-
ع
+

القبليات وإشكالية التطابق مع النص

يحيى محمد

الفكر هو علاقة معرفية تربط الذهن بالموضوع. او هو رؤية الذهن وقراءته للموضوع. ففيه ان العلاقة قائمة بين الرؤية والقراءة من جهة، وبين الموضوع من جهة اخرى. فطالما هناك تفكير بشري فلا بد من هذه العلاقة الثنائية. ففي علم الطبيعة مثلاً هناك علم من جهة، وهناك طبيعة مستقلة من جهة ثانية، او قل هناك شيئان: شيء لذاتنا وشيء في ذاته.

وهذا التقسيم يجعل العلاقة بين الفكر والموضوع ليست متطابقة بالضرورة، فهي اشبه بعلاقة الماهية بالوجود حسب تصور فلاسفتنا القدماء، اذ الوجود واحد لكنه يتعدد بتعدد قابليات الماهيات ويتنوع بتنوعها.

هكذا فإن الفكر يتعدد مع ان الموضوع واحد. وهذا ما يبرر اختلاف القراءات الى الدرجة التي يرى فيها الكثير ان النص مفتوح وقابل الى ما لا نهاية له من القراءات والأفهام، واليه يعود السبب فيما يطرح احياناً من تساؤل حول ما اذا كان للنص معنى مقصود كشيء في ذاته ام لا؟ فهذه النسبية تدل على ما للفكر من تأثر بكل من الذهن والموضوع، مثل تأثر الصورة في المرآة بكل من الشخص وهذه الأخيرة. فالمرآة المستوية لا تعطي ذات الصورة التي تعطيها المرآة المقعرة او المحدبة او غيرها، لكن جميع المرايا تظل معبرة عن شيء واحد لا غير، هو ذلك الشخص، دون ان تخلط بينه وبين غيره من الاشياء. ونفس الحال يجري مع الفكر والقراءات.

فالفكر واقع - لا محالة - تحت تأثير الذهن البشري واعتباراته القبلية. وقد تكون هذه الاعتبارات عامة مشتركة، كما قد تكون خاصة ببعض الاذهان دون البعض الاخر. فمثلاً على الاعتبارات القبلية العامة؛ مبدأ السببية وعدم التناقض، ولكون هذه القضايا واضحة للجميع فإن بها يكون العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، حسب قول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، وهو على شاكلة القول المأثور: >لم يُعطَ للبشر أن يشتركوا في شيء مثلما أُعطي لهم أن يشتركوا في الحس السليم<. وكما اوضح عالم الاجتماع ألكسي دو توكفيل بان مفهوم العقل اكتسب معنىً اعتباراً من اللحظة التي شعر فيها الجميع انهم متساوون، ومن ثم قادرون على استنباط الحقيقة من ذواتهم. فهذا هو المعنى الدال على وجود اشياء قبلية مشتركة بين البشر، وهي ما تجعل عملية التفاهم بينهم ممكنة، كما وتجعل قضاياهم المعرفية، سواء كانت علمية او فلسفية او قيمية او عامة، قابلة لأن تكون مشتركة كونية او عالمية، ولولاها لما كان بالامكان ان يتم الاتفاق على شيء، ولا كان بالامكان جعل هذه القضايا تصل الى المشتركات العامة للبشر او كون التفكير فيها يصل الى حد العولمة الكونية. وقد ينفع هنا التعليق على كلمة بليغة لدوركايم اذ يقول: «إننا نتكلم بلغة ليست من صنعنا، ونستخدم ادوات ليست من ابتكارنا، وننادي بحقوق ليست من وضعنا».. فنقول ان جميع ما طرحه دوركايم في الفقرة السابقة يعود في الاصل الى المشتركات البشرية، فالاصول اللغوية للبشر واحدة، وهي القدرة والقابلية على انتاج اللغة والتفاهم. كما ان اصول الادوات لدى البشر مشتركة، سواء كانت مادية او معنوية عقلية، فمثلما لديهم القدرة المشتركة على الابتكار والصنع المادي، فان لديهم القدرة العقلية المشتركة في تقديم التصورات والمفاهيم المبتكرة. اما الحقوق فمن الواضح ان اصولها المطلوبة مشتركة لدى البشر كافة. فالعدالة مثلاً هي مطلب بشري مشترك لا يختلف حولها اثنان.

أما الاعتبارات القبلية الخاصة فهي تعود الى المنظومات الفكرية المتباينة، فللمنظومة الفلسفية – مثلاً - اعتباراتها القبلية التي تميزها عن الاعتبارات القبلية للمنظومة الكلامية، وهكذا.. كما قد تكون هذه الاعتبارات منضبطة او غير منضبطة، اي تخضع الى قواعد واضحة فتكون منضبطة، او انها لا تخضع الى ذلك كتلك المتأثرة بالظروف النفسية والخارجية فتكون غير منضبطة.

وليس الفكر الديني ومنه الاسلامي بمنئى عن هذه الحقيقة العامة، حيث انه ايضاً متأثر بما عليه الذهن البشري واعتباراته القبلية بأصنافه السابقة، فهو بالتالي فكر بشري اجتهادي قابل للتعدد كغيره من مذاهب الفكر. وحتى التيار المتصف بالنقلي او البياني يستند الى عدد من القبليات المعرفية تجعله تياراً اجتهادياً كغيره من التيارات الدينية، كالذي اشار اليه ابن رشد في بعض المواضع[1].

وهذا يعني ان القبليات لا تشكل بالضرورة مبادئ ثابتة ولا قواعد منضبطة، بل منها ما هو منضبط وثابت، كما منها ما هو غير منضبط ومتغير، وان البشر يتفاوتون ويختلفون حولها، فمنها المتفق عليه، ومنها المختلف حوله.

والمشترك بين ادراك الشيء الخارجي وبين فهم النص هو ان الموضوع المعالج لدى كل منهما يمثل مادة خام يراد الكشف عن معناها وتفسيرها. وهو ما يمكن اعتباره (الشيء في ذاته)، وان كلاً منهما يخضع الى آليات من التفكير القائم على القبليات كما عرفنا. والفكر البشري عن وعي او غير وعي يعمل طبقاً لهذه القبليات، حاله في ذلك حال اللغة، حيث هي الاخرى تعمل ضمن وعاء مشترك قبلي قادر على فهم الجمل اللغوية وتوليدها بلا حدود، سواء كان ذلك يجري عبر نظام (الكفاية اللغوية) كما اطلق عليه تشومسكي، او عبر خرق هذا النظام بأداة (المتبقي) كما اطلق عليه لوسركل. لكن تظل القابلية الفكرية اعمق واوسع مدى من القابلية اللغوية، وفيها من القواعد والمبادئ ما لا نجده في القابلية اللغوية، وبها يتهيء العمل ضمن نظم وقواعد معرفية قد تختلف او تشترك فيما بينها.

وقد كان عمانوئيل كانت (المتوفى سنة 1804) يعتبر العقل هو الذي يحدد الموضوع الخارجي كما يتمثل في الظواهر الطبيعية، وكما يقول: «إن هذه الموضوعات بوصفها ظاهرات هي التي تنتظم وفقاً لطريقة تصورنا»[2]، وبالتالي فهي مشروطة بالأحكام والقضايا القبلية. وهذه هي ثورته كما وصفها بأنها ثورة في الفلسفة جاءت اقتداءاً بما أجراه علماء الهندسة والطبيعة من ابداع ثوري لافت للنظر، وأن ثورته هي على غرار الثورة الكوبرنيكية في علم الفلك، فكما ان كوبرنيك قلب التصور البطليمي القديم معتبراً الأرض هي التي تدور حول الشمس لا العكس، فكذا ان (كانت) اعتبر العقل هو المحدد للشيء الخارجي خلافاً للرؤية السائدة قبله والتي كانت على العكس ترى الشيء الخارجي هو الذي يحدد العقل، ومنه الاستنتاج القائل بتطابق العقل والطبيعة، أو الصورة الذهنية والشيء الموضوعي.

وبعبارة ثانية، لقد كان الفلاسفة السابقون يعتقدون بأن معرفتنا يجب ان تنتظم وفقاً للموضوعات، وقد قلب (كانت) هذه المعادلة جاعلاً قوانين الفكر هي الأساس والمركز الذي تتحرك حوله هذه الموضوعات وليس العكس كما كان يُعتقد[3].

وبحسب المقياس (الكانتي) فإن ما هو قبلي جدير بتحديد ما هو بعدي. ولا شك إن هذا الحال ينطبق على ما يجري في الفهم. ولو صحت مقالة (كانت) لكان الفهم هو المحدد للنص لا العكس، وبعبارة أدق ان ما هو قبلي للفهم يقوم بتحديد ما هو بعدي له.

وتعتمد نظرية (كانت) السابقة على التفرقة بين «ما لذاتنا وما في ذاته»، وهي تفرقة صحيحة من حيث المبدأ. فنحن لا نمتلك فعلاً غير «ما لذاتنا»، لكن ذلك لا يعني وجود فصل تام بين الأمرين كما يميل إليه هذا الفيلسوف، مع الأخذ بعين الاعتبار ان ما نقصده بالشيء في ذاته يختلف عما قصده (كانت)، فنحن لا نضيف إلى الموضوع الخارجي شيئاً آخر كما فعل الأخير، فهو يرى أن الموضوع الحسي ينطوي على عالمين ظاهر كما يتجلى لنا، وباطن خفي مجهول هو عالم (الإرادة الحرة) التي تكلّف في اقحامها عبر بعض التعميمات والمصادرات من دون مبرر كاف، وهي ما قصد بها «الشيء في ذاته». ووفقاً لفلسفته فإن الذهن البشري يعمل على تحديد الأشياء كظواهر عبر إدراك «ما لذاتنا» تبعاً للمبادئ والقضايا القبلية، في حين لا يخضع «الشيء في ذاته» أو الإرادة الحرة لتحديدات هذه المبادئ والقضايا، ومن ثم فهو عصي عن الفهم والإدراك. فكل ما ندركه هو الظاهر الذهني بفعل التحديدات العقلية القبلية، وهو ما لا ينطبق على «الشيء في ذاته» بأي نحو من الأنحاء، ويظل هذا الشيء مجهولاً بذاته من دون معرفة. وبالتالي فإن القبلي هو ما يحدد البعدي بهيئة «ما لذاتنا»، استناداً إلى الشروط القبلية والقوالب الذهنية كشرط السببية وقالبي الزمان والمكان الحدسيين.

ويمكن ان نثبت العكس، وهو ان للأشياء دوراً في تحديد «ما لذاتنا» دون ان يتوقف الحال على قضايانا القبلية فحسب. مما يعني ان من الممكن استكشاف بعض الحقائق الموضوعية في الأشياء، كما يمكن إثبات هذه الأشياء - نسبياً –، وهو أمر يختلف عما لدى ذلك الفيلسوف. فهو يرى ان الشروط القبلية لا تمتلك موضوعية خارجية فيما يخص الشيء في ذاته (بالمعنى الكانتي) ولا تمتد إلى معرفته، إنما تقتصر على أشياء التجربة الممكنة، وهو ما يجعل الشيء عصياً عن التحديد والمعرفة. رغم أن التحليل يبين بأن ببعض هذه الشروط استعان (كانت) لإثبات هذا الشيء، وبالتالي لو سلمنا ان بوسع الشروط القبلية إثبات الشيء في ذاته، فما الذي يمنع من تحديد هذا الشيء بحسبها؟

لقد اعتمد (كانت) على مبدأ السببية في اثبات الشيء في ذاته وإن لم يصرح به في سياق الاستدلال، وكما قال: إن من الخُلف «أن يكون ثمة ظاهرة من دون ان يكون ثمة شيء ليظهر»[4].

فالمعنى واضح، وهو أن إثبات الشيء في ذاته قائم على مبدأ السببية الذي يضمن بأن الظاهرة لم تنشأ من العدم المحض. وهو في مناسبات عديدة اضطر إلى الإقرار – بما لا يخلو من تناقض - بأن للسببية صنفاً آخر هو ما يشكل صلة الوصل والعلية بين الشيء في ذاته والظاهرة الطبيعية، وهي مصادرة تضاف إلى كثرة مصادراته الفلسفية، ومنها تلك المتعلقة بخصوصية (الحرية) لدى الشيء في ذاته.

لكن هذه الظاهرة - وشروطها من الزمان والمكان - كما يتحدث عنها (كانت) لا تمثل واقعاً حقيقياً، بل إنها صورة ذهنية مصاغة وفق قبليات نسبية وذاتية[5]، وبالتالي كيف يمكن إثبات ما يقبع خلفها من واقع حقيقي كالشيء في ذاته مثلاً؟ فإثبات الأخير يتوقف على وجود الظاهرة (الذهنية) من خلال قضايانا القبلية، ومنها السببية، لكن هذه القضايا تظل نسبية وذاتية بحسب (كانت)، فكيف يتأسس عليها إثبات هذا الشيء؟ فإمكان التجربة الإدراكية يعتمد على المبادئ القبلية وعلى رأسها مبدأ السببية، رغم ان هذه القضايا رهينة للبعد الذاتي للإنسان، وقد صادرها (كانت) في الموضوعات  الامبيريقية. وبالتالي فهو لا يجد تبريراً منطقياً يدعم فكرة وجود الشيء في ذاته، ولا ما ينقذه من النزعة المثالية الخالصة، عند ربطه بين التصور والواقع الموضوعي رغم نقده لها ومحاولته اثبات الواقع الموضوعي طبقاً لاعتبارات الزمان وعلاقته بالجوهر الثابت من دون ان يعلّق اثبات الواقع الموضوعي على الشيء في ذاته[6]؛ باعتباره مجهولاً حتى من جهة إن كان يوجد فينا أو خارجاً عنا؟ وما إذا كان يختفي باختفاء الحساسية أو يظل جانباً[7]؟.

لقد سبق للفيلسوف المثالي جورج باركلي (المتوفى سنة 1753) ان اعتبر القول بوجود الحقائق الخارجية يفتقد إلى الدليل. فاذا كان كل ما نمتلكه هو الشيء لذاتنا فقط، فما مبرر الإعتقاد بوجود عالم خارجي ونحن لا يسعنا إدراكه إدراكاً مباشراً؟ وعلى حد تعبير بعض المفكرين: ‹‹لو أنني فقط استطيع أن أَخرج من رأسي لرأيت ما إذا كان هناك شيء››[8].

وبعبارة أخرى إلى أي حد يمكننا إثبات قضايا الواقع؟ هل باستطاعتنا ان نثبت تفاصيله أو مجملاته؟ وهل يمكننا إثبات كيفياته أم كمياته ورموزه؟ وماذا بشأن العلاقات بين الأشياء وإرتباطاتها بحسب التأثير والاقتران الزماني والمكاني؟

وعموماً تثور بعض المؤاخذات على مقالة (كانت) المثالية. فما يدعيه في تحديد العقل للشيء الخارجي مقبول على النحو النسبي، فالتأثير مشترك ومتبادل، فالعقل يحدد الشيء، والعكس صحيح. والدليل على ذلك ظهور الأشياء في الذهن منتظمة، فهي تظهر بالشكل الذي تظهر فيه تبعاً لعاملين؛ هما: قبليات الإدراك العقلي والشيء في ذاته، وذلك بحسب ما قصدناه من المقولة الأخيرة لا بما قصده (كانت). لذا فالعقل لا يحدد الشيء تحديده المطلق، بل الأمر متبادل بين العقل والشيء. وبعبارة أدق، تتحدد الصورة الذهنية بتأثير كل من العقل والشيء الخارجي، فلا العقل يحدد الصورة وحده، ولا الشيء الخارجي يفعل ذلك، بل كلاهما يعملان - معاً - على تحديدها.

وينطبق الأمر ذاته على العلاقة بين الفهم والنص، فأحدهما يعمل على تحديد الآخر. فالفهم لا يحدد النص باطلاق، كما إن النص لا يحدد الفهم بإطلاق، والأمر نسبي.

وإذا توخينا الدقة فإن الفهم محدد بكل من القبليات والنص معاً، فلا القبليات تعمل على تحديد الفهم وحدها، ولا النص يفعل ذلك، بل كلاهما يعمل على تحديده بنوع من الاشتراك. وعليه فعندما نقول إن الفهم محدد بفعل القبليات فلا يعني ذلك انه معزول عن تأثير النص.

ويظهر مما سبق ان هناك ثلاثة عناصر تتعلق بفهم النص، هي: القبليات والنص والفهم. والعلاقة الدائرة بينها هي علاقة ثابتة، فالفهم يتوقف على كل من القبليات والنص، وان غياب احد العنصرين الأخيرين يعني غياباً للفهم ذاته. لكن العكس ليس صحيحاً، اي ان غياب الفهم لا يعني غياباً للقبليات، كما لا يعني غياباً للنص. فالفهم نتاج التفاعل بين هذين العنصرين، ووجوده مستمد من وجودهما دون عكس.

وبالتعبير الرمزي فإن (ف) يتحدد بحسب (ق) مع (ن)، حيث (ف) تمثل الفهم، و(ق) هي القبليات، و(ن) هي النص. وبعبارة رياضية فإن:

ق + ن ← ف

وبعبارة ثانية، إن بين ذات القارئ والنص المقروء مسافة لا يمكن اجتيازها الا عبر قنطرة القبليات. فلولا هذه القبليات لكانت المسافة قائمة والبعد باقياً من غير اجتياز.

وهنا يطرح السؤال المزدوج التالي: كيف نثبت ان القبليات تعمل على تحديد الفهم؟ وكيف نثبت كون النص يحدد الفهم ايضاً؟

وقد يصاغ هذا السؤال المزدوج بصيغة اخرى لها علاقة بادراك الاشياء الخارجية، فيمكن ان يقال: كيف نثبت ان للعقل تأثيراً على تحديد الشيء الخارجي، كما تزعم نظرية (كانت) معتبرة العقل هو المحدد للشيء الخارجي لا العكس؟ كذلك كيف نعكس المسألة ونثبت ان الشيء الخارجي يحدد العقل مثلما ان هذا الأخير يحدد الاول؟

ومن حيث الدقة: كيف نثبت ان لكل من العقل والشيء الخارجي دوره في تحديد الصورة الذهنية والحكم التصديقي، فتكون هذه الصورة - وكذا الحكم - نتاج فعل عاملين: العقل بقضاياه القبلية، والشيء الخارجي كوجود مستقل؟

وبعبارة اخرى: كيف نثبت ان ما هو قبلي يقوم بتحديد صورة ما هو بعدي، وان ما هو بعدي يعمل على تحديد تلك الصورة، وان العملية بين الطرفين مشتركة تتفاعل فيها العناصر الخارجية والذاتية لتحديد ادراك الشيء او صورته؟ وكذا هو الحال مع الاحكام التصديقية.

هكذا فإن أمامنا قضيتين متماثلتين. فالموقف من النص كشيء في ذاته وعلاقته بالصورة الذهنية لدى القارئ هو كالموقف من الشيء الطبيعي وعلاقته بالصورة الذهنية لدى الرائي، ولا جواب لدينا على هذه المشكلة إلا بإعتماد منطق القرائن الإستقرائية ودورها الايجابي في تنمية القوة الإحتمالية للتقريب بين الحالتين التصورية والموضوعية، أو بين القراءة والنص المجهول كشيء في ذاته. فنحن نقوم - هنا - بعملية استدلال، وكل عملية استدلال هي اتصال غير مباشر، فليس لدينا ما يمكن فعله من الاتصال المباشر في الكشف عن طبيعة الأشياء الخارجية، أو الكشف عما يتضمنه النص المجهول كشيء في ذاته.

إذاً يمكننا ان نستدل بشتى القرائن الدالة على الحقيقة الموضوعية؛ سواء كانت طبيعية أو نصية. وتتخذ عملية الاستدلال السبل المنطقية التي يتم من خلالها التمييز - في الكثير من الأحيان - بين الأمر الأقرب للحقيقة عن ذلك البعيد عنها.

وللتبسيط نفترض - مثلاً - ان إحساسنا قد نقل لنا صورة ذهنية عن كرة تبدو أمامنا لكننا نشك في وجودها أو كونها شيئاً آخر كالقلم والطاولة وغير ذلك. ففي هذه الحالة علينا ان نتوسط ونتوسل بمختلف القرائن لنثبت فيما لو كانت هذه الكرة حقيقية أو وهمية، وكذا فيما إذا كانت بالفعل عبارة عن كرة أو انها شيء آخر. ومع اننا بسبب تراكم الخبرات التي نمارسها في التعامل مع الأشياء الخارجية لن نحتاج عادة إلى الإختبار أو المزيد منه، لكنّا نفترض كما لو كنّا نمارس عملاً استدلالياً أولياً، مثلما هو الجاري في الممارسات الاستدلالية للعلوم الطبيعية. لكن حيث من المحتمل ان يكون ما نراه وهماً؛ لذا كان لا بد من صنع قرينة أخرى، كإن نتحرك نحو زاوية أخرى وننظر من خلالها إن كنّا سنرى شيئاً ما كالسابق، وكذا نذهب لنتلمس الشيء الذي نراه، إذ لو كان وهماً بصرياً لكان من المستبعد ان نتحسس بلمسه، فهذا الإحساس يزيد الظن بوجود شيء خارجي يحمل صفات تبدو انها دالة على الكرة، ولأجل التأكد أكثر يمكننا القيام بضرب ودحرجة ما لمسناه، كما يمكننا ان نأتي بآخرين ليخبرونا عما يرونه ويلمسونه من شيء، وكذا يمكننا ان نأخذ له صوراً فوتوغرافية تبين حقيقة وجوده ومعالمه.. الخ.

ويمكن تطبيق الأمر ذاته على العلاقة بين إحساسنا التصوري في القراءة وبين النص المجهول كشيء في ذاته. حيث يمكننا في النص البسيط - مثلاً - ان نجمع العديد من القرائن الإحتمالية التي يمكنها ان تدعم تقارب الحقيقة بين القراءة والنص المجهول، بحيث كلما زادت هذه القرائن كلما قوي إحتمال التقارب بينهما. وواقع الأمر ان أول فعل في القراءة ينشأ هو فعل الظهور المجالي، إذ يمكن الاستدلال على ان هذا الظهور قابل لأن يبرر القطع الوجداني بالتطابق مع النص المجهول، وذلك بالقدر الذي ينفى عنه مجال (الخبز والشعير!). فقوة القطع الوجداني بالتطابق بين المجال والنص المجهول هي بنفس قوة القطع الذي نعتقد فيه ابتعاد النص عن مجال (الخبز والشعير!). فالقطع بهذا المعنى ممكن ومبرر تبعاً لكثرة القرائن الإحتمالية، وهي نفسها التي تبرر القطع بنفي ان يكون للنص إشارة تخص ذلك المجال المستبعد.

ويمكن تشبيه علاقة تطابق الظهور المجالي مع النص المجهول؛ بعلاقة الوجود مع الماهية، أو علاقة النور مع الزجاج الملون. فالزجاج يظل مظلماً غير متميز وأشبه بالمعدوم ما لم ينفذ إليه النور. فهذا النفاذ هو الذي يُظهره ملوناً كما هو عليه. إذ ليس بمقدور النور قلب الزجاج إلى (الخبز والشعير)، أو تحويل قابلياته إلى شيء آخر. وبالتالي فلولا هذه القابليات الكامنة ما ظهر بالشكل الذي ظهر فيه، رغم ان ظهوره لا يعبّر عن حقيقة ما عليه الزجاج بالكامل، انما بفعل كل من النور والقابليات تظهر الألوان والأشكال على النحو الذي ظهرت فيه، فلولا النور ما ظهر من ذلك شيء، وكذا لو ان للنور لوناً آخر غير ما كان عليه؛ لظهرت ألوان الزجاج بشكل مختلف عما كانت عليه.

إذاً يظل المجال ثابتاً هو هو لا ينقلب إلى مجال (الخبز والشعير)، وإن بدا تأثر الظاهر وما على شاكلته بالقبليات والأذهان.

هكذا نقف بفكرة المجال موقفاً وسطاً بين أولئك الذين رؤوا امكانية تطابق القراءة مع النص كشيء في ذاته، أو كما قصدهُ صاحب النص، وبين أولئك الذين رؤوا في النص انفتاحاً لا يحده حدود، أي انه قابل للتشكل والانتاج إلى ما لا نهاية له من القراءات والفهم والتفسير؛ بعدد القراء والمفسرين، وهو بهذا يكون مستقلاً عن قصد صاحبه بإعتباره خطاباً مكتوباً وليس كلاماً مشافهاً[9]. وتهيمن هذه الرؤية على الكثير من المفكرين الغربيين من رواد ما بعد الحداثة - من أمثال غادامير ودريدا وريكور والبراجماتيين وغيرهم –. وتوحي نظريات عدد من هؤلاء بأنها لا تضع حدوداً للقراءة والتفسير، ولا ميزاناً للترجيح بين القراءات المتعددة، كالذي تدعو إليه براجماتية رورتي ونقائضية دريدا المسماة بالتفكيكية. مع أن هذا التصور يجعل النظرية لا تخدم قائليها إن لم تسيّج ضمن سياج منيع بمثل ذلك الذي أطلقنا عليه المجال. فهي ذاتها معبر عنها بالنص، ولو طبقنا على هذا النص ما يقولونه لكان من غير الممتنع ان نقرأه قراءة هي على النقيض تماماً مما يريدون ايصاله الينا، وهنا سوف يستحيل ان يتحقق أي مجال للتواصل المعرفي. فالتواصل لا يتم إلا عبر النص، ولما كان الأخير مفتوحاً، فلا مجال لمعرفة ما يراد منه ولو على سبيل التقريب، وبالتالي يصبح من العبث ان نكتب شيئاً أو نقول شيئاً، فكل شيء يمكن حمله على (الخبز والشعير) بلا حدود. ولا شك إن فكرة المجال والفهم المجمل والقيم الإحتمالية تبعدنا عن هذا العبث من التفكير إن اريد به الانفتاح التام بلا قيود مقننة مرسومة.

علماً بأن المعنى الذي أراده غادامير لا يخرج عن المعنى الوجودي للانفتاح، بمعنى أن طبيعة الذهن البشري تظل خلاقة للفهم والتفكير بلا حدود، وهو أمر صحيح، لا سيما وأن في كل زمان هناك من يتجاوز المجال الظاهر للفهم، لكن مع ذلك فهذا الفيلسوف يرى ان كل فهم للنص لا بد من ان يكون نتاج تأثيرين مختلفين من الأُفق، هما أفق النص وأُفق الثقافة المعاصرة المتأثرة بالثقافة التاريخية ضمن ظاهرة انصهار الآفاق كما سنعرف، وهذا ما يجعل من المحال معرفة النص كما هو، وبالتالي الانفتاح على القراءات بلا حدود، رغم انه – مثل بول ريكور - لا يساوي بين هذه القراءات من حيث إحتمال الإصابة[10]. وفي جميع الأحوال تظل عملية التأويل عند غادامير وغيره من المفكرين مفتوحة بلا نهاية؛ بإعتبارها لا تستوفي الغرض من إصابة المعنى النهائي. وهنا نعود إلى المربع الأول.. وبالتالي لا نجد رداً على هذا التحليل سوى ما ذكرناه، وسيأتينا تفصيل ذلك فيما بعد.

على أن ما يقدمه الفكر البشري من إجتهاد في قراءته للموضوع، سواء كان نصاً أو واقعاً أو غير ذلك، لا ينفي وجود حقائق متكشفة مجملة وقليلة للموضوع (الخام)، وكأن الموضوع يُظهر نفسه بنفسه.

فنحن هنا أشبه ما نكون أمام غابة كبيرة تشهد بوجود الأشجار الكثيفة، دون شك، عندما ننظر إليها عن بعد، وكأن الأشجار تعلن عن نفسها.. أما سائر الأشياء الأخرى، مثل أنواع محددة من الحيوانات، فهي لا تظهر إلا بعد البحث والتفتيش، وقد تظل هناك أشياء مجهولة عنا في هذه الغابة الكثيفة، كما قد تشتبه علينا أمور لا نعلم عنها شيئاً على وجه القطع واليقين لعدم قدرتنا على تحديدها بدقة.

وعليه أصبح الموضوع، كالنص مثلاً، ناطقاً بحقائق فعلية تتكشف لدى الإدراك دون حاجة إلى جهد التحديد والتعيين. لكنها - مع ذلك - تظل مجملة غاية الإجمال.

إذاً في المادة أو الموضوع الخام، هناك حقيقة عامة تشهد عليها قرائن كثيرة تجعلها ظاهرة «بنفسها» دون جهد إدراك، فهي محل انصات لما تنطق به من حقائق بلا حاجة لاستنطاقنا في التعبير عنها، سواء كان الموضوع الخام عبارة عن واقع أو وجود أو نص أو عقل. لكن تظل الحقائق المتكشفة «بنفسها» محدودة، خلافاً لما يتبقى من مضامين، إذ تحتاج إلى جهد الممارسة الإجتهادية عبر العلاقة التي تربط قبليات الإدراك بالموضوع. فعند هذا الارتباط والامتزاج يتحول الموضوع إلى علم وتفكير. فتارة تتلبس العلاقة الكشفية للذهن بموضوع الطبيعة فتنتج عن ذلك علوم الطبيعة، وأخرى بالنص فتنتج علوم النص، وثالثة بالعقل فتنتج علوم العقل... الخ.

وبعبارة أخرى، عندما يُعرض الموضوع على الذات البشرية يكون له وجه من الحقائق المنكشفة بفعل قبليات قرائن الإستقراء الإحتمالية، مثلما له وجه آخر يتلبس بمختلف قبليات الذات الكاشفة.

ولا نقصد - هنا - بالحقائق، الحكم على ما يتضمنه الموضوع من صواب او خطأ، بل نقصد بها الجانب الوصفي فحسب. فمثلاً يمكن ان نصف نصاً ما بهذه الحقائق التي لا تخطئها الذات القارئة؛ بنحو من الاجمال والعموم، وهو وصف لا علاقة له بمضمون ما يريد النص اثباته، سواء كان على صواب او خطأ. وبالتالي يمكن ان نطلق على مثل هذه الحقائق: الحقائق الاصلية او (الموضوعية)، اذ يعبّر الموضوع - في انكشافه - عن حقائقه الاصلية، وهو كونه على ما هو عليه من الخصائص المنكشفة.

وعندما يكون العقل هو الموضوع، يحصل نوع من الاتحاد بين الكاشف والمكشوف، او العاقل والمعقول، اذ يصبح العقل كاشفاً عما في نفسه، وهو من الحضور المباشر، خلافاً للموضوعات الاخرى غير العقلية، اذ يكون الكاشف فيها غير المكشوف، او ان العلاقة بينهما هي علاقة غير مباشرة.

لكن ماذا لو قيل ان تركيبنا الذهني يرى الاشياء متسقة هكذا، ولو تغير هذا التركيب - كإن تتغير طبيعة ما عليه الجهاز العصبي مثلاً - لكُنا نرى الموضوع رؤية اخرى مختلفة ومضادة للمسلمات العقلية؟

في الجواب نقول: ان تغير التركيب الذهني لا يبعث على رؤية اخرى متسقة الى درجة التضاد مع المسلمات العقلية. صحيح ان الرؤية عندها قد تتشوش وتضطرب ثم تعود للاعتدال بشكل مختلف، لكن من المستبعد تماماً ان يؤدي ذلك الى تكوين صورة نسقية مضادة. ففي أحسن الأحوال قد تبدو لنا الأشياء بأشكال مختلفة كذوات، او يظهر لنا عالم متسق آخر ما كان ظاهراً من قبل. فمثلاً مما قد يبدو للشخص المصاب بالاستغماتا القوية (Astigmatism) انه يستقبل صوراً مشوهة على شبكة كل عين، فعندما ينظر الى عصا بوضع افقي فقد يرى انها اطول مما نراها وانها في وضع رأسي وليس افقي، وجميع اطوال الاشياء الاخرى تتغير على هذا النحو بشكل متسق، ولو ان هذا الشخص زود بنظارات تصحيحية فانه سيرى الاشياء بشكل مشوه ومشوش ويحتاج الى ايام او اسابيع لكي يتلائم مع الحالة الجديدة ليراها طبيعية[11]. كما كانت هناك تجارب تبدي ان بعض الناس المصابين ببعض الامراض البصرية يرون الاشياء بشكل مختلف، وهي مألوفة لديهم، ولو انه تم تصحيح الرؤية لهم بنظارات مصححة لأصابهم شيء من الاختلال والتشوه في الرؤية قبل ان يتكيفوا على الوضع الجديد. وقد وصف الطبيب والفيزيائي (هيلمهولتز) بعض التجارب كالتي اجراها بنفسه واستخلص منها ان من الممكن ان يكون المكان المرئي ذا بنية غير اقليدية، فلو ان شخصاً تكيف جيداً على تجارب تتضمن سلوك الاجسام في عالم غير اقليدي لأمكنه تصور البنية اللااقليدية بنفس السهولة التي نتصور بها البنية الاقليدية[12].

فلا شك ان مثل هذه الحالات مقبولة وقد تكون متوقعة بفعل التكيف الذهني مع الاشياء بنوع من الاتساق، ففي المثال الاول ان اطوال الاشياء نسبية كما هو معلوم وان ما يرى بانه رأسي في حين انه افقي قد يتصحح او يعلم تعارضه مع استخدام حاسة اخرى كاللمس مثلاً، او حتى انه ليس بالامكان ذلك فانه سوف لا يكون اشد مما نحن فيه على الارض وهي تتحرك – كما يُفترض - في حين اننا لا ندرك حركتها. لكن ما يُستبعد هو ان تبدو علاقات الأشياء متسقة بشكل مفارق للحال الأول. فمثلاً لا يمكن توقع أن تنقلب صورة المعلول الى علة، وصورة العلة الى معلول، وصورة الأب الى الإبن، وكذا العكس، ما لم يتغير الموضوع ذاته. ومعلوم انه عرضت تصورات مستمدة من نظرية اينشتاين في النسبية لتبين بأن الامور قد تنقلب الى الشيء المعاكس، فقد صورت لو ان سرعة الضوء كانت اكبر مما هي عليه لكان من الممكن السفر للماضي، ولانقلبت الاشياء على العكس، فيكون المعلول علة لعلته، والابن اباً لابيه وهكذا. لكن طرح المختصون افتراضات متعددة كي لا تكون الفرضية مصادمة للمنطق، كتلك التي استعرضها ستيفن هوكنج في كتابه (تاريخ اكثر ايجازاً للزمن) والذي قدّر وجود امكانيتين محتملتين، الاولى هي ان يكون المسافر للماضي متابعاً للاحداث التاريخية دون ان تكون له حرية لتغيير شيء من هذه الاحداث، فهو مراقب ومشاهد فحسب، مثل مشاهدتنا للافلام السينمائية التي نتابعها لكن من دون تأثير على مجرى وقائعها، ومن هذه المراقبة ايضاً قد نرى الامور بشكل معكوس، كتسلسل الفلم من النهاية حتى البداية، فتظهر العلة وكأنها معلول، والاب وكأنه ابن، وكذا العكس. لكن تظل هذه المشاهد مجرد صور وادراكات قابلة للنقد العقلي القائم على منطق القرائن الاحتمالية والاستقرائية. اما الثانية فهي ان يكون المسافر يتبع تاريخاً اخر غير تاريخنا المسجل، فالكون مليء بالتواريخ المختلفة وفق انحناءات الزمكان، او هو مليء بالعوالم المختلفة التي بعضها يختلف عن البعض الاخر في زمانه وسائر ابعاده وفقاً للنسبية العامة.

وما نود قوله هو ان ما ذكرناه سابقاً هو ذاته يصدق مع النص، إذ إن احتمالات الحصول على معان متناسقة وعمومية يتفق عليها جميع من شملته هذه الحالة هي احتمالات ضعيفة للغاية. وهو أمر يعزز اعتبار فهمنا للنص محصوراً ضمن المجال المفترض. ففي حدود هذا المجال يمكننا الاقتراب من المعنى الذي يتضمنه النص طبقاً للقرائن الاحتمالية.

فمعرفتنا كاشفة كالمرآة، مع ما لطبيعة المرآة من دور في اظهار الصورة المنعكسة، بحيث تتحدد الصورة بفعل أمرين: المرآة والشيء الخارجي، ولا وجود لها عند حضور احد هذين الامرين دون الاخر. فالصورة في المرآة لا تطابق الشيء الخارجي، لكنها تقترب من حقيقته. وكذا يقال بخصوص النص، حيث ان ما يحدد الاشارة فيه، كالظاهر مثلاً، ليس النص المجهول (كشيء في ذاته) فقط، بل القبليات المعرفية أيضاً. فبفعل الأمرين معاً يتجلى الظاهر ضمن المجال. لكن مع أخذ اعتبار الفارق في القيمة الاحتمالية بين الظاهر والمجال، حيث لما كان الأخير يعبر عن اقصى حدود الاجمال؛ فذلك يعطي المبرر للتطابق مع ما عليه النص كشيء في ذاته، طالما انه يحظى بكثرة القرائن الاحتمالية الدالة عليه. أما الظاهر او الاشارة فهو لا يحظى بتلك القوة والقيمة من القرائن التي يحظى بها المجال، لذلك فلا مبرر لحالة القطع الذهني بالتطابق ما لم يكن ذلك محمولاً على المجملات العامة، طبقاً لنفس الاعتبار من التنمية الاحتمالية. فالامر يعود في النهاية الى ما عليه هذه التنمية من قوة وقيمة، لكنها تتعاظم عند القضايا المجملة مقارنة بالقضايا المفصلة، ومنه يتبين الفارق بين القيمتين الاحتماليتين لكل من المجال والظاهر او ما على شاكلته من انماط الاشارة.

أو قل: ان كل معنى اجمالي لا بد من ان يحظى على الدوام بالعدد الاكبر من القرائن الاحتمالية مقارنة بالمعنى المحدد او المفصل. وبالتالي لا مانع من تحصيل القطع الوجداني بالتطابق مع النص المجهول ضمن حدود المعنى المجمل، وذلك عند تضافر القرائن الاحتمالية الدالة عليه. فمن شأن المجمل انه يبعث على القطع بخلاف المفصل، لكن قد يكون المفصل مجملاً لما تحته، وهنا قد يتفاوت القطع، وقد يصل الحال الى وجود مفصلات يمكن انتزاع المجملات منها دون ان يفضي ذلك الى القطع في المعنى. ولا شك ان من ابرز مصاديق القطع للمعنى المجمل هو الظهور المجالي.

هكذا عندما نتحدث عن المطابقة بين الفهم والنص؛ لا نريد بذلك المطابقة التامة الجامعة المانعة، فذلك غير ممكن اذا ما نظرنا الى مقصد صاحب النص، اذ في جميع الاحوال تتجدد التساؤلات إن كان معنى النص يشتمل على ما نطرحه من تساؤل ام لا؟ وعليه لا يمكننا بأي شكل من الاشكال ان نثبت التطابق، فالنص في هذه الحالة قابل لعدد غير محدود من القراءة والافتراض، انما نقصد بالتطابق امكانية حصول ذلك من حيث الحد الادنى، كالتطابق الاجمالي، سواء كان هذا الاجمال كافياً في تحصيل المعنى أم غير كاف؟

وينعكس الانفتاح المشار اليه سلفاً على التردد الحاصل بين القراءتين التعبدية والمقصدية للنص الديني، فهل يُكتفى بحرفية ما يتضمنه النص من دلالات كالذي عليه المنهج البياني الصرف، أم يضاف اليها أمور اخرى يقتضيها الخطاب وان لم تكن صريحة او منصوصاً عليها؟ وهو أمر بحثناه في دراسة مستقلة..

 


[1]          مناهج الأدلة في عقائد الملة، ص134.

[2]    نقد العقل المحض، ص35.

[3]    المصدر نفسه، ص34 و36.

[4]    نقد العقل المحض، ص37.

[5]    المصدر السابق، ص112 و255-257.

[6]    نشير إلى أننا خصصنا كتاباً مستقلاً لمناقشة مجمل اطروحات عمانوئيل كانت، ومنها القضية المذكورة حول اثبات الواقع الموضوعي، وهو بعنوان (مفارقات نقد العقل المحض).

[7]  نقد العقل المحض، ص182.

[8] تيري إيجلتون: أوهام ما بعد الحداثة، ترجمة منى سلام، مراجعة سمير سرحان، نشر أكاديمية الفنون، مصر، ص29، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

[9] بول ريكور: من النص إلى الفعل، ترجمة محمد برادة - حسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الطبعة الاولى، 2001م، ص85.

[10]  نظرية التأويل، ص148.

[11]  الاسس الفلسفية للفيزياء، ص200.

[12]   الاسس الفلسفية للفيزياء، ص200.

comments powered by Disqus