي بالتكرار المحدود في معرفة القيمة الإحتمالية، والآخر ينفي تحديد التكرار بحد معين، إنما يجعله طريقاً مفتوحاً بغير نهاية. وتفصيل الحديث عن هذين المذهبين سيكون كالآتي:

مذهب التكرار المتناهي

يُنسب هذا المذهب في الاصل إلى الفيلسوف ثيودور فيشنر Theodor Fechner الذي نُشر عمله بعد وفاته (سنة 1897)، وجاء بعده كل من برونز Heinrich Bruns وهيلم George Helm 8، ثم تبنى المذهب عدد من المفكرين المعاصرين، أبرزهم برتراند رسل، كما في كتابه (المعرفة الإنسانية)، بإعتبار ان هذا الإتجاه يسمح بانشاء الإحتمال الرياضي ببساطة، وانه يفي بشروط بديهات الإحتمال وحساباته9.

وتتحدد القيمة الإحتمالية في هذا الإتجاه من خلال وجود فئة متناهية تشترك في بعض الأفراد بالانتماء إلى فئة أخرى. فإذا عرفنا عدد تكرر هذا الاشتراك كان بالإمكان تحديد درجة إحتمال انتساب أي عضو من الفئة الأولى إلى الفئة الثانية، وذلك من خلال ايجاد نسبة رياضية بين عدد الأعضاء المشتركين وبين مجموع كافة أفراد الفئة المتناهية10. فإذا رمزنا إلى عدد الفئة الأولى بـ (ل)، وعدد تكرر الاشتراك لدى اعضائها بـ (ك)، فإن قيمة إحتمال أن ينضم فرد ما من الفئة الأولى إلى الفئة الثانية هو: (ح = ك\ل).

فمثلاً إذا كنا نعرف ان عدد أنواع الطفيليات مائة نوع، وكنا نعلم ان خمسة وعشرين منها لها القابلية على توليد المرض للإنسان؛ ففي هذه الحالة لدينا فئة متناهية هي الطفيليات، وفئة أخرى هي صفة القابلية على توليد المرض، وايضاً هناك اشتراك بين الفئتين لدى مجموعة من أعضائهما. لذا ان تحديد قيمة إحتمال أن يكون الطفيلي ممرضاً هو: (25%).

هذا هو ما يريده الإتجاه المتناهي للتكرار في فهم الإحتمال. ويلاحظ انه لا ينطبق على الفئات والقضايا غير المتناهية، وان التحديد الرياضي للعلاقة بين عدد الأفراد الكلية وعدد تكرر الاشتراك داخلها لا يعطي أي قيمة نهائية للإحتمال فيما لو فرضنا وجود عدد لا نهائي للافراد. الأمر الذي دعا عدد من المفكرين إلى ايجاد صياغة أخرى للإحتمال تأخذ بعين الإعتبار الفئات غير المتناهية التي يتشكل منها اغلب قضايا الواقع.

وعلى رأي بريثوايت ان هذا النوع من الإحتمال لا ينفع في التحديد العلمي، فهو يتضمن ان يكون عدد الأعضاء في مقام الكسر محدوداً نهائياً، بينما الإحتمال في المجال العلمي لا يتضمن نهاية الأعضاء، وإلا امتنع التعميم، ويكون الإحتمال خاصاً بالعدد المحدود من تلك النماذج، مما يجعل القضية عموماً ليست في عداد الإفتراض العلمي، إذ مهما تهيأ لنا من عدد المشاهدات فهناك زيادة ربما توظف ضد الفرضية العلمية. مما يعني انه إذا كان بإمكان التكرار المحدود ان يؤسس الحقيقة للقضية الإحتمالية بشكل نهائي، فإن ما يحصل في المجال العلمي هو غير ذلك بالمرة، إذ كل نتيجة نتوصل إليها إنما هي نتيجة مؤقتة قابلة للتعديل بفعل ما يوجد من الاعداد غير المتناهية للحالات11.

وهناك عدد من الاعتراضات ابداها المفكر الصدر اتجاه هذا التفسير للإحتمال. فهو يرى ان هذا المذهب يشترط ان يكون لدينا علم بعدد أفراد الفئة (ل) و(ك)، مما يعني اننا لو لم نعلم بالتحديد عدد الأعضاء المشتركة بين الفئتين لما أمكن ان نحدد نسبة الإحتمال، لأنها تفترض العلم التام بعدد هذه الأعضاء12. كذلك فيما لو لم يكن لدينا علم بوجود أعضاء مشتركة، أي كنا نحتمل ذلك، فإنه لا يمكننا ان نحدد النسبة الإحتمالية. كما انه في حالات معينة قد تكون هناك حادثة محتملة الوجود من غير تكرار، ففي هذه الحالة لا يمكن أن يطبق عليها ذلك المفهوم، مثل إحتمال وجود زرادشت كإنسان كان يدعي النبوة ويدعو إلى الاباحية13. يضاف إلى ان التعريف السابق يزودنا بنسبة إحتمالية كلية، ففي مثالنا السابق عن الطفيليات الممرضة استطعنا ان نستنتج النسبة الإحتمالية لأي طفيلي - لا على التعيين - بقيمة قدرها (1\4) طالما كان لدينا علم بعدد أفراد الفئة المتناهية وعدد الأعضاء المشتركة. فهذه النسبة كلية ثابتة لأنها نتجت عن معرفتنا بعدد الفئتين (ل) و(ك). لكن هناك نسبة إحتمالية أخرى مشتقة من تلك النسبة الكلية، وهي ما تتعلق بالفرد الواقعي المشخص، كإن نقول - استناداً إلى معرفة تلك النسبة الكلية - ان هذا الطفيلي يحتمل له بدرجة (1\4) ان يكون ممرضاً. وعليه فإن اضفاء نفس النسبة من القضية الكلية على القضية الواقعية يحتاج إلى بديهة تقر بضرورة التطابق بين القضيتين، فبدون هذه البديهة لا يحق لنا تحديد القيمة الإحتمالية للقضية الواقعية14.

وعلى هذه الشاكلة يمكن أن نذكر بديهة أخرى يقتضيها التعريف، وهي انه لما كانت النسبة الكلية تعتمد على ما يرد من معلومات واقعية فإنها قد تكون قابلة للخطأ وعدم الدقة، حيث انه ليس في جميع الأحوال يمكن أن نعرف بالدقة التامة عدد أفراد الفئة (ل) و(ك)، وعليه فحين نحدد هذا العدد، ومن ثم نقيم النسبة الرياضية، سنحتاج إلى بديهة للتقدير تقر بضرورة ان تكون القيمة الإحتمالية مقدرة على ضوء ما يتحقق لنا من معلومات واقعية. الأمر الذي يعني انها قابلة للتبديل والتغيير طبقاً لتغير البينات المستمدة من الواقع.

مذهب التكرار اللامتناهي

يعد جون فن أول من صاغ فكرة الحد في سلسلة صاعدة من التكرار (سنة 1866). فتحديد قيمة إحتمال الحادثة يأتي عنده من خلال النسبة القائمة بين نوعين من الحوادث في سلسلة طويلة دون توقف، فكلما ازداد استمرارنا في تتبع سلسلة التكرار كلما أخذت النسبة نحو الثبات تدريجاً حتى ينتهي الأمر إلى الوصول إلى قيمة حدية ثابتة15. وقد أخذت هذه الفكرة بعداً متطوراً لدى ميزس وريشنباخ. فميزس حدد الإحتمال عبر لحاظ التكرار داخل سلسلة طويلة وكبيرة من النتائج المشاهدة، وذلك حتى يتم التوصل إلى قيمة حدية ثابتة، وهي القيمة التي يعتمد عليها في تحديد قياس الحوادث الجديدة16. أي ان العملية تتخذ شكلاً برنولياً، حيث تختبر الحادثة ضمن سلسلة طويلة من التكرار فيتم تحديد النسبة التكرارية للحادثة، وهي قيمة حد التكرار التي تتحدد عليها قيمة إحتمال الحادثة في المستقبل17.

وتوضيحاً لهذه الفكرة ذكر ميزس مثالاً يتعلق بمعرفة قيمة إحتمال ظهور وجه معين من وجهي قطعة نقد، سواء كانت القطعة منتظمة أو غير منتظمة، وصادر وجود مسلمة أساسية لا بد منها لتحديد الإحتمال، وهي تنص بأنه عند تكرار الرمي طويلاً فإن النسبة التي سنحصل عليها من ظهور وجه الصورة مثلاً تميل لأن تصل إلى قيمة محددة ثابتة، وهي قيمة إحتمال ظهور ذلك الوجه من القطعة. فكلما زاد التكرار كلما زاد التوقع من الوصول إلى قيمة الحد الثابتة.

فعلى هذه المسلمة اخذ يفسر ما جاء في نظرية (برنولي - بوسن) المسماة بقانون الاعداد الكبيرة18، وكذا نظرية بايس التي أطلق عليها القانون الثاني للأعداد الكبيرة، لتشابهها مع الأول. وينص القانون الأول بأنه لو رمينا تلك القطعة من النقد مرات كبيرة العدد فسوف نحصل بإحتمال كبير يقارب الواحد على ما يقارب تلك النسبة. فمثلاً لو رمينا قطعة النقد ألف مرة وتبين لنا ان النسبة الإحتمالية قد أخذت الثبات نحو الحد بقيمة إحتمالية معينة، فإنه على ذلك يمكننا توضيح ما يتعلق بنظرية برنولي، حيث نتوقع انه لو اردنا ان نرمي القطعة إلى عدد كبير كإن يكون مليون مرة فإنه تبعاً لهذه النظرية سنتوقع بإحتمال كبير ان النسبة الإحتمالية التي سنحصل عليها هي ذات تلك النسبة التي حصلنا عليها من قبل، مع اختلاف ضئيل جداً. وعلى نفس الشاكلة قام ميزس بتفسير نظرية بايس أو القانون الثاني للاعداد الكبيرة، والذي ينص بأنه في حالة وجود عدد كبير من قطع النقد المختلفة وقد اظهرت نسبة ظهور كل واحدة منها في رميات طويلة قيمة حدية معينة، فإنه في الرميات الكبيرة مجتمعة سنتوقع ان نسبة تردد ظهور وجه الصورة تتخذ حداً ثابتاً هو نفس ذلك الحد الذي وجدناه لدى مجموع ما ظهر في الرميات الأولى المشاهدة مع اختلاف ضئيل جداً.

وعند ميزس انه سواء ما يتعلق بالقانون الأول (برنولي)، أو القانون الثاني (بايس)، فإن الأمر يعتمد على المسلمة الأساسية التي مرت معنا، وبدونها لا يصح القانونان19. لذلك فإن هناك من إعتبر النظرية التكرارية لها جذور تعود إلى قانون الاعداد الكبيرة لبرنولي. بل وإعتبرت فكرة هذا القانون حاضرة بشكل مبكر لدى الاوائل من اصحاب هذه النظرية، وعلى رأسهم جون فِن20. في حين وجد اصحاب المفهوم التقليدي للإحتمال من نظريات برنولي وبايس جسراً يمررون من خلاله نظريتهم قبال نظرية التحديد التكراري، الأمر الذي دعا ميزس إلى ان يعد ذلك من المغالطات21.

ويشترط ميزس ان يكون الإختبار عشوائياً لكي يحقق الغرض من اقتراب ما اخترناه من القيمة الحدية للإحتمال. فإختبار أي صنف فرعي من السلسلة اللانهائية بشكل عشوائي يمتاز بأنه يتجه ويقترب إلى الحد الإحتمالي الثابت للسلسلة الكلية22. مع هذا فإن مسلمة العشوائية لم يأخذ بها رواد هذا المذهب ممن جاء بعد ميزس، مثل ريشنباخ وسالمون23، وان مسلمة الحد هي ايضاً لم تصادر لدى الفيلسوفين الأخيرين خلافاً لميزس.

نقد مذهب التكرار اللامتناهي

لعل أبرز الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى هذا المذهب ما يلي:

1ـ لا شك ان اهمية النظرية التكرارية هي ان بإمكانها تحديد النسبة الإحتمالية للحادثة عبر التكرار والإختبار حتى في حالة عدم التساوي في الإمكانات، وهي النقطة التي تنتقد عليها النظرية التقليدية. فتحديد وجه ما من وجوه قطعة زهر محددة يتم بدقة عبر النظرية التكرارية عندما نكون على علم بعدم تساوي الإمكانات بين الوجوه المختلفة. لكن مع هذا هناك حالات قد نتأكد فيها من التساوي دون حاجة للإختبارات التكرارية، وهي النقطة التي تتفوق فيها النظرية التقليدية على التكرارية، رغم أن بإمكان هذه الأخيرة ان تعالج مثل تلك الحالات تبعاً لإفتراضاتها، لكنها لا تصل إلى نفس الدقة التي عليها الأولى.

فمثلاً على الحالات التي لا تضطرنا إلى استخدام التكرار كحالة تجريبية، انه لو كانت لدينا عشر كرات متشابهة لكنها موزعة على اصناف من الالوان؛ فإن ذلك يكفي لأن يحدد لنا تعيين الدرجة الإحتمالية لسحب أي منها عشوائياً. والصفة العامة في الدرجة التي نحصل عليها تتسم بالثبات التام، مع ان الاعتماد على مبدأ التكرار الطويل لا يحقق هذه النسبة إلا مع وجود فارق ضئيل، مما يعني ان الاجراء الذي نستخدمه وفق مبدأ الإمكان هو أولى وأدق من ذلك المستخدم وفق مبدأ التكرار.

يضاف إلى ان الإتجاه السابق لا يصدق على القضايا المحدودة للحوادث كالتي يعالجها الإتجاه المتناهي، لكونه يفترض سلسلة لا نهائية لتلك الحوادث. وبالتالي لو اننا طبقنا اتجاه التكرار المتناهي على القضايا المحدودة التي نعلم فيها بتساوي الإمكان؛ لكانت النتائج التي نحصل عليها غير دقيقة، كما ان هذه القضايا لا تخضع إلى تفسير الإتجاه غير المتناهي كما عليه مذهب ميزس. وإن كان ريشنباخ، على خلاف ميزس، قد كفل بتطبيق طريقته على مثل تلك القضايا المحدودة أو النهائية، فضلاً عن تلك التي تتصف بغير نهاية24.

كما ان الكثير من القضايا العلمية والحياتية لا تتحدث عن إحتمالات التكرارات غير المتناهية. فمثلاً ان شركات التأمين عندما تريد ان تعرض النسب الإحتمالية فإنها لا تتحدث عن العلاقة التكرارية بوصفها غير متناهية، بل يكفيها البحث عن العدد الكبير نسبياً لتكوين تلك النسبة. وإن كان هذا الاعتراض لا ينطبق على نظرية ريشنباخ بإعتبارها مرنة تتقبل تعديل النسب الإحتمالية عند زيادة التكرار، لكنها في جميع الأحوال لا تعطي ضماناً لاي من التنبؤات، سواء كان هذا الضمان مؤكداً أو محتملاً25.

2ـ ان هذه النظرية لا يمكنها ان تتحدث عن إحتمالات الحوادث الفردية. فمثلاً عندما يتحدث العالم التكراري عن إحتمالات الزواج المنتهية إلى الطلاق في امريكا ويجد نسبة لها كإن تكون (1\4)؛ فإن ذلك يعني انه يتحدث عن التكرار النسبي للاعضاء من نوعين للحوادث، لكنه لا يتحدث بخصوص الإحتمال الذي يطول هذا أو ذاك من الحالات الخاصة للزواج26.

وتبعاً للبروفسور برود فإن الاعتماد على التكرار والاحصاء ينجح في قضايا يمكن تكرارها باستمرار كما هو الحال مع العاب الحظ والمصادفة، أما في قضايا الواقع فنواجه حالات كثيرة تتعلق بالإحتمال لكنها لا تعالج تبعاً لفكرة التكرار والاحصاء. فمثلاً ان دراسة إحتمال أن يبقى رجل محدد - كزيد مثلاً - في سن الاربعين حياً خلال السنوات العشر القادمة، لا تعتمد على التكرار، حيث لا تكرار في مثل هذه الحالة الخاصة، أو ان وفاة زيد لم تتكرر من قبل، وهي لا تحدث إلا مرة واحدة في العمر. وعندما يقال انه يمكن اخذ إعتبار صفات الرجال الاخرين من نفس الصنف، فذلك غير صحيح أيضاً، حيث لا بد من وجود تغايرات في القيمة الإحتمالية نتيجة الكثير من التغايرات الحاصلة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والصحية وغيرها، ولا شك ان جميع هذه العوامل تؤثر على القيمة الإحتمالية لبقاء زيد على قيد الحياة. وهذا النقد الذي افاده برود قد عدّه الاستاذ رايت مهماً ازاء طريقة ميزس التكرارية27.

بل ان هذه النظرية لا يمكنها ان تستوعب الإحتمالات التي تتعلق بالفرضيات والنظريات العلمية، بإعتبارها فردية وغير قابلة للتكرار، كإن تقيّم نظرية انشتاين في الجاذبية بأنها قوية الإحتمال، أو يقال بأن هذه القصيدة يحتمل ان تعود إلى الشاعر المتنبي، أو يقال حول حادثة تاريخية محددة بأنها محتملة الوقوع. فمثل هذه الإحتمالات لا تنطبق عليها التكرارات، كما انه لا يمكن معرفة تحديد قيمتها المعرفية28. وقد اشار إلى هذا النوع من الإحتمالات وتمييزه عن النوع الآخر الخاص بالحوادث عدد من المنطقيين المحدثين، امثال رامسي وبوبر وكارناب ورسل ونيل29.

مع هذا يمكن القول ان ريشنباخ - على خلاف ميزس - قد قبل ما يجري في الحياة العملية من تقرير الإحتمالات للقضايا الشخصية أو الفردية، كإن يُسأل عن إحتمال أن يكون الطقس ممطراً ليوم غد، فيقال ان هناك إحتمالاً كبيراً لصالح هذه الحادثة مثلاً، حيث إعتبر ذلك من الإحتمالات التقريبية. وهو مع ذلك يرفض ان يتحدث عن مثل هذه الحالات الفردية ما لم تبرر من خلال التكرار النسبي. بل ومن حيث ان النتيجة فيه لا تقبل التحقيق خلافاً للإحتمال القائم على التكرار النسبي، فقد اخذ يفسره تبعاً للعادة النفسية، إذ إعتبر ان المرء إذا تعود ان يتحدث عن الإحتمال بالنسبة إلى حادث مفرد فإن إعتقاده سوف يدفعه لأن يقول بأن 75% - مثلاً - من الحالات الشبيهة الكثيرة ستكون لها نفس النتيجة30.

لكن هذا التقرير لاقى اعتراضاً حتى من قبل المنظرين للإحتمال التكراري، لصياغته البسيطة التي تقترب من الاستعمال العامي. فاغلب اولئك الذين اقروا النظرية التكرارية قد اتبعوا ميزس في رفض الحالات الفردية وكذا الحالات التقريبية، معتبرين اياها انها صياغات بلا معنى، لكونها لا تخضع لمبدأ التحقيق، كما هو واضح31.

وقد كان كينز يرى ان النظرية التكرارية ضيقة الأفق، حيث تشترط ان يكون هناك تتابع في الحوادث، وبغير ذلك لا يصح تحديد القيمة الإحتمالية. لكن ميزس رد على كينز من خلال التمييز بين الاستعمال العلمي للإحتمال والاستعمال المألوف عند الناس، فاعتبر من الخطأ تحديد المفهوم العلمي للإحتمال ليطابق كل تلك المتعلقة بالاستعمالات غير العلمية أو ما قبل العلم32. فميزس يعترف بأن هناك استخدامات للإحتمال لم تُغط بحسب نظريته الخاصة، معتبراً ان هذه الإحتمالات هي نماذج من التصور ما قبل العلم، وهي الحالة التي تكون فيها المعرفة غير ناضجة33.

3ـ إن القيمة الإحتمالية التي تستخرجها النظرية التكرارية لا تنطبق على الحوادث التي يحتمل لها شيء من التلازم. فهناك فرق واضح بين القضايا الاحصائية غير اللزومية، وبين القضايا التي يحتمل لها ان تتضمن شيئاً من اللزوم.

وتوضيح ذلك هو انه لو كنا نحتمل ان تكون بين الحادثتين (أ) و(ب) علاقة لزومية واردنا إختبار حالهما فأجرينا عليهما ثلاث تجارب كشفت عن إقترانهما بالظهور في الجميع؛ فإن مبدأ التكرار لو شئنا ان نمدد وظيفته حتى على مستوى التجارب القليلة؛ فإنه سيعين قيمة قريبة من الحد، وهي تساوي واحداً طبقاً لقانونه: (ح = ك\ل = 3\3 = 1). لكن نفس هذه النتيجة ستتكرر فيما لو ظهرت (ب) مع (أ) دوماً في عشر أو مائة أو ألف أو مليون تجربة، حيث تكون القيمة القريبة من الحد هي أيضاً مساوية لواحد. مع ان من الواضح وجداناً ان (أ) لو ظهرت مع (ب) في ألف تجربة لكانت النتيجة أقوى من ظهورها في ثلاث أو عشر أو مائة، مما يعني أن إجراء الطريقة السابقة على القضايا التي يحتمل تضمنها اللزوم هو اجراء عقيم. الأمر الذي لا بد فيه من إجراء حساب آخر يتناسب مع هذه المسألة.

وبهذا الصدد يوجد معنيان للزوم، أحدهما بمعنى الضرورة والآخر بمعنى الشد. ولو استخدمنا المعنى الأول طبقاً لنظرية المفكر الصدر لكان من الواجب علينا الاستعانة بإسلوب المنطق الإفتراضي كالآتي:

توجد لدينا ثمانية إفتراضات متكافئة من العوامل في حالة ثلاث تجارب كما يلي:

1 ـ عدم ظهور (ب) مع (أ) في التجربة الأولى فقط.

2 ـ عدم ظهور (ب) مع (أ) في التجربة الأولى والثانية فقط.

3 ـ عدم ظهور (ب) مع (أ) في التجربة الأولى والثالثة فقط.

4 ـ عدم ظهور (ب) مع (أ) في التجربة الثانية فقط.

5 ـ عدم ظهور (ب) مع (أ) في التجربة الثانية والثالثة فقط.

6 ـ عدم ظهور (ب) مع (أ) في التجربة الثالثة فقط.

7 ـ عدم ظهور (ب) مع (أ) في التجارب الثلاث جميعاً.

8 ـ ظهور (ب) مع (أ) في جميع التجارب.

هذه ثمانية عوامل مفترضة ومتنافية، وهي من الناحية القبلية متساوية الإحتمال بما قيمته (1\8)، طالما لا يوجد ما يرجح لنا بعضها على البعض الآخر. فلو ظهرت لنا (ب) مع (أ) في جميع التجارب؛ لكان إحتمال التلازم بينهما يحظى بقيمة مجموع الإحتمالات السبعة الأولى مع نصف الإحتمال الثامن، حيث انه حيادي قد يعبّر عن التلازم وقد يكون مجرد صدفة خالصة، لهذا لا بد من تقسيمه إلى نصفين أحدهما لصالح اللزوم والآخر لصالح الصدفة، فتكون القيمة النهائية التي يحصل عليها لزوم (أ) مع (ب) هي كالتالي:

7\8 + (1\8 × 1\2) = 15\16

أي انه لو كان لدينا ستة عشر عاملاً لكان جميعها باستثناء واحد منها لصالح لزوم (أ) مع (ب). أما لو أقمنا أربع تجارب كشفت عن ظهور (ب) مع (أ) في جميعها؛ فإن قيمة إحتمال التلازم ستكون (31\32).

ولا شك ان هذه القيمة أكبر من القيمة السابقة، مما يعني انه كلما كثرت التجارب الناجحة ازدادت القيمة الإحتمالية للزوم، وهذا ما لا يمكن تفسيره بحسب قانون النظرية التكرارية القائل: (ح = ك\ل).

كذلك الحال فيما لو ارتكزنا على أساس علاقة الشد، رغم أن القيمة الإحتمالية التي تعطيها تختلف عما تزودنا به علاقة الضرورة.

4ـ ان اتجاه ميزس يفترض أن النسبة الإحتمالية للحوادث عند التكرار الكبير للإختبارات العشوائية تقترب من نسبة الحد الثابتة، رغم أن النظرية التكرارية تصرح بكونها تعتمد على الإستقراء والتجربة دون اللجوء إلى الإفتراضات القبلية كالذي تعمل به النظرية التقليدية، إذ ما الذي يؤكد لنا ان هناك قيمة حدية ثابتة للإحتمال يمكن الاقتراب صوبها؟ هكذا يؤخذ على هذا الإتجاه اعتماده على بعض المصادرات القبلية رغم رفضه لأي فكرة من هذا القبيل. فهو يوجب ان تكون النسبة الإحتمالية التي يحصل عليها في جزء من سلسلة الإختبارات اللانهائية قريبة دائماً من نسبة حد التكرار، ولا شك ان هذا الحكم مفترض ولا يوجد عليه دليل. بل قد يقال أيضاً انه حتى إذا رأينا شيئاً من الثبات النسبي في الإختبارات الكبيرة فإن ذلك لا يبرر بقاء هذا الثبات لدى الإختبارات العظمى ضمن سلسلة غير متناهية، فكل قطعة من هذه السلسلة تكون صغيرة وضيقة قياساً بما تبقى منها، وبالتالي كيف يمكن تبرير الثبات في الجزء الاعظم من هذه السلسلة ما لم يعتمد على أمر خارج حدود الإختبار والتجربة؟ إذ ما المانع من أن أي نتيجة أخرى نحصل عليها تتحول إلى نتيجة أخرى مخالفة عند زيادة الإختبارات؟

على ذلك نُقدت هذه النظرية من حيث ان الحدود التكرارية غير قابلة للتحقيق ولا التكذيب في أي تجربة تقام، لوجود متوالية من السلسلة اللانهائية، وبالتالي لا يوجد ضمان لوجود الحد في مثل هذه العلاقات الترددية34. فعلى رأي البعض انه من الناحية المنطقية لا يمكن مشاهدة القيمة الحدية من العلاقة الترددية، ولا مشاهدة استقلالية كل الإمكانات المتاحة للحوادث في السلسلة، إنما كل ما يمكن لحاظه هو التعاقب المحدود للحوادث35. لهذا ودفعاً لمثل تلك المشاكل فإن البعض يرى ان الطريق الاسلم هو الاقتصار على التكرار المتناهي، خصوصاً وان كلاً من العلوم الطبيعية والاجتماعية تقوم على التسليم بمثل هذا النوع من التكرار36. مع ان هذه العلوم تعول على الإفتراضات المفتوحة بلا حدود، مما يجعل أعضاء النسبة التكرارية تتزايد باضطراد، رغم أنها لا تشترط التكرارات الضخمة كما لدى نظرية ميزس، فهي اقرب إلى نظرية ريشنباخ.

ولا شك ان هذا النقد لا ينطبق على نظرية ريشنباخ، فهو لا يفترض صدق فكرة حد التكرار أو الإحتمال، بل يعتبر انه لو كانت هذه الفكرة صادقة لكان الإستقراء دالاً عليها. وقد عرفنا أن طبيعة هذا الشرط قبلية، حيث لا يملك دليلاً عليه سوى التبرير النفسي المستمد من العادة المسندة إلى الخبرات الماضية. كذلك فإن هذه الفكرة تتضمن نوعاً آخر من الإحتمال، إذ انها تعني ان من المحتمل ان يكون هناك حد، مثلما من المحتمل ان لا يكون، ومن المحتمل ان نعثر على هذا الحد، مثلما من المحتمل ان لا نعثر عليه. فمن هذه الناحية انها تفضي إلى إفتراض نوع من الإحتمال القبلي الكيفي لتحدد به الإحتمال البعدي الخاص بالحد، وهي بالتالي تفسر الإحتمال بالإحتمال.

5ـ ان تقدير النسبة الإحتمالية لأي مجموعة كانت من سلسلة الحوادث اللانهائية تحتاج إلى مصادرة تقرر صدق هذه النسبة في حدود ما اتيح لنا من البحث والفحص؛ مادامت هناك إمكانية كبيرة لتعديل النسبة طبقاً لما تكشف عنه الإختبارات اللاحقة. وايضاً فإن تعيين النسبة الإحتمالية ومن ثم تقديرها على الحوادث والافراد التي لم تخضع بعد للإختبار؛ يحتاج إلى مصادرة قبلية تتعلق بالتعميم ولو كان تعميماً مؤقتاً، حيث أمامنا - هنا - حوادث اضفينا عليها حكماً معبراً عن نفس القيمة الإحتمالية للحوادث السابقة رغم ما بينهما من اختلاف، وهذا يقتضي إفتراض مصادرة تبرر لنا التعميم من الحالات الماضية المختبرة على الحالات المستقبلية القادمة. فعلى سبيل المثال يمكن لشركات التأمين على الحياة ان تحصل على نسبة معينة من حوادث الموت خلال عشر سنوات، وهي حين تتعامل مع السنوات القادمة القريبة تستخدم نفس هذه النسبة، فكيف حق لها هذا التعامل ما لم تفترض التماثل أو التكافؤ كأنسب اجراء مؤقت؟!

وبعبارة أخرى ان تحديد النسبة الإحتمالية لتنبؤاتنا في القضايا التكرارية يعتمد في الأساس على إفتراض تقدير عوامل متكافئة، لأن التكرار وحده وإن كان يعطي نسبة إحصائية للعلاقة بين الصفة المشتركة وجميع الحوادث التي تم إختبارها، إلا أنه لا يبر الحكم المتنبأ به في الحوادث الواقعية، فليس لدينا ما يبرر هذا الحكم إلا إفتراض تقدير التكافؤ في العوامل طبقاً لتلك النسبة الاحصائية التي يحددها مبدأ التكرار. فعلى سبيل المثال: لو كانت لدينا إحصائية تخبر باصابة (5%) من سكان مدينة بمرض السل الرئوي، فاننا حينما نضفي نفس هذه النسبة على إحتمال أن يكون زيد مصاباً بالسل؛ إنما يعني أنه لو افترضنا وجود مائة من العوامل المتكافئة الدواعي فإن خمسة منها فقط لصالح الإصابة. ولا شك ان هذا التفسير لا يبرره التكرار، وإنما يبرره ما افترضناه من ذلك التكافؤ. ففائدة التكرار لا تزيد عن كونه يحدد لنا النسبة الاحصائية التي يعتمد عليها إفتراضنا لتعيين القيمة الإحتمالية.

6ـ كما يلاحظ ان النظرية التكرارية تفترض نوعاً من الإحتمال دون التمكن من تفسيره. فهي تصرح على شاكلة نظرية برنولي من أنه عند الإختبارات الكبيرة فإن هناك توقعاً بإحتمال قريب من الواحد ان النسبة الإحتمالية تميل إلى الحد التكراري، أو انه كلما زادت الإختبارات كلما زاد التوقع أو الإحتمال من أن النسبة الإحتمالية تميل إلى الثبات. وهذا يعني ان النظرية التكرارية إذا كان بإمكانها ان تفسر لنا الإحتمال بأنه عبارة عن الحد التكراري فإنها لا تفسر لنا الإحتمال الآخر الذي تقر به ضمناً عندما تقول ان هناك توقعاً وإحتمالاً كبيراً جداً - قريباً من الواحد - من أن النسبة الإحتمالية تميل إلى الحد، فهي لا تفسر لنا ذلك الإحتمال الكبير البالغ حد الاقتراب من الواحد، بل إنها تفترضه سلفاً لتؤسس عليه الإحتمال الآخر. أو يمكن القول انها تفسر الإحتمال بالإحتمال، الأمر الذي يجعلها تقع إما في الدور أو التسلسل أو المصادرة على المطلوب.

7ـ ان النظرية التكرارية لا يمكنها ان تفسر لنا الكثير من القضايا الإحتمالية. فهي عاجزة مثلاً عن تفسير قانون برنولي في الاعداد الكبيرة، فالنسبة الإحتمالية التي يتنبأ بها هذا القانون لم تنشأ على أساس التكرار، بل جاءت نتيجة للتحليل الرياضي القائم على أساس مبدأ الإمكان. وبغض النظر عن هذه النتيجة فإنه ليس بوسع الإنسان - عادة - ان يقيم التكرار في مثل تلك القضايا بإعتبارها تتضمن الاعداد الضخمة من الحوادث والإختبارات. وحتى في الحالات التي يمكن للإنسان ان يتعامل فيها مع هذه الاعداد فإن اعطاء نتائج لا تتفق مع ما يتنبأ به قانون برنولي لا يجعلنا نشكك في كفاءته، بل يدعونا إلى نعزو سبب ذلك إلى تأثير بعض العوامل التي من شأنها حرف النتيجة عن مسارها المتوقع.

وقد كان نيل يرى ان من الغباء الإعتقاد بأن نظرية برنولي تحتاج إلى التحقيق التجريبي، مثلما هو من الغباء صنع ذلك مع الحساب العددي: (7 + 5 = 12). فالنظرية تستند إلى الضرورة الرياضية، وهي لا تعني ان النتائج تأتي يقينة، فلو رمينا قطعة نقد مليون مرة وظهرت الصورة ما يقارب النصف، فإن ذلك مفسر، ولو انه لم تظهر قريبة من النصف وإنما قريبة من الربع مثلاً فإنه لا يعني خطأ نظرية برنولي، بإعتبار ان كل الإمكانات التوزيعية من الصفر إلى الواحد محتملة، لكن بعضها أقوى من بعض37. وعلى الرغم من أن بعض المؤيدين الاوائل للنظرية التكرارية رأى ان من الضروري رفض الحسابات الإحتمالية المقدمة من قبل برنولي وسائر الرياضيين خلال القرن الثامن عشر، لصلة هذه الحسابات الوطيدة بمبدأ عدم التمييز، لكن مع هذا فإن أكثر المدافعين المحدثين للنظرية التكرارية تقبلوا تلك الحسابات بعد اضفاء التصور التكراري عليها بعيداً عن ذلك المبدأ38.

8ـ هناك من إعتبر في افكار ميزس شيئاً من الغموض واللبس. فرغم أنه كان تجريبياً وحمل نظريته لتأسيسها على قوانين تجريبية مرئية، إلا انه استخدم مفهوم سلسلة الحد التكراري ليشير به إلى كل من المعنى الرياضي غير المتناهي والى مجموعة الحوادث الحقيقية المتناهية39. ونجد الاستاذ كرامر (Cramer) رغم أنه يتفق مع ميزس في كون نظرية الإحتمال هي فرع من فروع العلم التجريبي شبيهاً بالميكانيكا، إلا انه لم يوافق على فكرة الحد التكراري الذي يفترض وجود حد ثابت كلما كانت حوادث نوع ما تميل إلى اللانهاية. فهذه هي المسلمة الأساسية الأولى في نظرية ميزس، وقد حسبها كرامر انها جذابة لاول نظرة، لكنها تتضمن صعوبات رياضية عند التحقيق40.

ولدى البعض انه يستحيل تحقيق السلسلة اللانهائية للإختبارات، حيث ان النتائج التجريبية هي دائماً نهائية ومحدودة، فإعتبار فكرة ‹‹اللانهاية›› شرطاً لمعرفة القيمة الحدية للتكرار هو أمر غير صحيح41. وكذا فإن الاستاذ برود قد شكك فيما لو كان يمكن أن يجد لهذه النظرية تطبيقاً خارج حدود الرياضيات المحضة، بإعتبارها تتضمن العدد اللانهائي من الأعضاء42. ومثل ذلك ان برتراند رسل لم يتقبل فكرة اللانهاية في نظرية التكرار في العلم التجريبي، معتبراً انها لا تصلح إلا في الرياضيات المحضة. وعليه فقد رجح ان يكون ما يريده بعض رواد النظرية التكرارية، مثل ريشنباخ، لا يتعدى العدد الضخم من التكرارات والإختبارات43. مع ان فكرة اللانهاية بالمعنى الرياضي لا تقف عارضاً مشكلاً أمام ريشنباخ، وذلك لأنه لا يعتقد إمكان تحقيق القيمة النهائية لنسبة حد التكرار، إذ يجعل ما تؤول إليه الإختبارات ضمن سلسلة مفتوحة هي التي تبرر إفتراض الاعتماد على النسبة كشيء مرجح قابل للتغير والتعديل دون ان يكون هناك حد نهائي للمسألة44. كما ان مذهب ميزس إنما يتحدث عن الإختبارات الكبيرة ضمن السلسلة المفتوحة، ويعد هذه الإختبارات كفيلة بأن تقربنا من الحد التكراري باضطراد.

9ـ هناك من اعترض على ميزس لكونه قد جمع بين مسلمتين متناقضتين، هما الاقتراب من الحد وفكرة العشوائية، إذ كيف يمكن أن نضمن التوصل إلى الحد الرياضي عن طريق العشوائية؟! فمن شأن العشوائية انها لا تتضمن لزوم الخضوع إلى أي قاعدة وقانون رياضي. الأمر الذي جعل البعض يستبعد العشوائية ويحتفظ بفكرة الحد فقط، مثلما فعل كامك (Kamke) . ومن وجهة نظر بوبر ان النقد السابق لا يخلو من صحة45. لكن قد يقال ان ما يراد من العشوائية هو بمعنى الاستقلال بين الحوادث، وليس بمعنى الفوضى التي لا تخضع إلى أي قاعدة وقانون.

10ـ ظهرت هناك بعض التصورات التي استهدفت اصلاح نظرية التكرار ونقدها، كما هو الحال مع نظرية بوبر الذي ذكر بأنه سوف يستخدم التصور الموضوعي للإحتمال بشكل أوسع مما هو مستخدم، ويشمل كل التفسيرات الموضوعية للإحتمالات كالنظرية التكرارية، وكذا ما هو أكثر تخصيصاً والذي أطلق عليه التفسير الميلي، فنظريته تغطي كلا التفسيرين التكراري والميلي46.

وقد حاول بوبر ان يفسر الحوادث الموضوعية من خلال إعتبار ان لها ميلاً واستعداداً للظهور حسب الشروط الخاصة، فعندما تكون لدينا رميات معتدلة لقطعة النقد فإن لظهور وجه الصورة - مثلاً - ميلاً للاقتراب شيئاً فشيئاً عند قيمة معينة، كأن يظهر الوجه (550) مرة خلال (1000) رمية، لذا يكون الميل للرمية المفردة نفس القيمة السابقة، أي (55%)، فهذا الميل هو لصالح ظهور الصورة حتى لو لم نرم قطعة النقد، فهو ميل للأشياء الموضوعية لأن تسلك تلك الطرق المعينة47. فالإحتمال عند بوبر يصف سلوك الأشياء الخارجية تحت شروط وظروف معينة بأن لها ميلاً نحو قيمة محددة. فعندما تتحدد قيمة إحتمال أن يكون كل وجه من وجوه قطعة الزهر (1\6)؛ لا يعني انها جاءت نتيجة رمي القطعة عدد من المرات، فحتى لو لم نرمِ القطعة مطلقاً فإن صفة الميل تظل موضوعية طبقاً للظروف والشروط الخاصة، إذ يمكن التعرف على الصفات الفيزيائية للقطعة ومنه ندرك - مثلاً - حالة التماثل بين وجوهها الستة، فيتحدد الإحتمال تبعاً لذلك، بل ويتصف بصفة الميل موضوعياً48.

هكذا ان بوبر وخلافاً لمدرسة التكرار النسبي يتقبل تحديد إحتمال الحادثة الفردية. بل ويرى ان من الممكن التمييز بين مصدرين رئيسيين لتقديراتنا الفرضية، الأول منهما مؤسس على إفتراض تساوي المصادفة أو الإحتمال، أما الآخر فمؤسس على الملاحظات الاحصائية. ويقصد بالأول هو ان إحتمالات الصفات الأولية تكون متساوية عند التماثل فيما بينها، وافضل مثال على ذلك لعبة الزهر المتماثل الوجوه. أما الآخر فمؤسس على الاحصاء، ومثاله احصاءات الوفيات، فهنا ان البينة الاحصائية حول الوفيات هي من الناحية التجريبية مؤكدة، وطبقاً لهذه الفرضية فإن الميل السابق سوف يستمر إلى ان يكون قريباً جداً على ما كان49.

وقد إعتبر بوبر ان العلاقة بين الإحتمال والتكذيب علاقة عكسية كلما ازداد أحدهما انخفض الآخر. فالنظرية التي يكاد يستحيل تكذيبها هي تلك التي تشتمل على إحتمال كبير جداً لأن تكون حقيقة، أي انها لا تقول شيئاً عن العالم، وبالتالي تصبح عديمة الفائدة كنظرية علمية. أي انها تصبح غير قابلة للتكذيب ولا المراجعة والتحقيق، وذلك لنفس الاسباب الخاصة بالظروف ذات النتائج غير التجريبية. فمثلاً ان النسبة الإحتمالية المحددة تبعاً للتكرار الطويل تظل صحيحة ثابتة على الدوام، مما يجعلها غير قابلة للتكذيب. وعلى عكس ذلك، عندما يكون الإحتمال غير ثابت للفرض العلمي فسيمكنه ان يقول شيئاً عن العالم ويصبح أكثر قابلية للتكذيب، ولا شك ان الإحتمال في هذه الحالة هو أقل مقداراً عن الإحتمال الأول، وهو ما ينفع في الطرق العلمية50. مع انه يؤخذ على بوبر انه يتعامل مع نوعين مختلفين من الإحتمال، أحدهما هو التقدير النسبي، سواء ذلك الناتج عن التكرار الطويل، أو الناتج عن الإختبارات الأولية، والآخر هو الإحتمال الذي يتقوم به التقدير النسبي، بمعنى اننا نقدر الإحتمال النسبي تبعاً لإحتمال آخر نطلق عليه تعابير مختلفة، كإن نقول هناك إحتمال كبير أو ظن يقارب اليقين بأن النسبة الإحتمالية تقدر بنصف مثلاً. كما يمكن أن نطلق على هذا الإحتمال بالميل لانه يقتضيه، وبالتالي انه إذا كان بوبر قد فسر الإحتمال النسبي تبعاً للميل، فإن الميل ذاته يقتضي إحتمالاً آخر يحتاج إلى تفسير.

فمثلاً لو عرفنا عبر التكرار الطويل ان النسبة الإحتمالية لظهور وجه الصورة لقطعة نقد تميل إلى درجة النصف تقريباً، فقد نسأل عن مدى ثقتنا بهذه النسبة الإحتمالية، وعندها يمكن أن نجيب بأننا على ثقة بظن كبير جداً بأن ظهور الصورة يميل إلى تلك النسبة، فهذا التعبير ذاته عبارة عن نوع من الإحتمال لا يخضع للتقدير النسبي أو الكمي. وبالتالي فإنه إذا كانت نظرية بوبر تفسر النسبة الإحتمالية تبعاً للميل، فإن الميل هنا يقتضي إحتمالاً آخر ليس من صنف الإحتمالات الموضوعية ولا يخضع للإعتبارات الكمية.

وعلى العموم فإن نظرية بوبر رغم أنها تتسع لتفسير مختلف الإحتمالات الموضوعية، لكنها ترفض الاعتراف بالإحتمالات الأخرى التي لها صيغ ذاتية ومنطقية، كما انها تعجز عن أن تفسر الإحتمالات الكيفية رغم أنها أساس تكوين الإحتمالات الأولى.

وهناك من اعترض على بوبر في تبنيه للنظرية التكرارية، حيث انها تقود إلى صعوبات في تحديد إحتمالات الفروض. فعدد الإمكانات في الكون لا متناهي، وعليه إذا حاولنا ان نحدد الإحتمال كنسبة بين عدد الحالات الملائمة للفرضية إلى العدد الكلي من الإمكانات الموجودة فإن النتيجة ستكون إما صفراً، أو على أحسن الأحوال انها غير محددة51.

مع ذلك يمكن أن يجاب بجوابين، أحدهما في حالة ما إذا كنا لا نعترف بتأثير الحالات المختبرة على غير المختبرة، حيث لا نعلم شيئاً عن الأخيرة، وبالتالي فإنها مجهولة التحديد، ولو شئنا ان نستعين بالتقديرات الإحتمالية الذاتية فإن ذلك يفرض علينا ان نعتمد على معرفة إمكاناتها الفعلية، فلو كان لها إمكانان مثلاً فإن إحتمال أحدهما سيساوي إحتمال الآخر تبعاً لمبدأ عدم التمييز. وفي هذه الحالة سوف لا نقع بالنتيجة الصفرية كالذي يفترضه الإشكال المذكور. لكن يظل ان هذه الحالة ليست صحيحة. أما الطريقة الأخرى المتأثرة بالحالات المختبرة، فمن الواضح انها تزودنا بالنسبة الاحصائية الموضوعية، وهي ذاتها التي نقدرها كقيمة إحتمالية للحالات غير المختبرة، وذلك على شكلين، أحدهما فيما لو علمنا بالتماثل بين الحالات المختبرة وغير المختبرة، الأمر الذي يجعل النسبة الإحتمالية فيها ثابتة على الدوام تقريباً، أما الآخر فهو فيما لو علمنا بعدم التماثل، وفي هذه الحالة ليس بوسعنا إلا التقدير المؤقت للناتج الذي حصلنا عليه، وهو مبرر كاجراء مؤقت قابل للتعديل أو التكذيب إذا ما استعنا بلغة بوبر. وفي جميع الأحوال ان ذلك لا يجعل من نظرية بوبر أو غيرها من النظريات تقع في الناتج الصفري كالذي يريد ان يثبته الإشكال السابق. مع ما يؤخد على نظرية بوبر بأن فكرتها الخاصة بالميل، هي مثل فكرة الوصول إلى الحد، تعد من المصادرات القبلية المنافية لمزاعم النظريات الموضوعية التي تدعي عدم الاستعانة بالافكار القبلية والذاتية.

 

1 Carnap; p.272.

2انظر:Day, John Patrick, Inductive Probability, edited By A.J. Ayer, New york: The Humanities press, First Published 1961. p. 131.

3 Kneale; p.150.

4 Mises; p.79ـ80. Also: Kneale; p.151.

5 Hacking; p.53.

6انظر:John Venn, ‘Difficulties of the Classical View of Probability’, in: Madden; p.256.

7 Carnap; p.272.

8 Mises; p.83 and p.22ـ23.

9 Russell;1948; p.356. See also: Kyburg; 1970; p.127.

10 Russell;1948; p.356. See also: Kneale; p.152.

11انظر:Richard Bevan Braithwaite, Scientific Explanation; Based Upon the Turner Lectures, Cambridge University Press, 1955. p.123ـ124.

12 الاسس المنطقية للإستقراء،ص183.

13 المصدر السابق،ص181 و184.

14 نفس المصدر،ص180ـ181.

15 Day; p.133.

16 Mises; p.65.

17 Broad; p.195.

18علماًانقانونالاعدادالكبيرةهوـكمايقولميزسـإصطلاحاستخدمهبوسن(1781ـ1840) فيكتابلهبمعنيينمختلفين،أحدهمادالعلىالقضيةالرياضية،والآخرعلىالمعنىالتجريبيالخاصبالإختباراتالبعدية،واحدثبذلكنوعاًمنالارباكوالحيرة(Mises; p.104ـ105.)

19 Mises; p.125.

20 Mises; p.22ـ23.

21 Broad; p.193.

22 Mises; p.23ـ24.

23 Mortimer; p.36.

24 Kyburg; 1970; p.44.

25انظر:Lenz, ‘The Frequency Theory of Probability’, in: Madden; p.265. Also: Lenz, .The Pragmatic Justification of Induction, in: Madden; p.302.

26 Lenz, ‘The Frequency Theory of Probability’, p.266.

27انظر:Broad; p.186ـ187. See also: George Henrik Von Wright, ‘Broad on Induction and Probability’, in: Broad; p.266ـ267.

28 Lenz. ‘The Frequency Theory of Probability’, in: Madden; p.267. See also: Kyburg; 1970; p.48.

29 Braithwaite; 1955; p.119.

30 فيليب فرانك: فلسفة العلم، ص408.

31 Kyburg;1970; p.48ـ49.

32 Popper; p.153.

33 Gillies; p.30.

34 McCall; p.143. And Broad; p.195.

35 Day; p.134.

36 Cohen; 1989; p.52.

37 Kneale; p.140.

38 Kneale; p.150.

39 Gillies; p.3.

40 Gillies; p.26ـ27.

41 Kyburg; 1970; p.45.

42 Broad; p.293.

43 Russell; 1948; p.383.

44 ريشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية، ص215.

45 Popper; p.154.

46 Popper; p.173.

47 McCall; p.146ـ147.

48 Kyburg; 1970; p.46. And: Hacking; p.147ـ148.

49 Popper; p.168ـ169.

50 Popper, p.191. Also: Tricker; 1965; p161.

51 Tricker; p.160.   

comments powered by Disqus